الفصل الخامس عشر: نداء إلي الوحدة

الفصل الخامس عشر
نداء إلي الوحدة
4: 1- 6

يعرض القسم الأول من أف كيف دُعي الوثنيون إلى المشاركة في ملء الله بفضل المسيح. والجزء الثاني الذي نقرأ الآن بدايته، هو حضّ على سلوك يوافق هذه الدعوة.
نجد المعنى العام لهذا المقطع في العبارة الأولى: أسلكوا مسلكاً يليق بالدعوة التي دُعيتم إليها". وهو يقسم إلى جزئين: حضّ على الوحدة (أسلكوا مسلكاً) بالتواضع والوداعة والصبر واحتمال بعضنا بعضاً في المحبّة. إسعوا إلى تحقيق وحدة الروح في السلام (آ 1- 3). والجزء الثاني: الأسباب الموضوعيّة للوحدة (الدعوة التي تلقيتم): جسد واحد، روح واحد، رجاء واحد. ربّ واحد، إيمان واحد، معمودية واحدة. إله واحد وأب للجميع وهو يفعل في الجميع (آ 4- 6).

1- التحريض (4: 1- 3)
أ- أحرّضكم أن تسلكوا (آ 1)
- تتضمّن الرسائل البولسيّة بشكل عام تحريضاً أخلاقياً. فإنّ بولس يرى أنّ هدف الكرازة ليس فقط بأن نعطي معلومات عن الله وعن يسوع. بل أن نعمل لكي تجتاح كلمةُ الله قلوب المؤمنين وتحوّل حياتهم الروحية. فالإيمان بالمسيح يدلّنا على طريقة حياة جديدة يجدر بنا أن نمارسها. تحريض بولس الأخلاقيّ لا يُفهم إلاّ إذا توجّه إلى المؤمن: هذا ما يساعده على وضع حياته تجاه كلمة الله، وعلى قبول مشيئة الله قبولاً حرّاً.
- فالوجود المسيحيّ ليس مسيرة آليّة (ميكانيكيّة) تسير في حدّ ذاتها دون تدخل إرادة شخصيّة تأخذ على عاتقها قرار التوافق مع المسيح. فبولس يرى أنّ الحياة في الإيمان هي حياة من الحرّية. فيبقى على الشخص أن يقبل بأن يسلك حسب الحقيقة التي في يسوع. وهي حقيقة فهمها في الإيمان فحوّلت حكمه على الأمور (4: 20- 24).
- هذه الحياة هي ممكنة (ما معنى تحريض لا يمكن أن يتحقّق) ويمكن تحقيقها، فالمؤمن يحمل في ذاته ما يساعده على العيش حسب المسيح. بالإيمان انفتح على الروح الذي يجتاحه، ويملأه بقدرة الله، ويجعل المسيح في داخله، فتصبح المحبّة أساس نشاطه (3: 16- 20).
- إنّ الحياة في المسيح لا تتواصل بشكل آلي كما الماء يجري في الوادي. فالسقوط ممكن وكذلك التراجع. فقد يرغب المسيحي أن يسلك كالوثنيّين، وأن يقترف أعمالاً سيّئة (4: 17). وفد يحصل له أن يُحزن الروح القدس فلا يقتدي بالمسيح (4: 30).
- ليس السلوك المسيحيّ أمراً اختيارياً ومن دون أهمية. فحين نقول إنّ الحياة المسيحية هي حياة في الحريّة، فهذا لا يعني أن كلّ شيء مسموح به، وأنه ليس من شر ولا من خير. فالاقتداء بالمسيح يرتبط بقبولنا: فنحن نحمل في داخلنا الروح القدس الذي يجعلنا أهلاً لهذا الاقتداء، ويجعل في قلبنا لذة هذا الإقتداء. يقول بولس: من المفروض أن نعمل مشيئة الله. أن لا نعمل إلاّ ما هو صالح وعادل وحقّ (5: 9). أن نتجنّب الفوضى الأخلاقيّة التي تجعلنا تحت غضب الله (5: 6).

ب- سلوك يليق بالدعوة
ويتوسّع التحريض بالنظر إلى الدعوة التي تلقّيناها: فإذا أراد المؤمن أن يتجاوب مع هذا النداء وجب عليه أن يكون سلوكه متناسقاً معه. وسيدلّ وليْ الرسالة على أنه ليس هناك إلا سلوك واحد يليق بالنظر إلى هذا النداء: هذا السلوك يتكوّن من الصلاح والبرّ، من القداسة والحقّ. نحن لا نجد في آ 1- 3 إلاّ مواقف ترتبط ارتباطاً مباشراً بالسلام والمحبّة.
ليس النداء هو الذي يجعل هذه الفضائل أر هذه الأعمال صالحة. بل إنّ النداء هو ما يدفعنا لكي نتمّ ما هو في حدّ ذاته صالح وعدل. فإذا أردنا أن نكون على مستوى الدعوة، يجب أن نعمل الخير. كما يجب علينا أن نعمل الخير لنكون على مستوى الدعوة. فأحدُ أهداف الدعوة هو بأن يجعلنا نتمّ الأعمال الصالحة. قال بولس الرسول: "خُلقنا في المسيح يسوع للأعمال الصالحة التي أعدّها الله من قبل لكي نسلك فيها" (2: 10).
والنداء الذي نتحدّث عنه ليس (بحصر المعنى) الفعل الذي به الله يدعونا، بل بالأحرى هو ما إليه يدعونا، بل العمل الذي يهيّئه لنا. ويساعدنا مجمل أف على تحديد طبيعته. فحين دعانا الله، هيّأنا لامتلاك ميراث المجد بقربه (1: 18). هيّأنا لكي نكون بالمسيح أبناءه بالتبنّي، أبناء قدّيسين وبلا عيب في حضرته بالمحبّة (1: 4- 5). هيّأنا لكي نكوّن معاً جسداً واحداً رأسه هو المسيح (1: 10).
إذن دعوتُنا في المسيح هي أن نكون في الوقت عينه مشاركين في ميراث الآب السماويّ، وأن نحيا حياة مقدّسة كالأبناء، في المحبّة، وأن نكوّن جسد المسيح الواحد. فقداسة الحياة لا تنفصل عن "بناء" الجسد، بل ترتبط به: فالجسد يتكوّن وينمو بحياة من القداسة في المحبّة (4: 15- 16). وحين نكون أعضاء الجسد نشارك في ملء الحياة التي في المسيح (1: 23). وما يلي هذا النصّ يتناسق مع المواضيع الكبرى في أف.

ج- الاحتمال المتبادل والوحدة (آ 2- 3)
إذا كانت دعوتنا حياةً في المحبة وتكويناً لجسد المسيح، لا بدّ لبولس من أن يحثّنا على أن نتحمّل بعضنا بعضاً بمحبّة، وأن نجعل السلام الموحّد يملك فينا.
يتضمّن الاحتمال المتبادل المحبة العطوفة التي بدونها لا حياة هادئة ومسالمة، بل بغض خفيّ أو أقلّه لا مبالاة. ويحدّد بولس المواقف التي تجعل هذا الاحتمال ممكناً: التواضع، الوداعة، الصبر (1 كور 13: 4- 7). نحن هنا أمام استعدادات تميّز الفقر الروحي (أو روح الفقر كما في التطويبات) الذي أعطى يسوع عنه أول مثال فقال: "تعلّموا مني. أنا وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 29). هذا ما اكتشفه التلاميذ عند يسوع فجعلوه في فم يسوع. وسيدعونا بولس فيما بعد إلى أن نرى في الله وفي المسيح نموذج اللطف والحب، ونحاول الاقتداء بهما (4: 32- 5: 1).
إنّ المحبة تخلق في ذاتها مناخ سلام. والسلام يعبرّ عن الطريقة التي بها نعيش الوحدة. فالروح هو الصانع الكبير للسلام، والمبدأ الناشط الذي يوحّد المؤمنين بعضهم ببعض. وهو الذي يعطيهم أن يعيشوا التواضع والوداعة والصبر، والمحبّة والسلام. هنا نتذكّر ثمار الروح كما في غل 5: 22: "المحبة والفرح والسلام. وطول الأناة واللطف والصلاح والأمانة والوداعة والوفاق".

2- الأسباب الموضوعية للوحدة (4: 4- 6)
إنّ عبارة "وحدة الروح" تقودنا إلى التعرّف إلى العوامل الموضوعيّة التي تؤول إلى وحدة المؤمنين. ويبني بولس تعداداً يصوّر بنية الوضع المسيحي. وما يلفت النظر حالاً هو الطابع الثالوثيّ للتعداد. فالنصّ مؤلّف من ثلاث لوائح تتضمّن تعابير موازية يرد فيها عمل الروح والرب (يسوع) والله الآب. ونلاحظ أيضاً توازياً بين "المعمودية" و"الجسد". بين "الإيمان" و"الرجاء".

أ- رجاء واحد، جسد واحد، روح واحد (آ 4)
الجسد هو الكنيسة. والروح هو روح الله، الروح القدس. والرجاء ليس فضيلة ذاتيّة تبقى في أعماق قلوبنا، بل فضيلة وضعيّة، بل ما نرجوه وهو الميراث الموعود به، وكنوز المجد في ملكوت المسيح والله (1: 18؛ 5: 5).
إنّ العلاقة بين الروح والرجاء تشكّل أحد مواضيع أف. فبفضل المسيح نحن نمتلك كنزاً في ملكوت الله. لقد هيّأ لنا الآب هذا الكنز ميراثاً ووعدنا به. وهذا الكنز هو الآن رجاؤنا. ونحن متيقّنون أن الآب وعدنا به لأننا نمتلك الروح الذي هو الموعد (1: 13) والذي هو التزام الآب بأن يجعلنا نتنعّم بمجد ملكوته. بل إنّ الروح يشكّل عربون الميراث وهو يعمل فينا بحيث يتيح لنا أن نمتلك ملء الميراث (1: 14). وحين أعطانا الرب الروح، وعدنا بملكوته، كما جعلنا نشارك فيه منذ الآن، وأعطانا أن نحصل عليه كاملاً.
والعلاقة بين الروح القدس والجسد تتضمّن وجهات عديدة. فالروح هو لذي يجمع ويوحّد. هو المبدأ الناشط الذي يكوّن الكنيسة في جسد متضامن. والجسد هو الموضع الذي يملأه المسيح بملئه كما ناله من الله (1: 23). وعربون هذا الملء (وكماله) هو الروح لأنه الكنز ومجد الله. إذن، الجسد هو للبشر لموضع الذي فيه يجتمعون بروح الله لكي يحيوا من هذا الروح.

ب- ربّ واحد، إيمان واحد، معمودية واحدة (آ 5)
الربّ هو يسوع المسيح. والإيمان هنا ليس فضيلة الإيمان، بل بالأحرى ما به نؤمن، بل التعليم الذي يكرز به الرسل. المعموديّة هي طقس التنشئة المسيحيّة. فإذا عدنا إلى تعليم سائر الرسائل نفهم بسهولة التقارب شبه الطبيعي بين الرب والإيمان والمعموديّة. فالتعبير الإيمانيّ الذي يكثّف جوهر التعليم الرسوليّ يبدو كما يلي: يسوع هو ربّ (روم 10: 9؛ 1 كور 12: 3؛ فل 2: 11؛ أف 1: 5). والمعموديّة، "المعموديّة في المسيح" (غل 3: 27)، المعموديّة "باسم الرب يسوع" (أع 19: 5؛ رج 1 كور 1: 13)، فلا تمنح إلاّ لمن يعترف أنّ يسوع هو الرّب. إذن هناك رباط وثيق وملموس بين الرب والإيمان والمعموديّة.

ج - إله واحد وأب للجميع (آ 6)
إنّ السلسلة الثالثة لا تشبه السلسلتين السابقتين، لانها لا تضع العناصر الواحد قرب الآخر. هي لا تتحدّث إلاّ عن الله لكي تشدّد على أنه أب للجميع. والعودة إلى الله الآب هي موضوع مهمّ في أف حيث يهتمّ بولس بأن يصوّر علاقات الله مع الإنسان كنتيجة إرادة الآب الذي له وحده المبادرة في مخطّط الخلاص وفي تحقيقه.
هو "أب للجميع" لأنه خالق كل شيء (3: 9) وينبوع كل خصب (3: 14). وهو بشكل خاص أبو المؤمنين لأنه يغمرهم بعطاياه الروحيّة. لقد تصوّر منذ الأزل مخطّطه (3: 11) بأن يجعل البشر أبناءه بالتبنّي، بأن يمنحهم حياة القداسة ومجد ملكوته (1: 4- 5). وهذا المخطّط قد حقّقه بالمسيح الذي به انتزعنا من الخطيئة ليجعلنا نحيا حياة مقدّسة، وخلقنا من أجل الأعمال الصالحة (2: 4- 10). في كل هذا مارس سلطانه على الجميع، عبر الجميع، وفي الجميع. وهو ينشر قدرته من أجلنا (1: 19). وبهذه القدرة السميا أقام المسيح وجعله رباً على كل شيء لكي يمارس وظيفته كرأس للكنيسة (1: 19- 23)، وبهذه القدرة يفعل فينا ليجعلنا مشابهين للمسيح (3: 16- 17)، ليجعلنا ننتصر على التجارب (6: 10- 13)، لينشىء فينا معجزات روحية تتجاوز كل ما نستطيع تصوّره (3: 20).

خاتمة
إنّ السلسلات الثلاث من العوامل التي عدّدها بولس هي الأسباب الوضعيّة للوحدة. فهي في ذاتها تبني منذ الآن وحدة المؤمنين. فكل واحد منهم فريد في ذاته ومرتبط ارتباطاً وثيقاً بالآخرين. هذا ما تدلّ عليه الموازاة والتعليم العام الذي يقدّمه بولس الرسول: الآب هو الأساس المطلق. الرّب هو ابنه الحبيب (1: 3- 6). الروح هو روحه القدوس (4: 30). الإيمان يكشف الرجاء، والمعمودية تضمّ المعمَّد إلى الجسد، إلى الكنيسة.
غير أنّ هذه العوامل تنشىء أيضاً الوحدة ساعة يتعرّف المؤمنون إلى إيمانهم. ساعة يتذكّرون المعتقدات الأساسيّة التي فيها يشاركون. نجد هنا رسمة لما ستكون عليه اعترافات الكنيسة في ما بعد. نجد الأقسام الثلاثة في ما سيسمّى قانون الإيمان: الله الآب وقدرته السامية. المسيح الرب. الروح والكنيسة (الجسد) والحياة الأبديّة (الرجاء). وبمختصر الكلام، إنّ هذه العوامل تؤسّس وحدة المؤمنين، لأنها تشكّل وحدة حياتنا كما نتعرّف إليها ونحياها.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM