الفصل الثالث عشر: سر المسيح والنضوج المسيحي

الفصل الثالث عشر
سر المسيح والنضوج المسيحي
3: 8- 21

إن الواقع الغنيّ لسّر المسيح هو الموضوع الأساسيّ في أف. وقد أراد بولس أن ينقله إلينا في كل جملة من هذه الرسالة. حاول أن يقدّم في كل مرّة تعبيراً أوضح عن فكرته، ورنّة جديدة من الورع الديني. أما هذا النصّ الذي نتأمّل فيه (3: 8- 19) الآن، فهو يقع في نهاية القسم التعليمي (ف 1- 3) الذي ينتهي بنهاية ف 3.

1- نظرة عامّة
حين سلّم بولس على أهل أفسس (1: 1- 2)، فعل كما فعل في كو، فشدّد على الأمانة التي تميّز المسيحيين ولا سيّما في أوقات الأزمة الدينيّة. ومنذ 1: 3، إنطلق وحلّق. إرتفع في صلاة ليتورجية تبدو بشكل مباركة (1: 3- 14: تبارك الله أبو ربّنا)، ثم صلاة شكر (1: 15- 23): "إذ قد سمعت بإيمانكم... لا أزال أشكر".
وإن موضوع العالم الوثنيّ الذي تطعّم على الزيتونة بعمل المسيح ونعمته (كما في روم)، يُعالَج هنا في إطار كوني أبرزته كو: إن الذين خلصوا بنعمة الله بفضل الإيمان (2: 1- 10) يكوّنون منذ الآن شعباً واحداً وهيكلاً واحداً في سلام المسيح يسوع (2: 11- 22): "وفيه أيضاً تندمجون أنتم في البناء لتصيروا مسكناً لله، في الروح".
ويستعدّ بولس مرة ثانية للصلاة، فينحني أمام الآب الذي اعتاد أن يرفع إليه الطلبات (1: 3؛ 3: 14): "لهذا، أنا بولس، أسير المسيح يسوع من أجلكم، أيها الوثنيون" (3: 1). ولكن ما إن بدأت الصلاة حتى توقّفت. لقد حوّل الرسول انتباهه ليميل به إلى خدمته لدى الوثنيّين (3: 1- 13). وبعد أن تحدّث عن النعمة التي أُعطيت له ليعلن سّر المسيح للوثنيّين، عاد إلى صلاته (آ 14): "لذلك أحني ركبتَيّ أمام الآب".
لقد تسلّم مهمّة التبشير بخلاص الله. لأنّ النعمة جعلت منه "خادماً للإنجيل" (آ 7)، وأوكلته بموقع متقدّم وسط الوثنيّين. فلقد أوحِيَ له الآن كما أوحِيَ "للرسل القدّيسين والأنبياء" (آ 5) معرفة سّر المسيح (آ 4). هذا ما أعلنه الروح بشكل جديد جداً بالنسبة إلى ما وصل من معرفة للناس في الأزمنة الماضية (آ 5). لقد برهن بولس منذ بداية هذه الرسالة أنه قد أوتِيَ معرفة هذا السّر (آ 3).
إن كل القدرة الإلهية التي أقامت المسيح يسوع (1: 19- 20) تتجلّى في ذاك المنادي بالإنجيل الذي هو بولس: حرّكه الروح فولج إلى سّر المسيح. والمشاركة التي يحاول القيام بها، رغم ضعفه، هي نتيجة قوّة القائم من الموت. فسّر المسيح الممجّد يسطع لدى أعين البشر في عمل الكرازة الإنجيليّة نفسه (4: 10- 12).
منذ بداية الرسالة (1: 9) عاد بولس إلى سّر المسيح. ودلّت مفردة "سّر" في اللغة الجليانية التي لجأ إليها الرسول على عمل الله الخلاصّي الذي ظلّ خفياً إلى أن ظهر في نهاية الزمن الذي حدّده القصد الإلهيّ. ظهر نوراً عظيماً يكاد يعمي أعين البشر الذين لا يستطيعون أن يعتادوا على مثل هذه الرؤية غير المتوقّعة. وهذا الواقع الإلهيّ سيبقى حاضراً بينهم مدى الدهور.
وهي الرسالة إلى أفسس تدعونا إلى التأمّل في مشهد عمل الله في المسيح بشكل عام. وبشكل خاص في تحقيق ملموس له معناه العميق: "إن الوثنيّين هم في المسيح يسوع، شركاء اليهود في الميراث الواحد، وأعضاء في جسد واحد، ولهم نصيب في الوعد الذي وعده الله بفضل الإنجيل" (3: 6؛ رج 2: 11- 22).
لا يهتمّ الرسول في أف، كما فعل في روم، بأن يبرز التعارض بين الوثنيّين واليهود. بل، يعبّر عن إعجابه أمام دخول الأمم الوثنيّة في جسد المسيح. فعلينا أن "نفهم" الحيويّة الحاليّة لسّر المسيح الذي يستطيع أن يقدّم المفاجآت الجديدة في كل عصر، وفي عصرنا نحن العائشين على مشارف الألف الثالث.
وبعد هذه النظرة العامّة، نتوقّف في مقطع أول عند سّر بولس وسرّ المسيح (3: 8- 12). وفي مقطع ثانٍ (3: 14- 19) عند صلاة بولس. وبين الإثنين (3: 13) نجد هذه العبارة الخاصة التي تتحدّث عن المضايق التي يعانيها الرسول.

2- سّر بولس وسّر المسيح (3: 8- 13)
إن النعمة الخاصة التي نالها بولس والوظيفة الشخصيّة التي كُلِّف بها، هما إعلان السّر على الوثنيّين. ولكن إن كانت معرفة سّر المسيح هي عطيّة رفيعة من عطايا الروح يمنحها "للرسل القدّيسين وللأنبياء"، فكيف لا يحسّ الرسول نفسه مسحوقاً حين يرى نفسه مكلّفاً تكليفاً شخصياً بأن يحمل هذا السّر إلى الوثنيّين؟

أ- سّر حكمة الله (آ 8)
لقد أحسّ بولس دوماً بأن نداء الله إلى الرسالة هو حمل ثقيل ينوء تحته. ووضعُه القديم وسط الرسل وتاريخه كمضطهد للكنيسة، جعلاه يعي حقارته: "أجل، إني لأصغر الرسل. بل لست أهلاً لأن أُدعى رسولاً، لأني اضطهدت كنيسة الله" (1 كور 15: 9). قابل نفسه مع أعظم ما في الكنيسة، فوجد نفسه أقلّ الرسل. ومع أنه "أصغر جميع القدّيسين"، جميع المزمنين، فمع ذلك فُضّل على أي أحد كان: سُلّمتْ إليه بالنعمة مهمّةٌ خاصة: "أن يبشّر في الأمم بغنى المسيح".
إن بولس يعتبر دعوة الوثنيّين إلى الإيمان دلالة خارقة على رحمة لله وحكمته. هذا ما شعر به بولس أيضاً في روم، ساعة اختتم موضوع كفر (لا إيمان) إسرائيل وإيمان الأمم الوثنية. فصاح: "يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه! ما أصعب إدراك أحكامه وفهم طرقه" (روم 11: 33)!
ففي المسيح تجلّت كنوز حكمة الله وحنانه، وهو الذي أعطى الوثنيّين ميراثه وأبان لهم مجده. نقرأ في كو 1: 27: وأراد أن يعلّمهم ما هو غنى مجد هذا السّر وسط الوثنيّين: المسيح فيكم رجاء المجد" (رج كو 2: 2- 3). والنصوص الموازية في أف تتحدّث هي أيضاً عن هذا العمل العظيم والخفيّ الذي قامت به حكمة الله. أعجب الحكماء في العهد القديم بما صنعته حكمة الله (أي 5: 9؛ 9: 10؛ أم 8: 18؛ حك 7: 13- 14). فأي إعجاب حرّك نفس الرسول أمام مقاصد الله هذه!

ب- سّر المسيح والخليقة (آ 9)
إن تبشير الوثنيين يكشف للجميع كل الكشف سّر المسيح (2: 18)، لأنه يبرز إبرازاً أفضل الرجاء الذي دُعينا إليه، وغنى المجد الذي دُعينا لامتلاكه، والقدرة السامية التي تجلّت في قيامة المسيح (1: 18- 20).
ويظهر عنصر جديد هو الإشارة إلى الله على أنه خالق كلّ شيء. لماذا مثلُ هذا التذكّر بمناسبة الحديث عن سرّ المسيح؟ أية علاقة بين دعوة الوثنيين ومخطّطات إلهٍ خلقَ كل لشيء؟
في تاريخ الخلاص، وكل مرّة تجاوز شعب الله حدوده لكي يتّصل بالأمم، أدرك دوماً بشكل أكثر وضوحاً أن سّر الخلاص يلقي بضوئه على سّر الخلق. وسّر العالم الوثنيّ المدعوّ إلى الإيمان يدفعه إلى أن يعمّق مخطّط الله الخلاصّي الذي يضمّ في ذاته كل الأجيال، فيدلّ على أنه موجود قبل خلق العالم.
لهذا، لن نعجب إن وجدنا تلميحاً إلى الخلق في هذا السياق الحكميّ الذي ندرس. فالكلمة التي تعلن البشرى هي التي تنشىء خليقة جديدة. وكلمة الله التي هي المسيح، الحكمة المجسّدة (1 كور 1: 24، 30)، تحرّك غنى دينامية تميّز القائم من الموت والمشارك في حياة الله. فالإله الذي يخلق هو نفسه الإله الذي يخلّص: فهو الذي هيّأ "عمل المسيح" كتحقيق نهائيّ لعمله. وهكذا نثبت إلى الأبد مشيئة الخالق في الموضع الذي فيه استطاع البشر أن يشوّهوا عمله أو يفشلوه. وسّر المسيح حين يتجلّى يدلّ في نور جديد على سّر الخليقة.

ج- الكنيسة وسّر المسيح (آ 10- 12)
أولاً: مسيرة فكرة بولس
نرى من الضروري وسط معارج جملة مكثّفة أن نرسم المسيرة الأساسيّة التي اتّبعها فكر بولس. وهكذا نصل إلى بعض الوضوح في آ 10- 12.
* إن حكمة الله تشرك الذين يتعلّقون بالمسيح بإيمان كامل ثم في حالته السماويّة.
* إن حكمة الله تفتح أيضاً طريقاً يقود إلى حياة حميمة مع الله، إلى القرب من الآب: "لأن لنا به التوصّل إلى الآب بروح وحد" (2: 18).
كيف يصل هذا السّر إلى الإنسان؟ "الآن" يتمّ اللقاء بين المؤمن الوثنيّ والله، وامتلاك الخيرات السماويّة "بواسطة الكنيسة" (آ 10). وكل هذا بفضل العمل الذي تحقّق "في المسيح يسوع ربّنا". حين نتحدّث عن الوسيط، لا ننسى أن نتذكّر وجه يسوع الملموس والسيادة التي نالها من أجلنا في قيامته.
غير أن الرسول يعود أكثر إلى الوراء، إلى مخطّط أزلي سابق للعالم المخلوق. إلى مخطّط يسير عبر العصور. هذه الكنيسة التي هي موضع اللقاء بين الله والإنسان (كل إنسان يؤمن) ليست فقط مجرّد مؤسّسة بشريّة وليست انبثاقاً عن العالم وحسب، بل هي تحقيق المخطّط الإلهي وسّره. فقبل الخلق تصوّرت الكنيسة لكي تعدّ الإنسان للدخول في حياة الله الحميمة.
لا نستطيع أن نُحدر إلى مستوى الخلق خيرات الكنيسة ولا سّرها. فالفداء ليست رقعة وضعت على عَجَل في عمل الله الذي مزّقته الحرّية البشريّة التي استقلّت عن الخالق. فمنذ أول زمن، وفي الزمن السابق للخلق، وجّهنا الله نحو الخليقة الجديدة والكاملة في المسيح، آدم الجديد السماوي، لكي يدخلنا في حياته بمحبّة الروح.
كلّ هذا يبرز "مخطّطاً" جميلاً من الحبّ هيّأه الله الآب (روم 8: 28؛ 9: 11) الذي جعلنا نمتلك "ميراثه" في مشيئته ورأفته (روم 1: 9، 11؛ 2 تم 1: 9).
ثانياً: الرئاسات والسلاطين
ما معنى الرئاسات والسلاطين في رسائل الأسر، ولا سيّما في كو وأف؟ هي القوى المعادية لملكوت المسيح (6: 12) وقد حُطّت أن مقامها فخضعت لسلطة المسيح. هكذا يقدّمها لنا الرسول (1: 21؛ كو 1: 16؛ 2: 10، 15). كان هناك خطر على بعض المسيحيّين في كولسي بأن يخلطوا بين هذه القوى الكونيّة الوثنيّة وبين مراتب الملائكة عند اليهود، فيقدّموا لها شعائر عبادة مفرطة على حساب شخص المسيح يسوع. لهذا بيّن بولس أنها عُرّيت من قوّتها الشرّيرة العاملة في الظلمة (2: 13؛ 6: 12) بقدرة الصليب الظافرة.
إنّ وحدة الوثنيّين واليهود تتمّ في الكنيسة. ولقاء هؤلاء الناس مع الله الآب هو الذي يملأ حياتهم، مع أن هذه القوى ظنّت أنها تسيطر عليهم (كو 2: 15، 18). هذه الوحدة وهذا اللقاء يدلاّن بوضوح على سلطان المسيح على الرئاسات والسلاطين وعلى قدرته الخلاصيّة في الكنيسة. "فحكمة الله في تنوّعها" تجنّبت الفخاخ واستقلّت طرقاً غير متوقّعة. وسلبت بالصليب هذه القوّات أن سلطتها الروحيّة التي اعتبرت أن لها سلطاناً خاصاً على الشعب اليهودي (غل 3: 19)، وأنها تمارس سيطرتها على البشريّة قبل مجيء المسيح.
وهكذا نفهم كيف أن هذه الرئاسات رأت نموّ الكنيسة وامتلاكها للخيرات السماويّة، بلغت إلى معرفة (ليست معرفة خلاصّية) حكمة الله. هنا نتذكّر كلام القدّيس يعقوب عن الشياطين التي تؤمن وترتعد (1: 19)، ولكنها لا تتوب فتخلص.
ثالثاً: "الخيرات السماوية"
إن العبارة اليونانية "إن تويس أورانويس" هي خاصة بالرسالة إلى أفسس. تترجم عادة "في السموات" (آ 10) (معنى المكان). ولكن حين ندلّ على دائرة عمل الرئاسات والسلاطين الملائكيّة، تبدو هذه الترجمة محرّرة وتبلبل معنى النصّ. غير أن دراسة دقيقة للنصّ تسمح لنا بأن نقول: "بواسطة الكنيسة التي تمتلك الخيرات السماويّة".
إن التعليم البولسّي عن المسيح، آدم الجديد والسماويّ (1 كور 15: 40، 48، 49) الذي يحوّل البشر من كائنات أرضيّة إلى كائنات سماويّة، قد هيّأ الطريق لهذه العبارة. نحن أمم دائرة المسيح والمنطقة التي فيها يمارس ملء سلطانه (1: 20). وإن نعمة المسيح تجعلنا في دائرته إن نحن قبلناها: فرجاؤنا وحياتنا اللذان هما من الخيرات السماويّة، ينتميان إلى هذه الدائرة. نحن لسنا فقط أمام مكان، بل أمام حياة تختلف عن الحياة البشريّة (من لحم ودم، مع الضعف والميل إلى الخطيئة) على الأرض. وهكذا نستطيع أن نفهم فهماً أفضل هذين النصّين من أف:
"تبارك الله أبو ربّنا (أو: وأبو ربّنا) يسوع المسيح، الذي باركنا بكل بركة روحية، بالخيرات السماوية في المسيح" (1: 3). "إن الله الغنيّ بالرحمة، ومن أجل فرط محبّته التي أحبّنا بها... أحيانا مع المسيح ومعه أقامنا ومعه أجلسنا في ملك الخيرات السماوية في المسيح يسوع. فأظهر في الدهور المستقبلة غنى نعمته الفائق، بلطفه بنا، في المسيح يسوع" (2: 4- 7).
يجب أن نفسّر في المعنى ذاته النصّ الذي ندرس وهو يوازي بألفاظه 2: 4- 7: ظهرت حكمة الله للرئاسات والسلاطين بواسطة الكنيسة، فجعلتها تمتلك "الخيرات السماوية" بتدخّل صليب المسيح الذي قام وأدخلنا في حياة الآب الحميمة.
وهكذا، حين تمتلك الكنيسةُ الخيرات السماوية، تصبح مشهداً حقيقياً للملائكة والبشر. وعت سّر حكمة الله المخفيّ على الصليب، وعته لتكرز به وتحياه. وها هي تعلنه كلمة عجيبة تمنح كل حياة رجاءَ المجد.

3- مضايق الرسول (3: 13)
إنّ مخطّط الله الذي تحقّق في المسيح يسوع ربّنا، يتضمّن وجهة رسوليّة ووجهة فدائيّة. هو قصد يمتدّ إلى الدهور كما في 1 تم 1: 17: ملكوت الدهور. أي: الملكوت الأزلي. هي إرادة الله التي تعمل في جميع البشر. وهذه الأجيال والدهور لا تلعب فقط لعبة "ساعة" فتدلّ على بداية الزمن. بل هي أيضاً موضوع عمل الله. فالله قد رتّب الدهور أيضاً، فربطَ الزمن الحاضر بالزمن المقبل.
يسوع المسيح ربّنا الذي لنا فيه الجرأة (الدالة) بالإيمان به. إن هذا التوسّع يستعيد عبارة إيمانيّة مأخوذة من حفلة عماد، عبارة نعبّر فيها عن حرّيتنا المسيحيّة. لا يُذكر الآب الذي لنا به الدخول، ولكن يُذكر الذي به لنا هذا الدخول بالإيمان، الدخول بثقة.
الدالة أو الجرأة (باريسيا). تصوّر وضع ذاك الذي يستطيع أن يقول كل شيء ولا يخاف: هناك حرّية الكلام. هناك شجاعة من يعترف بإيمانه مهما كان الثمن. هناك جرأة بولس حين كلّم أهل فيلبي بصراحة ما بعدها صراحة. هناك صدق في الكلام وشفافيّة لا تُخفي شيئاً في ثناياها. وارتبطت باريسيا مع "التقرّب" (بروساغوغي): أن يقترب الإنسان، سواء كان يهودياً أم وثنياً، من الله. أن يتصرّف معه كما الأولاد مع والدهم. أن يتوجّه إليه بدون خوف ولا خجل. هذا ما قرأناه في 2: 18 (لأن لنا به التوصّل إلى الآب) حول حرّية مثلّثة: حريّة الكلام أمام الله القدّوس. أمام عرش الملك. أمام منبر القاضي السامي. هناك الاستبعاد والخجل والخيبة والحكم القاضي "والفم المغلق"... وتجاه ذلك هناك "وجه إلى وجه" مع الله، والكلمة التي يحرّكها الروح فيدفعنا إلى الهتاف: "أبَّا، أيها الآب"!
تلك هي العلاقة الجديدة التي تنتج من المصالحة: أمام الآب، أمام البشر، أمام الرئاسات. المؤمنون يجدون نفوسهم في "راحة" في المسيح. لم يعد وضعهم موضع بحث. لهذا فَهُم واثقون. إنهم يعيشون حالتهم الجديدة في الإيمان بالمسيح.
ومثل هذه الدالة تثبت مع كل شيء ورغم كل شيء (رج روم 8: 38: إني لواثق). فهي تتيح لنا بأن نواجه الأحداث. وتدلّ آ 13 (في صيغة المخاطب المتكلّم) عن طريق التلميح، على المحن التي قاساها بولس. ملاحظة ظرفيّة ونادرة ونكاد لا ندركها.
هناك الفعل "انكاكيو" الذي يعني أساء ثم قنط، ويئِس (لو 18: 1؛ 2 كور 4: 1، 16؛ غل 6: 9؛ 2 تس 3: 14). إن الفاعل يبقى مستتراً، لهذا نفهم الجملة في طريقتين. أو: صلاة بولس بالنسبة إلى ثباته: أطلب من الله أن لا أستسلم للقنوط في المضايق التي أقاسيها. أو: صلاة بولس من أجل مراسليه: أطلب من الله أن لا تيأسوا (تتراخوا) بسبب المضايق التي تهاجمني فتمتحن إيمانكم. إذا عدنا إلى السياق نختار الطريقة الثانية.
إن آ 13 ترتبط مع آ 1 حيث بدأ شكر من أجلكم "أنتم الوثنيين" وهو شكر يتحوّل إلى توسّل بحسب عادة القديس بولس. ثم إن خطر التراخي أمام المحنة (ولو كانت محنة إنسان آخر هو رسول) يبدو ثقيلاً على الذين لا يدركون الثمرة وهي المجد. وأخيراً، يقابل هذا الطلبُ المعنى الذي يربطه التقليد البولسيّ بمضايق الرسول: فإن 2 كور وفل تجعلانها في المسيح من أجل خير الجماعة كلها.
ويجب أن نقرأ آ 13 هذه على ضوء النصّ الذي ألهمها، على ضوء كو 1: 24 ي: أوكل الرسول بأن "يكمّل الكلمة" (أي: يعظ بها كاملة) وسط الوثنيّين. ولكنه كلّف أيضاً بأن يتمّ "مضايق المسيح"، يعوّض نقصها. يعني: ما يجب على المسيح أن يقاسي من آلام اسكاتولوجية في جسد الذين يحملون إنجيله إلى أقاصي العالم. هذه النظرة الموروثة من عالم الجليان ليست خاصة ببولس: فهي تظهر ساعة إطلاق التلاميذ إلى الرسالة في الأناجيل الإزائية (مر 13: 19- 13). غير أن التقليد البولسي ركّز على "الرسول الثالث عشر" دعوة القيام بهذه الوظيفة. لقد كشفت روم 15: 14- 21 بذورها في وعي بولس وعبّرت عنها كو 1: 24 تعبيراً مدهشاً: فالرسول ليس فقط ذاك الذي يضع الأساسات، بل ذاك الذي يكمّلها. إذ يعطي لكلمة الله بعدها، فهو يتحمّل في جسده كل ثقل الألم الذي تتضمنه. فالمحن الرسوليّة تجعل مجيء المسيح وحضوره وسط الأمم ساطعاً. وهذا ما يكوّن "رجاء المجد" (كو 1: 27).
في هذا السياق نقرأ آ 13: فالمعنى يستند إلى عبارتين. من جهة، مضايقي من أجلكم. ومن جهة ثانية: مجدكم. فالمضايق في العالم الجليانيّ تدلّ على الضيق والاضطراب في نهاية تاريخ يضيق شيئاً وشيئاً قبل أن يصل إلى المجد (ترتبط به آلام المخاض). وتُعاش المضايق الرسوليّة "من أجلكم"، يا قرّاء الرسالة، "من أجلكم أيها الوثنيّون"، كما قالت آ 1: هذه هي العبارة (من أجلكم) التي يستعملها يسوع ليدلّ على معنى آلامه. هذه الآلام ترافق التبشير بالإنجيل. والرسول يحتملها من أجلهم ليلدهم إلى حياة جديدة. هي تدلّ على مجيء المسيح فتبدو "لمجدهم". وهكذا لن يرى القرّاء في سجن بولس أو استشهاده موضوع خوف أو علامة فشل، بل يشاهدون فيهما على ضوء هذا الكلام حصّتهم في المجد.

4- صلاة بولس (3: 14- 19)
وعاد بولس إلى ما سبق وبدأ به: عاد يصلّي إلى الآب (3: 1). إن هذا الاستطراد الطويل حول الخدمة كما عاشها، قد أبعدنا بعض الشيء عن الصلاة، ولكنه في الوقت عينه ساعدنا على التعرّف إلى سّر المسيح. ويبقى أن صلاته كانت كلها مضمّخة بهذا السّر: ومسيرة المسيحي الذي يدخل في حميميّة هذا السّر تقابل حكمة الآب المحبّة كما تجلّت في المسيح. وهذا النضوج المسيحيّ الذي تميّزه معرفةٌ سميا مجبولة بالإيمان والمحبّة ونابعة من نعمة جديدة، هذا النضوج يكوّن موضوع صلاته.

أ- في حضرة الآب (آ 14- 15)
رافقت صلاةَ بولس حركةٌ عميقة من الإكرام والسجود اعتاد بنفسه عليها في أوقات احتفاليّة من حياته. مثلاً، نقرأ في نهاية خطبته لشيوخ أفسس: "ولما ختم بولس كلامه، سجد معهم كلّهم وصلّى" (أع 20: 36). وكذا فعل في صور مع الكنيسة التي جاءت تودّعه في طريقه إلى أورشليم (أع 21: 5؛ رج فل 2: 10؛ لو 22: 41؛ أع 7: 60؛ 9: 40).
وبعد أن تأمّل بولس في سّر المسيح المُعلن للوثنيّين، دلّ هنا في صلاته بحضرة الآب، على نفس ليتورجيّة، نفس تعيش صلاة الكنيسة. هكذا بدا حين كان "خادم المسيح يسوع عند الوثنيّين، وكاهن إنجيل الله، لكي يصير الوثنيّون قرباناً مقبولاً عند الله مقدّساً بالروح القدس" (روم 15: 16).
فبعد اليوم نستطيع أن نطبّق على الوثنيّين لفظة "أهل البيت"، العائلة. فهذه اللفظة استعملت مراراً لتدلّ على مجموعات عائليّة تقف بين القبيلة (أو: العشيرة) والبيت (أو: الأسرة). مثل هذه المجموعات تجد في الله الآب وحدتها وتماسكها واستمراريّتها. ويتلاعب الرسول على الكلمات في إطار الجذر اليوناني. لهذا ترجمت الشعبية اللاتينية "باتريا" (اليونانية) بكلمة "باترنيتاس" اللاتينية. وهكذا قالت بعض الترجمات: "الذي منه تنبثق كل أبوّة" (بدل: كل أسرة). نحن نستطيع أن نترجم على هذا الشكل شرط أن نفهم أن الأبوّة تمارَس بشكل ملموس على مستوى "المجموعة العائلية"، لا على مستوى أسرة مؤلّفة من الوالد والوالدة والأولاد.
إن عبارة "في السماوات وعلى الأرض" تعني الكون كله. مثلاً، نقرأ في 1 كور 8: 5: "إن وجد في السماء أو على الأرض"، أي في الكون. وفي كو 1: 16، 20: "فيه خلق جميع ما في السماوات وعلى الأرض"... "أن يصالح كل ما على الأرض وفي السماوات" (رج أف 1: 10؛ مت 5: 18، 34؛ 11: 25). نحن نرى هنا أن الكاتب يتوخّى أن يبرز مواطنية الوثنيّين والرجاء الذي ينتظرهم. إنهم مواطنو السماء كما نقرأ في فل 3: 20؛ كو 1: 5: "من أجل الرجاء المحفوظ لكم في السماوات... من أجل الإنجيل الذي سمعتم به من قبل". لهذا ذُكرت في هذه الآية السماواتُ قبل الأرض.
إن مزمور عبد الله المتألّم الذي أوردت الكنيسة الرسوليّة نصوصه مراراً حين تحدّثت عن آلام المسيح، يعلن في نبوءة واقعاً أدهش بولس الرسول: "ستتذكّر الأرض كلها وتعود إلى الربّ، كل عائلات الأمم (باتريا) تسجد أمامه" (مز 22: 28).

ب- النضوج المسيحي (آ 10- 17)
تقدّم صلاة الرسول مضموناً ملموساً: ليتنازل الربّ فيعطيهم أن يعبروا مرحلة جديدة في حياتهم المسيحيّة: أن يتقوّوا في نموّ كيانهم، ويواصلوا بناء بيتهم الداخليّ. لهذا يلجأ بولس إلى الربّ لكي ينال مثل هذا النموّ. ويدلّ على أصل هذه العطيّة الإلهيّة وهدفها: "غنى مجده". ثم نضوج "الإنسان الباطن".
فالرحمة والنعمة الإلهيّة تحقّقان العمل الفدائيّ بـ "غفران الخطايا"، وتوصلانه إلى مرحلة جديدة نعرف فيها سّر مشيئته "في كل حكمة وفهم" (1: 7- 8؛ رج روم 9: 23؛ أف 1: 18؛ 2: 4- 7). إن مجد الله الفيّاض ينتقل إلى الإنسان فيقوّيه وينمّيه. ويصوّر هذا العمل الإلهي في عبارتين تشرحان النتائج الحاصلة في قلب المؤمنين عبر تشبيهين اثنين: تشبيه النموّ البشري، وتشبيه القوّة التي تقيم في الإنسان إقامة مستمرّة.
نحن أمام صورة الشاب الذي ينمو إلى أن يصل إلى قامته. وعبارة "الإنسان الباطن" التي دلّت في رسائل بولس السابقة على الطابع العقلّي لدى الإنسان، فقابلت الطابع العابر والمائت، قابلت "الإنسان الخارجيّ" (روم 7: 22؛ 2 كور 4: 16)، هذه العبارة تقابل هنا "الإنسان الجديد" الذي خُلق في المسيح يسوع خلال المعموديّة (4: 13، 22، 24؛ رج كو 3: 9).
ولكن كيف نحصل على هذه القدرة الجديدة؟ إنها تأتيناً من "شخص" نكاد نلمسه: "غنى مجد هذا السّر لدى الوثنيّين، هو المسيح بينكم" (كو 1: 27؛ رج 1 كور 2: 6- 8). إن المسيح القائم من الموت بقدرة لله قد أقيم فأعطانا هذه القدرة الإلهيّة التي هي روح القداسة كما يناله المؤمنون (روم 1: 4). لهذا، تعود آ 16 بشكل واضح إلى "قوّة روحه" هذه التي تقوّي المؤمن. ومع أن الشخص الفاعل لم يُذكر بعد، فالمسيح هو حاضر هنا حين يسلّحنا الله بالقدرة بحبّه الإلهي الذي هو الروح.
بما أن المسيح حاضر في تقوية المسيحي لكي ينضجه، فلا نتعجّب إن عُرضت هذه المرحلة الجديدة من الحياة وكأنها مرحلة بها "يحلّ المسيح في قلوبكم" (آ 17). لقد سبق ووجدنا هذه الفكرة في غل 2: 20: "لست أنا حياً بعد، بل هو المسيح يحيا فيّ. وان كنت الآن أحيا في الجسد، فإني أحيا بالإيمان بابن الله الذي أحبّني وبذل نفسه عني". ومجد الله الذي أظهر عمله المسيحي بفضل إيمان المعمَّد (كو 2: 12- 13) سيُظهر أيضاً قدرته بفضل إيمان الإنسان البالغ. وهذا الإيمان يصبح مفتاح النموّ كما كان في ما قبل مفتاح التنشئة المسيحيّة.
وقبل أن يعبر المسيحيّون هذه المرحلة بتقبّلهم عطية الله الجديدة، قد أقيموا على أرض صلبة، أقيموا على الحبّ. وقد نالوا منذ الآن ثباتاً ومتانة. فالحبّ هو الأرض الطيّبة والخصبة التي فيها يتجذّر المسيحي والحبّ. هو الأرض الثابتة والمتينة التي تؤمّن له أساساً حقيقياً. نجد هنا لفظتين: متأصّلين، مؤسّسين. إنهما تدلاّن على النضج المسيحي، وهكذا يبرز من جديد التشبيهان السابقان: النموّ والبناء. ولكن مع لطائف جديدة.
إن الحبّ الذي أظهره الله في المسيح يسوع، قدّم لنا أساساً ثابتاً ومستنداً كاملاً، وقد جاءت ساعة الاستقرار النهائي، الساعة التي فيها نقيم في الحبّ. إن الحبّ يدعونا إلى الحبّ، وهكذا يكون تبادل بيننا وبين الله (1: 4؛ 5: 2- 25؛ كو 2: 7).

ج- المعرفة المسيحية السامية (آ 18- 19 أ)
إن معرفة الحياة العميقة لدى حاملي السّر، لا تنحصر في الذين تكرّسوا من أجل الخدمة. فجميع المسيحيّين قد يتوقون إلى هذا الهدف وإليه يصلون: فالله يعطي الجميع عمق الإيمان هذا الذي به يتّحدون ولا شكّ بـ "المكرّسين" لهذا العمل. ولكن كيف نحدّد هذه المعرفة التي تشكّل الهدف الأخير للحياة المسيحية؟ إن بولس الذي تحدّث حتى الآن عن السّر في ألفاظ مأخوذة من عالم الحكمة، يصوّر الآن اتساعه في عبارة تدلّ على أنه يتسامى على كان مجهود بشريّ ولا يعود في متناولنا.
إن موضوع هذه المعرفة هو سّر المسيح نفسه الذي أعلن "للقديسين" (3: 3- 5). هو المسيح نفسه، حكمة الله (1 كور 1: 24، 30). ففي سّر الله هذا تختفي كل كنوز الحكمة والمعرفة (كو 2: 3).
إنه سّر لا يدركه الإنسان المتروك إلى نفسه. ولكن الحكمة الإلهيّة التي تحقّقه، حتّى بين الوثنيّين في كل اتساع الكون، تستطيع أن تجعل المختارين يعرفونه. وإذ أورد الرسول الأبعاد الأربعة (العرض، الطول، العلوّ، العمق)، إستعاد وطبّق موضوعاً حكمياً نجده في سي 1: 3 (رج أي 11: 7- 8): "من يستطيع أن يكشف علوّ السماء، ووسع الأرض، وعمق القمر"؟
نحن لا نستطيع أن "نفهم"، لا نستطيع أن ندرك عن طريق الحدس، سّر المسيح إلاّ بواسطة صرفة اختبارية لما يكوّن جذورَه وباعثه الأساسي. بواسطة معرفة محبّة المسيح لنا. وهي محبّة جعلته يبذل ذاته عنا، يقدّم نفسه ذبيحة لأجلنا (5: 2). وهي محبّة أظهرها للكنيسة التي "بذل ذاته عنها ليقدّسها مطهراً إياها بغسل الماء وبالكلمة" (5: 25- 26).
إنها محبّة لا حدود لها. وممارسةُ المعرفة لا تستطيع أن تستنفد غناها. فالمعرفة المسيحيّة تكتشف دوماً غنى جديداً في سّر المسيح. غير أن هذه المعرفة التي هي في متناول الجميع تظهر كثمرة الإيمان الناضج والحبّ الكامل. والروح هو الذي ينفخ فينا هذا الوعي الجديد لسّر المسيح والكنيسة. ولقد رأى بولس دوماً في هذه المعرفة (أو: هذا العلم، في اليونانية: غنوسيس) فضيلة ترافق المحبّة (2 كور 6: 3- 6؛ 8: 7؛ روم 15: 13- 14). وإن هو تحفّظ بالنسبة إلى المعرفة حين كتب إلى الكورنثيين، فلأنهم تصوّروها بشكل خاطىء واستغلّوها في خطّ غير صحيح. أما الآن، وفي رسائل الأس، فهو يشجّع المسيحيّين على الوصول إلى هذه المعرفة الدينيّة العميقة (كو 1: 4- 9؛ أف 1: 15- 18) التي ترافق الإيمان والرجاء والمحبّة، فتقودها إلى قمّة الحياة المسيحيّة.

د- ملء الله (آ 19 ب)
وكتب القدّيس بولس: "حينئذٍ تمتلئون من (وتدخلون في) ملء الله" (آ 19 ب). بهذه الجملة الموجزة كل الإيجاز، قدّم لنا بولس ملء النضج المسيحيّ بعد أن أدخله في التعليم عن "الملء" الخاصّ برسائل الأسر. نقرأ في أف 1: 22- 23: "لقد أخضع كل شيء تحت قدميه، وأقامه، فوق كل شيء، رأساً للكنيسة التي هي جسده وملء ذاك الذي يكتمل (يمتلىء) في جميع الكائنات". وفي كو 2: 9- 10: "فيه (في المسيح) يحلّ ملء اللاهوت جسدياً، فتجدون فيه ملئكم. هو رأس كل رئاسة وسلطان".
إن المسيح القائم من الموت هو ملء الكون. جمع وضعه الإلهي مع وضعه كأخ لكل العالم المخلوق، بواسطة بشريّته. وتتركّز قوّة الحياة الإلهيّة في المسيح لخير البشريّة. والحياة الجارية من الرأس (عطيّة الروح) تملأ الذين يقتربون منها بواسطة المعرفة المسيحيّة. والكنيسة كلها التي هي امتدد جسد المسيح، تجد نفسها في قلب هذا الملء الذي فيه جعل بولس أيضاً الملائكة والكون. وتستفيد الكنيسة من هذه الحياة الإلهيّة، وتتقوّى بها "لتكوّن هذا الإنسان البالغ الذي يصل إلى ملء اكتمال المسيح" (4: 13).
إن معرفتنا التي تلج شيئاً فشيئاً إلى حبّ المسيح، تجعلنا نصل إلى هذا الملء. هذا ما يعرفه الرسول فيعبّر عنه: "نعيش حسب الحقّ وفي المحبّة فننمو من كل وجه، نحو ذلك الذي هو الرأس، أي المسيح" (4: 15). ففي أمانة لالتزام تام في حياتنا، نسير نحو الملء ساعة تتابع عطيّة الله عملها، فتملأ الإنسان، وتملأ الكنيسة التي هي خميرة البشريّة والكون. وحين نكتشف الحبّ نسير نحو ملئنا الذي هو يسوع المسيح.

5- المجدلة (3: 20- 21)
يتثبّت طابع الملء في أنه في الوقت عينه قدرة الله التي تجتاح العالم، ورغبة الله الذي يُسّر حين يتقبّل الحبّ الذي تحمله إليه خليقته. وهذه المسيرة المضاعفة للملء الإلهي الذي يأتي إلينا، ولاندفاع الإيمان الذي يدخلنا في هذا الملء السماوي، يذكّرنا بما في الصلاة الكهنوتية (يو 17): أنت فيّ وأنا فيهم. هم في العالم، أنا فيهم وأنا فيّ.

أ- للقادر أن يصنع (آ 20)
وتأتي آ 20 فتحمل تبدّلين اثنين. ننتقل من الصلاة إلى المجدلة التي ترد في خطبة غير مباشرة، في صيغة الغائب: إلى الذي يقدر. والتبدّل الثاني نراه على مستوى الأشخاص: من صيغة المخاطب الجمع (أنتم) في آ 14- 19 (يهب لكم أنتم) إلى صيغة المتكلّم الجمع (نسأل نحن، نتصوّر نحن).
هناك من يقتطع المجدلة من سياقها المباشر، فيجعلها خاتمة تتوّج ف 1- 3. ولكن يبدو أننا لا نستطيع أن نفصلها عن الصلاة التي تسبقها، رغم الطابع الاحتفالي الذي تتمتّع به. فالاستعمال الليتورجي اعتاد أن يضمّ في الوحدة، الصلاة والمجدلة. وفعل السجود الذي بدأ في آ 14 (أحني ركبتيّ) يرافقنا حتى نهاية ف 3 مع التلفّظ بكلمة "آمين".
إن موقع المجدلة في نهاية القسم التعليميّ من الرسالة، يذكّرنا روم 11: 33- 36 الذي ينهي فترة عميقة من التفكير مكرّسة لاختيار إسرائيل ودعوة الأمم. ونجد أيضاً مجدلات ختاميّة بسيطة في شكلها. وقد تتبعها تحيّة يوجّهها الرسول إلى المؤمنين. مثلا، فل 4: 20: "لإلهنا وأبينا المجد إلى دهر الدهور. آمين. سلّموا على كل واحد من القدّيسين". أو 2 تم 4: 18: "له المجد إلى دهر الدهور، آمين. سلّم على برسكلة" (رج عب 13: 21؛ 2 بط 3: 18).
إن بنية هذه المجدلة التي نقرأها هنا تقترب من تلك التي نجدها في روم 16: 25- 27 (وللقادر أن يثبتكم في إنجيلي) أو يهو 24 (للقادر أن يقيكم من كل زلّة). فهذه المجدلات تتوجّه إلى الله الآب فتدعوه "ذلك الذي يقدر". وتعلن أن قدرته تدفعنا إلى السجود، لأنه "يثبّت". "يحفظنا من السقوط". "يدخلنا في ملكوته". أما هنا، فيتلخّص كل شيء في فعل "صنع". استعمل بشكل مُطلق (لم يقل ماذا يصنع الله) فتسجّل في خطّ نشاط الله، حيث لا ينفصل الخلق عن التكملة. الله خلق وهو يكمّل. رج 2: 10، 15؛ 3: 11.
فعلُ (صنع) بدون مفعول به. ولكن النصّ يتوسّع فيه. فالقدرة المذكورة هنا تعود إلى آ 16 (تتأيّدوا بقوة روحه)، كما تعود إلى 1: 19 (عظمة قدرته المتجلّية في عزّة قوته). وهي تحيط بالمطلب المتعلّق بالحبّ (آ 19: تدركوا المحبّة). إن قدرة الله قد أقامت المسيح، ورفعته فوق جميع المخلوقات، وجعلته رئيس الكنيسة. وهي الآن تتجلّى في رسالة بولس (3: 7: بفعل قدرته). ويتواصل عملها فينا بشكل يتجاوز كل ما نرغب أو ما يمكن أن نتصوّر.
لا تكتفي قدرة الآب أن تتغلّب على كل قدرة، بل هي تتجاوز ما تطلبه الصلاة (كو 1: 9؛ مت 21: 22)، وكل ما يتخيّله عقلنا. أجل، كل اندفاع فينا يتوقّف عند ربّ الكون التي تدهشنا مبادراته على الدوام. وهو يعطينا في كل وقت أكثر ممّا نطلب وغير ما نطلب.

ب- المجد في الكنيسة (آ 21)
وترتبط آ 20 مع آ 19 بملاحظة مماثلة: ما حصلنا عليه يتجاوزنا كل التجاوز. كنا قد تحدّثنا عن عبارة تسبق فيها الكنيسةُ المسيحَ. في الواقع، إن المجدلة تدعونا إلى أن "نتوّج" الطريق التي سرنا فيها. هي تنطلق من آخر تجلّ للمجد الإلهي، أي الكنيسة، التي هي تعبير عن هذا المجد وتشخيص للحكمة كما في آ 10 (كما تتجلّى بواسطة الكنيسة). وبعد أن تذكر المجدلة الكنيسة، تذكر المسيح الذي هو ينبوع الكنيسة وسبب وجودها. فالعبارة لا تسجن المسيح في الكنيسة، بل تستنتج الكنيسة من المسيح، له المجد في الكنيسة وفي يسوع المسيح.
نستطيع أن نعطي المجد لله بقدر ما يكون مجدَ وحي الله. كما نقول عن المباركة. نحن لا نبارك الله بمعنى أن نزيد خيراً على خيره. بل نباركه حين نقول مبارك الله الذي يُغدق علينا خيراته. فكلمة المجد كما في العبرية (كبود) تحمل عمل الله من الخلق حتى ملكوت الله الأبدي مروراً بحياتنا ولا سيّما بحياة يسوع المسيح.
حين ننتبه إلى مسيرة المجد (من الكنيسة إلى المسيح)، وحين نأخذ بعين الأعتبار النبرة الاحتفاليّة، يبقى أن الكنيسة تدخل هنا في ديمومة لم يكن بولس قد تحدّث عنها في ما مضى. إنها هدف عمل الله، وهي ستحلّ في المكان الذي اتخذه الملكوت في كرازة يسوع. وهي تلج إلى أبعد من الزمان، وأبعد من المكان، لكي تصل إلى الأبديّة.
وإذ أراد الكاتب أن يعبّر عن الأبدية قال: "إلى جميع الأجيال، وإلى دهر الدهور". وهكذا ضمّ في كلامه عبارتين: "في جميع الأجيال" كما في لو 1: 48 (تطوّبني جميع الأجيال)، و"إلى دهر الدهور" كما في روم 1: 25: "في جميع الدهور" (هي عبارة بسيطة). وفي غل 1: 5: "في دهر الدهور". أما في أف 3: 21، فنجد المفرد (دهر) ثم الجمع (الدهور). كما نقول "نشيد الأناشيد" (أي أجمل نشيد)، نقول "دهر الدهور" فندلّ على أعظم الدهور الذي هو زمن الله وأبديته.
وتنتهي هذه المجدلة الواسعة مع "آمين". هذا ما نجده في عدد من القطع الليتورجيّة في العهد الجديد (روم 1: 25؛ 9: 5؛ 15: 33). هذا ما اعتاد العالم اليهوديّ أن يفعله في صلوات المجامع.

خاتمة
وهكذا انتهت المجموعة الأولى من الرسالة في مجدلة تتجاوب مع الاعلان الذي قرأناه في 1: 6، 12، 14 (مجد نعمته، تسبيح مجده، تسبيح مجده). فهذه الفصول الثلاثة (1- 3) هي جزء من نشيد العهد مع الله. أما السلام الذي اعتاد أن يرافق المجدلات فسيكون في النهاية دون ذكر لمجد الله. نقرأه في 6: 23: "للإخوة السلام مع المحبّة والإيمان، من الله الآب والرب يسوع المسيح".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM