الفصل العشرون: أبوّة الله في العهد القديم

الفصل العشرون
أبوّة الله في العهد القديم

حين كان يسوع يرفع صلاته إلى الله، كان يدعوه "أبّا" أيها الآب. وحين رآه التلاميذ يصلّي، طلبوا منه أن يعلّمهم، فعلّمهم بأن يقولوا: أبانا الذي في السماوات. وعرف التلاميذ على ضوء خبرة القيامة أن الله أرسل روح ابنه ليهتف فيهم: أبّا، أيها الآب، وليعلّمهم أنهم ليسوا عبيدًا بل أبناء للآب السماوي (غل 4: 6- 7). أبوّة الله تعليم معروف في العهد الجديد بعد أن صرنا أبناء مع الابن، فهل نجد آثارًا لمثل هذا التعليم في العهد القديم؟
ستكون لنا محطات ثلاث في هذا المجال. بعد نظرة إلى الديانات الساميّة في العالم القديم، نتطرّق إلى هذه الابوّة في أصولها، قبل أن نكتشف غناها في النصوص المتأخرة من التوراة، في أشعيا وإرميا، وفي الأسفار الحكمية.

1- في الديانات الساميّة
أ- الالهة القمرية
ما نعرفه عن تاريخ أور (جنوب العراق) التي عاش ابراهيم في جوارها، هو تعبّدها لله بشكل القمر. فهو الأبيض (لبن) وهو "سين" (الذي ارتبطت به شبه جزيرة سيناء)، وهو يرح (يرحو في السريانية) الذي يعني القمر ثم الشهر المبني على التغيّرات في القمر.
فتارح والد ابراهيم يُربط بلفظة "يرح". وساراي (أو: سارة) هي زوجة سين. ملكة هي ابنة ساراي الالاهة (رج تك 11: 27- 29). كل هذه التقاربات تتوافد لكي تجعل عائلة ابراهيم في حماية الآلهة القمرية في بلاد الرافدين، آلهة البدو، وآلهة الخصب.
أما العلاقة بهذه الآلهة فهي من النمط النبويّ. وهذا ما يبرز في الطقوس والصلوات التي وصلت إلينا. وإليك مثلاً مقتطفات من نشيد رُفع إلى سين.:
أيها الآب ننار، أيها الربّ سين، يا أمير الآلهة
أيها الآب ننار، يا رب أور، يا أمير الآلهة...
يا أبًا رحومًا وعطوفًا. أنت تمسك بيدك حياة البلاد كلها.
أيها الرب، الوهيتك تشبه السماوات التي لا تقاس والبحر الوسيع، وهي تحرّك فينا رهبة مقدَّسة.
يا خالق البلاد ومؤسّس الاماكن المقدسة ومسمّيها بأسمائها
أيها الآب الذي يلد الآلهة والبشر ويجعلهم في مساكن، ويحدّد لهم تقادم يقربونها في أوقات منظمّة.
أنت تعيّن الملوك وتعطي الصلجان، وتقرّر مصير كل انسان حتى آخر الأيام...
يا أبا يلد كل الكائنات الحيّة. وحين يراك سكّان الأرض الواسعة يفرحون وهم يبحثون بعينهم عن النور
أيها الرب الذي يحكم في أمور السماء والأرض. فلا يستطيع أحد أن يبدّل أمرًا أعطاه.
أنت تسيطر على النار والمياه، وتسهر على كل حيّ، فأي إله أعظم منك!

ب- إله الأب
ونتساءل: من هو هذا الاله الذي يطلب من ابراهيم أن يترك "أرضه وعشيرته وبيت أبيه"؟ فيأتينا الجواب: "قال يهوه" (الرب). "وانطلق أبرام كما قال له يهوه" (تك 12: 1- 4). ولكن اسم يهوه سيُكشف لموسى بعد قرون عديدة. ولهذا فالكتاب الملهم يستبق الامور فيجعل أنوش يدعو باسم الرب (يهوه) ويرفع إليه الصلوات، ويجعل ابراهيم يتقبّل دعوته من يهوه كما عرفه موسى. ولهذا يجب أن نتّخذ اتجاهًا آخر.
وتنفتح أمامنا طريق نجدها في عبارة تصف مرارًا إله الآباء. حين كلّم يعقوب امرأتيه قال لهما: "إله أبي كان معي" (تك 31: 5). وسيقول لابان ليعقوب وصحبه: "إله أبيكم قد كلّمني البارحة" (تك 31: 29). إله الأب هو الذي يفعل. وستتحدّد هذه الصفة كما يلي: إله أبيك ابراهيم (تك 26: 24)، إله أبي ابراهيم وأبي إسحاق (تك 32: 10). ونقرأها كاملة في خر 3: 6: إله أبيك، إله ابراهيم، إله اسحاق، إله يعقوب.
ما يميّز هذه العبارة هو أنها تتوجّه إلى إله محدّد يرتبط به شخص محدّد. ما اسم هذا الاله؟ لا نعرف. أين يقيم؟ لا مقام له. فالبدوي لا يرتبط بمكان محدّد، بل بكل الأمكنة. فحيث يحلّ، يرفع شعائر عبادته إلى إلهه.
ونربط اسم الآباء الثلاثة بهذه التسمية: إله الأب. فأبرام يعني: الآب (أو الاله) رفيع. واسحاق (مختصر يصحق أب أو يصحق إيل) يعني: ليضحك (ليبتسم ابتسامة الرضى) الله أو الأب. ويعقوب (مختصر يعقوب إيل) يعني: الله يحمي. نشير هنا إلى أننا وجدنا عبارة "إله أبي" في لويحات عُثر عليها في كبادوكية، وهي تعود إلى القرن التاسع عشر ق. م.
ما هي ميزات "إله الأب" هذا؟ هو لا يرتبط بمعبد، بل بمجموعة من البشر. كشف عن ذاته للجدّ فتعرّف إليه الجدّ... هذا الاله يقود أبناء الجدّ الأمناء له، يرافقهم، يحرسهم في الطريق. هذا الاله ربط نفسه بمواعيد فأكّد لمؤمنيه استمراريّة النسل ووجود أرض يقيمون فيها.
إله الأب هو كالجدّ بالنسبة إلى المجموعة، هو الهادي والمحامي، هو عنصر الخصب والثبات. وهو لأخصّائه الأب، بل أب بمعنى سام لأنه يكفل المواعيد التي لا يستطيع أن يقوم بها جدّ مائت. وهكذا يبدو الاله شخصًا قويًا اتّخذت أبوّته طابعًا خاصًا في نظر ابراهيم وعشيرته.

2- في ديانة موسى
أ- يهوه إله موسى
إن اعتراف الايمان على جبل سيناء يعلن: "أنا هو يهوه (الرب) الهك الذي أخرجك من أرض مصر" (خر 20: 2). من هو يهوه هذا الذي يقول في خر 3: 14 إنه كشف اسمه لموسى؟
لم يعرف الآباء يهوه. فاسمه جديد، وقد وصل إلى الشعب بواسطة موسى. فمن هو؟ إنه الاله الذي هو. "أنا من أنا". أنا الكائن، كما تقول الترجمة اليونانية. وهذا يدلّ على الملء والقدرة والتسامي.
وتعرّف الشعب إلى يهوه من خلال أعماله: هو الاله المحارب، والاله المحرّر. وعمله الاساسيّ كان حربَ تحرير (خر 14) برزت ذروته في نشيد النصر:" "سبّحوا الرب، فقد التحف بالمجد. طرح الفرس وراكبه في البحر" (خر 15: 1).
ويهوه أخيرًا هو الأب الذي يعمل من أجل ابنه. نقرأ في خر 4: 22- 23 كلام الرب لموسى: "قل لفرعون: كذا قال الرب: اسرائيل ابني البكر. قلت لك (أمرتك): أطلق ابني ليعبدني. وإن أبيت أن تطلقه، فهاءنذا قاتل ابنك البكر".
أجل، إبن بإبن! فوجهة الابوّة التي يعبّر عنها النص تعبيرًا واضحًا، تُحدّثنا عن يهوه المحرّر والمحامي، بانتظار أن تحدثنا عن إله العهد والشريعة التي تختم هذا العهد.
الأب، تقول علوم الانتروبولوجيا، هو الذي يعطي شريعة. وتلك هي إحدى السمات الأساسيّة عند يهوه. إنه الاله الذي أعطى شريعته لشعبه، أعطاهم وصايا ميثاق سيناء. وماذا تقول هذه الشريعة في أبسط أشكالها وأوّلها: "لا تسجد لإله آخر، لأن الرب اسمه الغيور (هو يغار، لا يقبل أن يشاركه أحد في هذا الخلق). إنه إله غيور... لا تصنع لك آلهة مسبوكة" (خر 34: 14، 17).
شريعة الرب أمانة، وتقابلها الغيرة. فالله كشف عن نفسه لشعبه في عمله الأبويّ والخلاصيّ الذي قام به. هذا ما يردده لا 19 بعد كل أمر: "لا تفعل، أنا الرب" الذي آمرك به، ولي حق في ذلك. وفي خطّ هذه الأبوّة نرى توازيًا بين اكرام الابوين واكرام الله: "كونوا قديسين، لأني أنا الرب إلهكم قدوس. على كل واحد منكم أن يهاب أمّه وأباه" (لا 19: 2- 4).

ب- في زمن يشوع والقضاة
وكاد بعل في زمن يشوع والقضاة يحلّ محلّ يهوه. ولكن تجاه هذه الديانة المرتبطة بالطبيعة والخصب، ظلّ الرب إله الوعد والشريعة، ظلّ إله الآباء. هذا ما نكتشفه في الأسماء، التي أعطاها المؤمنون لأولادهم.
أبياهو. أبي: أبي هو يهوه. اسم حمله بنياميني حوال سنة 1250 (1 أخ 7: 8)، وامرأة حصرون حوالي سنة 1200 (1 أخ 2: 24)، وأحد أبناء صموئيل (1 صم 8: 2) حوالي سنة 1050، وجدّ الفرقة الكهنوتية الثامنة (1 أخ 24: 10).
يوآب: أي: يهوه هو أب. هو اسم قائد جيش داود (1 صم 26: 6).
أبيئيل أي: أبي هو إيل (أي الله). هو اسم جد شاول وابنير (1 صم 9: 1).
الياب. أي: الهي هو أب. هو اسم رئيس عشيرة في زبولون (عد 1: 9)، واسم الأخ الأكبر لداود (1 صم 16: 6).
ابيهو. أي: هو أبي. يشير النص إلى الرب دون أن يسمّيه. أبيهو هو أخو هارون (خر 6: 23)
كل هذه الاسماء التي دلّت على أبوّة الله، قد انتشرت انتشارا واسعًا قبل أن تتثبّت في أيام الملكيّة.

3- أبوّة الله عند الأنبياء
في أيام داود نرى الله يعلن بنفسه (بفم ناتان النبي) بصورة احتفالية على أنه هادي داود (وشعبه) والمحامي عنه، كافل عظمة بيته واستمراريّته وثباته. قال: "أكون له أبًا ويكون لي ابنًا". وتتضمّن هذه الابوّة التأديب والاصلاح وكل عمل التربية: "وإذا أثم أؤدّبه.. ولكني لا أنزع عنه رحمتي" (أو: رضاي) (2 صم 7: 14- 15)
وفي المزمور الثاني الذي يصوّر حفلة تنصيب الملك، نقرأ عبارة التبنّي عينها: "دعوني أعلن قرار الرب. قال لي: أنت ابني، أنا اليوم ولدتك" (آ 7). تبنّيتك، إعتبرتك ابني. أما التأديب فمحفوظ لأعداء الملك: "ترعاهم بصولجان من حديد وكإناء خزّاف تحطّمهم" (آ 9).
هنا نصل إلى هوشع الذي حدّثنا عن حب الله المؤدّب وعن رحمته.
"إذ كان اسرائيل صبيًا أحببته، ومن مصر دعوت ابني" (هو 11: 1). بدأت علاقة الأب بأبنائه منذ الخروج من مصر، وذلك في خطّ خر 4: 22. ولقد قال أشعيا في هذا الصدد كلامًا بلسان الرب: "ربّيت بنين ورفعتهم، لكنّهم تمرّدوا عليّ" (أش 1: 2). كان الملك يسمّى ابن الله، أما هنا فالشعب كله. هذا يعني أن الله هو بالنسبة إليه الأب والمربي. وعلى هذا نقرأ في إر 3: 19 عودة الابن الضال، عودة شعب الله إلى الرب. قال إرميا بلسان الله: "فقلت: كيف أجعلك بين البنين" (أي: امنحك التبني)؟ أو أجعلك في رتبة البنين. يقابل النبي اسرائيل بابنة (لا بإبن) والابنة لا ترث إلاّ في حالات الشواذ. ومع ذلك يجعلها الرب تدعوه: يا أبت، شرط أن لا تميل عنه. ويتابع إرميا (31: 20) متحدّثًا عن افرائيم الذي يمثّل شعب الشمال: "أليس افرائيم ابنًا لي عزيزا، ولدًا يلذّ لي. كل مرّة أتكلّم عنه يجب أيضًا وأيضًا أن أذكر اسمه".
هذا ما قاله هوشع متحدّثًا عن تربية شعب الله في البرية. تحدّث باسم الرب: "أنا الذي علّمت افرائيم أن يمشي، وحملته على ذراعي، ولكنه لم يعرف أني كنت أعتني به. إجتذبتهم بحبال البشر، برباط الحب، وكنت لهم كمن يرفع الرضيع على صدره. كمن يمدّ يديه ويطعمه" (هو 11: 3- 4). هنا تختلط صورة الأب بصورة الأم، ومن يستطيع أن يفصل بين الصورتين حين نتكلّم عن الله. أليس الرجل والمرأة مخلوقين على صورة الله ومثاله؟ ونحن نحتاج إلى الاثنين لنقدّم عن الله صورة متكاملة.
ويتابع هوشع كلامه متحدّثًا عن الرحمة التي تغفر وتجعل الرب يعود إلى شعبه كالأب إلى أبنائه: "كيف أتخلّى عنك، يا افرائيم؟ كيف أعاملك يا اسرائيل (أي مملكة الشمال)؟ هل أعاملك مثل أدمة وأصيّرك كصبوئيم (قلبهما الله كما قلب سدوم وعمورة، تك 19: 25؛ تث 29: 22، ولكن الله انقلب هو، تبدّل قلبه). إنقلب فيّ فؤادي واضطرمت مراحمي" (هو 11: 8). يعود إليهم، وهم بدورهم يعودون إليه: "يسيرون وراء الرب (على خطاه). يزأر كالأسد لينادي أبناءه فيهرعون من البحر" (أي عالم الغرب) (هو 11: 10).
كان الرب قد رفض أن يرحمهم، كان قد رفض أن يسمّيهم شعبه (هو 1: 8- 9). أما الآن فهو يدعوهم "أبناء الله الحي" (هو 2: 1).
يتحدّث أشعيا عن بنين ربّاهم كما يربّي الأب أبناءه، فتجاوزوا أوامره. فما أشقاهم لأنهم ينفّذون مخطّطات ليست مخطّطاتي (أش 30: 1). إنهم شعب متمرّد وأبناء كذبة. إنهم أبناء لا يريدون أن يسمعوا (ويطيعوا) أوامر الرب (أش 30: 9). سيكون العصيان ينبوع شقاء لهم (أش 30: 12- 14). فلو وثقوا بالرب لوجدوا القوّة (أش 30: 15).
هنا نكتشف سفر التثنية الذي يتحدّث عن اختيار الله لشعب أحبَّه (تث 4: 37؛ 7: 8؛ 10: 15). فعلى هذا الشعب أن يبادل الحب بتتميم الوصايا، وحينذاك ينال البركة والسعادة (تث 4: 1؛ 5: 33؛ 6: 1- 3). وإلاّ فالشقاء ينتظره (تث 11: 17).
ويتكلّم سفر التثنية عن هذا الاختيار والعهد بلغة البنوّة. شعب اسرائيل هم "أبناء الله" (تث 14: 1). والله هو الأب الذي "صنعهم وكوّنهم" (تث 32: 6). هو لم ينجبهم كما ينجب الأب (ولادة) ابنه، بل أخذهم من الغربة وتبنّاهم. أحاط بهم، علّمهم، سهر عليهم كما على حدقة عينه. إنه كالنسر الذي يشجّع فراخه. "يرفّ على فراخه، يبسط جناحيه، يأخذها ويحملها عليهما" (تث 32: 10- 11)
فما كانت ردّة الفعل عند الشعب؟ رفض الالهَ واستهان بالخالق (تث 32: 15). نسي الاله الذي كوّنه (تث 32: 18). "رأى الرب هذا فغضب، ورذل بنيه وبناته، وقال: أحجب وجهي عنهم (لا أريد أن أراهم، لا أريدهم أن يحضروا إليّ) وأرى ماذا يصير بهم. إنهم جيل متقلّب وبنون لا أمانة لهم" (تث 32: 9- 10). قال الرب: هم فعلوا وأنا سأفعل... هذا هو تصرّف أب مع أبنائه الذين نسوه. وكم يتمنّى في أعماق قلبه أن يعودوا إليه. وإن عاقبهم فهو سيقول لهم: "كما يؤدّب الانسان ولده قد أدّبك الرب الهك لكي تسير في طرقه وتسلك في مخافته" (تث 8: 2- 3).
فهدف الرب في كل هذا أن يقود الابناء الذين تبنّاهم وحرّرهم بحبّه، إلى الأرض الطيبة والسعيدة (تث 7: 7- 8). الله أب يحب أبناءه. وإذا نسي واجباته هذه، وهل ينسى الله واجباته، ذكّره بها موسى: هل أنا مسؤول عن هذا الشعب؟ هل أنا أنجبته؟ فالأب الذي ولده هو يحمله (عد 11: 11- 15).

4- أشعيا وإرميا
لمّحنا إلى أشعيا وإرميا، وها نحن نعود إلى هذين النبيّين ولاسيّما أشعيا الثاني الذي دوّن ما دوّن خلال المنفى (587- 539) أو بعده، فحدّثنا عن الله الذي هو أب، بل هو أب وأم معًا.
بدأ إرميا فهزئ بالذين يقولون لتمثال الخشب: أنت أبي! ولتمثال الحجر: أنت ولدتني (إر 2: 27). من لا حياة له لا يستطيع أن يعطي الحياة. ومن لا قلب له لا يقدر أن يكون أبًا لأولاده. ويذكر الرب شعبه الذي دعاه "أباه" رغم زناه وخيانته لربه. وسيقول الرب: "أنا أب لاسرائيل (مملكة الشمال)، وافرائيم هو بكر لي" (إر 31: 9). حبّ أبوي وأزلي (إر 31: 3: أحببتك حبًا أبديًا)، سيصبح بوجه الخيانة حنانًا نحو أبنائه وحنينًا إلى الأيام الماضية. "قلت: تدعوني أبي ولا تنفصل عني" (إر 3: 19). "افرائيم إبن عزيز" (إر 31: 20). يتعلّق الرب بشعبه ويتألم هن تصرّفهم. فيحاول أن يسمع صوته: "إرجعوا أيها البنون المتمرّدون فأشفيكم من تمرّدكم". وكم يفرح الأب حين يسمع جوابهم: "ها نحن نأتي إليك لأنك أنت الرب إلهنا" (إر 3: 22).
ولكن هذا لا يمنع شعب اسرائيل من الذهاب إلى المنفى. وهناك سيُسمعه أشعيا الثاني كلامًا عن حنان الله، ويعلن له الفداء الآتي. سيُنشد هذا النبي عظمة الله الخالق وعنايته الحانية على البشر، سينشد اختياره لشعبه وفداءه الذي سيتم قريبًا.
يسمَّى الله في أش 40- 55 الخالق والصانع والمختار والفادي والولي، وكل هذا يدلّ على أبوّة الله. وهذا ما يؤكّده أش 43: 1، 5- 7: "هذا ما قال الرب خالقك (برأ)، يا يعقوب، وجابلك (أو مصوّرك) يا اسرائيل: لا تخف فإني أفتديتك (أو: أنا وليّك أتولّى أمرك)، دعوتك باسمك. أنت لي... سآتي بنسلك من المشرق وأجمعك من المغرب. أقول للشمال: هات. وللجنوب: لا تحتفظ بهم (لا تمنعهم عني). أعد إلي بنيّ من هناك وبناتي من أقاصي الأرض: كل من يحمل اسمي، كل الذين خلقتهم ليعرّفوا بمجدي، كل الذين خلقتهم وجبلتهم وصنعتهم".
وسنسمع نبيًا آخر عاش بعد المنفى. هو ينشد أعمال الله العظيمة في شعبه ويلتمس غفران الله: "أريد أن أذكر (أتذكر، أنشد) نعم الرب، مواعيد الرب، وكل ما عمله لأجلنا... قال الرب: إنهم شعبي حقًا، بنون صادقون... قال النبي: أين غيرتك وجبروتك؟ أما عدت تحسّ وتشعر؟ وقال الشعب: أنت أبونا. ابراهيم لا يعرفنا واسرائيل لا يتعرّف إلينا، أنت يا رب أبونا، أنت فادينا منذ الدهر. هذا هو اسمك" (أش 63: 7- 16)
ويقول النبي أيضًا: "أنت يا رب أبونا. نحن الطين وأنت جابلنا. فنحن كلنا عمل يديك... لا تغضب يا رب، ولا تتذكّر اثمنا، تطلّع فنحن كلنا شعبك" (أش 64: 7- 8)
في هذا الخطّ نقرأ ملاخي. نجح الاشرار فتذمّر الابرار (3: 13، 16)، فذكّرهم الرب بيوم مجيئه. "كتب كتابًا من أجل الذين يخافونه ويتمسّكون باسمه. تذكّرهم الرب وأعلن: سيكونون خاصّة لي (يخصّونني) في يوم أهيّئه وأعمل فيه. أشفق عليهم كما يشفق الانسان على ابنه الذي يخدمه" (آ 16- 17). وكان ملاخي قد قال في معرض حديثه عن الذبائح والزواج: "قال الرب: إني أحببتكم وقال: الابن يكرّم أباه... فإن كنت أنا أبًا فأين كرامتي" (1: 2، 6)؟ وقال ملاخي: "أليس أب واحد لجميعنا؟ أليس إله واحد خلقنا. فلمَ يغدر الواحد بأخيه مدنّسًا عهد آبائنا" (2: 10- 11). هنا نتذكّر كلام العهد الجديد: "لكم معلم واحد وجميعكم أخوة، لكم أب واحد هو الآب السماوي" (مت 23: 8- 9).

5- أبوّة الله عند الحكماء
دور الحكماء في أرض اسرائيل هو دور المربّي والأب. والحكمة حقيقة حياة. يحبل بها الحكيم وينقلها كما في عمليّة ولادة وانجاب. "علم الحكيم ينبوع حياة يجنّبنا أشراك الموت" (أم 13: 14). والحكماء في عملهم "التدريسي" يتابعون العمل الذي بدأه رب العائلة. "من أدّب ابنه ينال سرورًا. ويفتخر به بين الوجهاء" (سي 30: 2). في هذا الاطار، برز دور الله كمربّ. "يا بني، لا ترذل تأديب الرب ولا تسأم توبيخه. فإن الذي يحبه الرب يؤدّبه، ويرتضي به كأب بابنه" (أم 3: 11- 12).
قد يكون تأديب الرب قاسيًا، ولكن لا نيأس. "فالرب هو سيّدنا والهنا وأبونا، وهو الاله أبد الدهور. إن أدّبكم بسبب آثامكم فهو يرحمكم جميعًا ويجمعكم من بين الامم حيث تشتّتتم" (طو 13: 4، 5).
نحن لا نكتفي بقبول التأديب، بل نحن نطلبه في صلاة ملحّة. "أيها الرب الآب، يا سيد حياتي، لا تتركني لميل شفتيّ، ولا تدعني أسقط بهما... أيها الرب الآب، يا إله حياتي، لا تعطني صلف العينين وأبعد عني الشهوة" (سي 23: 1- 5).
وهذه الصلاة لا تكون ممكنة، إلاّ لأن أبوّة الله تتسجّل في إطار أوسع من إطار التأديب. هي تفهم الآخرين وتحرّرهم، وتطلب منا أن نتشبّه بها. "أمل أذنك إلى المسكين وردّ على تحيته بوداعة. أنقذ المظلوم من يد الظالم ولا تتراخ في القضاء. كن أبا لليتامى وبمنزل رجل لأمهم. فتكون كابن العلي الذي يحبّك أكثر من أمّك" (سي 4: 8- 10).
أما قمّة هذا اللاهوت الحكمي فنقرأها في أم 8: "الله خلقني (أنجبني) في أول مشاريعه وقبل أعماله. من الازل أسّست، من البدء، من قبل أن كانت الأرض. وُلدت حين لم تكن الغمار... كنت عند الرب طفلاً ألعب أمامه في كل حين".
هذا النص يدخلنا إلى آخر أسفار الحكمة. فالحكمة تدلّ على عناية الله بشعبه، كما تدلّ على المجازاة التي ينتظرها المؤمنون. فالبار الذي يمتلك الحكمة "يسمّي نفسه ابن الرب" (حك 2: 13). ويهزأ المنافق بهذا البار الذي "يتباهى بأن الله أبوه" (حك 2: 16). يقول الكافرون عن البار: "لننتظر هل أقواله حق، ولنختبر كيف تكون آخرته. إن كان الصديق إبن الله، فهو ينصره وينقذه من أيدي مقاوميه" (حك 2: 17- 18). ولكنهم أخطأوا. سيخزون في يوم من الأيام ويتساءلون: "كيف عُدَّ بين أبناء الله؟ كيف يقاسم القديسين مصيرهم" (حك 5: 5)؟
إن عناية الله بشعبه هي عناية الله بأبنائه: "أنجحت مساعيهم بإرشاد نبيّ قدّيس، فساروا في بريّة لا ساكن فيها... وفي عطشهم دعوك فأعطيتهم ماء من صخرة الصّوان" (حك 11: 1- 4). وإن عاقبهم، فعقابه هو عقاب أب يؤدِّب أبناءه: "جرّبتهم كأب انذارًا لهم" (حك 11: 10).
فوراء هذا الحب الذي يحتفظ به الرب لأبنائه، يختبئ حبّ أوسع. هو حبّ يتوجّه إلى البشر جميعًا (حك 1: 6؛ 11: 24). فعناية الله الابدية لا تعني بني اسرائيل وحدهم، بل كل انسان من الناس. فالملاّح يسلّم حياته إلى خشب سريع العطب بنته يد صانع حكيم، "ولكن عنايتك أيها الآب هي التي تديره، لأنك أنت الذي فتحت في البحر طريقًا وفي الأمواج مسلكًا أمينًا" (حك 7: 35).
وهكذا تمتدّ أبوّة الله الحكيمة على الكون كلّه. ولكننا ننتظر تجلّيها في يسوع المسيح الذي هو "قوّة الله وحكمة الله" (كور 1: 34). وسيعرف هذه الحكمة أبناؤها معرفة تامّة كما يقول لو 7: 35.

خاتمة
إن صورة الله الآب حاضرة في قلب كل ظاهرة دينية، وهي تتجاوب ولاشكّ مع حاجة عميقة في الانسان. وهذا ما تشهد له شهادة مميَّزة ديانةُ اسرائيل. فمنذ ابراهيم الذي تخلّى عن الحماية الابويّة التي تؤمنها الآلهة القمرية ليخضع لأمر إله أبيه، إلى موسى الذي كشف لشعبه أن هذا الاله هو الحي والقدير الذي تبنّى شعبه وحارب عنه كالأب ليحرّره، إلى الأنبياء والحكماء الذين شدّدوا على حنان الله الآب وعنايته بأولاده، فيربيهم ويؤدّبهم.
هذا الاله اختار شعبه، وتبنّاه بحبّ خاص من قبله، وأراد له السعادة. تلك كانت التمتمات الأولى للوحي الذي سنصل إلى ملئه في يسوع المسيح، الذي فيه سيتعرّف كل انسان على صورة أب يسلم حياته من أجل حياة البشر. أجل، من رأى يسوع رأى الآب. وسننتظر تجسّد الابن لنكتشف صورة الآب في أبهى جمالها.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM