الفصل الأول: وجه الله في أرض كنعان

الفصل الأول
وجه الله في أرض كنعان

نحن نعلم بفضل تاريخ الديانات أن التوراة لم تخترع السم الله، فقد كانت أسماؤه عديدة في الشرق عامّة وفي أرض كنعان خاصّة. وحين دوّن الكتاب البيبليّون كتبهم أحسّوا بالضياع أمام العدد الكبير من أسماء الله، وأمام ما يشير إليه كلّ اسم من هذه الأسماء. وإن التوراة التي تأثّرت بأحداث تذكرها دون أن تتوسّع فيها، بدت الشاهدة على هذه المواجهة بين إله عبده شعب اسرائيل وآلهة شعوب الشرق القديم مع الحياة الدينية لهذه الشعوب، بل مع الحضارات الدينيّة لعالم كنعان.
ما يهمّ الانسان في هذا الشرق أولاً ليس الكون أو العالم. فإنك إن بحثت لن تجد كلمة تدلّ على الكون ووحدته. هو يتكلّم عن السماء والأرض فيدلّ على الكون الذي يحيطه بوجوده. إن إنسان هذا الشرق يفكّر أولاً بوجوده وبمستقبله وسط وجودات أخرى. هناك عالم الكواكب، عالم الشمس والقمر والنجوم. هناك عالم الطبيعة من جبال وسهول وأنهار وبحار. وهناك عالم الحيوان والنبات. والمسألة الدينية بالنسبة للانسان هي مسألة علاقته مع القوى الطبيعية، ومع القوى الاجتماعية والقبلية والسياسية التي يعيش فيها. إنه يتأثّر بكل هذه القوى في جماعة يتصل الافراد بعضهم ببعض. وإن لكل من هذه القوى اسمًا مأخوذًا من أسماء ظواهر تحيط بالانسان الذي يعطيها بُعدًا جديدًا. فالظاهرة المنظورة أو الملموسة (الكواكب، الينابيع، الحيوانات) تشير إلى قوّة غير منظورة يحسب الانسان لها حسابًا. كل لغة دينيّة تلجأ إلى الاستعارة والرموز لتؤثّر في الانسان. وهذا ما فعله الأقدمون حين ذكروا "الآلهة" وعملهم في حياة البشر.
والمجموعة التي يولد فيها الانسان ويحيا، لها تاريخ طويل قد سبقه بأجيال وأجيال. والاله الذي يهتمّ بقوّته هو ذلك الذي يحييه ويحميه بهذه القوة. غير أنّ هذه المجموعة التقت بقوى أخرى، طبيعية أو اجتماعية، فطبعت هذه اللقاءاتُ ذاكرتَها. لهذا، فهي لا تستطيع أن تنكر وجودها. لهذا تبدو كل مجموعة في أصلها متعبّدة لآلهة عديدة. فتعدّد الآلهة لدى كل مجموعة مطبوع بما عاشته تلك المجموعة. وحين تنظّمت القبائل العبرانية في دولة موحّدة وفي محيط جغرافي واجتماعي محدَّد، وجدت أن الشرك (تعدد الآلهة) يعكس تاريخًا بل تواريخ متعددة.

1- العالم السابق للتوراة
لا نملك عن هذا التاريخ إلاّ معطيات جزئية. ولكن ما نملك يكفينا لكي نتعرّف إلى تشعّبات هذا العالم الديني في الشرق القديم، حيث ولدت التوراة، ولكي نحدد موقع التوراة في إطار هذا التعدّد الديني وتأثير الحضارات الكبرى في أرض كنعان التي دخلت إليها القبائل العبرانية.
هناك معطيات نجدها في التوراة نفسها، وهي تبدو بشكل أجسام تائهة أقحمتها الشميلات اللاهوتية في هذه التوراة. أخذها الكتّاب الملهمون عن تقاليد قبليّة أو محليّة سابقة. فاختاروا منها ما اختاروا بالنظر إلى التاريخ الديني والوطني الذي يعرضونه على معاصريهم. وغالبًا ما تدهشنا هذه المعطيات لغرابتها، بل هي حيّرت المدوِّنين أنفسهم الذين أحسّوا مرارًا بالحاجة إلى اعادة تفسيرها. ولكنها رغم كل شيء، أتاحت لهم أن يحافظوا على ذكريات مهمّة في حياة هذه القبائل. وهكذا وجَّهوا نظر القارئ نحو وحدة الشعب الذي كوّنه الله وسط شعوب سيطر عليها الشرك وتعدُّد الآلهة.
نقرأ في أش 43: 1- 3: "والآن هكذا قال الرب خالقك، يا يعقوب، وجابلك يا اسرائيل. لا تخف فإني قد افتديتك ودعوتك باسمك وقلت لك: أنت لي. إذا اجتزت في المياه فأنا معك، أو في الأنهار فلا تغمرك. وإذا سلكت في النار فلا تلذعك ولا يلفحك لهيبها، لأني أنا الرب الهك قدوس اسرائيل مخلصك".
كان للشعب العبراني أسماء عديدة ارتبطت بالقبائل التي تكوّن منها. كانت قبيلة يعقوب التي تسمَّت كذلك باسم جدها، وقبيلة اسرائيل التي تفرّع منها رأوبين وشمعون. وقبيلة يوسف التي ارتبطت بها قبيلتا منسى وافرائيم، وقبيلة يهوذا التي عرف فيها خاصة بنو كالب (رج بني كلب بين القبائل العربية).
دوّن هذا النص في أيام المنفى إلى بابل، ساعة وجد الشعب العبراني نفسه محرومًا من عاصمته أورشليم ومن هيكله المقدس ومن ملكه. وجد نفسه محاطًا بالاخطار وأهمها الماء والنار، وجد نفسه محاطًا بالاعداء، فتطلّع إلى الله القدوس الذي يتميّز عن كل الآلهة، والذي خلّص شعبه وناداه باسمه. نحن هنا أمام فعل إيمان بإله قريب من البشر. الله هو إله القبيلة وهو يخلّص قبيلته دون سواها. لم نزل بعيدين عن الاله الذي يهمه الكون كله فلا ينحصر في إطار قبلي أو وطني ضيّق.
ونقرأ في تك 10: 1 ي كيف تقسَّم أولاد نوح. هناك بنوحام من مصريين وكنعانيين وصيدونيّين وحثّيين. وهناك بنو يافث الذين عُرفوا على شواطئ البحر المتوسط من اليونان (ياوان) حتى اسبانيا (ترشيش) مرورًا بقبرص ورودس. وهناك أخيرًا الساميون الذين تسمّوا باسم آبائهم: عيلام الذي أقام على هضاب بلاد فارس (ايران الحالية) وأشور الذي أسّس دولة امتد نفوذها من العراق حتى البحر المتوسط، وأرام جد الآراميين. ولا ننسى عابر الذي هو أبو قبائل عبيرو المذكورة في التاريخ القديم.
ويُجمل النص كلامه في نهاية هذه النبذة "التاريخيّة"، فيقول: هؤلاء هم بنو سام بعشائرهم، هؤلاء هم بنو نوح بأممهم. وهكذا حدّد الشعب العبراني موقعه وسط الشعوب العائشة في الشرق القديم، بل في العالم المعروف آنذاك.
وظهرت الكتابة في هذا العالم الذي يعجّ بالحياة، فبدأت الحضارة. والحضارة هي المدينة التي تحتاج إلى من يدير شؤونها ويمسك حساباتها. وكانت كل مديورة. غير أن هذه المدينة لم تكن قلعة معزولة عمّا سواها ومنغلقة على نفسها. فهي بحال إلى حقول تزرعها فتطعم شعبها. كانت هذه المدن بالأحرى مراكز تجارة وتبادل بين الريف والمدينة، بين مدينة ومدينة. ولكن عرفت هذه المدن توتّرًا في الداخل، وكانت منازعات دفعتها لكي تدافع عن نفسها أو تهاجم جارتها. وتجمّعت هذه المدن الدويلات في ممالك واسعة كما كان الامر بالنسبة إلى مصر أو بلاد الرافدين (أي العراق اليوم)، أو هي ظلّت مستقلّة الواحدة عن الاخرى كما في فينيقية (صور، صيدون، جبيل) وأرض آرام (دمشق، صوبة، حلب).
وبرزت تقنيّات عديدة، وتنظّمت أمور الزراعة، فعرفت مصر وبلاد الرافدين وما يتوسطهما من مدن، حضارات سبقت بآلاف السنين ما ستعيشه الصين أو أوروبا أو أميركا السابقة لاكتشاف كرستوف كولمبس لها.
وإذا ألقينا نظرة إلى هذا الشرق الاوسط في نهاية الالف الرابع (حوالي سنة 3000 ق م)، سنجد شعوبًا صغيرة قريبة من البحر المتوسط، وهي تسعى لتنظيم حياتها الصعبة والشاقة على حدود الجزيرة العربية. يسمي البابليون هؤلاء الشعوب الغرب أو أمورو (من هنا الاموريون). ويسميهم المصريون آسية بأسمائها المتعددة ولاسيما كنعان. واليونانيون، سورية- فلسطين. نلاحظ في هذه المنطقة المكوَّنة مما نسمّيه أليوم سورية ولبنان وفلسطين والاردن تنوعًا غريبًا وتفاعلاً ظاهرًا. فالناس يتنقّلون جماعات، فيسيرون بمحاذاة الارض المزروعة أو هم يقيمون في المدن ويمتزجون بالسكان. وستكون ضغوطات تقود إلى وحدات سياسيّة سريعة العطب.
نجد مثلاً في سفر التكوين عن هذا التنقل. فابراهيم سار وقبيلته من أور في الجنوب العراقي (تك 11: 31) إلى حاران في الشمال، قبل أن يمضي إلى أرض كنعان (تك 12: 5). وسيصل به تجواله إلى مصر، يوم اشتدّ الجوع في الارض (تك 12: 10). وسيعود ابراهيم ويقيم في الجنوب أو ما يسمَّى اليوم صحراء النقب (تك 12: 1).
كانت بلاد الرافدين السبّاقة إلى الحضارة، على ما يبدو. فاكتشف السومريون هذا الكتابة التي تصبح فيها الكلمات المصوّرة مقاطع صوتية. وفي منطقة مرويَّة بفضل دجلة والفرات، كان الناس يعدّون حيوان قطعانهم بواسطة زهر النرد، ويتاجرون مع جيرانهم الذين يملكون الخشب والمعادن. وتجمَّعوا حول هياكل وقصور مبنيَّة باللبن الذي يتفكَّك سريعًا. أقام رؤساؤهم في القصور واستعانوا بكتبة. وتكوَّنت أولى السلالات الملكية التي تعاقبت أو تواجهت بين مدينة وأخرى. عرف السومريون لغتين: أمانيتا، أماسال.
لا تزال هاتان اللغتان تطرحان الاسئلة على العلماء، وكانت قد طرحت أسئلة عويصة على جيران السومريين، على هؤلاء الساميّين المقيمين في الشرق. اختلفت لغتهم عن لغة السومريين، ولكنهم أخذوا كتابتهم وحاولوا أن يقدّموا لوائح في اللغتين. مثلاً الاسم الالهي في السومرية هو: أن، وفي اللغة السامية (الاكادية): إل، إيل، إيلو.

2- إيلو، إيل، إلوهيم لدى الساميين
من الاكيد أن إيل (و) الذي تحدّث عنه الساميون الشرقيون (ما يقابل العراق) هو إيل الذي تحدّث عنه الساميون الغربيّون (أي غربي الفرات). فهناك أسماء علم يدخل فيها اسم الله. فكما نقوله اليوم: عطالله، شكر الله، نصر الله، وُجدت أسماء في الماضي مثل: اسماعيل (الله يسمع)، يسرائيل (الله هو عادل)، عتنيئيل، اريئيل.
يقابل إيل أو ايلو في العربية: الله. ولكن ماذا كانت تعني هذه الكلمة بالنسبة إلى الساميين القدماء؟ نصطدم هنا بتشعّب أصول الكلمة. إيلو هو اسم الله. انتشر انتشارًا واسعًا منذ الالف الثالث ق م، وعرف شكلين لم يكن لهما المعنى عينه. تقرأ بلاد الرافدين: إيلو. إنه يقابل في القواميس السومرية السامية التي ألّفها علماء ذلك العصر: أن السومري. كلمة مؤلفة من مقطع صوتي واحد وهي علامة النجمة. هي نجمة سمت الاله السامي أنو. ولكننا لا نجد ما يقابل إيلو في الجذور السامية. وسنجده مكتوبا بصورة خاصّة في إبلة (تل المرديخ بجوار حلب في سورية) حوالي سنة 2300 ق م. ونظن أن الكتبة تأثَّروا بالنجمة السومرية فجعلوا الكلمة تشتق من جذر سام: علا (علو) الذي يعني ارتفع وتسامى.
ولكن الصفات السامية في الغرب والجنوب توجِّه أنظارنا نحو جذر آخر ومعنى آخر. هناك "أي" وقد تصير "أو". وهكذا يعني إيل "الاول". ولكن الجذر "أي" يعني قوّة الحياة. إيلون (رج في السريانية إيلونو) تعني السنديانة القويّة. وأيّل يعني الكبش الجبّار الذي يسير في مقدمة القطيع. هكذا فسّر الكاتب البيبلي كلمة "يسرائيل": إيل هو قويّ". إن هذه الاسم الالهي يشير إلى القدرة وإلى الاولوية.
يروي سفر التكوين هذا الحدث من حياة يعقوب يوم أراد أن يعبر الوادي قبل ملاقاة "أخيه" عيسو. "وبقي يعقوب وحده. فصارعه رجل إلى مطلع الفجر. ولما رأى أنه لا يقدر عليه، لمس حق وركه فانخلع حك ورك يعقوب في مصارعته له. وقال الرجل: اطلقني قبل أن يطلع الفجر، فقال يعقوب: لا اطلقك قبل أن تباركني. فقال له: ما اسمك؟ قال: يعقوب: قال: لا يكن اسمك يعقوب فيما بعد بل اسرائيل، لأنك كنت الأول عند الله وستتغلّب على البشر. وسأله يعقوب وقال. عرِّفني اسمك. فقال: لم سؤالك عن اسمي؟ وباركه هناك. وسمَّى يعقوب الموضع "فنوئيل" قائلاً: إني رأيت الله وجهًا لوجه ونجت نفسي" (تك 32: 24- 30).
نجد هنا تقليدًا أول يجعل يعقوب وكأنه اسرائيل. ولكن من المعلوم أن يعقوب هو غير اسرائيل. يعقوب هو زوج راحيل ووالد يوسف وبنيامين. كان مقامه قرب بيت إيل. أما اسرائيل فهو زوج ليئة ومقامه قرب شكيم. ولكن الكاتب جعل من الشخصين شخصًا واحدًا، بعد ان اجتمعت القبيلتان في وحدة سياسية.
لا يكشف الله عن اسمه لأنه سري. وهو الذي يبدلّ اسم يعقوب، لأنّ له ملء السلطان على البشر، وسوف يباركه.
كان الناس يعتبرون أن وجه الله لا يُرى. فمن رأى وجه الله عاجله الموت. ولهذا يقول يعقوب: رأيت الله ونجت نفسي.
يورد هذا النص ما يسمّى بالخبر الاتيولوجي أي الخبر الذي يبرِّر عادة من العادات أو تسمية من التسميات. لماذا لا يأكل بنو اسرائيل عرق النسا؟ الجواب: لأن الرب لمس حُق ورك يعقوب على عرق النسا. لماذا سمِّي هذا الموضع فنوئيل؟ أجاب: لأن يعقوب رأى الله هناك وجهًا إلى وجه، وكلمة فنوئيل تعني وجه إيل أو وجه الله.
إذن، الاله إل هو قوّة حياة على هذه الأرض. ويسمّى "إليم" أو "إلوهيم". هذا ما يعتبر جمع الجلال كما في اسم اله فرعون الذي تتحدّث عنه رسائل بعث بها شعب كنعان إلى أمينوفيس الرابع (القرن 14 ق م، هذا ما يسمى رسائل تل العمارنة). وهناك الالاهات اللواتي تجهلهنّ التوراة. وإن أوغاريت (راس شمرا، شمالي اللاذقية في سورية) التي يبدو شعبها قريبًا من الكنعانيين، قد عرفت ثلاثة "إل" (أو آلهة): ال الآب، ال في معبد صفون، ال ثالث لا تحديد له. ولكن عدد الآلهة غير محدَّد. وسيتكلم الحثّيون الذين أقاموا في أناضول تركيا عن "الف إله لدى حاثي". فكل مرّة التقى رجل (أو امرأة) في وجوده بقوّة تُلقي بثقلها على تصرفه (خيرًا كان أم شرًا)، حسب أنه واجه إلها. قد تكوّن هذه القوّة كونيّة (الكواكب) أو فيزيائيّة (الرياح، الينابيع، الجبال) أو سياسيّة (آلهة القبائل، آلهة الأرض، آلهة المدينة) أو جسدانية (مرض أو شفاء) أو عقلية (عقل الانسان وإرادته).
يتداخل عالم الآلهة وعالم البشر تداخلاً لا ينقطع، أو بالاحرى العالمان عالم واحد، لاسيّما وأننا لا نجد لفظة تدلّ على الكون أو على العالم. هناك قوى تنتج، تتوالد، تدمّر، والانسان واحد منها: يقدر الفرد أن ينتج ويتوالد ويدمّر، أما القدرات الالهية فهي من نوع آخر، وقد يستفيد الانسان منها أو يكون ضحيّتها. ففي مجلس الآلهة لا يسود دومًا النظام والتنسيق. وتصرّف الآلهة قد يكون قاسيًا أو رقيقًا تجاه الانسان. الآلهة هم أشخاص كالبشر، ولهذا يكلّمهم الانسان بالصلاة، ويقوتهم بالتقدمات والذبائح. وهكذا نبتت شعائر العبادة مع الولائم في مكانا مكرّس، "في المقدس". للآلهة مقام خاص بهم كما للبشر. وكلمة "مقدّس" أو "قدوس" تتضمّن لدى الآلهة والالاهات تصرفًا محيِّرًا وغير منتظر. نذكر هنا مثلاً الالاهة "قادش" التي ستُعبد في مصر فتقابل عناة أو عشتار ملكة السماء.
وسيهتف أحد الحكماء في حوار متشائم: "قلب الاله بعيد مثل أعماق السماوات. معرفته صعبة والناس لا يعرفونه". وفي مكان آخر نسمع تائبًا يعلن في صلاته: "كنت جاهلاً فأكلت ما حرّمه الهي. كنت جاهلاً فوضعت رجلي في مكان حرّمته علىّ إلاهتي". ونقرأ في اللوحة التاسعة من ملحمة غلغامش: "لقد امتحنني إله أعرفه أو لا أعرفه. لقد ضيّق علي اله أعرفه. أو لا أعرفه". فتصرُّف الآلهة يتجاوز فهم الانسان. إنه اعتباطي بل لا أخلاقي في أغلب الاحيان. نحن لا نعرف لماذا أثار إله الجوّ إنليل الطوفان. وفي خرافة أخرى، أدّى زنى إنكي مع رفاقه إلى نتائج غريبة. فالآلهة يسمحون لنفوسهم ما لا يسمحه المائتون لنفوسهم، وسيُعمل المفكّرون مخيّلتهم ليجعلوا الناس يدركون تصرّف هذه القوّة التي يواجهونها. لا تتضمّن هذه الميتولوجيا أية عقائد، بل هي تعبِّر عن حقيقة حياتيّة تدخل في قالب شعريّ يعبّر عن رغبات البشريّة ويوافق حاجاتها الليتورجية والاجتماعية.
يتعدّد الآلهة وتتنوّع الميتولوجيات، فيُعطى للآلهة المختلفة الصفات عينها: الخصب والصلاح، البهاء والقدرة. ويدرك دارس الميتولوجيات الظاهرة الرئيسية التي يجب عليه فيها أن يصوّر تصرّف هؤلاء الآلهة. فهزيمة إله الحنطة بعد حرّ الصيف تصوَّر بصورة حبّة القمح التي تنضج وتُحصد: إنها تُمسك وتُقطع وتُذرى وتُحرق وتُطحن وتُشتَّت في الحقول. لا يبدو الآلهة الساميون بوجه بشريّ كآلهة اليونان، حتى ولو كان بعض هذه الآلهة جاء من عالم الشرق (أدونيس، رج أدون أو السيّد). ويتزاحم هؤلاء الآلهة مرارا: فعليون بعل، اله العاصفة الذي يخصب الحقول، يختفي خلال الصيف ثم يظهر من جديد في الخريف بعد انتصاره على إله الحصاد الذي تحدّثنا عنه. والصراعات بين الآلهة السياسيّين هي أكثر وضوحًا من الحروب في الظاهرات الطبيعية: فعلى الانسان أن يختار بين آلهة مدينتين أو بين إلهين يرتبط كل واحد بسلالة ملكية. حين ينتصر صاحب سلالة ينتصر الهه، ولكنه لا يقرّ به الهًا واحدًا حتى وإن حصل أن يمَول ذلك في حميّا الشعر.
وستكون المراكز الدينية الكبيرة مجالس يكون فيها للآلهة الكبار والآلهة الصغار مكانتهم وعبادتهم. فمنذ الالف الثالث، عبّرت ثلاث مدارس لاهوتيّة في مصر عن تناسق في عالم الآلهة بشكل ولادات وإنجابات متعاقبة. أولاً: لاهوت هليوبوليس. هناك 9 آلهة (الانيادة الالهية) ينبثقون من رع، الاله الشمسي. ثانيًا: لاهوت ممفيس: إن الآلهة هم أعضاء وصفات الاله بتاح، اله العاصمة الجديدة. ثالثًا: لاهوت هرموبوليس. يخرج الاله الشمس من أربعة أزواج أولانيين. وفي مجلس الآلهة البابلي سيكون على رأس الآلهة الكونيين مثلّثان اثنان. المثلّث السامي مع انو (ايلو)، انليل، انكي (ايا) أي السماء والجوّ والأرض. ومثلّث ثانوي مع الشمس والقمر والالاهة عشتار. والالاهة عشتار هي سيّدة السماء ونجمة الصبح وأمور أخرى غيرها. ومردوك، اله بابل، سيكون في النهاية المنتصرَ الاكبر. سيرث كل الاسماء. أي وظائف كل الآلهة الذين يخضعون له دون أن يزولوا (ما عدا المتمرِّدون). ومجلس آلهة أوغاريت يتألف من ثلاثة "اليم" يتبعهم سبعة أبعال. لا يعرف منهم إلاّ بعل معبد صفون (سيُعبد حتى القرن الرابع ب م في جبل كاسيوس). وتُعدِّد اللائحة سلسلة من الآلهة المختلفين قبل أن تصل إلى أعمال عبادة أو آنية عبادة مؤلَّهة.
وإن مجالس الآلهة هذه تعكس تاريخ العشائر والقبائل والامم، التي أثَّرت تحركاتُها وعلاقاتها في عبادة الآلهة وفي فكرتنا عنهم. حين تلتقي عشيرة بعشيرة أخرى، تفسح المجال في عبادتها لآلهة تلك العشيرة. وحين ينتقل شعب من مكانه، فالتقلّبات الطقسيّة قد تجرّ اختلافات سوسيولوجيّة. مثلاً: حين تعيش قبيلة من الصيد والقطاف، فهي ستواجه مسألة دينية حين تلتقي قبيلة حضريّة تعيش من الزراعة ومن لحم الحيوانات الداجنة. نجد خرافة أوغاريتية تعبّر عن هذا التوتر حين يشارك الاله إل الذي يحبّ الطرائد في طعام قدمت فيه الالاهات لحم الحيوانات الداجنة. لحم الحيوان الداجن هو شرّ، وعلى الالاهات أن ينطلقن إلى الصيد ليشفينه.
الآلهة هم قوّة حياة بالأشكال المتنوّعة التي تتّخذها الحياة البشرية. إنهم يختلفون عن البشر في أنهم لا يموتون. هذه صفة مشتركة بينهم. قالت سيدوري صاحبة المقهى، لغلغامش البطل الساعي إلى الخلود: "حين خلق الآلهة الانسان، أعطوه الموت نصيبًا، واحتفظوا لهم بالخلود". وحين توجَّهت الالاهات إلى الاله السامي لدى الساميين في أوغاريت، قلن له: "رأيك حكيم يا إيل، وحكمتك أبديّة، رأيك هو حياة سعيدة". بدا بعل وكأنه مات، وقام الاله السامي بشعائر الحزن فوق جثّته. ولكنه سيكتشف فيما بعد فرحًا أن بعل هو حي. إن بحل يقابل الاله سيت في مصر. انتصر عليه مرارًا وضايقه الاله حورس، ولكنه ما زال يصارعه. وتبقى هذه القوى حاضرة وإن لم تعد فاعلة. هي دومًا هنا، ولو صار الانسان جثة هامدة، ولو جاء الجيل بعد الجيل، ولو زال شعب من الوجود تاركًا أرضه لشعب آخر. قد يزول الآلهة مع شعائر عبادتهم، ولكن هدفه الشعائر تستطيع أن تنتقل من حضارة إلى حضارة. فالاله السامي داجون، اله الحصاد، قد تبنَّاه الفلسطيون الذين أقاموا في كنعان.

3- أسماء الله في القبائل الاسرائيلية
يقول يش 24: 2 إن آباء ابراهيم عبدوا "آلهة أخرى" حين سكنوا في الجهة المقابلة (عبر النهر) لنهر الفرات. هذا ما قاله يشوع القائد الافرائيمي في خطبة تفوًّه بها في شكيم، وأعلن في تلك المناسبة: "ان كان يسوءكم أن تعبدوا الرب (ينهوه)، فاختاروا لكم اليوم من تعبدون: إما الآلهة الذين عبدهم آباؤكم في عبر النهر، أو آلهة الأموريين الذين أنتم مقيمون بأرضهم. أما أنا وأهل بيتي فنعبد الرب" (يش 24: 15). ثم قال يشوع للشعب: "لا تستطيعون أن تعبدوا الرب، لأنه اله قدوس، اله غيور، لا يصبر على ذنوبكم وخطاياكم" (يش 24: 19). اجتمع الشعب هناك قرب سنديانة (بلوطة: ايله، رج آ 26) تشبه سنديانة (ايلون، تك 12: 6) الرائي أو العرَّاف (موره)، التي بقربها "بنى ابراهيم مذبحًا للرب الذي تجلَّى له". ولكن حين وصل يعقوب إلى شكيم في "أرض كنعان" (تك 33: 18)، أقام هناك مذبحًا ودعاه باسم "إيل، إله اسرائيل" (تك 33: 19). فاسم اسعوائيل يحمل في ذاته اسم إيل. إن اسم اسرائيل يظهر للمرة الأولى في التوراة في تك 32: 28، في شرقي الاردن، على وادي يبوق (في فنوئيل)، يوم انفصل "يعقوب" عن الآراميين الذين يمثّلهم لابان. ويقول تك 48: 22 إن يعقوب "احتلّ شكيم على الاموريين بسيفه وقوسه"، من خلال قبيلة يوسف. ويقول منفتاح إن رعمسيس الثاني، (في نهاية القرن 13 ق. م) التقى في كنعان اسمها اسرائيل. لم تكن هذه القبيلة قد دخلت بعد في عالم الحضر، وسيضايقها الجيش المصريّ في المكان الذي كانت تتنقّل فيه. أما قبيلة يوسف فتضمّنت افرائيم ومنسّى. نحن هنا ولاشكّ أمام عشيرة منسّى التي أقام ماكير بكرُها في جلعاد، شمالي يبوق ومحنائيم (يش 13: 30)، قبل أن يعبر الاردن وينضم إلى افرائيم وبنيامين وزبولون فينزل إلى السهل (قض 5: 14- 15) في أيام دبورة. وسنجد فيما بعد قرب أهل شكيم وهيكل "إيل بريت" (إله العهد) (قض 9: 46) عشيرة "اسرائيل". وباسم الاله إيل وُلد في منسى ابنا ماكير "على ركبتي يوسف" (تك 50: 23)، وهذا يعني أنه تبنّاهما. سيتوحّدان بعهد وميثاق مع بني افرائيم، قبيلة يشوع، الذين أقاموا جنوبي شكيم.
أما بالنسبة إلى قبائل الشمال، فإله الآباء هو إيل حتى زمن موسى ويشوع. هكذا يسمّى في النصوص الالوهيمية الواردة في سفر التكوين. هنا نقابل الحادث المذكور في تك 20 (قال ابراهيم عن سارة إنها اخته) والذي يرتبط بالتقليد الالوهيمي (أتى الله أبيمالك في الحلم، آ 3، ولما جعلني الله أرحل، آ 13: الوهيم)، وذلك المذكور في تك 16 (قالت ساراي: حبسني الرب عن الولادة، آ 2) والذي يرتبط بالتقليد اليهوهي. ونجد أيضًا اسم ايل في النصوص التي يُدعى فيها إله الآباء يهوه (نصوص يهوهية). إن ابراهيم يسمي الهه إيل، ويتعبَّد له في بئر سبع (إلعولام، تك 20: 33). وفي اورشليم (ايل عليون، قونه إرص: الاله العلي مالك الارض، تك 14: 19- 22). وكذا نقول أيضًا عن يعقوب في بين إيل (تك 28: 19). إن إيل هذا هو الازلي السامي، خالق (فعل قنى) السماء والأرض. وليس أيَّ إيل كان، ولكن سماته هي سمات إيل العظيم الذي يعبده الساميون في أوغاريت. إنه الاله البعيد والمتعالي. هو لا يقيم في السماء ولا تحت الأرض، بل على حدود الاوقيانوسيَين حيث تجري الانهر. هو أبو الآلهة والملوك والبشر. إنه عطوف ومحب، وهو يبارك البشر ويعطيهم نسلاً. إنه ملك، وهو نموذج الملوك بفضل حكمته. يستطيع أن يشفي حيث يفشل سائر الآلهة. ونحن نفهم أن يكون الآباء قد قبلوا بأن يقدّموا شعائر العبادة إلى إلههم الذي يسمّونه بهذا الاسم، لاسيّما وأنّ عالم الجنس الحاضر في عبادة بعل، كان ضعيفا في عبادة ايل.
ويُسمَّى إيل أيضًا في سفر التكوين "إيل شداي". فشداي هو تسمية اله الآباء في النصوص المتأخرة (أي خر 6: 3). أما في النصوص القديمة وبالاخص في مباركة يعقوب لقبيلة يوسف (تك 49: 25)، فشداي يوازي ايل (أو إله) أبيك (هل هناك علاقة عبادية بين "شداي" و"إله الأب"؟ الامر ممكن). وفي أقوال بلعام النبوية (عد 24: 4، 16، نص يهوهي)، شداي هو الاسم الذي يعطيه العرّاف والرائي لإلهه، وهو ينقل في الوقت عينه "أقوال" "إيل". تلفّظ بلعام بهذا القول على حدود موآب، في مكان لا يبعد كثيراً عن "غابة افرائيم" (2 صم 18: 6) وعن معبد دير عَلَّه حيث دوّنت رؤى بلعام نفسه على جدران مطليَّة بالكلس: فالاله هناك هو أيضًا "شداي". جاء بلعام من فاتور (فترو، عد 22: 5) الواقعة على الفرات، حيث سمّي الاله الاموري "بعل شدي" أي سيّد الجبال. هذه هي الصفة التي ينسبها الاراميون إلى إله اسرائيل (1 مل 20: 23). ويسمي سفر أيوب (28: 11) الله شداي ويذكر أن الينابيع تجري من الجبال. ولكننا نستطيع أيضًا أن نفكّر بالاله المحامي، بشادو إله بلاد الرافدين.
وإله بيت يوسف (إله منسّى أو افرائيم) يسمَّى أيضًا "صخر اسرائيل" (قد تعني العبارة مصوّر أو خالق اسرائيل). فهناك عدة أسماء. أمكنة تدعى "صخر" أو "حجر": حجر "بوهن" بن رأوبين (يش 15: 6). حجر عازر، حجر زحلت قرب أورشليم. إذا كانت عبادة شداي قد جاءت بالاحرى من أمورو، تلك المنطقة الجبلية في سوريا، فعبادة الحجارة جاءت من الجزيرة العربية، والحجارة تعرّفنا بالاماكن حين تتميّز بشكلها أو لونها. وتتكلّم النصوص عن الصخرة، التي هي علامة ثبات ومتانة. إنها كلمة "صور" في العبرية (1 صم 2: 2، تترجم صخرة. وقد تترجم "خالق ومصوّر". رج تث 32: 30- 31) التي تدلّ على إله اسرائيل في المزامير. وسيسمى أحد أمراء شمعون "صوري شداي"، أي شداي هو صخرتي (أو خالقي). وهكذا يجتمع الرمزان في عبارة واحدة.
وإذا عدنا أيضًا إلى مباركة يوسف نرى الله "يُدعى" "اب (ب) ي ر" (تك 29: 24؛ رج أش 1: 24). هذا ما يشير إلى قدرة الله بصورة مختلفة: المعيار أو بالأحرى الجواد الجموح (ار 8: 16؛ 47: 3؛ 50: 11؛ رج ربما أش 10: 13). فاستعمال الجواد في الحرب خلال القرنين 17- 16 ساعد الشعوب الآتية من الشمال على اجتياح سورية وفلسطين. أتت مع الهكسوس (الملوك الرعاة) واحتلّت حتى أرض مصر... والتلميح إلى القوس ورماة السهام يجعلنا نفكّر بانتصار على ما سيصير أرض البنيامينين الذين اشتهروا كرُماة للسهام. وهناك عشيرتان من منسّى بن يوسف قد انتقلتا إلى بنيامين: مفيم (تك 46: 21 أو: شونيم) وحفيم (عد 26: 39؛ ق 1 أخ 7: 12، 15. ولا ننسى الفرزيين الذين أقاموا في أرض بنيامين). ان التقليد يجعل بنيامين يولد من راحيل على حدود افرائيم... ويتيح لنا تاريخ حياة القبائل المتشعّب أن نميّز كيف أن إيل الذي يتحكّم "بحياة السماء وبالغمر الذي تحت الأرض" (تك 49: 25؛ تث 33: 13- 16)، يحمل الوظائف التي نسبتها القبائل التي لم تزل مستقلة، إلى القدرة التي تعبدها.
وكانت سائر القبائل تحمل بدورها تقاليد دينية وتحتفظ بذكريات قديمة. فقبيلة جاد تحمل اسم إله عربي (أش 65: 11: أنتم الذين تركوا الرب ونسوا جبلي المقدس. الذين يهيّئون المادة لجاد ويعدّون الممزوج لمناة).
وقد انتقل اسم جاد (أو جد) إلى فينيقية فذكّرنا بالحظّ الطيّب، وقابل الاله اليوناني "تيخي". وحين تحضَّرت القبيلة أعطت اسمها لمدينة حدودية، بعل جاد (يش 11: 17؛ 12: 3، 5). وستتّحد قبيلة جاد اتحادًا وثيقًا بقبيلة أشير التي ولدت من الام نفسها: زلفة أمة ليئة (تك 30: 9- 13). واسم أشير يدلّ أيضًا على الحظّ الصالح، على الغبطة والسعادة. هذا حسب تك 30: 10. إلاّ إن أشير سيسكن على شاطئ البحر (قض 5: 17. قالت دبورة في نشيدها: لماذا وقف أشير على سواحل البحار وفي موانئه استقر؟) وستلتقيه جيوش فرعون في القرن 15 ق م. ونحن نستطيع أن نتساءل: أما يعود اسم "أشير" إلى الالاهة أشيرة التي سمِّيت "أشيرة البحر" في نصوص أوغاريت، والاهة صور والصيدونيين، هؤلاء الفينيقيين المقيمين على حدود هذه القبيلة. أما اسم دان فيشير إلى دينونة وعدالة الاله الشمس (رج ملا 3: 20).
على مثال الداني شمشون (الشمس هي شمش في العبريّة والآرامية والسريانيّة). واسم شمعون هو اسم القبيلة التي ستقيم إلى الجنوب بجوار اسماعيل، وهي تذكّرنا بالاله الذي يسمع (شمع أو سمع).
من النافل أن نبحث عن أسماء للآلهة في أسماء كل القبائل. غير أنه لا يجب أن ننسى أنه كان بقرب الاله الذي تجد فيه القبيلة قوّة تؤمّن تماسكها وتحميها، اصمنامٌ بيتيّة مثل "ترافيم": كانت تحمي المنزل. عملت راحيل على الاحتفاظ بها وخبأتها في مكان لن يبحث فيه عنها لابان الآرامي (تك 31: 34). كانت هناك شعائر عبادة في العائلة الموسعة، في العشيرة (مشفحة). مع تقدمة ذبائح (1 صم 20: 6، 29). وإننا نرى، قبل تكوين اسرائيل في وحدة منظّمة، او انطلاقًا من الشهادة التوراتية، أن هذه العشائر كانت تنتقل من قبيلة إلى أخرى. رأينا كيف انتقل حوفيم وشوفيم من منسّى إلى بنيامين. كان كرمي أولاً من قبيلة رأوبين (عد 26: 6؛ رج أخ 5: 3)، ثم انتقل إلى قبيلة يهوذا في قض 7: 18 (رج 1 أخ 4: 1). كان زارح من بني أدوم في تك 36: 13 فصار من بني شمعون في عد 26: 13، ثم من بني يهوذا في تك 38: 30 و46: 12. وفي أيام داود، ضمَّت قبيلة يهوذا إليها كل البيوت والعشائر التي تقيم جنوب أورشليم.
هل أخذت قبيلة يهوذا من قبيلة شمعون الاسم الالهي "فحد اسحق". إنه الاله الشاهد على المعاهدة بين يعقوب ولابان الآرامي، بجانب "إلوهيم" ابراهيم "واب (ب) ي ر" يعقوب. إلى أي نوع من الآلهة يشير "فحد" هذا؟ إنه يظهر في عشيرة حافر من بني منسّى، على أنه شفيع بنات صلفحاد الخمس (عد 14: 9: لا معنى له في العبرية أما في اليونانية فيعني: فحد هو ظلي أو المحامي عني). فسِّر الاسم في هذه المنطقة على أنه "الرعب" الذي يلقيه إله يعقوب في القلوب (1 صم 11: 7؛ تك 35: 5). غير أن التقاليد المتعلقة باسحاق تأتي من الجنوب، ونحن نجد اسم اسحاق في شمالي أورشليم، وبالأخص في بيت إيل (عا 7: 13؛ رج 23: 26)، بسبب لقب إله "أبي يعقوب". ولهذا اقترح بعض العلماء أن يروا في "فحد" الفخذ أو القريب. ويمكن أن نعود إلى كلمة "حمل" إذا ربطنا "فحد" باللغة السامية، فيكون حينئذ رمز قبيلة تعيش من تربية المواشي الصغيرة (ولاسيّما الغنم) في آخر الجنوب اليهوذاوي.
أما اسم يهوه فسيأتي من الجنوب، من حدود أدوم، مع وحي حوريب (أو سيناء) في البرية. وبانتظار موسى، سيسيطر اسم إيل في هذه القبائل السامية. وإن القبائل ستضع ثقتها في إله من هذا النوع يقدّم لها الخصب والقوّة والحماية.

4- الآلهة غير السامية في كنعان
حين دخلت القبائل إلى كنعان، اجتذبتها آلهة أخرى أقامت في البلاد. وحين تحضّر الفلسطيّون، وهم شعب غير سام، تبنّوا داجون، إله الحصاد السامي. أما القبائل السامية فاتخذت طريقًا معاكسة. امتزجت هذه الشعوب بأهل الأرض في منتصف الالف الثاني فأخذت بشعائر عبادة غير سامية.
كانت معابد مكرّسة لآلهة مصر التي سيطرت سيطرة سياسيّة على كنعان منذ سنة 1580 حتى سنة 1150 ق م. وبما أن التعامل مع الآلهة المصرية تعاملٌ عباديّ، فقد دلّ على الاله (نتر) سارية تحيط بها قطعة قماش وكأنها راية. وكانت هذه السارية مزروعة عند مدخل الهيكل. ثم إن الراية الالهية كانت ترافق جيوش فرعون. غير أن العلامة المميَّزة التي يضعها الكتبة أمام اسم إله هي صورة انسان جالس وملتح. وكانت اللغة الهيروغليفية تمتلك علامات مميّزة لكل إله، وهذه العلامة تدلّ على طبيعته: شمس من أجل "رع". جزء من الشمس من أجل حورس. عرش من أجل ايزيس. تمساح من أجل سوبك... نجد هنا أيضًا تمرّد الآلهة. قد يكون الاله خيِّرًا أو مرعبًا، وسيحاول الكتبة أن يرتِّبوا مجلس الآلهة في مصر.
ولا ننسَ الموجة الهندوأوروبية التي اجتاحت الأناضول حوالي سنة 1800 ق م، وتركت آثارها في بلاد الرافدين حوالي سنة 1500، وأثّرت تأثيرًا لا يستهان به في أرض كنعان. وصل الاحتلال الحثي حتى نهر العاصي. ثم إن امراء يحملون أسماء هندو أوروبية دخلوا كنعان في القرن 14، ووصل الميسينيون عبر التجارة البحرية حتى شواطئ سورية وفلسطين. اسم الله عندهم: ديوس، تيوس، دايفا... في الأناضول الحثي، ما يقابل "ايلو" السامي هو "سيو" القريب من "سيوس" في لهجة أهل ليكأونية (هكذا يلفظون كلمة تيوس اليونانية التي تعني الله). ما هو المعنى الاصلي لهذا الجذر؟ القوّة، الروح، الوتد. فالكلمة تعبّر هنا أيضًا عن تقرّب من كائن يحسب له الانسان حسابًا. إنه يود أن يعرف الطريقة التي بها يتصرّف حين يُلزم حياته بهذا العمل أو ذاك. وتتوخّى المسألة الدينية أن تعرف كيف يتوافق عمل الانسان الحر مع أعمال أخرى تبدّل وضعه. سيقول القديس بولس فيما بعد للاثينيّين: إن القبائل تلمّست وبحثت عن القدرة التي تسود على هذا العمل. وإن هذا الاله المجهول كان أقرب إلى الانسان مما حسبته تلك القبائل: "إنه غير بعيد عنا. إنه واحد منا. فنحن فيه نحيا ونتحرّك ونُوجد" (أع 17: 27- 28).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM