الفصل السادس عشر: إحياء الموتى

الفصل السادس عشر
إحياء الموتى

تمهيد
تؤلف "القيامات" صنفًا خاصًا بين معجزات الشفاء، لأنها تعبّر عن قدرة يسوع على إزالة الشر المطلق أي الموت. كما أنها تعطينا فكرة مسبقة عن قيامة يسوع نفسه. غير أنه علينا أن نميّز بين قيامة يسوع وبين القيامات التي يصنعها.
يدفعنا ذلك إلى القول بأن قيامة إبنة يائيرس أو ابن أرملة نائين تكوّنُ فعل "إحياء". يُعيد يسوع إلى هذين الشخصين الحياة نفسها التي كانا يعيشانها قبل أن يموتا. إنها عودة إلى الحياة فقط، لأن الموت سيقضي عليهما لاحقًا. هذا ما جعل العهد الجديد يشدّد على أنّ حياة يسوع القائم من بين الأموات تختلف اختلافا كلئا عن حياة هؤلاء، إذ لا موت بعدها. كذلك عدّدت الأناجيل من جهة أخرى روايات قيامة يسوع وظهوراته لتبيّن سرّ انتصار يسوع على الموت. فلا غرو أن تكون روايات العهد القديم مع إيليا وأليشاع، والروايات في الأدب الربّاني اليهودي وفي الديانات الوثنيّة قد عرفت جميعها بعض حالات إحياء. كما أنّنا نعلم أن هذه الروايات هدفت إلى إعلاء شأن شخصية "بطلها".
نلحظ على عكس ذلك أن الإنجليّين يسردون رواياتهم بطريقة جدّ مكتومة. يتّفق الإزائيون الثلاثة، ولكن حسب أهداف مختلفة، على سرد حالة "قيامة" واحدة فقط في رواية معجزة إبنة يائيرس (3). ويزيد لوقا رواية ثانية، خاصة به، معجزة ابن أرملة نائين. توازي هاتان القيامتان لشاب وشابة، معجزتين قام بهما بطرس وبولس حسب ما جاء في سفر أعمال الرسل. يحيي بطرس طابثية في يافا (رسل 9/ 36- 42)، كما يعيد بولس إلى الحياة الشاب أفطيخس الذي سقط من العليّة في طرواس (رسل 20/ 7- 12). بينما لا يعرف الإنجيل الرابع شيئًا عن المعجزتين الواردتين في الأناجيل الإزائية، ولكنه يقدّم لنا رواية طويلة عن إحياء لعازر (يو 11/ 1- 54). كما يلمّح يوحنا من جهة ثانية، بطريقة غير مباشرة، في رواية شفاء ابن عامل للملك، إلى معجزة "إحياء" (يو 4/ 43- 54، خصوصًا آ 49: "اذهب، إنّ إبنك حيّ").

إحياء إبئة يائيرس (مر 5/ 21- 43؛ لو 8/ 4- 56؛ متّى 9/ 18- 26)
1- الإطار والنص
نجد أنفسنا عند مرقس (5/ 21- 43) في الجليل على الضفة الغربيّة من بحيرة جنيصارت، بعد أن عاد يسوع من رسالته في بلدة جراسة، إحدى المدن العشرة الوثنيّة. يتألف النص من روايتين (شفاء منزوفة وإحياء ابنة يائيرس) أدرجهما مرقس على عادته الواحدة ضمن إطار الثانية، كما فعل في مواضع أخرى من إنجيله (3/ 21- 30؛ 6/ 7- 33؛ 11/ 11- 21؛ 14/ 1- 11). يبرّر ليين هذه العادة بقوله: "يلعب شفاء المنزوفة في وسط الرواية دورين أساسيّين: يقوم الدور الأول في إعطاء وقت كاف للإنجيلي ليشدّد على موت ابنة يائيرس فعليًا: ويقدّم الثاني صورة عكسيّة عن تحرير حياة إمرأة من الموت، وذلك ليعطي صورة مسبقة عن إعادة فتاة من الموت إلى الحياة". يتألف النصّ المرقسي من 23 آية، منها 13 للقيامة.
يضع لوقا (8/ 40- 56) هذه المعجزة في إطار مشابه لمرقس، غير أنه يقصّر الرواية لتصبح مؤلفة من 17 آية يكرّس منها 11 للقيامة.
يبدأ عرض الأحداث عند متى (9/ 18- 26) في بيت "رجل يقال له متى" الذي دعاه يسوع إلى اتّباعه، وحيث تناول الطعام برفقة الخطأة. دعا هذا العمل إلى جدال أولاً مع الفريسيين وثانيًا مع تلاميذ يوحنا. تجري الحادثة إذن، وبطريقة مبتكرة، بين بيت متى وبيت يائيرس. ولكنّ الإنجيليّ، على مثال مرقس ولوقا، يمزج معجزتي الشفاء والقيامة ويختصرهما حتى تصبحان غير واضحتين. يتألف النصّ المتّاوي من 9 آيات منها 6 للقيامة.
نلحظ هنا أنّ أهمية الحادثتين تتقلص مع الزمن، وتقصر النصوص حتى نتساءل إذا ما أراد التقليد الكتابي التخييم على هذه الرواية المزدوجة!

2- الرواية بحد ذاتها
أ- عند مرقس
يعتبر النقد العلمي الكتابي أن رواية مرقى هي أقدم الشهادات الإزائيّة التي تعرض حادثة إحياء إبنة يائيرس. يعود ذلك إلى طريقة سرد الوقائع الشعبية، وإلى التعديلات التي أدخلها لوقا وبعده متّى إلى هذا النصّ، وكذلك بما يتعلق في إدراج رواية المرأة المنزوفة في إطار الشفاء.
يأتي يائيرس، يمان في مرحلة أولى ويسأل يسوع بإلحاح بأن يأتي ويشفي إبنته "المشرفة على الموت" (آ 23). ثم يأتي أناس من قبل رئيس المجمع بعد شفاء المرأة المنزوفة ويخبرونه بأن ابنته قد ماتت ولا لزوم "لإزعاج المعلم" (آ 35). يستعمل الإنجيلي الفعل اليوناني Parakouo الذي يعني إما "وقع الكلام في مسمع شخص" و"سمع (الشخص) الكلام صدفة"، وإما "لم يبال (الشخص) للكلام". يعود هذا الفعل بهذا المعنى الثاني في الترجمة اليونانية السبعينية (7 مرات) كما يرد في متّى (18/ 17). يشدّد مر على قلة إيمان هؤلاء الأشخاص وعلى متابعة يسوع طريقه إلى بيت يائيرس، ويؤكّد صحة قول يسوع بأن الابنة "لم تمت، وإنما هي نائمة" (آ 39). هكذا يترك الإنجيلي قارئه يشكك في أمر الموت أو السبات الذي يشبه الرقاد، ويقلّل من أهميّة المعجزة. يبعد مر عمدًا المجتمعين من حضرة يسوع ويترك الأهل والتلاميذ الثلاثة المميزين ليشهدوا المعجزة. يلفظ يسوع بعد ذلك عبارة بالآرامية (طليتا قوم) مع ترجمتها اليونانية (To korasion egeire) أي "يا صبية قومي" (آ 41). يستخدم الإنجيلي الفعلين المصطلحين للتعبير عن القيامة، كأنّه يستعمل عبارة ليتورجية مميزة محفوظة في لغتها الأصلية مع ترجمتها الحالية. ثم يروي لنا مرقس في (آ 41) أنّ يسوع أخذ يد الصبية. لا يدل هذا العمل "أخذ يدها" على اللمسة البسيطة كما كان يفعل يسوع حين يجري شفاء لأحد الاشخاص فحسب، بل يدل على تدخل يد الله القوية في عمل الله الخلاصي من أجل شعبه: "أنا الربّ إلهك آخذ بيمينك قائلاً لك: "لا تخف فأنا أنصرك" (أش 41/ 13). ويزيد كاتب آخر: "تعظّم جميع تدخلات "يد" يسوع القوة الإلهيّة التي تعمل من خلال أعماله الإنسانيّة. كما أن ملامسة يسوع الماديّة للذين يسعى في خلاصهم تجعل لقاءه أكثر ارتباطًا بهم وواقعيّة، لأنه لقاء محيي مع الكلمة المتجسّد".
يُبان لنا أن مرقس شاء أن تكون روايته مبهمة. أجل، يترك مر قارئه في ريبة، من جهة، حول انفعال الصبية وشعورها، ويوضح روايته من جهة ثانية بحادثة المنزوفة التي تشبه المثل. إنه من الصعب علينا أن نعرف إذا كان هذا الرقاد حقيقة، أو إذا كان استعارة عن الموت. يقول بوتان: "يُفهم طابع المعجزة المبهم على ضوء مسلك يسوع في حياته، فهو الذي أراد أن يظهر كالمسيح، وبالوقت نفسه أن يخفي مكانته المسيحانية". يفرض النص المرقسي علينا احترام هذا الغموض الذي يجعلنا نفكر برواية قديمة لحادثة شفاء أخذت بعدئذ تلمح بطريقة ضعيفة إلى القيامة. كما أن هذا الغموض أو هذا "السرّ المسيحاني" يدفعنا إلى اعتبار هذا النص رواية حققتها الجماعة المسيحية الأولى! غير أننا نشدّد بقولنا، مهما كانت الاعتبارات وتعدّدت الأسباب، أن التعليم العقائدي الواضح يقف في وجه التاريخ. "لا يظهر عمل ابن الإنسان وصورته واضحين إلاّ بعد قيامة المسيح من بين الأموات. وهكذا "تمثّل معجزة إحياء إبنة يائيرس باكورة هذا الانتصار".
يعلّمنا مر من خلال هذا النص أن يسوع له القدرة على الموت كما على جميع أشكال الرقاد والموت. كذلك استخدمت الجماعة المسيحية الرواية في تعليمها وكرازتها لتصل إلى هدفين. يتعلّق الهدف الأول، وهو الأكثر وضوحاً، بالتعليم عن قيامة الأجساد. لم يعد للموت سلطان على المسيحي المرتبط بالناهض من بين الأموات. بل أصبح رقادًا يوقظه المسيح وينتشله منه ليعيده إلى الحياة. لقد رقد الجميع في المسيح (1 قور 15/ 18)، وهو الذي سيوقظهم. وهذا ما تفوّه به يسوع عندما قال في إنجيل يوحنا: "إنّ صديقنا لعازر راقد، ولكني ذاهب لأوقظه" (11/ 11). غير أنّ هذه القيامة، هذا العمل الخلاصي، محفوظة للمؤمنين. يستبين ذلك من حضور يائيرس وامرأته والتلاميذ الثلاثة فقط في "غرفة" الصبية. لقد كافأ يسوع إيمانهم بالقيامة. أمّا لغير المؤمنين الممثلين بالخدّام وبالأشخاص الباكين، فلم يكن هذا العمل إلاّ موضوعًا للدهشة (آ 42).
يدفعنا كل ما تقدّم إلى القول بأنّ هذه الرواية قد استخدمت في مجال التعليم المسيحي الذي يساعد الموعوظ على تقبّل سرّ العماد. يقول بوتان: "يقوم المسيحي بالعماد من رقاد الموت الذي دخل فيه، ويؤمن بأن روح الربّ سيعيد الحياة إلى جسده المائت في اليوم الأخير". ونجدنا قريبين من الفكرة المعبّر عنها في رسالة بولس إلى أفسس حيث نتعرف إلى شهادة نص نشيد عماديّ: "تنبّه أيها النائم، وقم من بين الأموات، يُضئ لك المسيح" (أف 5/ 14). يعلّق بوتان على النص البولسي بقوله: "نجد في هذه الآية (أف 5/ 14) العبارتين المستعملتين في نصّنا (مرقس): استيقظ (Egeirein) وقام (Anistanai). يُستعمل الفعل الأول في الاناجيل ليدلّ على الشفاء (متى 8/ 15)، لأننا نركما فيه نوعًا من الاستباق لقيامة المسيحي، مع أنه يدلّ على القيامة بحد ذاتها. ويُستخدم الثاني ليدلّ مثلاً على قيامة لعازر (يو 11/ 23- 24) أو على قيامة يسوع".
يشدّد مر على موضوع الاستيقاظ أو الوقوف على القدمين، بينما يتطرّق إلى موضوع الاستنارة بطريقة ثانوية في اسم الصبية. يعني إسم يائيرس "الله نوري"، وهكذا تصبح إبنه يائيرس، إبنة "الله نوري". من جهة ثانية، ينوّه الطعام الذي يلي القيامة إلى ليتورجية العماد التي تلي العشاء الذي تشارك فيه الجماعة المعمّدة حديثًا (راجع رسل 16/ 29- 34). نلحظ أيضًا أن الحياة التي أعطاها المسيح تفترض الإيمان، إيمانًا شخصيًا على مثال المنزوفة، وإيمانًا جماعيًا على مثال أهل الصبية. يشير هذا النص بدون شك إلى شهادة قديمة عن بعض العادات في الجماعات المسيحيّة الأولى في منح العماد إلى الصغار عند طلب الأهل.

ب- عند لوقا
يزيل لوقا بطريقته الخاصة الغموض الذي طغا على النص المرقسي. ويصف الصبية بأنها "قد أشرفت على الموت" عندما جاء والدها ليتكلّم مع يسوع بشأن شفائها (8/ 42). سمع يسوع كلام المرسل من قبل بيت رئيس المجمع أن "الموت قام بعمله". يستعمل لوقا، على خلاف مرقس، الفعل Apethnêsken بصيغة الماضي التي تدل على طابع الموت الذي حصل (آ 49). كذلك يعد يسوع يائيرس بقوله "ستخلص" (آ 50). عبارة لم يذكرها مر في الجزء الاول من نصه. يأخذ الفعل اليوناني "خلص" Sozo عمومًا عند الإزائيين، كما هو واضح في نصنا، معنى قويًّا ويدلّ على "التحرير من خطر مميت، وعلى النجاة وعلى الشفاء وعلى التجديد الروحي". يصل يسوع إلى البيت ولا يرى أشخاصًا "يبكون" فحسب كما جاء عند مر، بل يشدّد لوقا على أنّ "جميع" (آ 52) الحاضرين كانوا يبكون وينوحون عليها "لعلمهم بأنها ماتت" (آ 53). يتفوّه يسوع بكلمة الإيقاظ من النوم Egeire مشروكة بلمس اليد، ويزيد لو "فرُدّت الروح إليها" (آ 55) مستوحيًا هذه الملاحظة من رواية المعجزة التي أجراها إيليا لابن أرملة صرفت: "فسمع الربّ لصوت إيليا وعادت روح الولد إلى جوفه وعاد إلى الحياة" (1 مل 17/ 22).
نلحظ أن الإنجيلي الثالث بالزيادات والتثديدات التي أدخلها على مر يسرد لنا وقائع معجزة قيامة حقيقية. ويتخذ تعليمه وقعًا أكبر على القارئ مع أنه بقي في خط سابقه. يستعمل لو طابعًا خاصًا به يساعد قارئه في اتجاه معيق وهو أنّ الصبية كانت "إبنة وحيدة" Monogenês (آ 42)، مما زاد في ألم أبيها (راجع أيضًا لو 7/ 12؛ 9/ 38). يقول الاستاذ توما فديريشي: "نجد التشديد على فكرة "الوحيد" في إنجيل ابن أرملة نائين (آ 12) وكذلك ابنة يائيرس (لو 8/ 22)، وأيضًا لعازر أخ وحيد لمرتا ومريم. وتقابل هذه الصفة الابن الوحيد لله، الذي يجابه موته الاختياري، ويسير نحوه بعد أن أهمله الآب بمحبته الفائقة الوصف نحو "أولاد آخرين" ذاهبين نحو الموت". نشعر أن إنجيلي الحنان يشدّد على أحد مواضيعه المفضّلة، الجواب على الإيمان، ذلك الجواب المتعلّق "بطيبة المخلّص" وبوادعته.

ج- عند متّى
تزول جميع الشكوك مع قراءة الإنجيل الأول، فالصبية قد "انتهت" Eteleutêsen أي قد "ماتت" عندما وصل أبوها إلى يسوع (9/ 18) وسجد له. يتخذ إيمان هذا الوجيه، الذي لم يعد يُدعى "رئيس المجمع" كما عند مر ولو، رونقًا أكثر جلاءً. يلقي متى منذ بداية هذا النص أضواءه على إيمان هذا الرجل الذي أتى إلى يسوع طالبًا إحياء إبنته. لا داعٍ إذا للكلام عن هذا الإيمان الواضح الذي يفوق إيمان قائد المئة (راجع متى 8/ 10). يلغي متى بالتالي مجيء المرسلين من قبل أبي الصبية، ويشدّد على دور الباكين والزمّارين ليدلّ على حقيقة الموت (آ 23). لا يهتمّ متى كثيرًا بانتقاء الشهود للمعجزة، فكأن يسوع يدخل وحده مخدع الصبية ويأخذ يدها، فتقوم êgerthê للحال. وخلافًا لما فعل مر ولو مشدّدين على السرّ المسيحاني، لا يذكر متّى النهي عن نشر الخبر: "وذاع الخبر في تلك الأرض كلِّها" (آ 26). يدفعنا ذلك إلى القول إنّ سّر شخص يسوع يحتلّ المركز الاول لطابع القدرة والسرّية عند مر، "بينما يضع متّى شخص الأب في المقدمة".
لقد أعطانا متى طريقة عموميّة للتعليم تصلح لكل مسيحي، بعد أن جرّد الرواية تمامًا من شخصيتها. فلم نعد نعرف اسم الوجيه ولا عمر الصبية ولا نجد شهودًا للمعجزة. نلحظ كذلك أن متى استخدم الفعل اليونانيّ "سجد" proskuneo الذي يدل على فعل "العبادة"، بينما مر ولو استعملا فعل "ارتمى على القدمين" pipto pros tas podas. يقول بوتان: "نستطيع أن نعطي في هذا الإطار، كما في مواضع أخرى من مت" (2/ 2 و8 و11؛ 4/ 9- 10؛ 28/ 9 و17 معنى "العبادة" القوي لعمل الأب الذي قام به نحو يسوع عندما سجد له". يصبح الإيمان لقاءً شخصيًا مع المسيح الناهض من بين الأموات الذي وضع فيه الأب ثقته التامة منذ البداية. يقبل هذا الإيمان، حتى أمام قدرة الموت، المسيحَ قادرًا على جعل الإنسان أن يعبر من الموت الذي يشبه الرقاد إلى الحياة. العالم كله مدعوُ إلى معرفة هذا الحدث. هذا ما دفع متى إلى بناء نص كتابي في قالب مختصر جدًا يساعد على إعطاء الجواب لكنيسة محتاجة تجابه تحديات معاصرة.

3- خاتمة
إنه من الصعب جدًا، من الوجهة التاريخيّة، أن نتخيّل أنّ رواية "قيامة" قد تتحوّل منذ بداية التقليد الإنجيلي إلى حادثة شفاء بسيط. ربّما تصحّ الطريقة العكسيّة، أي أن نمرّ من معجزة شفاء إلى إحياء. نستند بذلك إلى حرية الإنجيليّين الذين يكدّسون المواد التي استقوها من التقاليد القديمة التي بلغت إليهم ليوصلوا تعاليمهم إلى القرّاء. وهذا مثل واضح على التصرف بهذه المواد. لا يستطيع قارئ اليوم، من جهة ثانية، إذا ما تساءل عن حقيقة هذه المعجزة أن يغفل النظرة الكتابية التي تبقى نظرة دينية بحتة تتّخذ اتجاهًا نحو تعليم الإيمان في إطار "العماد" المسيحي. تمثّل إبنة يائيرس ذلك "الموعوظ" الذي مات بالخطيئة، ولكنّه سيدخل حياة جديدة بفضل يسوع المسيح. كانت خطيئته ممثلة بالنوم والرقاد، ولكنه استيقظ الآن وأصبح أهلاً للاشتراك بالمائدة الإفخارستية.

إحياء إبن أرملة نائين (لوقا 7/ 11- 17)
1- تمهيد
يشهد لو باهتمام خاص بالقيامة، إذ إنه يقدّم لقرّائه المسيحيّين المتحدّرين من الديانة اليونانية عمله اللاهوتي الذي كتبه لهم من خلال شخص تاوفيلوس. أجل، إنه الإنجيلي الوحيد الذي نقل إلينا حادثتين عن القيامة، كما إنه أعطانا معجزتين أخريين، كما سبق ونوّهنا بهما، في سفر أعمال الرسل.
ينفرد لو في إنجيله بنقل بعض الأقوال عن القيامة Anastasis. يرد القول الأول، الخاص به، في نصيحة لصاحب الدعوة عندما يكتب: "... فتكافأ في قيامة الأبرار" (14/ 14). كما نجد قولاً ثانيًا في جداله مع الصدوقيّين (20/ 27- 40) وقد أخذ هذا القول شكلاً أكثر صراحة من عند متى ومر (متى 22/ 23- 33؛ مر 18/12- 27). لا يكون الناهضون من بين الأموات "مثل ملائكة في السماء" (متى ومر) فحسب، بل هم "أمثال الملائكة وأبناء الله لكونهم أبناء القيامة" (لو 20/ 36). يغدو كذلك لو الإنجيلي الوحيد الذي ينقل إلينا مثل "لعازر والغني" (16/ 19- 31) الذي يتكلّم فيه أيضًا عن القيامة.
ويتضح لنا أنّ الإنجيلي الثالث توسّع أكثر من متى ومر في لاهوت القيامة نظرًا إلى كنيسته اليونانية، كما يبدو لنا منذ الآن أنّ إدراج رواية ابن أرملة نائين في إنجيله يعود إلى نيّة دفاعية. تحمل هذه الرواية أيضًا في إنجيل لوقا طابعًا توفيقيًا، فهي تمهّد لما يقوله يسوع ردًّا على تلاميذ يوحنا (لو 7/ 22). يقول بول ترنان: "يجيب يسوع إلى السؤال تلميذي يوحنا بوصفه المعجزات التي يقوم بها وتبشيره "الفقراء"، ويستخدم عبارات مستوحاة من كتاب أشعيا (26/ 19؛ 29/ 18- 19؛ 35/ 5- 6 و8؛ 61/ 1): لم يحن الوقت بعد إلى معجزات غضب المسيح التي كان يوحنا ينتظرها. إنها ساعة المسيح صانع المعجزات والمبشّر الحنون الذي يتكلّم عنه أشعيا".

2- الإطار
أشار الإنجيل الثالث منذ بداية رسالة يسوع إلى الكثير من المعجزات التي جرت على يده. هناك التقسيمات وطرد الأرواح الشيطانية (4/ 31- 37 و38- 39 و40- 41)، وإبراء أبرص (5/ 12- 14)، وشفاء مقعد (5/ 17- 26) ورجل يده يابسة يوم السبت (6/ 6- 11) وعبد قائد المئة (7/ 1- 10).
كما حفظ لنا التقليد من جهة ثانية حادثة المرسلين من قبل يوحنا المعمدان والحريصين على التعرّف إلى يسوع. فأدرج لو هنا هذه الحادثة (لو 7/ 18- 23) واستعمل العبارات نفسها الواردة في متى فشعر وكأنه مجبرٌ على إدراج بعض الأشفية التي قام بها يسوع وخصوصًا للعميان أمام أعين تلاميذ يوحنا (7/ 21). ثم يعطي برهانًا قاطعًا عن مسيحانية يسوع الذي يحقق جميع النبوءات ويختصرها بقوله: "العميان يبصرون، العرج يمشون مشيًا سويًا، البرص يبرأون والصم يسمعون، الموتى يقومون، الفقراء يبشّرون" (7/ 22). غير أنّ معجزة هامة تنقص، وقد تكون الأهم بين هذه المعجزات، إلا وهي معجزة القيامة. يستوحي لو جوابه عن موضوع قيامة الموتى من نبوءه أشعيا: "ستحيا موتاك وتقوم جثثهم. إستيقظوا وهلّلوا يا سكان التراب" (26/ 19).
يعرف الإنجيلي رواية إحياء ابنة يائيرس وسيستعمل بعض معطياتها. ولكنّ التقليد الذي وصله، كما سبق ورأينا، غلّف هذه الرواية بالسرّية وحذّر بالكلام عنها (راجع مر 5/ 43// لو 8/ 54). أراد لو، من جهته، أن يُدرج هذه القيامة في هذا الموضع من إنجيله قبل وصول تلاميذ يوحنا لينتشر خبرها "في اليهودية كلها وفي جميع النواحي المجاورة" (لو 7/ 17)، أي في المنطقة التي سُجن فيها يوحنا وحيث يكثر تلاميذه. بالاضافة إلى ذلك، لا يهتمّ لو بأن تكون هذه المعجزة قد جرت في بقعة صغيرة غير معروفة في منطقة الجليل الذي تنتمي إليه نائين ومعناها "لطيف أو محبوب". تظهر إذًا نيّة لوقا الدفاعية من خلال هذه الرواية القصيرة في إعطاء جواب لتلاميذ المعمدان ولتلاميذ الجماعات المسيحية.

3- الرواية بحد ذاتها
آية 11- 12: نلحظ أن لو يشدّد منذ البدء على سرعة الإعلام وقدرته مستخدمًا عبارة "الجمع الكثير" Ochlos polus الذي يصطحب، من جهة يسوع وتلاميذه، ومن جهة ثانية الأرملة والموكب الجنائزي. يشير هذا التشديد إلى حالة العائلة المأساوية، والظرف والمكان اللذين تتم فيهما المعجزة. وهذه ميزة أدبية من ميزات لو: فالابن وحيد، والأم أرملة، والمدينة غير معروفة. لا شكّ أن في خلفية هذه الرواية إشارة إلى معجزتي القيامة اللتين جرتا على أيدي إيليا وأليشاع (1 مل 17/ 17- 24؛ 2 مل 4/ 19- 31). لقد وجد الإنجيلي بعض مواد روايته في معجزة إيليا، فالإمرأة أرملة لها ابن وحيد، وتجري أحداث المعجزة الثانية في قرية شونَم القريبة من نائين. كذلك يشير "باب المدينة" إلى إطار معجزة إيليا (1 مل 17/ 10).
آية 13: يطلق لو، ولأول مرة في الإنجيل، على يسوع لقبه الفصحي "الربّ" Kurios في مقاطع روايته القصصية. يدلّ بذلك على "مُلك يسوع الخفيّ" كما أنه يشير إلى لاهوت لو الخاص به بأن الربّ القائم من بين الأموات له وحده القدرة على الموت. ويستعمل لو عبارة "أشفق عليها" ليصف أحاسيس يسوع، وهي اللفظة التي نجدها في مثلي السامري الرحيم (10/ 33) وأب الابن الشاطر (15/ 20). يظهر الربّ يسوع "كأداة" الحنان الإلهي (راجع لو 2/ 14) حاملاً الخلاص الموعود "لكل بشر" (لو 3/ 6). يقول يسوع للأرملة "لا تبكي"، كما قال ذلك ليائيرس بخصوص ابنته (8/ 58). "يميّز هذا التشديد- حسب رأي الاستاذ فديريشي- حدث التجلّي الإلهي: لا تخافوا، لا تبكوا. إنه عمانوئيل، الذي يمسح الدموع من أعين الحزانى، ويزيل الموت إلى الأبد (راجع أش 25/ 8 الوعد؛ رؤ 7/ 17؛ 21/ 24؛ متى 5/ 5؛ لو 6/ 21 تحقيق الوعد)". يكتمل هذا الخلاص بقيامة الأموات الممثلة بهذه المعجزة.
آية 14: نجد العبارات نفسها الواردة في معجزة ابنة يائيرس مع التغيير في الجنس والعدد، دون أن يصبح الموت مشابهاً للنوم. غير أنّ هناك فرقًا هامًا في الأمر الذي أعطاه يسوع. يقول يسوع "قومي" Egeire لابنة يائيرس مستعملاً الفعل في "صيغة المعلوم" (actif)، بينما يستعمل هنا "قم" Egerthêti في "صيغة المجهول" (passif). تُستعمل صيغة المجهول لتعبّر عن عمل الله الذي يتحاشى اليهودي ذكر اسمه.
آية 15: يقول النص "جلس" Anekathisen الميت كما فعلت طابيثة التي أقامها بطرس (رسل 9/ 40). يُستعمل هذا الفعل مرتين في العهد الجديد فقط، وقد ينتمي إلى اللغة الطبيّة. يشدّد لو من خلال العبارة "وأخذ يتكلّم" على أن الذي عاد إلى الحياة يعطي "شهادة" لما حصل له. يكتمل هكذا الإعلام في الداخل من خلال شهادة ذاك الذي حصلت له المعجزة، وفي الخارج من خلال شهادة الاشخاص في "موكبي" يسوع والأرملة. كما يشير الإنجيلي في خاتمة الآية "وسلّمه إلى أمه" إلى معجزة إيليا، ويستعمل العبارات اليونانية نفسها الواردة في العهد القديم (1 مل 17/ 23؛ راجع لو 9/ 42).
آية 16: تتألف هذه الآية من أفكار هامة في الإنجيل الثالث "تمجيد الله" و"افتقاد الله لشعبه". يضيف الأب ترنان: "يشير الجزء الثالث (آ 16- 17) إلى أهمية المعجزة. لم يكتف يسوع بمسح دموع الأمم الكئيبة، بل جعلَ الشهود يدركون أنّ نبيًا عظيمًا قام بينهم وأن حنانه متأت من حنان الله. أجل، لقد "افتقد" الله شعبه كله".
يبدو لنا أنا لو توسّع من خلال النص في هذه الأفكار الأساسية بعد أن قدّم لنا الاسباب الدفاعية في بداية الرواية وأدرجها في سياق بشارته. يغدو يسوع أولاً نبيًا في خط إيليا وأليشاع: إنه إيليا "الحيّ" الذي كان ينتظره اسرائيل في إطلالة العصر المسيحي. كما يُبان لنا من جهة ثانية أنّ لو فكّر بيسوع نبيًا على مثال موسى جديد، أي المخلّص المسيحاني الذي يظهر في آخر الأزمنة، هذا النبي "المقتدر على العمل والقول" الذي فكّر به تلميذا عمّاوس (لو 24/ 19). لقد حقّق يسوع في شخصه صورة إيليا وصورة موسى، ولكنه تخطّى في الوقت نفسه هذين المثالين. "إنه عبد يهوه"، ذلك النبي الغامض الذيّ يخلص شعبه وشعوب الأرض كلِّها من خلال بشارته وحنانه (لو 4/ 19- 19) وموته الفادي (19/ 31- 33). هذا ما أراده يسوع من تلاميذه أن يفهموه. غير أنهم لا يدركون فكرة العبد المتألّم ومحبّته للعالم إلاّ من خلال الضوء الفصحي عندما يرون فيه "الرب".
يستحقّ يسوع، بعد أن أجرى معجزة القيامة، أن يُلقب هو أيضًا بلقب "الربّ"، إله العهد القديم. كذلك ينال يسوع لقب "سيد الحياة" (رسل 3/ 15) لأنه أصبح "المكان" اللاهوتي لافتقاد الله الخلاصي لشعبه، هذا الافتقاد الذي انتظره الأنبياء جميعهم وبشّروا به، وراح يتحقق مع رسالة يوحنا المعمدان (لو 1/ 68 و78). تصبح معجزة إحياء ميت، التي تعتبر عملاً خارقًا منذ إيليا وأليشاع، علامة فعّالة لافتقاد الله الدال على عمل نعمته (صف 2/ 7؛ إر 29/ 10؛ زك 10/ 3). لقد وعى الشعب هذه العطية واعترف بها بحماس في نائين وفي جميع نواحي فلسطين. يبدو هذا الخوف الذي استحوذ على الجمع مدعاة إلى الإقرار بعمق السر الإلهي المتجلّي، وإلى تمجيد الله الذي أقام نبيًا بينهم وافتقدهم. يدفعنا هذا التفكير لأن نقول بأن هذه الرواية تصلح لأن تكون "قراءة جديدة" (relecture) مسيحانية لبعض صفحات العهد القديم، كما أنها لا تخلو من رمزية إضافية تتراءى وراء العبارات والاستعارات اللوقاوية.

4- معنى المعجزة المستتر
لا بدّ من أن الخواطر التي تطرقنا إليها في تفسير هذا النص الكتابي أساسية في تفكير الإنجيلي غير أنّنا لا نستطيع أن نُبعد تفسيرًا رمزيًا نستخلصه من تلك المعطيات الإنجيليّة. هناك عدة ملاحظات تشير إلى هذا التفسير.
4، 1 نستخلص أول ملاحظة من وضع أم الشاب بأنها "أرملة" (Chêra). نعرف من العهد القديم أن "الترمّل" يحمل في طيّاته قيمة رمزية. كانت يهوديت "أرملة" (يه 8/ 2- 4). اختار المؤلف هذا الاسم لأنه يعني "اليهودية"، وهي تجسّد بحق الأمّة. كذلك، إبنة صهيون العذراء التي تجسّد الشعب أصبحت أرملة (مرا 1/ 1) لأنّ أولادها قد هجروها ومجد الربّ قد تركها أي إن حضوره اختفى من الهيكل (مرا 1/ 6). ويشبّه باروك أورشليم بـ "الأرملة" (4/ 12 و16).
4، 2 تشير الملاحظة الثانية إلى "الابن الوحيد" (Monogenès Uios). يستعمل لو هذه العبارة ثلاث مرات في كلامه عن ابنة يائيرس (8/ 42) وعن الابن المصاب بالصرع (9/ 38) وابن الأرملة (نائين) في نصنا. تدلّ دائمًا عبارة "الابن الوحيد"، إذا وضعنا جانبًا هذا الاستعمال في لو، على يسوع (يو 1/ 14 و18؛ 3/ 16 و18؛ 1 يو 4/ 9). كما أنّا نعلم أن هذه العبارة تماثل عبارة "الابن الحبيب" التي تعود في إنجيل لو أيضًا مع المسيح مباشرةً (3/ 22؛ 9/ 35) أو عرضًا (20/ 13).
4، 3 يشير النص مباشرة إلى "الله" (Ho Theo) حين أعطى يسوع الأمر بصيغة المجهول إلى الميت، وحين أعلن لو في خاتمة المعجزة أنّ "الله افتقد شعبه".
تساعدنا هذه الملاحظات على وجود معنى رمزي. قد نفكر إذاً بابنة صهيون، أورشليم، التي خسرت ابنها الوحيد، المسيح، الذي مات والتفّ حوله جمع غفير "على باب المدينة" (راجع عب 13/ 12). تخسر ابنة صهيون مع موت المسيح، وبالوقت نفسه، مجد الله الذي سكن فيها. تصبح إذًا أرملة عندما تخسر ابنها. هذا ما يستدعي رحمة الله وحنانه لينهض من الموت الابن الحبيب ويعيده إلى أمه. يستعمل لو مصدر الفعل نفسه في (7/ 13 و1/ 78) (Splanchna) أي" الاحشاء" ليدل على الرأفة والحنان.
نجد هنا بطريقة مستترة اكتمال دراما الجلجلة وتحقيق الكتب المقدسة في سرّ الخلاص ولاهوت الآلام والقيامة المعبّر عنهما بطريقة مصغّرة في هذه الرواية التي تتخذ طابعاً تقليدياً. ونشارك الأب ترنان رأيه: "تعرف الآن الكنيسة، شعب الله الجديد، أن النبيّ الجليلي العظيم كان "العبد" الذي حرّر العالم من خطاياه. كما أنها تعلّم أنّ "الافتقاد" الإلهي الأسمى حصل بالعمل الفدائي الذي قام به ابن الله المتجسد، وأنّ هذا الافتقاد مستمرّ إلى المجيء الثاني من خلال عمل الربّ المحصي والناهض من بين الأموات. يتجلّى هذا العمل بنوع خاص في سر الافخارستيا الذي يعطيناه الربّ بفعاليّة موته". ونتساءل: أليست هذه نيّة الإنجيلي الثالث من خلال سرده هذه القصة؟

إحياء لعازر (يوحنا 11/ 1- 53)
1- اعتبارات
يبدو نص رواية إحياء لعازر خاليًا من أيّة قاعدة تاريخية، إذ تكثر فيه الأشياء المستبعد حدوثها. يجبرنا ذلك على التشديد على أنّ الكاتب توخى في نقله هذه الرواية تقديمَ نص له هدفٌ تعليميّ بحت.
تجري الحادثة في بيت عنيا، قرية قريبة من أورشليم، أمام جمهور عظيم من الشعب يشهدون للمشهد. هذا ما جعل الفرّيسيّين في حالة استياء وقلق، ودفعهم إلى اتخاذ القرار بالحكم على يسوع بالموت لأنه تعدّى صلاحياته وبالغ هذه المرّة بها. يشبه إحياء لعازر نقطة الماء التي جعلت الوعاء يفيض. كيف إذًا، بعد أن عرف جميع أهالي أورشليم بخبر هذه المعجزة، صمتت عنها الأناجيل الإزائية الثلاثة؟
لا ننسى أن لعازر كان بعد قيامته في مأدبة عشاء مع يسوع (يو 12/ 1- 9) حيث قرر رؤساء الكهنة أن يقتلوه أيضًا (آ 10). نتعرض لسؤال آخر: ما هي أهمية إحيائه إذا كان سيؤول هذا الإحياء إلى موته من جديد وربما في حالات أكثر تعاسة من ذي قبل؟
نلحظ أيضًا أنّ لعازر الذي قام من بين الأموات يحمل الاسم نفسه في المثل الذي يقدّمه لو عن "الغني والرجل الفقيرة (16/ 19- 31). لا قيمة بأن يُرسل لعازر من جديد إلى هذه الدنيا ليُقنع الآخرين كما أراد الغني (16/ 31)! نتساءل إذًا: لماذا لا يستطيع يوحنا أن يستعمل مثَل لعازر حسب طريقته الخاصة والشخصية؟.
يقترح علينا الأسلوب الذي يكتب فيه يوحنا أننا بإزاء نصّ مسرحيّ. قد نشبه هذا الاسلوب برواية القصص الخيالية: "كان في ذلك الزمان...". يكفي أن نضع بطريقة إزائية يو 11/ 1 ومقطع مثل السامري الرحيم في لو 10/ 30 ليكون ذلك مقنعًا.
يجرّنا كل ما سبق إلى وضع الحدث التاريخي جانبًا، وإلى أن نسعى لتفسير رمزي يتماشى مع تعليم الإنجيل الرابع. سنتطرق لبعض الملاحظات العامة التي تساعدنا على دراسة هذا النص الكتابي.

2- نظرة عامة إلى النص
أعطى البعض عنواناً لهذه الصفحة الجميلة الإنجيليّة: "قصة لعازر الذي من بيت عنيا". لقد سبق وقلنا إن هدف هذا النصّ تعليمي، وإنّه مرتبط بنص مثل "الرجل الفقير" اللوقاني. يدعونا ذلك إلى إيجاد معنى خاص بأسماء العلم. نحصل بالتالي على نص بعنوان: "قصة الله- الذي- يعين (لعازر) في بيت- الذُلّ (بيت عنيا)". يشير هذا العنوان المفسّر إلى موضوع النص العام الذي يتناوله يوحنا ليشرح لقرّائه كيف يتصرف الله من خلال رحمته نحو المتواضعين والتائبين إليه.
نص الرواية طويل ومبهم، غير أنّ بعض الشرّاح يضعون له هذه الهيكلية المختصرة:
أ- "يا رب، إنّ الذي تحبّه مريض. تعال" (آ 1- 5)
ب- أجل، هناك وقت للتحضير (موضوع الحجر: سيرجمونك!) (آ 6- 10)
ج- تعليم صعب عن الموت/ الرقاد (آ 11- 17)
د- مات لعازر ليقوم ويحيا (آ 18- 25)
هـ- اعتراف إيماني عظيم (آ 26- 27)
د د- تتوجه مريم نحو يسوع: إيمان عملي (آ 28- 32)
ج ج- يبكي يسوع ويرتعش: سيعطي الحياة "حياته" (آ 33- 38أ)
ب ب- لعازر حاضر للحياة مع عصائبه (موضوع الحجر: إرفعوا الحجر!)
(38 ب- 44)
أ أ- يدفع يسوع من حياته تلقاء حياة لعازر: إيمان كثير من اليهود (45- 53).
تشدّد هذه الهيكلية على الدور المركزي والحاسم للإيمان (هـ) الذي يسمح وحده بالعبور من الموت (أ- د) إلى الحياة (أ أ- د د). لا ينقص هذا التساؤل الإيماني من أهميته ومن تبسيطه. قد يذكرنا ذلك يالنصوص اللّيتورجية التي تبسّط الجواب على قانون الإيمان حسب المثال التالي: "أنا (فلان) أؤمن بأن يسوع هو المسيح ابن الله الذي أتى إلى العالم". هذا ما تنتظره الجماعة المسيحية من الموعوظ في اعترافه الإيماني قبل أن يقبل العماد ليلة الفصح في نهاية الاسبوع الذي يبدأ من الناحية الأدبية في الإنجيل الرابع (يو 12/ 1).
تكوّن العناصر الروائية من (أ) إلى (د) زمن التحضير الذي يمرّ فيه الموعوظ ليأخذ بوجه العموم التعاليم الإيمانية وخصوصًا تلك التي تتطرق إلى علاقة الخطيئة بالموت، وإلى علاقة الموت بالقيامة. يُطلب من الموعوظ أن يكون حذرًا في طلبه العماد الذي يتضمّن صعوبة ومجازفة (ب: موضوع الحجر الذي سيقع عليه). ندخل هنا في إطار الاضطهادات التي ستواجه المؤمن.
يصرّ الجزء الثاني من اللوحة (أ أ- د د) على موضوع التبادل. لا يستطيع المعتمد أن يتقبّل الحياة إلاّ من المسيح معطي الحياة. هذا ما يظهر من العلاقة الواضحة التي تجمع بين الأبعاد (أ وأ أ)، وبين (ب وب ب)، وبين (ج وج ج). تبادل إذًا بين أربعة حدود:
1) يسوع يحيا 2) لعازر يموت
3) لعازر يحيا 4) يسوع يموت
يتحقّق هذا التفاعل في العماد وبواسطته، هذا التفاعل الذي يجعل من الإنسان المائت يصرّح بوضوح أنه لم يعد هو يحيا بعد ذلك، بل المسيح الذي يحيا فيه (راجع غل 2/ 20). يشكّل هذا التبادل مدخلاً للرجاء في الحياة المشتركة التامة مع المسيح والمرجوة بعد هذه الحياة. هذا هو رجاء توما عندما قال: "لنمضِ نحن أيضًا لنموت معه!" (آ 16). سيموت لعازر (12/ 10) كما مات المسيح، ويشتركان معًا في مجد الآب الذي يبقى الآن مستتراً في عيني المعتمد.

3- بعض التفاسير الإضافية
3، 1: يشدّد الإنجيلي على ثياب الميت المؤلفة من عصائب ومنديل والتي لازمت لعازر الخارج من القبر (آ 44). يرمز الثوب في المفهوم البيبلي إلى شخصية الانسان، ويبقى لعازر بالتالي مائتاً خارج القبر. لا ينشل العماد المسيحي من الموت الأخير، ولكنه يميت الانسان عن الخطيئة ويبعده عنها ويدخله إلى حياة نورانية ما زالت وقتية وفانية. بينما نجد بوضوح في قبر المسيح الأكفان موجودة، ولكنها على عكس ذلك تدل على أن هذه الثياب قد أهملت إلى الأبد. أجل، المسيح القائم من بين الأموات، حاضر أبداً في حالة لا يستطيع الموت أن يعمل بعد شيئا.
3، 2: نجد مطابقة بين قبر لعازر وقبر المسيح الذي كان محفورا في الصخرة، حسب التقليد الإزائي، وله باب جانبي مسدود بحجر رحى عظيم من الأمام. ينوّه يوحنا بدوره فيقول إن قبر لعازر كان مغارة صغيرة في منحدر جدار صخري، وكان حجر يسدّ مدخله. يستعمل يو فعل "رفع الحجر" (Arate يو 11/ 39؛ êrmenon يو 10/ 1) عن قبر لعازر ويسوع معًا. يشير الخروج من القبر حسب التقليد الإزائي إلى لقاء مكانيّ أفقيّ مع أديم الأرض، بينما يشير في الإنجيل الرابع إلى حركة صعودية يشدّد يوحنا على أن الحركة بالنسبة إلى يسوع هي "صعودية" (Anabaino 25/ 17)، بينما يبقى لعازر مشدودًا بثياب الموت وتصبح حركته أرضية: "حلّوه ودعوه يذهب" (11/ 44 upagein). ويذكر صعود لعازر خارج القبر صعود المعتمد من حوض المعمودية. لقد وُعد المعتمد بحياة جديدة "أسمى" يتحضّر لها طوال حياته الأرضية. نفهم من خلال هذا المعنى التناقض بين رائحة "النتانة" الصادرة من قبر لعازر (يو 11/ 39)، والطيب الذي يفوح من قبر المسيح (يو 12/ 3 و7).
3، 3: يلي خروج لعازر من القبر الأوامر التي أعطاها يسوع لبعض الناس الذين شاهدوا المعجزة ونفّذوها. يسألهم يسوع عن مكان القبر، ويأمرهم برفع الحجر عن مدخل القبر، ويطلب اليهم بحلّ الميت الحيّ. نفهم وساطة الأشخاص الضرورية إذا كانت الرمزية تدل إلى العماد. يعطي يسوع حياته ليعيش منها جميع "من يحبّ" يسوع (يو 11/ 3). تأخذ الكنيسة دور هذه الوساطة الأساسيّة لتعطي معنى هذه الحياة بالعماد وتنشأها. بينما لا توجد أية وساطة إنسانية ممكنة في قيامة المسيح. يقول سارلييه: "لقد أزيل الحجر عن القبر وغدت الأكفان ملفوفة بقدرة الله الذي أدخل المسيح مباشرة في حياته المجيدة". يمثّل العماد القيامة ويبشّر بها، ولكنه لا يتماثل معها أبدًا.

4- خاتمة
تختلف هذه النظرة إلى نص يو 11 عن النظرة التقليدية، لأنها من جهة لا تجبر يسوع بأن يقوم بأعمال قد تكون معاكسة لرسالته، ولأنها من جهة ثانية تقدّم لنا تعليمًا غنيًا عن العماد وعن الالتزامات الإيمانية التي تصحبه. كذلك تساعدنا هذه الطريقة على الاقتراب من النصوص اليوحناوية وقراءتها بنظرة مزدوجة. تشمل النظرة الأولى، الايجابية، الكلام عن العماد المسيحي، بينما النظرة الثانية، بعكس الأولى، تبعدنا من أن نقارن بين إحياء لعازر وقيامة يسوع المسيح. نكون هكذا قد مررنا من القصة إلى السرّ الذي تحقّق في كلام يسوع: "يأتي ساعة فيها يسمع صوته جميع الذين في القبور فيخرجون منها. أمّا الذين عملوا الصالحات فيقومون للحياة" (يو 5/ 28- 29).

نحو آفاق لاهوتية
يتألف مخطط "المعجزة" التقليدي، حسب رأي البحاثة الكتابيين، "من تقديم حقيقة الشر ومن إيمان طالب المعجزة أو القريبين اليه، ومن تدخل يسوع مباشرة وبفعالية، وبالتالي من ردة الفعل عند الشهود". كما ينجم عن كل ما تقدّم صورتان متجانستان أساسيتان، قدرة يسوع وقدرة الإيمان. لقد خلق الإنجيليون في رواياتهم "إحياء الموتى"، عندما نقارنهم مع مشاهد الأفلام السينمائية، لحظات "ترقّب" (suspense) تقودنا إلى النهاية السعيدة التي تتألق في معطيات كرستولوجية.
ينظر المسيح من جهة شخصًا له قدرة غير محدودة. فهو يعيد الميت إلى الحياة لأنه قادر على المستحيل. ينقسم الشهود أمام هذه المعجزات إمّا إلى ساخرين وإمّا إلى أشخاص ينذهلون أمام رؤية المستحيل. وتظهر من جهة ثانية هويّة يسوع المسيحانية. لم يتحقّق في المسيح انتظار أشخاص كيائيرس وأرملة نائين واختي لعازر فحسب، بل تحقق أيضاً رجاء شعب بكامله يتوق إلى ذلك اليوم الذي يُظهر فيه الله، من خلال قيامة الأموات، أنّ زمن الخلاص حاضر.
يلعب الإيمان دورًا هامًا في حوادث إحياء الموتى، يقول يسوع لمرتا: "من آمن بي، وإن مات فسيحيا... أتؤمنين بهذا؟" (يو 11/ 25- 26). كذلك تخطّى يائيرس ردة الفعل عند أصحابه وعند الباكين. نجد عند هذا الوجيه إيماناً "ينمو"، إيمانًا لا يتخطّى الانتصار على عدم الإيمان فحسب، بل يتعمّق في "موضوع" الإيمان. "يعترف يائيرس تدريجيًا بصانع العجائب أنه المسيح". تصبح المعجزة تحدّ للإيمان "الشخصي"، وتقود إلى الإيمان "الموضوعي". يضع كسافييه ليون- دفور في مقطع جميل مقابلة بين الإيمان والمعجزة، ويقول: "إن موضوع الإيمان هو معجزة، علينا أن نحصل عليها، لأنّ المعجزات وليدة الإيمان وليست مسبّبتها. إنها علامات تدعونا إلى البحث عن الذي يعملها. عندما يقع ناظرنا على المسيح، فإنّ الإيمان يقتلع المعجزة من قدرة المسيح العظيمة... والإيمان في قدرته الذي يطلبه يسوع هو جواب الانسان إلى الملكوت الذي يحصل بأعماله". لا يقوم الإيمان إذًا على المعجزة! بل يصبح إنضمامًا إلى يسوع القائم من بين الأموات، لأن قاعدة إيماننا هي قيامة المسيح من بين الأموات. يقول بولس: "إن كان المسيح لم يقم، فتبشيرنا باطل وإيمانكم أيضًا باطل" (1 قور 15/ 14).
ينضمّ "القائم من الموت" إلى المسيح في انتصاره على الموت ويدخل معه الملكوت ممجدًا. فالمعجزة التي تعبّر عن انتصار يسوع، تُدخلنا إلى ملكوت الله حيث تلتقي النظرة المسيحانية بالنظرة الأخيرية في الحاضر والمستقبل. إنها تلاقي الأرض والسماء، إنها سرّ تعاطف الإله مع الإنسان خليقته، إنها الخلاص الذي يحمله المسيح للبشر حتى يسمح لهم بالاعتراف به وبقبوله، إنها عمل الله وسرّ "ظهوره". وتعيد معجزة "إحياء الموتى" الخليقة بعد السقطة إلى مصدرها الأول، وتفتح أمامها أبواب الملكوت واسعة. لا يكفي إذًا أن نفحص المعجزة علميًا وأن ندقّق بعمل الله لنحصل على عمق مدلول هذا العمل الإلهي، "لأنّ ما يجري في زمن محدّد من حياة يسوع مرتبطٌ ارتباطًا كليًا بتاريخ الخلاص بأكمله، وبنوع خاص بعمل الخلاص المطلق والأسمى الحاصل في موت الربّ وقيامته من بين الأموات".
الأرشمندريت نيقولا انتيبا

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM