الفصل الحادي عشر: حب الله العظيم

لفصل الحادي عشر
حب الله العظيم

ونصل إلى اللهجة الشخصيّة. الذي يكتب هو بولس. "أنا بولس، سجين المسيح يسوع من أجلكم". لقد ألقيت عليه مهمّة بأن يلقي الضوء على مخطط الخلاص في كل اتساعه. وهذا المخطّط يجمع اليهود والوثنيين في الوحدة، يجعلهم في جسد واحد. وهكذا ينكشف لنا حبّ الله الذي لا حدود له، حبّ المسيح الذي لا يُسبر طوله وعرضه وعلوّه وعمقه.
يقسم ف 3 إلى فسمين. ويبدأ كل قسم بأداة: لذلك. "لذلك أنا بولس (3: 1). "لذلك أحني ركبتي أمام الآب" (آ 14). بعد النظرة العامّة، نعود إلى دراسة وتحليل القسم الأول وعنوانه: سّر المسيح وسّر الرسول (3: 1- 13). والقسم الثاني (3: 14- 21) الذي هو صلاة تنتهي بمجدلة تفسّر عظمة الله إلى دهر الدهور.

1- نظرة عامة
وبدأ الرسول كلامه في آ 1. ولكنه قدّم نفسه فقط. "أنا بولس". فالصلاة التي استعدّ لتلاوتها لن ترد هنا، بل في آ 14. فبين فاعل آ 1 وفعل آ 14 نجد جملة طويلة (آ 2- 7) سوف تتواصل في آ 8- 13، لتستند في النهاية إلى فعل هو: "أعطيت هذه النعمة". ويدور التوسّع كله حول دعوة بولس ومخطّط الله.
وحين كرّرت آ 14 أولى كلمات آ 1، استعادت الكلام قبل أن يقطعه دخول بولس على المسرح. لا يكفي أن تُكتب صلاته: يجب أن تدخل في مجمل البناء (2: 11- 21). أما الصلاة التي يتفوّه بها الرسول في صيغة المتكلّم المفرد (أحني ركبتي) فهي ترتبط بعدد من المقابلات مع توسّع ف 2 الذي تنهيه بمقطع في شكل مجدلة. فالصلاة (3: 14) وما يسبقها (3: 1- 13) هما جزء لا يتجزأ من الرسالة بالتأليف والأسلوب والألفاظ. فلا نقتطعهما من الرسالة، كما فعل البعض، ولا نحسبهما جاءا من الخارج وأُقحما هنا.
أما تأثير كو على آ 2- 13 فواضح جداً: فبعد مديح كو 1: 15- 20، والنداء إلى المصالحة (كو 1: 21- 23)، يبدأ تذكّر بولس لخدمته وللمضايقات التي قاساها (كو 1: 23 ي). هنا تقدّم كو تفسيراً جديداً لوجه الرسول ودوره في مخطّط الله. وتستعيد أف هذا الموضوع فتضمّه إلى ما أعلنه ف 2 عن مصالحة العالم. فتدبير نعمة الله تجاه الرسول، ومهمّته الرسوليّة، وتدبير النعمة الشامل تجاه الوثنيين، كل هذا تأسّس على سّر واحد. وتوقّف التوسّع عند عبارة "أنا بولس سجين المسيح"، وما تابع طريقه.
وسيعود بولس إلى المسرح ساعة ينحني ليسجد للربّ. ولكن في هذه اللحظة، يتوقّف الرسول عن الكلام ويلتفت إلى الجماعة ليزيد بعض الكلمات المتعلّقة به. وحين انتهى، إنحنى وانحنينا معه أمام حبّ الله الذي لا قياس له.
هكذا يتألّف ف 3. وهكذا تبدو وحدته رغم تبدّل في اللهجة، فإن آ 14 شكّلت صلة الوصل التي تثبّتت بذكر آلام بولس في آ 1 وآ 3 اللتين تحيطان بالقسم الأول: إن تذكّر مضايق بولس لن تزعزع الجماعة، بل تتيح لها بأن تتعرّف إلى سلطته والى المكانة الفريدة التي يحتلّها في الأزمنة المسيحاويّة. فالمسيح تألّم من أجل شعبه، والرسول يتألّم من أجل الأمم الوثنية.
ويتوزّع ف 3 كما يلي: لذلك (أفق يفتحه كلُّ ما سبق) أحني ركبتي: انقطاع (آ 1). ويأتي في آ 2- 13 تفسير عن مقصد الله. ونعود في آ 14- 21 إلى الصلاة (معرفة الحبّ) التي تبدأ: "لذلك أحني ركبتي".

2- سّر المسيح وسّر الرسول (3: 1- 13)
أ- دراسة النصّ
في آ 1 يزيد المخطوط البازي وغيره في نهاية الآية: أنا في سفارة. رج 6: 20: "الذي أنا سفيره حتى في السلاسل". وفي 2 كور 5: 20: "فنحن إذن سفراء المسيح". كانت تلك محاولة إعطاء فعل رئيسيّ لجملة بدأت وما انتهت. وهناك اختلافة غريبة عجيبة، كيكاوخاماي.
في آ 3 أحلّ النصّ المعتمد صيغة المعلوم (عرّفني الاله) محلّ صيغة المجهول (أوتيت معرفة) التي نجدها في المخطوطات القديمة. المعنى لا يتبدّل بقدر ما يُحسب المجهول صيغة عبرانيّة تحاول أن تتحاشى التلفّظ بالاسم الإلهي. هذا ما يسمّى "المجهول الإلهي". مثلاً: أعطوا تُعطوا. يعني: يعطيكم الله.
في آ 5 نجد عبارة صعبة. "لرسله القدّيسين وأنبيائه". ألغيت لفظة "رسل" في الفاتيكاني، فصارت الجملة: كما أعلنه الروح للقدّيسين أنبيائه. أما المخطوط البازي فقرّب 51 من كو 1: 26 (أعلن الآن لقدّيسيه) فجعل الضمير (الهاء) بعد "القدّيسين" لا بعد الأنبياء: قدّيسيه الأنبياء.
في آ 8 نقرأ: "جميع القدّيسين". أما البرديّة 46 فالغت لفظة "القدّيسين"، فصارت العبارة أنا أصغر الجميع. وهكذا بدت اللهجة جذريّة. ونسّق البازي وغيره النصّ المتبع مع كو 1: 27 (ما هو، في الأمم، غنى مجده) فزاد حرف الجر: "إن" (في) أمام "الأمم"، أما الأصل فهو: "أعلن للأمم".
في آ 9، يطلب فعل "أوضح" المفعول "للجميع"، كما يفعل أكبر عدد من المخطوطات. ولكن السينائي والاسكندراني يلغيانه فتصبح الجملة: "أوضح تدبير السّر المكتوم منذ الدهور". ويحلّ النصّ المعتمد "شركة" (كوينويا) محلّ "تدبير" (اويكونوميا). كما تزيد بعض المخطوطات "بيسوع المسيح" بعد فعل "خلق" فتصير الجملة: "في الله الذي خلق كل شيء بيسوع المسيح".
في آ 12، قلب البازي ترتيب اللفظتين: الجرأة والثقة. وزاد "في تحرّرنا" فطبع النصّ بطابع روم 8.

ب- تحليل النصّ
إن آ 1 وآ 13 تتجاوبان، فتحيطان بالتوسّع، ذاكرتَين آلام الرسول من أجل الوثنيّين. ويتنظّم المقطع في مقابلة بين آ 3- 7 وآ 8- 12. وبين الشقّين نجد لحمة واضحة مع استعادة كلمة بولس في بداية آ 8 (لي أنا)، وإعلان آ 7 الذي يتجاوب مع إعلان آ 2 فيشكّل معه تضميناً: "قد أعطيت هذه النعمة".
بولس، أسير المسيح (آ 1) قد أعطيت له النعمة من أجل وحي السّر (آ 2، 7)، من أجل إعلان الإنجيل (أي: البشارة) (آ 8). ثلاث مراحل: أوتي بولس معرفة السّر (آ 3، 4). هذا السّر الذي كان خفياً من قبل وكُشف الآن للرسل (آ 5)، هو سّر المشاركة بين إسرائيل والأمم (آ 6). ومن جهة ثانية، ثلاث مراحل أيضاً: أوتي بولس نقل السّر إلى الأمم (آ 8، 9)، سّر خفيّ في الاله وقد كُشف الآن للقوّات (آ 10، 11). وهو أن لنا جميعاً القرب إلى الله في المسيح (آ 12). وفي النهاية، مضايقي هي مجدكم (آ 13).
فالخطّان يدلاّن على وحي السّر: إنه يُكشف للرسل (آ 3- 7) ليصبح ظاهراً للقوّات (آ 8- 12). وفي قلب كل جزء نجد "الآن" الذي يعلن ملحاحيّة الرسالة. ويتوسّع هذان الخطّان بشكل متوازٍ: خطّ وحي مخطّط الله للرسل، وخطّ ظهوره أمام القوّات والخليقة كلها. وهذان الخطّان يخرجان من جذع واحد هو النعمة التي نالها بولس من الله: أوتيت معرفة السّر، أعطيت هذه النعمة.
ويتمّ التحوّل بالانتقال من "أنتم" (آ 2- 7) إلى "نحن" (آ 8- 12). كان السّر يعني الأمم (الوثنية)، أي قرّاء الرسالة. وبقدر ما صار معلناً، انضمّوا إلى الرسل في الكنيسة التي صارت بدورها أداة لإظهار مخطّط الله في الكون. وهكذا تجتمع مبادرة الوحي التي تتمّ على مستوى معرفة مخطّط الله، أي مسيرة تاريخيّة هي المسيرة الرسولية التي وصل تأثيرها إلى قلب الكون وتجاه القوّات.
وتنتظم أيضاً الألفاظ في خطّين. خطّ الخدمة (دينامية): تحرّك، قدرة، إعلان الإنجيل، تحقيق السّر. وخطّ السّر (استنارة): أخفى (كشف، عرف)/ ما عرف. قبل/ الآن. ألفاظ تدلّ على انتقال من الحكمة إلى المعرفة. وفي التقاء هذين الخطّين نجد الأنجيل الذي يقدّم المرسَل (اختيار الله له، مضايقه) والرسالة. فالإنجيل يشارك في دينامية الخدمة كما في استنارة السّر. وبه يتمّ مخطّط الله. وهنا نورد الألفاظ العديدة التي تبرز مبادرة الله: موهبة، نعمة... ومن خلال هذا الملء يتفجّر النصّ. بدأ مع أنا، أصغر الجميع، وانتهى مؤكّداً للقرّاء أنهم يشاركون في المجد.
إذا أردنا أن نحدّد تكوين النصّ، نذكر أن آ 1- 13 هي ملتقي رفدين: كو 1: 23- 28؛ وأف 2: 11- 22. نجد في كو الآلام التي قاساها الرسول من أجل الأمم، المكانة التي وُهبت له بالنعمة في المخطّط الأسكاتولوجي، الوحي الذي ناله عن سّر خفيّ منذ الدهور، مضمون (مشاركة الأمم في المجد) هذا السّر" وإشراك كل إنسان فيه، والنهاية التي هي اقتراب كل واحد منا إلى الآب. وحملت أف 2 التوجّه إلى الوثنيين، تذكّر الرسل والأنبياء مع بولس، تركيز السّر على مشاركة الأمم في المواعيد، وأخيراً الاقتراب من الآب.

3- صلاة ومجدلة (3: 14- 21)
أ- دراسة النص
في آ 14، جعل السينائي، والبازي وغيرهما لفظة "الآب" في حالة المطلق كما في 2: 18: "لأن به لنا كلينا التوصّل إلى الآب". أما الترجمات وكتب القراءات فقالت: "أبو ربنا يسوع المسيح" كما في 1: 3 وحسب التقليد الليتورجي.
في آ 19، نقرأ: تمتلئون. أما في البرديّة 46 والفاتيكانيّ والقبطيّ الصعيديّ فنقرأ: "لكي يتمّ كل ملء الله (تجاهكم)". إن الملء الإلهيّ يتفتح بقدر ما يصل كل القدّيسين، كل المؤمنين، إلى ملء المعرفة. فملء المعرفة سكن في المسيح حسب كو، وها هي الكنيسة قد صارت مسكنه.
في آ 28، ألغي حرف العطف (كاي) من أمام "في المسيح" فجعل الكنيسة في المسيح. لم تعد تسبقه. وهكذا يختفي في هذه المجدلة ما كان مدهشاً للوهلة الأولى، في النصّ المعتمد: "اله (الله) المجد في الكنيسة وفي يسوع المسيح". دُهش النقد النصوصيّ حين رأى الكنيسة تأتي قبل المسيح. فقال البازي: "في الكنيسة التي هي في المسيح يسوع". في الواقع، تدعونا المجدلة إلى العودة إلى طريق تطعناه. تبدأ مع الظهور الأخير للمجد الإلهي، مع الكنيسة التي هي تعبير عن هذا الظهور وتجسيد للحكمة كما في 3: 1. ثم تذكر المسيح الذي هو السبب. وتصل إلى الينبوع الذي هو الآب. لا تحصر العبارةُ المسيحَ في الكنيسة، بل تستنتج الكنيسة من المسيح، له المجد في الكنيسة وذلك في يسوع المسيح.

ب- تحليل النصّ
ترد الصلاة في الأسلوب غير المباشر وتنتهي بالمجدلة: تتكرّس آ 20- 21 مباشرة لله. أما في آ 14- 19 فنحن أمام التوسّل والتشفّع. لا نجد ما يقابل هذه الصلاة في العهد الجديد.
إن المناخ الذي تدلّ عليه هذه الصلاة يوافق مناخ الجماعة المسيحاويّة حين تصل إلى نهاية مسيرتها التي فتحها العهد الجديد. تبدو الصلاة صدى لأناشيد جعلها لوقا في بداية إنجيله: تعظّم نفسي الربّ، مبارك الربّ، إله إسرائيل... أناشيد لوقا هي أناجيل الصباح. أما أف 3: 14- 21 فهو صلاة المسيح وفي نهاية يوم رسوليّ. أما الموضوع المركزي فيرتبط مع كو 2: 19 (الرأس. به يتغذّى الجسم كله... ويبلغ إلى تمام نموّه في الله) حيث نجد نموّ الجسد وتلاحمه. وهذا الموضوع سوف تعود إليه أف 4.
إن السّر الذي كُشف ليس بجامد. إنه مدعوّ إلى توسّع لا يُقاس، وهو يُعبد قبل أن يُعرض. أما المجدلة فتدلّ على وقفة في احتفال بدأ مع 1: 3 ونشيد المباركة. هذه المجدلة تبدو علامة وصل بين قسمَي الرسالة التي تبدأ بالصلاة وتنتهي بالصلاة.
وألفاظ هذا المقطع تدور حول الجسم والبيت كما في ف 2. أما الحركة فتذكرنا بالمباركة أو مديح 1: 20- 23: عدد من صيغ المصدر مع أسماء الفاعل. من طلبٍ إلى سجود، ترتفع الصلاة عبر الخطوط السّرية لمخطّط الآب. ونكتشف في نظرة واحدة وسع الخلاص الذي تمّ في المسيح، كما شاهد موسى من أعلى حوريب أرض الميعاد. منذ البداية ذُكر الاختيار والنعمة. والآن يُدعى الرسل، والمؤمنون، والبشريّة "إسرائيل والأمم"، والخلائق المنظورة وغير المنظورة للمشاركة في حبّ يبدو أكثر اتساعاً كلّما اتسع النظر. والشعور الأخير يذكرنا بنشيد يسوع بعد عودة السبعين من الرسالة (لو 10: 21- 22: احمدك، يا أبتِ، ربّ السماء والأرض، لأنك أخفيت ذلك عن الحكماء)، أو بنشيد بولس بعد المسيرة الطويلة التي صوّرها في روم 9- 11: "يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه..." (روم 11: 23- 35).
أما بنية المقطع فتبدو كما يلي: تدلّ آ 14- 15 على ذاك الذي إليه تتوجّه الصلاة، وتسمّيه: الآب. ويبدأ الطلب بحصر المعنى في آ 16- 19، وذلك على دفعتين: ليهب لكم (آ 16)، لتستطيعوا أن تدركوا (آ 18). وفي آ 20- 21، تأتي المجدلة التي نربطها بما سبق وإن استطعنا أن نعتبرها خاتمة ف 1- 3. ويُبنى الطلب على عنصرين، فيتضمّن كل عنصر فعلين: تأيّد (تقوّى) (آ 16)، حلّ (سكن) (آ 17). والفاعل هنا هو المسيح. ثم فهم (آ 18)، عرت (أدرك) (آ 19). ويتبع فعل سكن اسمَي فاعل: متأهلين، متأسّسين.
هنا يُطرح سؤال طُرح في مباركة ف 1: هل نجعل العناصر المتتالية في موقف متوازٍ، أم نتبع تدرّجاً خطوطياً متصاعداً؟ في الحالة الأولى، نصل إلى الرسمة التالية: أصلّي إلى الآب (1) لكي يعطي بأن تتقوّوا، بأن يسكن المسيح فتتجذّروا وتتأسّسوا. (2) لكي تقدروا أن تفهموا، أن تدركوا لكي تمتلئوا. في الحالة الثانية، ننظر إلى كل عنصر وكأنه ينبع من العنصر السابق: أصلّي إلى الآب- لكي يعطي- لكي تتأيدوا. سكن المسيح- يعطي القوة- لكي تفهموا- لكي تدركوا بُعد. الحبّ- لكي تجدوا ملئه في ملء الآب.
نحن في جوّ حكميّ. فألفاظ الغنى والقدرة تنضمّ إلى ألفاظ المعرفة التي تنتج عنها. القدرة هي المعرفة والمعرفة هي الحبّ.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM