الفصل الرابع عشر: الاله القدوس في أشعيا الأول

الفصل الرابع عشر
الاله القدوس
في أشعيا الأول

حين نتحدّث عن أشعيا الأولى، نحصر كلامنا في أش 1- 39، تاركين القسم الثاني إلى مقال آخر سيكون عنوانه أنا الله وليس آخر في أشعيا الثاني (أش 40- 55). أما هنا فنتوقّف بشكل خاص عند الاله القدوس كما اكتشفه النبيّ حين دعاه الرب في الهيكل فأنشد: "قدوس، قدوس، قدوس، رب الصباؤوت. السماء والأرض مملوءتان من مجده"
أما موضوعنا الآن فيتوزّع في ثلاث نقاط: الله هو القدير الذي يمارس سلطانه ولاسيّما من أجل الضعفاء. الله هو القدوس في أرض اسرائيل. وأخيرًا، الله هو الذي يرتبط رباطًا خاصًا بشعبه، كما يرتبط بالعالم كله.

1- الله الواحد القدير
في إطار وحدانيّة الله المطلقة، أعلن أشعيا أن الله هو القدير. هو ربّ الصباؤوت، ربّ القوّات، رب الاكوان. وكما قالت السبعينية: الرب القدير. والذي نعلنه في قانون الايمان: الضابط الكل. ترد هذه العبارة خمسين مرّة ونيّف فتدلّ على حضور الله الفاعل بشكل خاصّ من أجل شعبه. منذ البداية يقول النبيّ: "لولا أن الرب القدير ترك لنا بقيّة من الناجين لصرنا مثل سدوم وأشبهنا عمورة" (1: 9). هذا الرب هو ربّ الخلاص. أما في 1: 24- 25، فيهدّد مدينته المحبوبة بالدمار. "لذلك قال الرب القدير جبّار اسرائيل: سأريح نفسي من خصومي وأنتقم من أعدائي، فأرفع يدي عليك يا أورشليم، أنقّي زغلك بالنطرون وأزيل كل أقذارك". الله يعاقب، ولكنه يتوخّى أن ينقّي أورشليم من أقذارها. حين تكون الخطيئة فيها فهي "خصم" الله. وحين تعود إلى حياة بحسب الوصايا، تصبح حبيبة الله. أرادت أورشليم أن ترتكز على أمور بشريّة. وها هو الرب القدير يزيل "كل سند من الخبز والماء". يزيل كل عماد: "الجبّار والمحارب القائد الوجيه..." (3: 1- 2). فهل تعرف أن تعود إلى الرب ولا تطلب قوة إلا منه؟
الرب هو القدير لأنه خلق الأرض وساد على الكون. قال النبي في 45: 18: "هذا ما قاله الرب خالق السماوات". والملائكة تنشد في الهيكل، اللهَ الذي ملأ السماء والأرض بحضوره. فكما هو السيّد في هيكل أورشليم، هكذا هو السيّد في الكون. فالكون هيكل كبير والهيكل كون صغير. وكما ملأ الهيكل بأذياله، هذا غطّى الكون كله بمجده.
فالربّ القدير هو الربّ المجيد. لهذا يحكم على أورشليم لأنها "استهانت بمجده" (3: 8). هذا المجد يكون فوق كل شيء (4: 5)، فوق صهيون. هو كالسحاب والدخان والنار التي كانت تحيط بالشعب خلال مسيرته في البريّة. فما فعله الرب في الماضي على جبل سيناء، ومع شعبه، يفعله الآن من أجل مدينته. هو الذي كان وفعل. وهو الكائن ويفعل اليوم. مرّت الجيوش فتركت وراءها الظلمة والضيق (8: 23)، ومرّ الله فغمر البلاد كلها بمجده، ورأى السكّان نوره العظيم، وملأ القلوب بالفرح (9: 1- 2). هذا المجد سيراه شعب مصر وشعب أشور، بل يقول النبي: "يرى كل بشر مجد الله وبهاء الرب إلهنا" (35: 2). وكل هذا المجد الذي يظهر أيضًا ساعة تتحوّل البريّة إلى جنّة غنّاء، يتجسّد في جبال لبنان بأرزه وعظمة الكرمل والشارون بالغابات الخضراء. المجد هو إشعاع الله وهو لا يقاسمه مع أحد. فالويل لشعبه إن نسب إلى الآلهة هذا المجد الذي يظهر خيرًا وبركات في شعبه.
هذا الاله القدير على مستوى الكون والشعوب، هو الذي يعاقب الخطيئة، ولاسيّما حين يظلم الانسان أخاه. في هذا السبيل نتذكّر كلام النبيّ القاسي في كرمة الرب التي فعل لها كل ما يمكن أن يفعل، فلم تثمر عنبًا، بل حصرمًا بريًا (ف 5). "انتظر الرب الحقّ فإذا سفك الدماء، والعدل فإذا صراخ الظلم" (آ 7). ويتابع النبيّ: "ويل للذين يضمّون بيتًا إلى بيت ويصلون حقلاً بحقل، حتى لا يبقى مكان لأحد فيسكنون في الأرض وحدهم (آ 8). ويل للمبكرين صباحًا في طلب المسكر، والساهرين الليل كله والخمر تلهبهم" (آ 11). ويأتي العقاب قاسيًا: "بيوت كثيرة تصير خرابًا. بيوت كبيرة فخمة تبقى بغير ساكن" (آ 9). الأرض تكون قاحلة والشعب يذهب إلى السبي. عند ذاك "ينحطّ مقام البشر ويسقطون، وتنخفض عيون المترفّعين. ويتعالى الرب القدير بقضائه، ويتقدّس الاله القدوس بعدله، فترعى الخراف في مراعيها وتأكل الجداء بين الخرائب". هكذا يتمجّد الله حين تحلّ العدالة في الأرض. ويُظهر قدرته من خلال حرب تقع في البلاد فيعرف العظماء أنفسهم ولا يعودون يستغلّون الفقراء فيطردونهم من بيوتهم وحقولهم.
وهذا الاله يعرف ما في القلوب، فلا نستطيع أن نخفي خطايانا وراء ممارسات سامية أو أقلّ سموّا. ماذا ينفع الانسان إن هو كذب على الله ونادى ببرارته؟ "اغتسلوا وتطهّروا وأزيلوا شرّ أعمالكم من أمام عينيّ وكفّوا عن الاساءة" (1: 16) ويتابع النبيّ: "إن كانت خطاياكم بلون القرمز، فهي تبيضّ كالثلج. وإن كانت حمراء غامقة فهي تصير بيضاء كالصوف" (آ 18). وماذا ينفع الانسان إن أخفى شروره وراء عبادات لا تعبّر عن قلب مستقيم. عند ذاك لن يقبل الرب الصلوات والادعية والذبائح والنذور. "يقول الرب: ما فائدتي من كثرة ذبائحكم... لا أطيق مواسمكم واحتفالاتكم... إذا بسطتم أيديكم للصلاة أحجب وجهي عنكم، وإن أكثرتم من الدعاء لا أستمع لكم لأن أيديكم مملوءة من الدماء" (آ 11- 15).
في كل هذا بدا أشعيا في خطّ أسفار الشريعة وسائر الأنبياء، حيث يظهر الله قدرته بشكل خاص حين يدافع عن المساكين، ويحطّ المقتدرين عن الكراسي، فيعرف العظماء أنهم بشر وأنهم مثل سائر الناس يموتون.

2- الله القدوس
هنا يتميّز أشعيا حين يشدّد على قداسة الله. فدعوته انطلقت في إطار هذه القداسة. وجد نفسه في الهيكل وهو الخاطئ، والعائش وسط شعب خاطئ. فأحسّ أنه هالك لا محالة لأنه أمام الله القدوس. هذا الاله تحيط به السرافيم، تلك الكائنات الناريّة (الله نار آكلة). ومع ذلك فهي تخاف من النظر إليه فتغطّي وجهها بجناحين من أجنحتها الستّة، وتستعدّ للخدمة الكهنوتية بجناحين فتغطّي أرجلها، وتسرع في تنفيذ أوامر الله بالجناحين الأخيرين. وأول مهمّة قامت بها في هذا المشهد، كانت حين حملت جمرة ومسَّتّ فم النبي فزال اثمه وكفّرت خطيئته (6: 6). وهكذا تقدّس النبيّ بيد الله فاستطاع أن يقوم بالمهمة الموكولة إليه. "ها أنا لك فأرسلني" (آ 8).
هذه القداسة سوف يعلنها أشعيا منذ بداية رسالته. "ويل للأمّة الخاطئة، للشعب المثقل بالاثم، لنسل الأشرار والبنين المفسدين: تركوا الربّ واستهانوا بالله قدوس اسرائيل، وأداروا له ظهورهم" (1: 4). هكذا يقوم النبيّ بمحاكمة أورشليم وشعبها بعد أن تركوا الله وما عادوا يبالون به: أجل، "نبذوا شريعة الرب القدير واستهانوا بكلام قدوس اسرائيل" (5: 24). بل هم تحدّوه إن كان يستطيع أن يفعل: "ليُسرع قدّوس اسرائيل في عمله حتّى نرى، ولتقترب وتظهر مقاصده حتى نعلم" (آ 19). وفي النهاية قالوا لأشعيا وللأنبياء: "لا تتنبّأوا لنا بما هو الحقّ... حيدوا عن الطريق... خذوا من أمامنا قدوس اسرائيل" (30: 11). لهذا قال السيد الرب قدوس اسرائيل: "في التوبة والطاعة خلاصكم، وفي الأمان والثقة قوّتكم. لكنكم رفضتم" (آ 15). تلك هي خبرة الله مع شعبه وخبرته مع كل واحد منا حين يدعونا إلى القداسة.
نلاحظ أولاً أن فكرة "القداسة" لا نجدها فعلاً واسمًا إلاّ مرّتين في عاموس، ومرتين في هوشع. ولكنها تظهر 26 مرّة في أش 1- 39. هذا يفهمنا أهميّتها عند أشعيا. ولكننا نلاحظ ثانيًا أن النبيّ لم يخلق من ذاته فكرة القداسة هذه. فهي قديمة قدم البشريّة. فهناك أماكن مقدّسة ارتبطت بالآباء، بموسى مع العليّقة الملتهبة. وهناك قول يعلن أن الانسان لا يستطيع أن ينظر إلى الله ويبقى على قيد الحياة. غير أن الأنبياء أعطوا بُعدًا أخلاقيًا لهذه القداسة. فلم تعد النجاسة بحسب الطقوس هي التي تمنعنا من الحضور أمام الرب في هيكله، بل الحياة في الاثم والخطيئة ورفض وصايا الله.
أما قداسة الله فهي مجوعة كمالاته التي ترفعه فوق الانسان. وهذا ما عبّر عنه هو 9:11: "أنا إله لا إنسان، أنا في وسطك القدوس، فلا أعود أغضب عليكم". أي سوف أعاملكم بالحبّ. هذه القداسة التي طبعت بطابعها دعوة أشعيا وحياته، سوف ترد مرارًا على شفتي النبيّ، بل سيجعلها في فم الأشرار الذين يتحدَّون الرب (5: 19).
ماذا يقول أشعيا عن هذا الاله القدوس، الذي اسمه "قدوس اسرائيل". أي ذاك الذي ينتظر من شعبه أن يقدّسه إن في العبادات وإن في الأعمال؟ الرب "يتقدّس" ببرّه. يتقدّس بعدله حين يعاقب. ولكنه يتقدّس أيضًا حين يخلّص. نقرأ في 30: 18: "لكن الرب ينتظر ليتحنّن عليكم، وينهض ليرحمكم لأنه إله عادل (أو: بارّ). هنيئًا لجميع الذين يرجونه". وهكذا تقوم عدالة الله القدوس بأن يرحم. وهكذا يعبّر عن اهتمامه بشعبه.
وعلى الناس أن يقدّسوا الله، أن يتعاملوا معه كالقدّوس فيعرفوا حدودهم. "قدّسوا الرب القدير وليكن هو خوفكم وفزعكم. هو القدوس يكون حجر عثار لبني اسرائيل" (8: 13- 14). يتعرّف المؤمنون إلى قداسة الرب حين يستندون إليه وحده، لا إلى سلطة المنتصر (10: 20: لا يعتمدون على أمّة ضربتهم، وإنما يعتمدون بصدق على الرب قدوس اسرائيل). ولا إلى مركبات حليف لهم (31: 1): هذا ما يقال عن مصر: "ويل للمعتمدين على الخيل، المتوكّلين على كثرة المركبات وجبروت الفرسان. الويل لهم! لا يلتفتون إلى قدوس اسرائيل ولا يلتمسون الرب".
وهم يقدّسون أيضًا اسم الرب، حين لا يخافون أحدًا سواه. مهما كانت قوّة البشر وحيلهم، فلا سند حقيقيًا إلاّ في الربّ. ولا تهديد حقيقيّاً إلاّ من قبل الرب. سند البشر قصبة مرضوضة. إذا استند إليها الانسان غرزت في كفّه وثقبتها (36: 6). في النهاية ليس من متّكل سوى قدوس اسرائيل. في هذا المجال نقرأ 29: 23: "حين يرون ما صنعت في وسطهم، يقدّسون اسمي، يقدّسون قدوس يعقوب، يرتعدون أمام إله اسرائيل".
الله قدوس والذين يتّصلون به يتقدّسون، وهو الذي قال في سفر اللاويين: "كونوا قدّيسين لأني أنا قدوس" (19: 2). فالذين اختارهم من أجل مهمّة مقدّسة يشاركون في قداسته. قال في 13: 3: "أما أمرت الذين قدّستهم، ودعوت جبابرة غضبي" (أي عقابي). وجبل أورشليم هو "جبل القداسة". هذا ما يعلنه أشعيا عندما يصوّر لنا مملكة السلام: "لا يسيء أحد ولا يُفسد في كل جبلي المقدس، لأن الأرض كلها تمتلئ من معرفة الرب كما تملأ المياه البحر" (11: 9). أجل، الربّ ينقّي البلاد من الاشرار والمسيئين ليكون هيكله مقدّسًا، لأن الجبل المقدس يعني في النهاية هيكل أورشليم الذي يجعل العاصمة الداوديّة مقدّسة. إلى هذا الجبل ستأتي جميع الأمم فتحضر أمام الربّ لأنه ربها جميعها: "وفي ذلك اليوم يُنفخ في بوق عظيم. فيجيء الذين ضلّوا في أرض أشور والذين طردوا إلى أرض مصر، ويسجدون أمام الربّ على الجبل المقدّس، في أورشليم" (27: 13).
قداسة المدعوين. قداسة أورشليم والجبل المقدس. والزرع سيكون مقدّسًا بفعل قداسة الله القدوس. مرّت الجيوش ودمّرت البلاد (6: 13). ولكن الله سوف يمرّ بعدها، فتُولد القداسة بعد المحنة، ويحلّ مجد الربّ وبهاؤه على أرض فلسطين.

3- إله اسرائيل وإله الكون
هنا ندخل في خطّين يكادان يتعارضان. الأول يشدّد على العلاقة التي تربط الله بشعب اسرائيل. والثاني يفهمنا أن الله هو إله جميع الشعوب والقبائل، وهو سيدعوها جميعها إلى أورشليم لتكون شاهدة لقداسة الربّ وعمل خلاصه.

أ- الرب إله اسرائيل
قال أشعيا: الله هو "قدوس اسرائيل". فهذا نتيجة ارتباطه ارتباطا وثيقًا بشعبه. نبدأ فنشير بأن كلمة "عهد" (ب ر ي ت) التي نقرأها أربع مرّات في أشعيا الاول (24: 5؛ 28: 15- 18؛ 33: 8)، تدلّ على شيء يختلف كل الاختلاف عن عهد بين الله وشعبه. ونشير ثانيًا إلى أن مدلول "الاختيار" (نجده في تث) غريب كل الغربة عن أشعيا. فماذا يبقى إذن؟ فكرة التبنّي. فهذا النبيّ يعتبر أن بيت اسرائيل هم أبناء الله الذين ربّاهم وأحبّهم، الذين اعتنى بهم كما يعتني الكرّام بكرمه، وقدّم لهم حماية أين منها حماية الأب لأبنائه.
نقرأ في 1: 2: "ربّيت بنين ورفعتهم، ولكنهم تمرّدوا عليّ". لا شكّ في أن هذه البنوّة تنطبق أول ما تنطبق على الملك (مز 2: 7: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك، تبنّيتك)، ولكنها بدأت تنطبق على الشعب منذ هو 2: 1؛ 11: 1. يسمّي النصّ شعب أورشليم الأبناء، ولكنه يدلّ على أن هذه البنوّة ظهرت بشكل خاص من خلال التربية التي يقوم بها تجاهم. لهذا نلاحظ المقابلة مع الثور والحمار اللذين عرفا ساعةَ الشعب لم يعرف. "الثور يعرف مقتنيه، والحمار معلف صاحبه، أما بنو اسرائيل فلا يعرفون، شعبي لا يفهم شيئًا" (آ 3). في هذا المجال نفهم مقابلة الشعب بالكرمة مع التشديد على الحبّ الذي ظهر من خلال عناية الرب بكرمه. "نقبه، نقّى حجارته، غرس فيه أفضل كرمة" (5: 2) اهتمام كبير جدًا. والنتيجة ضئيلة إن لم تكن سيّئة: أثمر حصرمًا بريًا. "فاحكموا بيني وبين كرمي" (آ 3).
مثل هذا الحبّ الذي يكنّه الله لشعبه، يجعل التمرّد خطيرًا والخيانات أمرًا مشينًا. فسكان يهوذا بنون تمرّدوا على أبيهم. وصورة الكرمة جاءت تشدّد على خيبة أمل الكرّام الذي تعب فلم يحصل إلاّ على الحصرم. لهذا سيكون العقاب قاسيًا؟ "أين تُضربون بعد وأنتم تمعنون في التمرّد عليّ؟ أعلى الرأس (أي الملك) وكله مريض؟ أم على القلب وكله سقيم؟ من أسفل القدمين إلى قمّة الرأس لا صحّة فيكم، بل جروح ورضوض لا تضمَّد، وقروح طريئة لا تُفقأ ولا تلين بزيت. أرضكم خراب ومدنكم محروقة بالنار (بعد أن مرّ العدو. الحرب هي عقاب من الربّ). حقولكم يأكلها الغرباء أمام عيونكم" (صارت الأرض محتلّة) (1: 5- 7).

ب- الرب إله الكون
الرب هو إله اسرائيل وهو يعامل شعبه كما يعامل الأب ابنه، وتلك فكرة ستكون واضحة بشكل خاص في أشعيا الثاني حيث يظهر الله كأب وكأم معًا. وهو أيضًا إله الكون وسيّد الشعوب.
إن قدرة الله تُفهم الأمم المتحالفة على أورشليم أنها لا تستطيع شيئا ضد مملكة يهوذا. فالرب هو عمانوئيل (7: 14) أي إلهنا معنا. قال المتحالفون: "نصعد على يهوذا ونرعبها، نقتسمها ونملّك عليها ابن طابئيل". ولكن الرب هو هنا. قال: "لا يحدث ذلك ولا يكون" (7: 7). فملك أرام وملك اسرائيل "مثل لهب ذنبين مشتعلين مدخّنين" (آ 4). هما ضعيفان وقريبان من الموت. وهذا ما حدث لهاتين المملكتين حين أتى أشور إلى المنطقة. سقطت دمشق ثم السامرة في يد الاشوريين. أما سراج داود فيبقى مشتعلاً (2 مل 8: 19). كيف تثبت أورشليم؟ يكفي أن تؤمن بالرب فيكون لها الامان والسلام. هذا ما قاله أشعيا في عبارة قاطعة: "إن لم تؤمنوا فلن تأمنوا" (آ 9). يعني، لا سند إلاّ الله. ولكن الملك أحاز سيبحث عن سند عند الملك الاشوريّ ويحمل إليه الهدايا، ويبني مذبحًا لإلهه في قلب الهيكل. فضّل الخضوع للملك الاشوريّ وترك الله. لهذا استغنى عنه النبيّ باسم الله وتطلّع إلى ابنه الذي سيعرف عهدُه السلام.
اعتبر الملك أحاز أنه انتصر لأنه تحالف مع تغلت فلاسر الثالث. ولكنه ما علم أن الرب "أومأ إلى أمّة بعيدة، وصفر لها فخفّت مسرعة من أقصى الأرض" (5: 26). أجل، الملك الاشوريّ بكل عظمته يخضع لله. وكذلك ملك مصر. فجيش مصر هو في نظر الربّ كالذباب، وجيش أشور كالنحل (7: 18). يصفر لهم فيجيئون، يصفر لهم فيذهبون، وهكذا تعرف أورشليم السلام. بل إن الرب تعمل يد أشور ليجلب على الملك وشعبه أيامًا لا مثيل لها (7: 17).
وإن تكبّرت أشور، فسوف يحطّ الله من تكبّرها. كيف تنسى أنها أداة في يد الله. "اتفتخر الفأس على من يقطع بها؟ أو يتكبّر المنشار على من يحرّكه" (10: 15)؟ لهذا "حلف الرب القدير: ما نويته سيكون وما قضيت به سيتمّ. سأحطّم أشور في أرضي وأدوسه في جبالي" (14: 24). وكما حكم على أشور كذلك سيحكم على فلسطية وموآب ودمشق ومصر. الرب هو سيّد الممالك وهو يوجّه التاريخ، حتى وإن بدا أن الانسان هو الذي يفعل.
حطّم الرب شعبه لأنه خطئ. وحطّم سائر الشعوب. فالهدف النهائي الذي توخّاه هو أن يجمع الشعوب كلها في شعب واحد ويأتي بها إلى أورشليم من أجل العيش في سلام.
هنا نقرأ ما يقوله الرب عن مدن مصر التي سوف تتكلّم لغة كنعانة. كان الصغير يتكلّم لغة الكبير. وها قد انقلبت الأمور. كان على الصغير أن يبني في أرضه هيكلاً يدلّ على ولائه للملك العظيم. أما هنا فسيكون مذبح للرب في قلب أرض مصر، "ونصب مرفوع للرب قرب حدودها علامة وشهادة للرب القدير في أرض مصر" (19: 19). "فإذا صرخ المصريون (كما صرخ العبرانيون في زمن الخروج) في ضيقهم، أرسل لهم مخلّصًا ومحاميًا فينقذهم" (آ 20).
في الماضي، أعلن الرب نفسه لبني اسرائيل فعبدوه، وقدّموا له الذبائح. وهو الآن "يعلن عن نفسه (للمصريين) فيعرفون الربّ في ذلك اليوم، ويعبدونه بالذبيحة والتقدمة، وينذرون له نذورًا ويوفون بها. ومع أن الربّ ضربهم بقساوة، فإنه يشفيهم حين يرجعون إليه ويستجيب لهم" (19: 21- 22). كما ضرب شعبه وشفاهم، كذلك فعل مع مصر. وكذلك يفعل مع جميع الشعوب.
وهل يبقى الخلاف بين أشور ومصر؟ هذا ما لا يرضى به الله. فلا حواجز بين بلد وبلد. يقول النبيّ: "وفي ذلك اليوم يكون طريق من مصر إلى أشور، فتجيء أشور إلى مصر، ومصر إلى أشور، وتعبد مصر الربّ مع أشور" (19: 23). أجل، ما يوحّد الشعوب هو عبادتها لله الواحد. ساعة تركت الأمم الله وتحدّته في عقر داره وحاولت بناء برج يصل إلى السماء، تشتّتت وزال التفاهم. أما الآن، فقد عادت بعضها إلى بعض حين عادت جميعها إلى الرب.
وسيأتي يوم تجتمع فيه كل الشعوب. "يكون في الأيام الآتية أن جبل بيت الرب يثبّت في رأس الجبال ويرتفع فوق التلال. إليه تتوافد جميع الأمم ويسير شعوب كثيرون. يقولون: لنصعد إلى جبل الرب، إلى بيت الله، فيعلّمنا أن نسلك طرقه. فمن صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الربّ" (2: 2- 3).
الرب هو الذي يكون الحكم بين الأمم، ويقضي لشعوب كثيرين. عند ذاك تنتفي كل حاجة إلى السلاح. "فيصنعون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل. فلا ترفع أمّة على أمّة سيفًا ولا يتعلّمون الحرب من بعد" (2: 4). فلا يبقى لبيت يعقوب إلاّ أن يسيروا في نور الربّ بعد أن انتهت الحرب وحصل الخلاص لجميع البشر. ويحدّثنا أشعيا عن هذا الخلاص وهذا السلام حين يتدخّل الله بنفسه فيكسر قضيب المسخِّرين ويُحرق نعال العدو وكل ثوب ملطّخ بالدماء (9: 4). أو يتدخّل بيد "ابن" وُلد لنا. ونحن نرى فيه الابن الوحيد، يسوع المسيح، الذي أنشد الملائكة في ولادته المجد في السماء والسلام على الأرض.
وينهي أشعيا كلامه عن السلام في لوحة رائعة تعود بنا إلى البدايات. "يسكن الذئب مع الحمل ويبيت النمر بجانب الجدي. ويرعى العجل والشبل معًا وصبي صغير يسوقهما. وتصاحب البقرة الدبّ ويبيت أولادهما معًا. ويأكل الأسد التبن كالثور. يلعب الرضيع على وكر الافعى، ويضع يده في مكمن الثعبان" (11: 6- 8). انتهت كل عداوة على الأرض، منذ العداوة الأولى بين الانسان والحيّة (تك 3: 15) حتى تلك التي تجعل الملك الكبير يأكل الملك الصغير كما يفعل الذئب بالحمل والشبل بالعجل.
وفي النهاية تختلط الأدوار. تصبح مصر شعب الله، لا بنو اسرائيل. وتصبح أشور صنعة الرب. فهو الذي كوّنها كما كوّن شعبه، ويكون اسرائيل ميراثًا للرب. لا مصر ولا أشور. وهكذا نكون في شموليّة واسعة وسع الكون بعد أن خرج الله من هيكله وأرضه فلم يعد محصورًا في مكان واحد، فذهب كما يقول أشعيا الثاني إلى الجزر البعيدة وأقاصي الأرض.

خاتمة
ذاك هو وجه الله في القسم الأول من نبوءة أشعيا. هو الاله الواحد القدير الذي يهتمّ بالبشر ويعاقب "العظماء" إن هم أساؤوا إلى "الصغار". وهو القدوس الذي يمنح قداسته لمن يقترب منه بحيث "تتجسّد" هذه القداسة في حياة الشعب والمؤمنين. فلو ظلّ أشعيا في اثمه لما استطاع أن يقوم برسالته: فمه نجس فكيف يستطيع أن يحمل كلام الله؟ والشعب نجس فكيف يقدر أن يسمع ويرى ويفهم بعد أن أغمض عينيه وثقَّل أذنيه وقسّى قلبه؟ وهذا الاله هو إله شعب من الشعوب، وهو في النهاية إله جميع الشعوب يدعوهم إلى التفاهم والوئام والسلام. فالله القدوس والسامي، يعيش في التاريخ ويوجّه التاريخ إلى يوم العنصرة ساعة تتوحّد كل أمم الأرض بفضل الروح الواحد لتنشد عظائم الله.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM