الفصل السادس عشر: مكانة الله في الحكمة التقليديّة

الفصل السادس عشر
مكانة الله في الحكمة التقليديّة

تحدّث العلماء مرارًا عن الحكمة البيبليّة وقابلوها مع معرفة الوحي. وهكذا كانت مقابلة بين الحكماء والأنبياء، وعلى مستوى الكتب، بين أدب العهد وأدب الحكمة. وحين درسوا تك 3 الذي ألّفه الحكماء، حدّدوا الخطّ الفاصل: منعُ الله للانسان، خدعة المحتال، موضوع الاختيار: موت أو حياة، المعرفة التي ترمز إليها شجرة معرفة الخير والشرّ. كل هذا يقودنا إلى أن نرى هنا مواجهة بين حكمتين: حكمة تنبع من الوحي، خاضعة لله، كفوءة لأن تمنح معرفة الخير والشرّ. وحكمة ترتبط بالانسان، وتبحث عن استقلاليّة تستطيع أن تعطي ذات المعرفة. وأقنع المخادع الزوجَ البشري أن ليس في هذه المعرفة خطر الموت. الانساويّة والوحي يستطيعان أن يعطيا المعرفة.
لن نتوقّف عند هاتين المعرفتين، بل نتوقّف بشكل خاص عند مكانة الله في بناء تعليم حكميّ. ويتوزّع كلامنا على أربع محطات: ذكر الله، مجموعات الامثال القديمة، الكتيّب الأول في سفر الامثال، ابن سيراخ. ونترك إلى فصل لاحق كلامنا عن الله في سفر أيوب.

1- الاشارة إلى اسم الله
إذا أردنا أن نكتشف اسم الله، نقوم بعمليّة "إحصائيّة". فهذا الاسم يرد في المجموعة السليمانيّة الثانية (أم 25- 29)، أقلّ ممّا يرد في مجموعة سليمان الأولى (أم 10: 1- 22: 16). ويندر وجوده في مجموعة الحكماء الأولى (22: 17- 24: 22) والثانية (24: 23- 34). كما يندر وجوده في الأمثال الآتية من خارج اسرائيل. وإذا عدنا إلى أم 1- 9، نجد أن اسم الله لا يحتلّ المكانة التي له في مجموعة سليمان الأولى. وهكذا يكون المقام الأول لله في سفر الامثال، في قلب هذا السفر الذي يربط ما اكتشفه من حكمة بشخص الله. فأعلن منذ البداية: "لا يسمح الرب بأن يجوع البارّ" أو: "لا يقاوم رغبة الصديقين، وأما هوى الأشرار فيصدّه" (10: 3). وفي 11: 1: "ميزان الغشّ يمقته الربّ، المعيار السليم ينال رضاه".
ويُذكر اسم الله مرارًا في سفر أيوب: إنه موضوع الحديث، موضوع الهجوم من قبل أيوب. والدفاع من قبل أصدقاء أيّوب. هو يسمّى يهوه في الخبر الشعبي والظهور الأخير. ويُسمّى إيل، إلواه، إلوهيم، شداي، إيل شداي في القسم الشعريّ. وفي سفر الجامعة، يرد اسم الله 30 مرّة مع أل التعريف (هـ. ا ل و هـ ي م) أو بدونه (ا ل و هـ ي م). أما اسم يهوه فلا يرد أبدًا.
وإذا أخذنا بالتقابل بين كيريوس ويهوه (= الرب) وتيوس والوهيم (= الله) نجد 205 مرات في ابن سيراخ يُذكر فيها اسم يهوه و34 مرّة يُذكر فيها اسم الله. وإذا عدنا إلى النص العبري (يشكّل ثلثَيْ الكتاب اليوناني)، يقابل يهوه كيريوس عشرين مرّة، وتيوس (أو: الله) مرتين. ونزيد أن هناك صفحات لا يرد فيها اسم الله أبدًا. سي 8، 12، 13، 20، 22، 29. وفي ف 14، 19، 37 لا يرد سوى مرّة واحدة. وهو لا يرد في أم 4؛ 6: 20- 27؛ 13؛ 26؛ 27.

2- مجموعات الامثال القديمة
بعد هذا "التعداد" نتساءل: ما هو الموقف الذي اتّخذه الحكماء تجاه واقع قدرة الله؟ هذا الواقع هو جزء من إرث حضاريّ تعلّقوا به، ولكنهم اختلفوا عن علماء الشريعة والأنبياء، فظنّوا أن لا تأثير له في بناء عالم انسانيّ يشيّد نفسه بنفسه على ضوء خبرات "متحرّرة".
الحكيم هو الذي يلاحظ، يراقب. ثم يقدّم تعبيرًا ينقله إلى الأجيال الآتية. إذا كان العالم والخليقة هما الموضوع المباشر لعلمه الذي هو ثمرة الاختبار الذي تنامى بما رفدته الأجيال السابقة، وإذا كان هذا جوهر المعرفة التي ينقلها، فالخالق الذي ندركه في عمله هو أيضًا جزء هام في هذا التقليد.
أي خبرة عن الله تفترض الحكمة القديمة؟ رأس الحكمة مخافة الله. ومخافة الله هي الديانة التي بها نرتبط بالله، ندين له ونطيعه. وهي أيضًا الاكرام العميق الذي ترافقه عاطفة المحبّة. والرأس هو المبدأ، وهو قمّة الحكمة والمعرفة. في هذا السياق، نقرأ في 1: 7: "بدء الحكمة أن تخاف الرب، وتبيّن معرفة القدوس". وفي 15: 33: "مخافة الرب دليل حكمة، وقبل الكرامة التواضع". نحن هنا أمام برنامج عمل يبدأ منذ مطلع سفر الأمثال. وإن كان هناك من مبدأ ننطلق منه، فالله يشكّل حدودًا للحكمة لا تستطيع أن تتجاوزها. "فلا حكمة، ولا فطنة، ولا مشورة تقف أمام الربّ" (21: 3)، أمام سرّه، أمام مشيئته.
فالوجود البشري للانسان (حياته) يشكّل بوجه إجمالّي موضوع اهتمامات المعلّمين. بل سيكون موضوع قلق بالنسبة إلى صاحب سفر الجامعة. ولكننا لم نصل بعد إلى هذا المستوى في مجموعات الامثال القديمة. نقرأ مرارًا: يرتبط "طول الأيام" بحياة من الحكمة، كما يرتبط "بمخافة الرب". "من يخاف الرب فأيّامه تطول، أما سنوّ الأشرار فتقصَّر" (10: 27). "مخافة الربّ تؤدّي إلى الحياة، وصاحبها يشبع ولا يحلّ به سوء" (19: 23). ومخافة الرب تكفل النجاح، وتؤمّن ملجأ في يوم الشرّ، وتمنح السعادة. قال المعلّم: "في مخافة الرب طمأنينة وعزّة، والرب حمى لأبنائه. مخافة الرب ينبوع حياة، وبها تبتعد عن أشراك الموت" (14: 26- 27). وقال أيضًا: "القليل مع مخافة الربّ ولا كنز عظيم مع الهمّ" (15: 16).
لم تهتمّ حكمة أم كثيرًا بعمل الخلق، ولكنها توقّفت بشكل خاص عند واقع سلطان الله السامي على حياة الأفراد. فالله يراهم، يوجّه خطاهم، ينجح مشاريعهم. "في قلب الانسان مشاريع كثيرة، وقصد الرب هو الذي يثبت" (19: 21). "خطوات الانسان يبرّرها الرب، وإلاّ فكيف يتبيّن طريقه" (20: 24). الله يقرّر كل شيء حين تُلقى القرعة (16: 33: من الرب جميع أحكامها). يطرح الانسان المشاريع والربّ هو الذي يرتّبها. هنا نقرأ مقطعًا طويلاً يدلّ على عمل الله في حياة الانسان. "للانسان المشاريع ومن الربّ الجواب. سلوك الانسان مبرّر في عينيه والرب يزن ما في النفوس. فوَّض إلى الربّ أعمالك فتتمّ جميع مشاريعك... يرضى الربّ عن سلوك الانسان، فيجعل حتى أعداءه يسالمونه" (16: 1- 7). الله هو الذي صنع العين والاذن لكي تراقب وتختبر (20: 12). وخلق الفقير كما خلق الغنيّ (22: 2).
واهتم الحكماء في الكتيّب الثاني (المجموعة السليمانيّة الأولى) والخامس (الثانية) من أم بنجاح الانسان، وبالتالي بسعادته، فعرفوا أن الله يهتمّ بسلوك الانسان ويدعوه إلى مسلك أخلاقيّ. فقد راقبوا وقيّموا طرق العدالة، ونظام كون يتطلّب النجاح إذا راعيناه، والفشل إذا تجاوزناه، ومسألة الثواب والعقاب. كل هذا يتمّ في إطار سببيّة تفرض نفسها. "الشرّير يكسب أجرًا زائفًا، ولزارع العدل ثواب أكيد" (11: 18). "بيت الصدّيق حصن عظيم، وفي منزل الشرّير كدر" (15: 6).
ويرى الشرّاح في هذا الكلام مجازاة حقيقيّة، أي مدخلاً خارجيًا يصيب صاحب العمل. ولكن لا ننسى أننا لسنا أمام تدخّل على مستوى الشريعة. بل أمام دينونة من قبل الرب الخالق وكافل النظام في الكون. هذا مع العلم أنه قد يكون هناك عقاب يرتبط بتجاوز الوصيّة، أو ثواب يتبع المحافظة على نظام الكون أو مراعاة الانسان. هم مؤمنون، وبالتالي يؤكّدون حضور الله في حياة الإنسان فيسبرها، يراقبها، يتفحّصها. هو الذي يزن ما في النفوس (16: 2). "وكما تمتحن البوتقةُ الفضّة والذهب، فهو يمتحن جميع القلوب" (17: 3). الرب هو من يرى الانسان ويجازيه بحسب عمله (24: 12).
هناك تصرّفات بشريّة تشكّل للرب رجسًا: القلب المعوج، الذي يجعل الشرير بارًا، الشفاه الكاذبة، المقاييس والموازين والمكاييل الغاشّة. ولكن حيث يكون حاضرًا همّ العدالة والاستقامة واحترام حقّ المساكين، تكون البركة وطول الأيام وحماية الله.
والله في سفر الامثال هو الذي ينتظر مواقف داخليّة: المخافة، الحبّ والامانة، الثقة والاتكال. كل هذا مطلوب منّا لكي تكون أعمالنا العباديّة صادقة. عند ذاك يُعتبر الرب هدفًا. ونحن نقترب منه بعواطف تدرّبها الحكمة. والرب يلعب دورًا تربويًا في الحياة: "الذين يطلبون الربّ يفهمون كل شيء" (28: 5). ونقرأ في 28: 9: "من يصرف أذنه عن سماع الشريعة، فصلاته نفسها يمقتها الربّ".
مثل هذه الخبرة الدينيّة التي رسمنا عنها صورة سريعة، ترتبط بالحكمة كواقع معاش. ومعطيات الوحي هذه لا تبرز بقوّة تجاه خبرة الواقع البشري اليوميّ. ولكن لها مكانتها الاساسيّة في التعليم الحكميّ القديم.

3- الكتيّب الأول في سفر الامثال (1- 9)
لا يرد في هذا الكتيّب الاسم الالهي (يهوه، وأقلّ منه الوهيم) أكثر ممّا يرد في الكتيّب السليماني، غير أن الرب يعطى دورًا آخر. فالله (أو "مخافة الله") هو موضوع بحث وطلب من قبل الحكمة. "تدعونني فلا أجيب، تبكّرون إليّ فلا تجدونني. ولأنكم أبغضتكم كل معرفة وما اخترتم مخافة الربّ..." (1: 28- 29). وفي 2: 5 نقرأ: "تبيَّنت مخافة الرب، ووجدت معرفة الله".
أما الوسيلة التي بها نلتقي الربّ، فهي الدخول في خطّ الحكمة. فهي تدعونا. "الحكمة تصيح في الشوارع، وفي الساحات ترسل صوتها. وفي رؤوس الأسواق تنادي، وعند مداخل المدينة تقول:.... دعوتكم فرفضتم دعوتي، ومددتُ يدي فلم يلتفت أحد" (1: 20- 24). ونجد في ف 9 دعوة من الحكمة للمشاركة في مائدتها، في طعامها وشرابها. "الحكمة بنت بيتها ونحتت أعمدتها السبعة. ذبحت ذبائحها ومزجت خمرها، وهيّأت مائدة طعامها. أرسلت جواريها تنادي من فوق أعالي المدينة" (آ 1- 3).
في الحكمة يعرف التلميذ ما تعني العدالة والاستقامة والصدق. تحميه فيعرف أنه يجد فيها طريق السعادة. "هو الرب يهب الحكمة ومن فمه المعرفة والفهم. يوفّر للمستقيمين عونًا وحماية للسالكين في الكمال. يرعى مسالك المنصفين، ويحرس طريق أتقيائه. هكذا تفهم العدل والانصاف وكلّ سبيل صالح قويم. إذا دخلت الحكمة قلبك، وتنعمّت بالمعرفة نفسك، يحرسك حسن التدبير، ويكون الفهم نصيرك" (2: 6- 11). لا شكّ أننا نجد في نصائح موزّعة في 3: 1- 12، في حكمة دينيّة عميقة، الربَّ الذي يجازي، ويطالب بحكمة أخلاقيّة. وهكذا نُدعى إلى حكمة تقود إلى الله.
"لا تنسَ نصيحتي يا ابني، واحفظ وصاياي في قلبك، لأنها تزيد أيامك أيامًا، سنيّ حياتك سلامًا. لا تترك الرحمة والحق، بل أعقدهما قلادة في عنقك واكتبهما على لوح قلبك. فتنال كل حظوة وإكرام في أعين الله والناس. بكل قلبك اطمئن إلى الربّ ولا تعتمد على فطنتك. أينما سرت تعرّف إليه، فييسِّر لك طريقك" (3: 1- 5).
ولكن التحريضات الأبويّة الطويلة لا تعود إلاّ نادرًا (5: 21: طرق الانسان يراها الربّ، وهو يمهّد جميع مسالكه) إلى مجازاة الله، وإن عادت بشكل تضمين. فإن جاء تعداد في "ستة يبغضها الرب، بل سبعة تمقتها نفسه" (6: 16) وأقحم في توصيات خلقيّة، لا يعود الكاتب إلى المجازاة في التحذير من الزنى. بل يكتفي بالاشارة إلى الخطر. لا يعود "الحكيم" إلى فرائض التوراة (تث 22: 22) ولا إلى تحذيرات الانبياء.
في 1: 20- 33. كانت أولى خطب الحكمة التي نستعيدها في 22:8- 31. لم يعد يهوه عنصرًا من عناصر النظام الادبيّ. إنه خالق الحكمة، وينظر إليها بسرور كإبنة له، فيشركها في نشاطه، ويلعب على أرضها الطيّبة، ويجد هناك لذّته كل يوم. ولكن حين ينتهي هذا التأمّل يعود الحكيم إلى الأخلاقيات. "إسمعوا لي أيها الأبناء، فهنيئًا لمن يتبع طرقي. هنيئًا لمن يستمع إليّ ساهرًا عند بابي كل يوم، بجانب مدخل داري. من وجدني وجد الحياة ونال رضى من الرب. ومن خطأني أضرّ نفسه، ومن أبغضني أحبّ الموت" (8: 32- 36).
خرجت الحكمة من الله، وهي التي تقود إليه، وتدعونا إلى أن نحدّد موقفنا معه في علاقة صداقة. لم تكن الدعوة واضحة كما في ف 9، ولكنها تقف بلا شكّ في الخطّ عينه.
قدّمت لنا هذه المقاطع من سفر الامثال أوضاعًا وجوديّة هي موضوع خبر خاصّة اتخذت بعدًا عامًا. وهي بشكل غير مباشر نداء إلى سلوك أخلاقيّ لا عيب فيه، إلى مسيرة نحو النجاح، وإن لم يكن الله حاضرًا هنا في النهاية. ولكن الله هو هنا في مكانته الاساسيّة. تُعلَن مخافته كمبدأ أساسيّ للمعرفة، لحكمة صارت شخصًا حيًا، فدلّت على الله، وسهّلت الاقتراب منه وأمّنت اللقاء به. وهكذا نكتشف وجهين لله في أم: هو سيّد السلوك الاخلاقي الذي يجازي. هو المطلق الذي نذهب إليه بمعونة الحكمة.

4- ابن سيراخ ومكانة الربّ
هل كان ابن سيراخ قراءة جديدة لسفر الامثال؟ هذا ما قاله بعض الشرّاح. فهناك مواضيع مشتركة وألفاظ بين هذين السفرين. هل اقتدى ابن سيراخ بالامثال؟ الجواب هو كلاّ. ومع ذلك فالتقاربات عديدة بين الاثنين. فالقسم الأول من أم يتميّز بتوسّعات لاهوتيّة: تشديد على مخافة الرب كأساس للحكمة. هذا ما نجده بقوّة عند ابن سيراخ. في الكتيّب الأول (ف 1- 9) من أم التلاميذ هم "ابني"، "بني". وهذا ما نجده على مدّ ابن سيراخ. تحدّث أم 8 عن الأصل الالهي للحكمة. وسيفعل سي 24 الشيء نفسه فيربط الحكمة بالشريعة.
تلك ملاحظة أولى. وهناك ملاحظة ثانية. بدا سي كتابَ ورع أكثر ما كان أم. هذا ما فهمه العالم اليهودي الذي لم يجعله بين الأسفار القانونيّة، والكنيسة المسيحيّة التي جعلته لتعليم الموعوظين. نجد في ابن سيراخ عددًا من الصلوات. نقرأ في 23: 1- 6: "أيها الرب الآب، يا سيّد حياتي، لا تتركني لنزواتي، ولا تَدعْني أسقط فيها... أيها الآب إله حياتي لا تمنحني النظرة الشرهة، وعنّي أبعد الرغبة السيّئة...". وفي 36: 1- 17: "إرحمنا يا رب، إله الجميع، واجعل جميع الأمم يخافونك...". وفي 50: 23- 24؛ 51: 1- 12.
ويكرّس ابن سيراخ فصلين لينشد مجد الله (42: 16- 43: 33): "الشمس المنيرة تبصر كل أعماله، وكل أعماله مملوءة من مجده...". واستعاد ابن سيراخ تاريخ اسرائيل على ما فعل سفر الحكمة، فأنشد عمل الله العظيم عبر عمل الآباء، وماهى بين عطيّة الحكمة وعطيّة التوراة.
هناك من أراد أن يربط ابن سيراخ بعالم الفلسفة اليونانيّة ولاسيّما الرواقية منها التي تشدّد على أهميّة الارادة في الحياة الاخلاقيّة. ثم هناك فرق بين أم وسي. نرى في سفر الامثال بعض اللامبالاة، وكأنه يصوّر ما يصوّر دون أن يتّخذ موقفًا. هذا أقلّه في الظاهر. أما في ابن سيراخ، فترد أفعال الأمر والنهي: أكرم أباك... لا تفعل. والعودة إلى الرب الاله تبدو في سي جزءًا من القول الذي يقدَّم كقاعدة حياة. وهكذا نجد تبريرًا لحياة أخلاقيّة: "دافع عن الحقّ حتى الموت والرب الاله يقاتل معك" (4: 28). "لا تخف من الموت وتذكّر أن الأواخر يموتون كما مات الاوائل. هكذا الربّ قضى على كل حيّ، فكيف تقاوم ما ارتضاه الرب" (41: 3- 4)؟
ونقرأ في 15: 11- 20 مقطعًا عن حرية الانسان: "لا تقل من الرب خطيئتي. فالرب لا يعمل ما يبغضه. ولا تقل هو الذي أضلّني، لأن الرب لا يعوزه الخاطئ. الرب يبغض كل رذيلة، والذين يخافونه لا يحبّونها. الرب خلق الانسان في البدء وتركه حرًا في اختياره. إن شئت حفظت وصاياه واخترت العمل بها في أمانة. وضعَ النارَ والماء أمامك، فإلى ما تختار تمدّ يدك. أمام الانسان الحياة والموت وأيهما يختار يُعطى له. فحكمة الرب عظيمة، وهو قدير ويرى كل شيء. عيناه تراقبان الذين يخافونه ويعلم كل أعمال الانسان. لم يأمر أحدًا بفعل الشرّ ولا أذن لأحد أن يخطأ".
لا يظهر الله بوضوح في ابن سيراخ، وذلك رغم مطلع الكتاب (1: 1- 20: كل حكمة هي من الرب وتبقى معه إلى الأبد)، كمبدأ حكمة أساسيّة، بل ككافل سلوك أخلاقيّ. يقدّم البرهان "العقلي"، ويعاقب ساعة يستحقّ الأنسان العقاب. وهكذا يدلّ الكاتب على ورعه ولا سيّما حين يقرأ التاريخ المقدس لشعبه.
ويرى الحكيم أيضًا أن الله وإن كفل التصرّف الصالح لدى الاسرائيليّ وبرّره، فهو يستحقّ أن نترك "التجارة" معه (ننتظر حسن المجازاة، نتحاشى العقوبة)، ونتعامل معه هو في ذاته. هذا ما فعله سي 42: 15- 43: 33 حين أعلن أعماله الربّ انطلاقًا من المعجزات التي شاهدها في الطبيعة. "يفحص البحر وأعماق القلب ويحيط بكل أسرارهما... ما أروع السماء وما أصفاها وما أعظم مرآها! الشمس عند طلوعها تعلن أنها شيء عجيب صنعه العليّ... وصنع القمر أيضًا ليكون علامة دائمة للفصول والاعياد... أنظر إلى قوس القزح وبارك الذي صنعها. فهي بالغة الروعة. في السماء تظهر نصف دائرة محنيّة بيد العلي...".
في سفر أيوب، دعا الله أيوب المشتكي إلى رحلة برفقته في هذا الكون الفسيح. وفي ابن سيراخ، يتوجّه الحكيم بشكل غير مباشر إلى القارئ، فيدعوه إلى التأمّل في صلاح الخليقة التي تعلن بترتيبها علمَ العليّ وقدرتَه ومجده: الشمس، القمر، الكواكب، العاملون في الجوّ... كل هذا يشهد لعظمة الله (14: 15- 23). وفي 42: 3- 4 يتحدّث سي عن الذي هو كل شيء. ومع ذلك فلا حلوليّة، لأن الكاتب في موضوع آخر يميّز تمييزًا واضحًا بين الخالق وخليقته. "فما أعظم الرب الذي صنعها والذي بأمره تسرع في سيرها" (آ 5).
ومديح الرجال العظام في اسرائيل هو بطريقته مديح لمجد الله. والتحريض والصلاة اللذان نجدهما في نهايته (50: 22- 24) يدلاّن على التوجيه الذي يتّخذه: "باركوا إله الكون الذي يصنع العظائم في كل مكان". في الكون كله. في الأرض المقدسة.
وجُعل ف 24 في قلب الكتاب فلفت انتباه القارئ إلى معجزة الله العظيمة، وهي عطيّة التوراة في اسرائيل. زرعها في أورشليم، لأن أي موضع آخر لا يستحقّ أن يظلّلها. هذا ما تقوله آ 23: "الحكمة كلها في كتاب العهد الذي قطعه الله العليّ معنا. وفيه شريعة موسى وميراث بني يعقوب". أجل الحكمة، التي هي شريعة، هي عطيّة خاصّة بالعليّ لشعبه في صهيون، وقد غرسها وسط شعب مجيد (رج تث 4: 6- 8).
هنا نقرأ سي 24: 8- 12: "أمرني خالق الجميع، خالقي، وعيّن لي مسكنًا فقال: أسكني في بني يعقوب واجعلي من بني اسرائيل شعبك. من البدء خلقني ومن الأزل، وأنا إلى الأبد أبقى. من المسكن المقدّس خَدَمتُه، فثبَّت في صهيون إقامتي. في أورشليم، في المدينة المحبوبة، منحني راحتي، وفيها أقام لي سلطتي، فتجذّرتُ في شعب عزيز اختاره الله ليكون خاصته".
وما يدلّ أيضًا على تقوى يتحلّى بها إبن سيراخ هو إدخال الصلوات في عمل الحكمة، وهذا ما يدلّ على أن حياته موحّدة، لا تشتّت فيها ولا تبعثر: حياة المؤمن، حياة المفكّر، حياة المعلّم في الاخلاق. صلّى الكاتب من أجل شعبه في 36: 1- 7 (إرحمنا يا رب، يا إله الجميع)، وصلّى من أجل الأمم الغريبة التي ضايقت شعب الله: إرفع يدك عليهم ليعرفوا جبروتك. نحن هنا على مستوى صلاة منغلقة ظهرت أول ما ظهرت في بعض المزامير.
في 51: 1- 12 نتلو صلاة شكر تمتزج مع التوسّل، من أجل معونة حملها الربّ إلى تقيّه وسط المحنة. جاءت في صور مصطلحة، وفي خطّ النصّ الذي سبقها. "أحمدك أيها الرب الملك وأسبّحك يا الله مخلّصي. أرفع لاسمك الحمد لأنك أعنتني ونصرتني وحفظتني من الموت ومن شرك النميمة والافتراء، وكنت لي عونًا على خصومي...". والصلاة في 23: 1- 6 جاءت بعد تساؤل طرحه المؤمن في 22: 27: "ليت لي حارسًا على فمي، وخاتم حكمة على شفتيّ. ليجنّباني الوقوع في الخطأ، ويمنعا لساني عن إهلاكي". قال: "أيها الرب الآب، يا سيّد حياتي، لا تتركني لنزواتي...". من يعطيني أن لا ألقي الكلام جزافًا؟ في الواقع، هذه الصلاة هي طلب للحكمة التي تحفظ الانسان من الخطأ الذي يقود إلى الهلاك.
وهكذا نرى في ابن سيراخ يهوديًا حكيمًا، منفتحًا على تيّارات فكريّة عديدة. وديانة الآباء في نظره هي جزء من حياته، من عالمه الفكري، من اهتمامه بتربية تلاميذ يحفظهم في التقاليد الصالحة ويوجّههم في تصرّفاتهم. هو يذكر اسم الله مرارًا. وهذا الاله ليس فقط موضوع خبرة بين مواضيع عديدة. هو يعطي الحياة، ويرافق المؤمن الذي يطلب الانفتاح على الكون وما فيه من جديد. رأى في الله ذلك المشترع، ذلك الذي يرتّب الكون في عمل متسام. بدت نظرته ملتبسة بعد أن عادت إلى فكر سفر الامثال. وحين يأتي سفر أيوب، سيظهر فكر الحكيم في خط دراماتيكي يجد بعض الحلّ له في الأزمة المكابيّة التي جعلت الانسان أبعد من حياته على الأرض، وفتحت الزمن على الابدية.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM