الله ربّ الكون

الله ربّ الكون
المزمور الثالث والثلاثون

1. المزمور الثالث والثلاثون هو مزمور مديح ينشده المرتّل ليشكر لله عنايته بالكون وبالبشر، وتأتي آياته على عدد وترتيب الحروف الأبجدية. كتبه أحد معلّمي الحكمة فقال: كما أن كلمة الله خلقت كل شيء في سفر التكوين، كذلك تبدو حكمته في هذا المزمور وكأنها أوحت إلى البشر بمخطّطه في الكون وفي التاريخ. ينطلق المرتّل من الهيكل، فيتذكّر في الماضي ما بناه الله الخالق والمخلّص، وينظر إلى المستقبل حيث يخلق الله أرضًا جديدة وسماء جديدة بعد زوال السماء الأولى والأرض الأولى (رؤ 21: 1)

2. الله هو ربّ الكون والتاريخ، وكل شيء يخضع له.
آ 1- 3: مقدمة النشيد يتلوها الكاهن: تعالوا نرنّم للرب من أجل أعماله.
آ 6- 9: عمل الله الخالق.
آ 10- 15: عمل الله العادل.
آ 16- 19: اهتمام الله بخائفيه.
آ 20- 22: الخاتمة: صلاة واثقة إلى الله الذي يُعطي شعبه مطلبه.
الله خالق الكون وسيّده وينبوع خلاص لخائفيه. هذا ما يسمعه الشعب فيجيبون إلى كلام الكاهن: طوبى للأمّة التي إلهها الرب وللشعب الذي اختاره، فهو جابل قلوبهم جميعًا وعالم بأعمالهم كلّها. ويتوجّه النداء إلى الأبرار المستقيمي القلوب والطيّعين بين يديّ الله، لكي يمدحوا الله على أصوات آلات الموسيقى. أما سبب هذا المديح فهو فاعليّة كلام الله وصدقه وأمانته: لا رجوع عمّا فعله الله في الكون كما في التاريخ.
ويتحدّث المرتّل عن كلمة الله وحكمته التي ظهرت أولاً (أم 9: 13- 20) بتثبيت السماوات وتكوين الأرض. كلمته تأمر الكواكب في السماء، وتتسلّط على المياه التي تحت الأرض، فيخضع في الخوف كلّ شيء، لإرادة الربّ. كلمة الله أوحت بمخطّط لا يستطيع أحد أن يقف بوجهه: مخطّطات الأمم إلى الفشل، أما مخطّطات الله فتصل إلى ما عزم عليه، وهكذا يبدو التاريخ امتدادًا للخلق. فالإله الذي خلق هو الإله الذي خلّص، والإله الذي يكبح ثورة المياه يكبح أيضًا ثورة الشعوب. الله ينظر من السماء ويراقب الأرض ليعمل بحرّية وفاعليّة. وكلمة الله هي أخيرًا ينبوع حياة للذين يتوكّلون على الله، فلا الموت ولا الجوع يهدّد خائفيه. من وضع رجاءه في الله أحسّ بنظر الله، ذلك الآب العطوف الذي يسهر على أولاده (32: 8)، لا ذلك السيّد الذي يراقب بجبروته الأمم المتمرّدة (66: 7). وينتهي المزمور بصرخة الثقة: الله ترس ودرع. لتكن رحمته علينا بحسب رجائنا.

3. يتحدّث المزمور عن الخلق فيتذكّر سفر التكوين (ف 1- 2) ويقول: "بكلمة الله خُلقت السماوات وكل جنودها" أي كواكبها. كل هذا خلقه بنفخة من فمه، فما احتاج حتى إلى كلمة كاملة. أما المياه، عدوّة الله في خلقه أو عدوّة البشر في حياتهم، فتهد كبح الله جماحها، جعلها كما في وعاء، ووضع المحيط كما في خزّان. فصارت المياه في خدمة الانسان: المياه الفوقيّة تعطي الشتاء الخيّر، والمياه التحتيّة تغذّي العيون والينابيع. فلتخشَ الربَ الأرضُ، ولترتعد منه كل سكان المسكونة.
ثم يمتدح المرتّل مخطّط الله، وهو ما يسمّيه القديس بولس "حكمة الله السرّية الخفيّة التي أعدّها الله قبل الدهور في سبيل مجدنا" (1 كور 2: 7). هذا المخطّط هو ما أراد الله أن يفعله للبشر، وهو ينفّذ في التاريخ رغم أن الناس يحسبون نفوسهم أنهم يصنعون التاريخ. فالله يحطّم مخطّطاتهم، وعبر أعمالهم يبني مخطّطه الخاصّ الذي يبدو أولاً في اختيار شعبه. وهكذا تظهر حكمة الله في العالم (الخلق) وكلمته في شعبه (الشريعة). الحكمة موجودة في كل الخليقة، أما الكلمة فلا نجدها إلاّ في شعب الله وهي تدلّ على الطريقة التي بها يوجّه اللهُ الكون.

4. يتوسّع هذا المزمور في لاهوت كلمة الله. نحن نقرأ في المزمور 119: 89: "كلمتك يا رب في السماء ثابتة إلى الأبد". كما نقرأ في يوحنا (1: 3): "بالكلمة خُلق كل شيء، وبدون الكلمة لم يكن شيء". وفي رسالة القديس بولس إلى كولسي (1: 16): "به خُلق الله كل شيء". وهكذا نستطيع أن ننشد هذا المزمور كنشيد للمسيح الذي هو كلمة الآب الأزّلي، فتأخذ الكلمات المتعلّقة بمخطّط الله الخلاصيّ بُعدًا جديدًا على ضوء العهد الجديد. في هذا المجال، تسلّط الرسالةُ إلى أفسس (3: 8 ي) ضوءًا جديدًا على هذا الكلام عندما تذكّرنا بما في المسيح من غنى لا حدّ له... وبتدبير ذلك السرّ الذي بقي مكتومًا طوال العصور في الله خالق كل شيء، إلى أن بيّنه الربّ لنا بيسوع المسيح.

5. نشيد جديد
نقرأ في هذا المزمور: أنشدوا له نشيدًا جديدًا. وفي 96: 1: "أنشدوا للرب نشيدًا جديدًا" (رج 98: 1؛ 144: 9؛ 149: 1؛ رج أش 42: 10). هل يعني أننا أمام شكل جديد من النشيد الذي يستعيد مواضيع سابقة ويسكبها في قالب خاصّ (مز 144: 90)؟ هل يعني أن الأفكار اللاهوتيّة الجديدة تتطلّب نشيدًا جديدًا؟ هل تعني أنه يجب أن نجدّد غناءنا وصلاتنا بعد أن عرفنا خلاصًا جديدًا أو اختبرنا حياة مع الرب تذوّقناها لأول مرّة في حياتنا؟
هذه أمور صحيحة. ولكن المزمور الذي يُتلى المرة بعد المرّة، ويتردّد في الجماعة، لن يعود جديدًا إلاّ بالروح الذي يغنّيه في الإطار الليتورجيّ.
ونتوقّف على مواضيع هذه المزامير. النشيد الجديد يدخل في قصيدة مديح. النشيد الجديد مديحٌ لعمل الله الأزليّ. والموضوع الأهم هو الربّ خالق الكون والبشر، ملك العالم وديّانه. اختار شعبًا، وهو يدعو هذا الشعب إلى مديح لا ينتهي.
هذه الأناشيد جديدة لأنها ليتورجيّة، لأنها تعبّر في إطار الليتورجيا عن تأوين (النظر إلى الأمور وكأنها حاضرة) عمل الله العظيم من خلق وعهد ودينونة. فأعمال الله الأزليّة هذه، صارت كذلك بسبب أمانة الله، وهي تجد نبعها الحيّ في سفر الخروج. ولكن في إطار عبادة بني اسرائيل، لا يُعتبر هذا الخروجُ حدثًا من الماضي لا يهمّ إلاّ الآباء. فهذا الخروج يتجدّد في تدخّلات الله المختلفة عبر العصور. وهذه التدخّلات ليست جديدة بمعنى أنها تختلف عن عبور البحر الأحمر. بل هي تجدّد وتؤوّن في كل جيل الخروجَ الأول. والأمر واضح بالنسبة إلى الخروج الجديد، الخروج من أرض بادل (أش 42: 9).
وهكذا تستند أناشيد التجديد إلى عمل الله العظيم في الماضي. تذكّرنا به وكأنه حاضر الآن بوجوده ومفاعيله الدائمة. هي لا تسبِّق على المستقبل الاسكاتولوجي، بل تشدّد على أن عمل الله في الماضي لم ينتهِ بعد ولم يتمّ، بل هو يمتدّ اليوم وغدًا لأنه جديد دائمًا.

6. يدعونا هذا المزمور إلى أن نبتهج في الربّ. عنوانه: "مزمور لداود عن نفسه". فالذين ينتمون إلى نسل داود المقدّس، يسمعون صوته، يستعيدون كلماته ويبتهجون في الربّ. يبدأ النصّ هكذا: "إبتهجوا في الربّ، أيها الصدّيقون". أما الرجل الشرّير (الذي لشد ببارّ) فليبتهج بالعالم: انتهى العالم وانتهى ابتهاج الشرّير. ولكن يبتهج الأبرار في الربّ لأن الرب يبقى وبالتالي يبقى ابتهاج الصدّيقين.
نستطيع أن نبتهج بالربّ إذا رأى فيه مديحُنا ذاك الواحد الوحيد الذي يُتمّ جميع رغباتنا. فليس أحد مثله يقدّم للمؤمنين ما لا يرغبون فيه. ونستطيع أن نوجز هذا فنقول: نحن نسرّ الله حين نسَرُّ بالله. لا تعتقدوا يا أحبائي، أننا هنا أمام تلاعب على الكلمات. أنظَروا كم من الناس يجادلون الله ولا يرضون عن أعماله.
فحين يتصرّف عكس إرادة البشر لأنه الربّ، حين يعلم ما يجب عليه أن يعمل لأنه لا يهتمّ برغباتنا، بل بخيرنا، يوجد أناس يفضّلون أن تُصنع إرادتُهم لا إرادة الله. حينئذ يريدون أن يُخضعوا الله لإرادتهم، لا أن يصلحوا إرادتهم بحيث تتوافق مع إرادة الله.
إلى هؤلاء الكافرين، إلى هؤلاء الأشرار، إلى أهل الاثم هؤلاء، أقول متأسّفًا، ولكني أقول رغم كل شيء وأنتم تعلمون أني أقول الحقيقية: الصنم الصامت يرضيهم أكثر من الله.
"أنشدوا له نشيدا جديدًا". أتركوا الأوساخ العتيقة، فأنتم تعرفون هذا النشيد الجديد: انسان جديدَ، ميثاق جديد، نشيد جديد. فإذا أردت أن تعرف كيف تنشده، لا بدَّ من أناس جدد تجدّدوا بالنعمة، وانتُزعوا من الأوساخ العتيقة، وانتموا منذ الآن إلى الميثاق الجديد الذي يفتح ملكوت السماوات. فإليه يتوق حبّنا كله حين يُنشد نشيدًا جديدًا. ينشد هذا النشيد، لا بالشفاه، بل بكل الحياة. "أنشدوا له نشيدًا جديدًا". أنشدوه له حسنًا. وكل واحد يرى كيف ينشد لله. أنشدوا له، ولكن أنشدوا حسنًا. هو لا يريد أن نجرح أذنيه. أنشد حسنًا، يا أخي. فإن طلبوا منك أن تنشد أمام موسيقيّ محترف، لكي ترضيه، وإن لم تكن عارفًا بالموسيقى، تخاف أن لا ترضيه: فما لا يلاحظه الآخرون لا يمكن أن يغيب عن أذن المعلّم.
فتقول حينئذ: من يستطيع أن يقدّم إلى الله نشيدًا جديدًا، وهو الذي يحكم على المغنّي، هو الذي يسمع كل شيء، هو الذي يزن كل شيء في ميزانه الذي لا يُخطئ؟ أجل، كيف أستطيع أن أملك كل هذه المهارة لئلاّ أسيء إلى مثل هاتين الأذنين المتطلّبتين؟ لا تخف. فهو الذي يدلّك على الطريقة التي بها تغنّي. لا تهتمّ بالبحث عن الكلمات، كما لو أنك تستطيع أن ترتّب موسيقى تقدر أن ترضي الله. اكتف بأن تهلّل. فمن أنشد حسنًا أمام الله هلّل وابتهج. ولكن ماذا يعني هذا؟ يعني أننا نتخلّى عن الفهم، نتخلّى عن التعبير بكلمات عمّا ينشده القلب.
أنظروا أولئك الذين ينشدون من حصّادين وبائعين وغيرهم. يشتعل فرحهم أولاً في كلمات الأغنية، ثم يجتاحهم هذا الفرح فتصبح الكلمات أضعف من أن تمتدّ. حينئذ يتركون الكلمات والمقاطع الصوتيّة فلا تعود تسمع إلاّ ابتهاجهم.
هي موسيقى بدون كلمات، لأن القلب يُظهر ما لا نستطيع أن نقوله. بمن يليق هذا إلاّ بالإله الذي يعبّر عنه. لا تستطيع أن تقول عنه ما هو. ومع ذلك، يجب أن لا تبقى صامتًا. إذن، ماذا تعمل؟ تهلّل، إبتهج، إفتح قلبك على فرح لا يعود يبحث عن الكلمات، وسّع قلبك أبعد من حدود المقاطع الصوتيّة. "أنشد نشيدًا جميلاً بتهليلك". (أوغسطينس).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM