الفصل الخامس عشر: أنا الله وليس آخر كما في أشعيا الثاني

الفصل الخامس عشر
أنا الله وليس آخر
كما في أشعيا الثاني

إذا كان أشعيا الأول (ف 1- 39) قد شدّد بشكل خاص على قداسة الله، فإن أشعيا الثاني يعطينا وجهات عديدة عن وجه هذا الاله الذي نحاول أن نكتشفه في الكتاب المقدس. فقد هجمت آلهة كنعان، ولكنها صارت الآن ضعيفة. أما الآن، فمردوك إله البابليّين هو الذي "يهدّد" الله في عقر داره. أترى الاله الذي انتصر على أورشليم وشعبها أقوى من يهوه؟ هذا ما لا يقبل به أشعيا الثاني، فيميّز وجه إلهه عن سائر الوجوه، ويبرز في تعليمه عن إلهه سمات خاصّة بهذا الذي فهمه الشعب خلال المنفى وبعد المنفى إلهًا على الكون كله.

1- الاله الذي لا مثيل له
الرب الاله هو ذاك الذي لا يساويه "إله من الآلهة" مهما عظم شأنهم وكبر. ويؤكّد العهد القديم على طابع يهوه الذي لا مثيل له في ثلاثة أشكال: عن طريق النفي: لا أحد مثله. عن طريق سؤال يتحدّى فيه السامعين: من هو مثله؟ عن طريق عبارات تستعمل أفعالاً مثل: ماثل، قابل، قارب.
هذه الطرق الثلاث نجدها عند أشعيا الثاني. استعمل النفي فقال: "أنا الله وليس آخر، أنا الله ولا إله مثلي" (46: 9). أي كل ما عداني هو عدم. هنا نتذكّر كلام بولس الرسول في الرسالة الأولى إلى أهل كورنتوس حين يتكلّم عن الذبائح المقدّمة للأصنام: "نحن نعرف أن الوثن لا كيان له، وأن لا إله إلاّ الله الأحد" (8: 4). وكنا قد قرأنا في أش 45: 5- 6: "أنا الرب ولا آخر، وسواي ليس من إله. ألبستك وشاح الملك وأنت لا تعرفني ليعلم البشر من مشرق الشمس إلى مغربها أن لا إله غيري. أنا الرب ولا آخر. أنا مبدع النور وخالق الظلمة. صانع الهناء وخالق الشقاء. أنا الرب صانع هذا كله".
لا تستطيع الآلهة الكاذبة أن تعطي الشقاء ولا الهناء. فهي لا شيء. هي لا موجودة. ويهوه وحده هو الاله الحقيقيّ. هنا نتذكّر كلام موسى لفرعون: "قلت لتعرف أن الرب إلهنا لا نظير له" (خر 8: 6؛ رج 9: 14). وفي تث 33: 26: "لا إله كإلهكم يا بني اسرائيل، يأتي على مركبة السماء".
ويستعمل أشعيا الثاني الاستفهامات البلاغيّة، ويجعل بعضها على شفتي الربّ. "من مثلي؟ فليعلن هذا، وليتقدّم ويعرضه لي" (44: 7؛ رج إر 49: 19). ونقرأ في 43: 13: "منذ الآن أنا هو. لا منقذ من يدي، ولا مردّ لما أفعل". لاشكّ في أن يهوه هو الله من البدء، ولكنه يريد الآن أن يعرف الناسُ جميعًا أنه وحده الله. في هذا الخطّ نقرأ تث 3: 24: "لا إله في السماء والأرض يصنع مثل أعمالك وجبروتك". انطلاقًا من هذه العبارة تكوّنت أسماء علم مثل: ميخائيل أي من مثلك؟
ويكثر النبيّ من الأفعال التي تدلّ على أن الرب لا يقابَل إطلاقًا. هناك فعل "ساوى" الخاص بأشعيا: "بمن تشبّهونني؟ وبم تساوونني" (40: 25)؟ ونقرأ في 46: 5: "بمن تشبّهوني. تساووني؟ بمن تمثِّلوني فنتشابه". هنا ورد فعل "ماثل" (أو: مثّل). وفي 40: 18 نقرأ فعلاً يعني: تضعون بجانبي، تجعلوني في صف من الصفوف. "فبمن تشبّهون الله، وأي شبه تضعون لي"؟ (في أي صفّ تجعلوني). وأخيرًا هناك فعل شابه (د م ه في العبرية، رج الدمية في العربيّة) وقد قرأناه في 40: 18- 25؛ 46: 5.
هذه التأكيدات المتكرّرة تبدو بارزة بشكل سافر لاسيّما وأن الديانات الأخرى تحاول أن تقول شيئًا من هذا عن آلهتها. في مصر، الاله شمش (أي الشمس) لا يقابَل، ولكنه ليس وحده. وفي بلاد الرافدين، هناك سبعة آلهة لا تعادل. أما نصوص أوغاريت فلا تشير إلى هذه الصفة. نحن هنا أمام يقين في أرض اسرائيل: يهوه إله لا مثيل له. هو الفادي الذي يفعل. هو البار والمخلّص. هو الامين للعهد، والخالق القدير، والحكمة السامية، والذي وحده يضح يده على المستقبل. وهكذا لم يعد هذا الاله من لا مثيل له وحسب، بل صار الفريد أيضًا. فكيف نقابل الأرض بالسماء. فالرب هو المتسامي جدًا، وهو القدوس ويطلب القداسة من شعبه. فماذا تستطيع أن تقدّم الآلهة، هذا إذا وُجدت، مثل هذا؟

2- الاله الأزليّ والخالق
وهناك نقطة يبرز فيها هذا التسامي في البقاء والدوام. فإذا أراد الكاتب أن يقول إن الرب يتجاوز الزمن البشريّ، لا يستعمل عبارات مجرّدة، بل يصوغ تعابير ملموسة تُوحي إلينا بالكثير: "إله الأبد" (40: 28). ونقرأ في 43: 10: "ما كان من قبلي إله ولن يكون من بعدي". وفي 44: 6: "أنا الأول وأنا الآخر". ويكرّر هذه العبارة في 48: 12 ويزيد: "يدي أسّست الأرض، يميني قاست السماوات" (آ 13). هذا يعني أن الرب هو قبل الأرض والسماء. وفي 41: 4 يقول الرب: "من عمل هذه الأعمال وخاطب الاجيال من البدء: أنا الذي هو الأول (الرأس) وأنا هو لدى الآخرين".
بما أن الله سابق لكل شيء، فهو أصل كل شيء. "أنا الرب صنعت كل شيء. نشرت السماء وحدي وبسطت الأرض. فمن كان معي" (44: 24)؟ هو الذي خلق الكون وأسّسه وكوّنه وصنعه وثبّته. سيكون أشعيا الثاني أكثر قوّة من تك 1: 1- 2: 4، فيبيّن أن الخليقة كلها هي عمل الله وعمله وحده. ما استشار أحدًا، وما أحسّ بالحاجة إلى أن يرتاح حين فجّر الوجود ونظّم الظلمات الأولى والنور (45: 7)، السماوات والأرض وغمار البحار، البشر في جميع البلدان والنبات والحيوان.
"أما عرفت؟ أما سمعت أن الربّ إله سرمديّ خلق الأرضَ بكاملها، لا يتعب ولا يكلّ أبدًا. وفهمه يعصى على الادراك" (40: 28)؟ الله هو الخالق، إذن هو فريد. "لذلك يقول القدوس: بمن تشبّهوني وتعادلوني؟ إرفعوا عيونكم وانظروا. من خلق السماوات هذه؟ من يعدّ نجومها واحدة واحدة ويدعوها جميعًا بأسماء؟ ولفائق قدرته وجبروته لا يُفقد منها أحد" (آ 25- 26). ونقرأ في 45: 18: "وهذا ما قال الرب، وهو الله خالق السماوات وجابل الأرض وصانعها الذي ثبّتها وأوجدها لا للفراغ، بل للعمران: "أنا الرب ولا آخر" (رج 48: 12- 13). وبما أن الله خالق، فهو السيّد المطلق في الكون وفي التاريخ. "أما علمتم وما سمعتم؟ أما بلغكم كيف كان البدء وفهمتم من أسّس الكون؟ هو الجالس على قبّة الأرض، وسكّانها تحته كالجراد. يبسط السماوات كالستارة، ويمدّها كخيمة للسكن. يجعل العظماء كلا شيء وحكّام الأرض كالهباء" (20: 21- 23). ونقرأ في 42: 5: "هذا ما قال الرب خالق السماوات وناشرها، باسط الأرض مع خيراتها، وواهب شعبها نسمة الحياة روحًا للسائرين فيها" (رج 44: 24- 28؛ 45: 12- 13؛ 51: 13- 16: الرب الذي صنعك وبسط السماوات والأرض).
في أقوال أشعيا الثاني ليس الايمان بالخلق مجرّد سند للإيمان بالفداء: فهذا الايمان له قوامه الخاصّ ويتضمّن أولاً الاعتراف بوحدانيّة الله كما بسلطانه على مسيرة التاريخ. فالذي كوّن العناصر والبشر هو سيّد الجميع. بعد هذا نفهم أن يكون الله قد وضع قدرته كخالق في خدمة قصده الخلاصي: الخروج من مصر، ولادة شعب أخرجه من العبوديّة ودعاه لخدمته وحمْل النداء إلى الأمم. كل هذا يدلّ دلالة ساطعة على قدرته الخلاّقة. فالفادي الذي فصل مياه البحر الأحمر هو الخالق الذي فصل مياه الاوقيانوس الأولى. ومآثر الماضي هي عربون أكيد للخلاص الآتي. وكما ظهر الخلق بالنسبة إلى الخروج من مصر "خروجًا سابقًا للتاريخ"، ونصرًا أساسيًا على الفوضى والفراغ (51: 9- 10)، هكذا اعتُبر الفداء المنتظر "خروجًا جديدًا" وانتصارًا حاسمًا على الشرّ. وبما أن الخلاص يلتقي بالخلق عبر الخروج، فقد رآه النبيّ خلقًا جديدًا. والتذكير بالقدرة الخلاّقة هو عربون مستمرّ للقدرة المخلِّصة. فالذي خلق يستطيع أن يخلص أيضًا. والذي جدّد يستطيع أن يجدِّد أيضًا. والرب في هذه النبوءة لا يخلق فقط الكون والبشريّة وشعبه، بل يخلق الخلاص (41: 17- 20؛ 48: 7). إذن تكون تتمّة العالم خلقَه من جديد وولادته وتكوينه تكوينًا جديدًا.

3- الرب إله الكون
لا يقدَّم الخلاص فقط إلى شعب اسرائيل، بل إلى جميع شعوب الأرض. فالله قد خلق البشريّة قبل أن يخلق اسرائيل (45: 12): "أنا صنعت الأرض كلها وخلقت البشر عليها. يداي نشرتا السماوات وأنا أضأت جميع نجومها". وكما دعا الله داود، ها هو يدعو كورش الفارسي (آ 13). وقبل أن يقطع الله عهدًا مع ابراهيم، قطع عهدًا مع نوح. نقرأ في 54: 9: "قال: كذلك يكون لي كأيّام نوح، لأني كما حلفت لنوح أن لا تعبر المياه على وجه الأرض فيما بعد، فكذلك حلفت أن لا أغضب عليك (يا أورشليم) وأوبّخك".
لا ينسى هذا النبيّ لحظة واحدة مجمل البشر، بني آدم، الذين ينالون الأسماء العديدة: فالنبيّ يتكلّم باسم الله إلى البشريّة (آدم)، إلى كل بشر، إلى شعوب تعود إلى غابر الزمن (44: 7). إلى شعوب وأمم ومدن وقبائل وجزر بعيدة، إلى العائشين في البحر وأقاصي الأرض.
بما أن موقف نبيّ الربّ والمنادي باسمه لدى الأمم متشعّب هو، فقد فهمه الشرّاح مرارًا فهمًا خاطئًا وشكّوا في نظرة أشعيا الثاني وما فيها من شموليّة. فهذا النبيّ الذي هو الترجمان الامين لإلهه، يُطلق في الشعوب الغريبة أقوالاً مختلفة ومتكاملة: يجب أن لا نمزجها بعضها ببعض ولا أن نعارضها. تارة يتحدّث عن الأمم التي تنال العقاب، وطورًا عن تلك التي تُحسب كلا شيء. وقد يتحدّث عن الأمم التي أعجبت بالخلاص الذي وهبه الله لشعبه، فأعلنت إيمانها بالله الحقيقي واستنارت وجاءت إلى الخلاص. حدث لها كما حدث لأحيور الذي رأى خلاص الله في سفر يهوديت: "سمع أحيور بكل ما فعله إله اسرائيل، فآمن به واختتن" (يه 14: 10).
يجب أن نميّز بين هذه الأمم تلك التي هي عدوّة اسرائيل ويهوه. في الدرجة الأولى بابل التي يُبرز النبيّ خطاياها: التكبّر وعبادة الاوثان، السحر، القساوة، الشرّ، النجاسة. إن هذه الأمم سوف ينالها عقاب نموذجيّ يدلّ على أن الله يعاقب الشر فيشكّل عقابه تنبيهًا خطيرًا، ويميّز بين المخلِّص الحقيقيّ والمخلّصين الكذبة الذين يعجزون عن تخليص أنفسهم (ف 47).
غير أننا نجد عبارات عديدة تخفّف من لهجة "الانتقام": فالعقاب لا ينصبّ على جميع الشعوب من دون تمييز. وموقف هذه الأمم من شعب اسرائيل، ليس موضوع توبيخ بدون استئناف: لا شكّ في أنها أساءت التصرّف بسلطتها، ولكن الله هو الذي أوكلها، "بضَرْب" شعبه الذي استحقّ العقاب (42: 24- 25: الله عاقب شعبه بواسطة الكلدانيين). وأخيرًا، لا نجد نصًا واحدًا يدعو بني اسرائيل للانتقام بأنفسهم. ففي 47: 3 مثلاً، تطلب أورشليم "الانتقام" من بابل، ولكنها تسلّم إلى الرب حقّها وتنتظر منه أن يفعل.
وكما أرانا النبيّ الربّ يعاقب شعبه عقابًا يؤول إلى خيره، كذلك يستطيع أن يعامل سائر الشعوب. وهكذا نكون في خطّ عاموس. الله سيّد الكون وربّ الشعوب كلها، وهو يدين الجميع ديانة تبدو بشكل دواء يدعوهم للعودة إلى الربّ.
فليس من شعب، مهما كان قديرًا، يستطيع أن يفلت من "محكمة الله". ولا تقدر أمّة أن تعارض تنفيذ مقاصده. فهناك نصوص أشعيائية عديدة تؤكّد أن جميع الأمم هي في نظر الرب كلا شيء: هي كالعشب الذي ييبس بسرعة (40: 6- 7). هي كنقطة في دلو أو غبار في ميزان أو ذرة من تراب (آ 15- 17). هي كالثوب الذي يبلى والبعوض الذي يموت بسرعة (51: 6). كل هذه الصور تدلّ على تسامي الله وضعف هذه الأمم التي لا تساوي شيئًا تجاهه. ولكن هذا لا يعني أن الرب يحتقرها. هو لا يبقى لا مباليًا تجاه هذا "اللاشيء"، بل يهتمّ به بطرق مختلفة: يستعين بهذه الأمم من أجل مخطّطه أو يملأها إعجابًا. أو يرسل إليها دعوة صريحة للخلاص.
تحدّثنا أعلاه عن الربّ الذي يستعمل الفُرس وملكهم كورش لكي يسير بمخطّطه الخلاصي إلى التمام. والالقاب التي أعطيت لهذا الملك تدلّ على احترام الله له، وعلى التمنّي بأن يراه يومًا يعتنق الايمان الحقيقيّ (45: 3: أسير قدّامك فأمهّد الجبال، وأحطّم مصاريع النحاس، وأكسر مغاليق الحديد، هذا ما يقول الرب). والرب قد وعد كورش هذا بأن يتسلّط على الكون، ويجعل جميع الأمم تركع أمامه: "أنهضه من الشمال فيأتي، ومن مشرق الشمس أنادي باسمه. يطأ الحكّام كأنهم وحل، ومثل الخزّاف يدوسهم كالطين" (41: 25).
استعملت قدرةُ الله هذه الأمم، فنالها الاعجاب وجاءت إلى الربّ. في الاصل، سيكونون خدّامًا لأورشليم (49: 22- 23). وفي النهاية سيتماهون مع أورشليم. يكونون جزءًا من شعب الله. فعلى أورشليم أن تتوسّع لكي تستقبلهم جميعًا (54: 3). عند ذاك يركضون إليها وهم يرغبون بأن يكونوا لله حين ينتمون إلى شعبه. "هذا يقول: أنا أنتمي للرب، ويسمّي نفسه باسم يعقوب. وذاك يكتب على يده: أنا للرب، وباسرائيل يجعل كنيته" (44: 5).
شهدت هذه الأمم كلها أعمال الخلاص التي أجراها الله من أجل شعبه. فأندهشت وأعلنت بدورها إيمانها بالمخلّص الوحيد. "تعالوا إلي تخلصوا يا جميع شعوب الأرض! فأنا الله ولا آخر... ستنحني لي كل ركبة، وبي سيحلف كل لسان، ويُقال عني: بالرب وحده العدل والقوّة، وإليه يجيء جميع العاضبين خاضعين" (45: 22- 24). يحلفون أنهم يكونون أمناء له، يحلفون يمين الولاء. كل بشر يأتي إليه. يأتون من أقاصي الأرض. ومن مشرق الشمس إلى مغربها.
وشعب اسرائيل، عبد الله وخادمه، يحمل إلى هذه الأمم النور (49: 6: تكون نورًا للأمم وخلاصًا إلى أقاصي الأرض)، ويدخلهم في العهد (آ 8)، ويمنحهم البرّ (53: 11). وحين تستضيء هذه الشعوب بتدخّل الله (5: 4- 5: عدلي قريب وخلاصي آت) ترى فيه إله جميع الأزمنة الذي يدعو الأجيال من البدء، الذي كان مع البشر الاوائل وسيكون مع الأواخر (41: 4). ترى فيه إلى جميع الأمكنة، الإله الذي يملأ الأرض كلها (54: 4) بحضوره وقداسته، فيصل مديحه إلى الجزر البعيدة (42: 12).
في مجموعة الأمم هذه، يحافظ شعب اسرائيل على مكانته المميزة، لأن الله اختاره ووجّهه. وملأ قلبه رجاء. وأحبّه حبًا أمينًا فغفر له وخلّصه. ما اكتفى الله بأن يعيد إليه وحدته وتماسكه، بل أشركه في مجده وبهائه لكي يحمل نور الله إلى أقاصي الأرض. وهكذا نفهم علاقة الرب بشعبه.

4- الرب إله قريب
هنا نتوقّف عند عدد من صفات الله: يختار، يساند، يحبّ، يغفر، يخلّص.
الرب هو الذي اختار شعبه، ودعاه وأرسله. وهذا الاختيار هو وليد حبّ مجاني. كرامة لابراهيم واسحاق وداود. وامتدادًا لما عمله الله في سفر الخروج. غير أن هذا الاختيار ليس محصورًا في شعب واحد، ولا في ملك واحد. فالربّ قد اختار كورش. وسوف يسمّي شعب مصر شعبه وأشور صنعة يديه (19: 18).
والرب هو الذي يساند، ومساندته تدوم. ليست وليدة نزوة عابرة، بل قرار يدوم. إن الله لايني يهتمّ بالذين يرسلهم. فهو يرافقهم بعنايته كيفما توجّهوا. يعينهم، يمسكهم بيدهم، يقودهم، يعلّمهم، ويحمّلهم مقصده الخلاصيّ.
الربّ هو الذي يحبّ. يحبّ نسل ابراهيم ويغدق عليه نعمه. ولكنه يحب أيضًا كورش، ولا ينسى شعب مصر إن هم صرخوا إليه. كان ثابتًا في حبّه، أمينًا لعهده. بارك شعبه، تذكّره وما نساه، لبّاه عندما ناداه وما تخلّى عنه. عنايته هي عناية راع يهتم بكل خروف من خرافه ولاسيّما الضعيف منها. وعنايته هي عناية مسؤول عن سعادة الناس الذين يعيشون في مُلكه. بل إن محبّته هي محبّة أب يبحث عن أولاده. ومحبّة أم تتحرّك أحشاؤها حين تفكّر بأولادها. محبته محبّة عريس يقلق قلبه من أجل عروسه. نلاحظ هنا أننا في خط هوشع الذي كان أول من قدّم مثل هذه الصورة عن الله، فعاد إليها الانبياء الذين جاؤوا بعده.
والرب هو الذي يغفر. ومع أن أبناءه ينكرون جميله، ومع أن زوجته خائنة، فهذا الاله لا ييأس أبدًا. بل لا يزال يرسل عطاياه، وأوّلها الغفران. قد يصطدم بخطيئة البشر الذين يصيرون عبيدًا، الذين يتمرّدون ويقعون في الشرّ. ولكن الرب يتحمّل الخطيئة. بل هو لا يعود يذكرها. يمحوها فتزول كالسحاب في الصيف. يغفرها فيخلق من جديد شعبه، وكل فرد من أفراد هذا الشعب.
والرب هو الذي يخلّص. فرغم أخطاء شعبه المتكرّرة، هو يحمل إليهم الخلاص. يرد فعل خلّص مرارًا في أشعيا الثاني. وترافقه ألفاظ تُبرز تدخّل الله هذا. فالله المخلّص يفدي. يعمَل كالوليّ من أجل قريبه. يفتدي حياته إن وقع في الأسر. وإذ يفتدي شعبه الذي ذهب إلى السبي، ويجمعه بعد أن تشتّت، يخلقه من جديد كما في زمن الخروج. وبما أن جميع البشر هم خطأة، فالرب يفتديهم كلهم. وفداؤه لهم وخلاصه، أكثر من نجاة من ضيق وشدّة وشرّ، أكثر من عودة حياة هادئة وصالحة. إنه عيش في نوره ودعوة للابتعاد عن الأصنام التي لا تستطيع أن تفعل شيئًا للانسان.

خاتمة
هذا هو وجه الله كما يظهر في أشعيا الثاني. هو الاله القدير وسيّد الكون والتاريخ. وهو الاله الكريم السخيّ الذي يحنو على شعبه كما يحنو على سائر الشعوب: يسمع، يتذكّر، لا ينسى، يهتمّ. ويطلب من الانسان أن يطلبه، أن يعود إليه. فهو الراعي والأب والأم والزوج، هو الحاضر حضورًا حميمًا. فيبقى علينا أن ندخل في حياته الحميمة وهو يغمرنا بقدرته كما يحيطنا برحمته. مثل هذا الاله سنراه في أجلى بهائه في شخص يسوع المسيح الذي أخذ من أشعيا صورة العبد الذي جاء يبرّر البشر ويحمل خطاياهم. مات ولكنه قام. ذُلّ ولكنه رُفع. تشوّه منظره في تلك الجمعة، الجمعة العظيمة، ولكنه في النهاية انتصر وتعالى، وارتفع وتسامى جدًا فجثت أمامه كلُّ ركبة في السماوات والأرض.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM