الفصل الخامس: زيارة الله لابراهيم

الفصل الخامس
زيارة الله لابراهيم
تك 18: 1- 33

كان لابراهيم نعمة فريدة بأن يرى الرب ثلاث مرات: في شكيم أولاً، وذلك بعد أن أطاع ابراهيم الصوت الذي يدعوه فذهب إلى كنعان (12: 7). ثانيًا، بعد حوار انتهى بعهد بينه وبين وربه (17: 1). وأخيرًا عند بلوطة (سنديانة) ممرا (18: 1). في المرّة الأولى، أطاع ابراهيم دون أن ينبس ببنت شفة. في المرة الثانية، تحادث مع الربّ حول بنود العهد. في المرة الثالثة توسّل إلى الرب من أجل خلاص سدوم. تلك هي مهمّة ابراهيم السامية. أولاً، الطاعة والذهاب إلى أرض كنعان، ثم قبول العهد بواسطة الختان. وأخيرًا مشاركة الله وحفظ طريقه في ممارسة البر (العيش بحسب مشيئة الله) والعدل. أما نحن فسنتوقّف عند اللقاء الاخير: "وتراءى الرب لابراهيم عند بلوطة ممرا وهو جالس بباب الخيمة في حرّ النهار" (آ 1).

1- استقبال الرب (18: 1- 8)
نقرأ في قسم أول كيف استقبل ابراهيم ثلاثة مسافرين (آ 1- 8). هكذا يبدو الله بشكل مسافر يحاول أن يدقّ بابَ بيتنا. وفي قسم ثان (آ 9- 15) نتعرّف إلى وعد الله لسارة بأن يكون لها ابن رغم طويل انتظارها. فالله لا يأتي إلينا إلاّ وهو يحمل البركات من ماديّة وروحيّة. وفي قسم ثالث (آ 16- 33) نسمع تشفّع ابراهيم من أجل سدوم. بعد أن صار المؤمن قريبًا من الله، حادثه بدالة "الابناء" الاحبّاء، وطلب منه العفو عن المدينة الخاطئة.
أجل، التقى الرب بابراهيم في مكان محدّد احتفظ التقليد بذكراه: بلوطة ممرا، وهي قريبة من حبرون. وفي زمان محدّد. في حرّ النهار. قد تكون الساعة ساعة الظهر: طلب "الرب" بعض الراحة تحت هذه الشجرة الغضّة. هنا نتذكّر لقاء التلميذين مع يسوع. وسيتذكّر صاحب انجيل يوحنا أن الساعة كانت العاشرة، أي الرابعة بعد الظهر (يو 1: 39). مثل هذه اللقاءات لا تُنسى.
نتساءل عن معنى وجود هؤلاء المسافرين الثلاثة. والفعل يرد مرّة في صيغة المفرد ومرة في صيغة الجمع. في آ 1، تراءى الرب. في آ 2، رأى ابراهيم ثلاثة رجال. في آ 3، الرب هو أحد هؤلاء الرجال الثلاثة. فابراهيم يقول له: يا سيدي. وفي آ 11، نقرأ: "وتوجّه الرجلان من هناك إلى سدوم، وبقي ابراهيم واقفًا أمام الرب".
هناك رأي أول يقول: ظهر الله مع ملاكين. ولكن الرجال الثلاثة قبلوا معًا الدعوة، وطرحوا معًا السؤال عن سارة (آ 10). ورأي ثان: الاثنان هما حاشية الله الذي يتحدّث عنه النص وكأنه ملك. ورأي ثالث: الرب تراءى في الاشخاص الثلاثة. وقد راح الآباء في هذا الخط فتحدَّثوا عن الثالوث الاقدس الذي حلّ ضيفًا على ابراهيم. إذا جعلنا هذا النص في إطار التقليد اليهودي نقول إن هذا غير ممكن والتشديد على وحدانية الله ظاهر في التوراة. ولكن كلمة الله التي دوّنت تتعدّى الاشخاص، كما تتعدّى الاطار الذي كُتبت فيه.
ما يمكننا أن نقوله هو أن ابراهيم التقى بالرب. حاول الكاتب أن يعبّر عن هذا الحضور الغنيّ بالصور البشريّة، فظلّ عاجزًا. ولم يمر الله مرورًا عابرًا في حياة ابراهيم، بل أقام عنده بعض الوقت، وشاركه في الطعام، وفتح له مكنونات قلبه حول مصير سدوم. وسيشدّد صاحب الرسالة إلى العبرانيين على موضوع الضيافة ويقول: "لا تنسوا الضيافة، لأن بها أضاف بعضهم الملائكة وهم لا يدرون". نجد هنا إشارة إلى ما فعله ابراهيم، وربّما إلى ما فعله طوبيا (طو 5- 7). تحاشى الزمنُ القريب من المسيحية أن يتحدّث عن الله، فذكر بالاحرى الملائكة الذين يدلّون على حضور الله.
وأكل الله في بيت ابراهيم، قبلَ ضيافته. ولكننا نعرف أن الله روح، وبالتالي هو لا يأكل. مثلاً، في تقدمة جدعون (قض 6: 1- 24)، تحوّل الطعام إلى محرقة ارتفعت أمام الله. ولما قدّم والدا شمشون طعامًا إلى الرب، رفض أن يأكل (قض 13: 16). وقال الملاك رفائيل لطوبيا: "كان يظهر لكم أني آكل وأشرب معكم" (طو 12: 19).
نستطيع أن نعود هنا إلى ما فعله موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ بني اسرائيل: "رأوا الله وأكلوا وشربوا" (خر 24: 11). نحن هنا أمام ما يسمّى ذبيحة السلامة. فالطعام يدلّ على فرح اللقاء وقيام عهد بين المشاركين وبين الله. هذا ما تمّ حين تصالح اسحاق وأبيمالك (تك 26: 26- 31)، وحين تصالح يعقوب ولابان (تك 31: 54). هذا هو رمز الطعام في بيت ابراهيم: عهد بين الله وبين صفيّة. ولا ننسى أن عشاء يسوع الاخير كان عهدًا بين يسوع وتلاميذ سيبقون متحدّين به حتى في موته وقيامته (مت 26: 28 وز؛ 1 كور 11: 25).
نحن أمام صورة من الأرض هي في الوقت عينه صورة من السماء. ظهر ثلاثة رجال، وهذا أمر عادي. ولكن ظهورهم المفاجئ يدلّ على الطابع الفائق الطبيعة. هذا ما حدث ليشوع حين كان عند أريحا: "رفع عينيه فرأى رجلاً وقف (فجأة) قبالته". وسيطلب منه كما طلب من موسى أن يخلع نعليه من رجليه (يش 5: 13- 15).
أسرع ابراهيم إلى لقاء هؤلاء الثلاثة. فهِم أنهم أعظم من أناس عاديّين. وسجد بوجهه إلى الأرض. هذا يدلّ على احترام عميق يبديه الصغير أمام الكبير، كما فعل يعقوب أمام عيسو وقد خاف منه (تك 33: 3)، واخوة يوسف أمامه (تك 42: 6)، وراعوت أمام بوعز (را 2: 10). ولكن الكاتب الذي يعرف الاشخاص الثلاثة، يجعل من هذه اللفظة تعبيرًا عن عبادة عميقة: لقد سجد ابراهيم حقًا أمام الله. قال أدوناي، أي يا سيّد. لقد عرف الرب في أحد الاشخاص، وقد تكون وُجدت في النصّ هناك كلمة "يهوه" فأحلّ محلها العلماء الماسوريون: أدوناي أي السيّد.
قال ابراهيم "لواحد": إذا كنتَ راضيًا عنّي. إذا نلت حظوة لديك. فالعبارة تدلّ على نعمة فريدة يُغدقها الله على انسان من الناس. مثلاً نقرأ في تك 6: 8: "أما نوح فنالت رضى الرب".
وقام ابراهيم بواجبات الضيافة كما يفعل كل رئيس عشيرة. وتميّز عمله وعمل امرأته بالسرعة في تحضير الطعام. فلا يليق بنا أن نجعل الضيف الرفيع الشأن ينتظر. ثم إن ما هيِّئ يكفي لا لثلاثة أشخاص، بل لثلاثين شخصًا ونيّف. ووقف ابراهيم عن بعد، ولم "يتجاسر" أن يأكل مع الضيوف، بل "ظل واقفًا أمامهم". نحن أمام نوع من الرهبة المقدسة نحسّ بها وإن لم يعبّر عنها الكاتب بشكل واضح.

2- وعد لسارة (18: 9- 15)
سأل الرجال الثلاثة عن سارة، فدلّوا على أنهم ليسوا بأناس عاديّين. ابراهيم لا يعرف شيئًا عنهم، أما هم فيعرفون كل شيء عنه. قالوا: أين سارة امرأتك؟ هذا هو السؤال الذي طرحه الرب في تك 3: 9: "نادى الرب الاله آدم وقال له: أين أنت"؟ أتراه لا يعرف؟ وسيسأل قايين: "أين هابيل أخوك" (تك 4: 9)؟ أجل، هم يعرفون أين هي سارة، وسؤالهم بداية نبأ سعيد: "سأرجع إليك في مثل هذا الوقت من السنة المقبلة ويكون لسارة امرأتك ابن" (آ 9). وسنقرأ في 21: 1: "وزار (تفقّد) الرب سارة كما قال، وفعل لها كما وعد".
جاء الله وحمل معه أعظم بركاته وأولاها: ولد لابراهيم وسارة، مع أنهما تقدّما في السن. ضحكت سارة لأنها ظنّت أن الامر "مزحة" ودعابة. هذا صعب، هذا مستحيل!
في آ 13- 15، يُذكر الرب بشكل واضح. استشفَّ القارئ طبيعة الذي يكشف عن ذاته شيئًا فشيئًا على أنه شخص فوق العادة. هذه هي طريقة الله في التعامل مع البشر. هو لا يبهرهم بنوره الفجائي، بل يتمهّل "ويضيّع الوقت" إلى أن تأتي ساعة نتعرّف حقًا إلى يده التي تفعل.
الله هو هنا. وهو يكشف أسرار القلوب ويعلم خفاياها. وهو يتحدّث عن المستقبل. شدّد الكاتب على الصور الانتروبومورفية التي تشبّه الله بالانسان ولا تتوافق مع طبيعة الله: غسل رجليه، استراح تحت الشجرة، أكل طعامًا. ولكن هذه الصور تودّ أن تبيّن أن الله قريب جدًا من الانسان، ولاسيّما الانسان البار. فهو يعرف كل شيء ويتحدّث معه وكأنه يجهل كل شيء.
لم يرَ سارة ولم يسمعها، ومع ذلك أكَّد بطريقة لا تقبل الشكّ، أنها ضحكت وأنها اعتبرت هذا الامر صعبًا: "ضحكت سارة في نفسها وقالت". ما كان جواب الرب، تأنيبًا لسارة، ولكن تثبيتًا لوعد قديم: لست بحاجة إلى أن تقولي: لم أضحك. فستضحكين حقًا حين يلد الولد الذي وعد به الرب.

3- تشفع ابراهيم (18: 16- 33)
نقرأ في آ 17- 19 مقطعًا لاهوتيًا هامًا: الله يعتبر أن ابراهيم هو صديقه، هو صفيّة. لهذا فهو لا يريد أن يخفي عليه مشاريعه. لا يريد أن يعرف ابراهيم من الآخرين ما سيفعله الله بسدوم. فعمل الله الخارجي في التاريخ يبقى خفيًا على البشر في الظروف العادية. ولكنه سيكشف لابراهيم. فالعلاقة بين الله وابراهيم علاقة من الثقة والحياة الحميمة. يقول النص: عرفته. وهذه المعرفة هي علاقة حميمة بين شخص وآخر، تتفتَّح في الاختيار والمحبة والصداقة. ولهذا نترجم: "أنا اخترته ليوصي بنيه وأهل بيته" (آ 19).
ولماذا هذا الاختيار؟ لأن ابراهيم أوكل بمهمّة تعليمية حتى بالنسبة إلى سدوم (2 بط 2: 6). هناك عبرة سيتّخذها ابراهيم وبنوه من الدينونة التي حلّت بسدوم. حكم الرب على المدينة الخاطئة، ولكن باب الرحمة لم يُغلق نهائيًا. والله مستعدّ أن "يتراجع" عن حكمه شرط.. أو بالأحرى، الخطيئة هي التي تحمل دينونتها وعقابها في ذاتها. والرب يسعى إلى تحويل القلوب.
ويبدأ حوار و"مساومة" بين الله وابراهيم. ويُظهر ابراهيم في هذا الحوار جرأة كبيرة وتواضعًا عميقًا. جرأة تنبع من ثقته بالله وقد أسّس حياته على كلامه، وعوف أنه محبوب الله وخليله. وتواضع إذ عرف نفسه انه أمام الرب تراب ورماد. هل تستطيع الخليقة أن تقول لخالقها: لماذا خلقتني؟ هل تستطيع الجبلة أن تقول لجابلها: لماذا جبلتني؟
ستدمّر سدوم كلها. ولكن هل سيهلك البريء مع الخاطئ؟ وحاول ابراهيم أن "يساوم". فقد ينجو الابرار وينجو معهم الاشرار. فالله عادل في أحكامه مهما خفيت على البشر. أجل، أراد ابراهيم أن يحارب بواسطة الأبرار لينجّي المدينة الخاطئة. ولقد كان وصل إلى هدفه لو وجد عشرة أبرار في المدينة. فالله العادل هو أيضًا إله الرحمة وإله الجود. فتنفتح ينابيع نعمه على الخطأة فيرجعون إليه.
صلّى ابراهيم بدالة الابناء الاحبّاء. هو لا يطلب شيئًا لنفسه، بل يطلب الرحمة لشعب سدوم مستندًا إلى وعد الله أنه لا يريد موت الخاطىء.

خاتمة
هذا هو وجه الله الذي اكتشفه ابراهيم. استقبله كضيف ولم يعرفه إلاّ بعد تناول الطعام عنده. فصار شبيهًا بتلميذي عماوس اللذين لم يعرفا يسوع القائم من الموت إلاّ بعد كسر الخبز (لو 24: 30- 31). وتقبّل بركاته في صمت عميق تاركًا لسارة أن تضحك وتتساءل عن امكانيّات الله وقدرته. وفي النهاية عرف فيه ذلك الذي لا يريد موت الخاطئ، ذلك الرحوم الذي يرضى أن "يساوم" البشرُ معه. فقلبه المحب يتحلّى بالضعف، ويسير مع البشر على طرقاتهم ليعود بهم إليه. إرجعوا إليّ فأرجع إليكم، يقول الرب الاله.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM