الفصل الرابع عشر: الاعجوبة أم الكلمة المحيية

 

الفصل الرابع عشر
الاعجوبة أم الكلمة المحيية

مقدمة
الاعاجيب والخوارق قديمة قدم الإنسان! وكلّ ما لم يفهمه الإنسان القديم بدا له عجيبًا مدهشاً ودعاه إلى التأمل في أسرار الكون والطبيعة التي تفوق إدراكه وخبرته، ودفعه إلى البحث عن القوى الخفية التي تقف وراء هذه الخوارق والاحداث العجيبة.
وهكذا وُلدت الديانة أو ما نسميه التديّن الطبيعي عند الإنسان.
هذا التديّن الطبيعي هو وليد خوف واسترضاء للالهة. لأن الإنسان يقوم بأعمال عبادة غايتها الاساسية إسترضاء الآلهة لئلا تغضب عليه فتصيبه الكوارث والامراض... ولذلك يعبدها ويصلي لها ويقدّم لها القرابين...
ومن جهة ثانية هذه العلاقة الحسنة المزعومة بين الإنسان وآلهته، تدفعه إلى أمر آخر وهو طلب العجائب من تلك الآلهة، لكي يتغيّر كلّ ما لا يرضي الإنسان المتديّن. هكذا تراه يقدم النذورات والبخور، ويعد بدفع مبلغ ما أو بتقديم شيء ما للآلهة إن هي استجابت دعاءه وحصلت أعجوبة شفائه أو شفاء أحد أحبّائه أو كثّرت محاصيله...
في كل ذلك ترى الإنسان المتدين لا يبحث عن الاصغاء إلى كلمة إلهه للعمل بها كونها خيره الأعظم، بل هو "صاحب الكلمة" يطلب من آلهته أن تنفذها له بواسطة قواها العجيبة.
بهذا المعنى نفهم وجود السحر والسحرة، وهو يقوم على كلمة سحرية ينطق بها الساحر فيُخضع قوى الآلهة لإرادته ويحول شرًا إلى خيرٍ أو خيرًا إلى شرٍّ...
باختصار، الاعجوبة في الديانة الوثنية هي كلمة من الإنسان يريد تحقيقها فيلجأ إلى أساليب السحر أو الصلاة للآلهة لتحقيقها.
من جهة ثانية، هناك مفهوم شعبي وفلسفي حديث للاعجوبة نستطيع اختصاره بما يلي: المفهوم الشعبي الحديث لكلمة خارقة أو أعجوبة يتّصف بالدرجة الأولى بما يلي: حدث أو شيء يدفع الإنسان إلى التعجّب والذهول، كونه خارق العادة ولا يفسَّر بالمنطق الطبيعي وقد يؤول بالإنسان حتى إلى الشعور بالخوف.
وبالمعنى الديني، الاعاجيب والخوارق هي بحسب القديس توما الاكويني: "ما يحدث بعض المرات، بتدخّل إلهي ويتخطّى النظام الطبيعي والعادي للأمور" (Contra Gentes III, 101).
وبهذا المعنى نجد أيضًا تحديدات مختلفة في قواميس اللغة الفرنسية والعربية وغيرها، وهي غالبًا تحدد الاعجوبة كونها حدثًا غير اعتيادي يُفسَّر كونه نتيجة لتدخل إلهي ذات مدلول روحي...
وهناك أيضًا تحديد عقلاني للاعجوبة نجده عند الفيلسوف الانكليزي هيوم (سنة 1738) ويقول: "الاعجوبة هي أساسًا اختراق لقوانين الطبيعة!".
باختصار كلمة أعجوبة ترتبط، حسب هذه المفاهيم بالأمور التالية:
- شيء مدهش وخارق العادة
- لا يمكن تفسيره لأنه يخترق قوانين الطبيعة
- تفسيره الوحيد هو في مصدره السامي أو الالهي.
فهل هذا هو معنى الاعجوبة في الكتاب المقدس؟

1- الاعاجيب في الكتاب المقدس
أولاً: في العهد القديم
أ- بعض التعابير المستعملة
لا ترد كلمة أعجوبة في العهد القديم العبراني، وإنّ الكلمات الأكثر تعبيرًا عن الاعجوبة في العهد القديم هي التالية:
1)Prodige – Teras – Mofet - مدهش- غريب.
هذه الكلمة لا تستعمل غالبًا تعبيرًا عن تدخّل إلهي أو ما شابه، بل تعبيراً عن حدث إعتيادي له مدلول رمزي مدهش أو غريب: فالنبيّ حزقيال يوضب حقائبه ويخرج في الليل هاربًا من الاسوار، ليعبّر عن مستقبل إسرائيل في الجلاء وهذا أمرٌ مدهش! بل إن النبيّ نفسه يُصبح مدهشًا" (حز 12: 11). كذلك عبد الله المتألم هو "مدهش" للذين يرونه لأنه الألم الخلاصي ويرمز إليه بطريقة غريبة وإن لم تكن خارجة عن العادة أو قوانين الطبيعة (إش 53 ومزمور 71: 7) الـ Mofet إذًا هو شيء غير مألوف له مدلول رمزي وغير سهل التفسير.
2) Signe – Semeion = ot- علامة.
هذه الكلمة تستعمل غالبًا للتعبير عن حدث له مدلول قوي على المستوى الديني وإن يكن الحدث بحدّ ذاته لا يبدو خارقًا: فقوس القزح مثلاً هي "علامة" (تك 9: 12- 17)، والختان هو "علامة" (تك 11: 17) للعهد. إنهما علامة لتدخل الله في التاريخ وفي الخلق.
3) Ceuvres – Ergon – Dynamis = Ma' âsei Ghibbura- أعمال وقدرات.
هذه الكلمات تعبّر عن مفاعيل قدرة الله التي تصفع ما لا قدرة للإنسان عليه= الخلق- الخروج- عبور البحر- الصحراء وما حدث فيها- دخول أرض الميعاد- إخراج إسرائيل من سبيه في بابل... كلها أعمال وقدرات يصنعها الله وتبيّن عظمته.

ب- معنى الاعجوبة
يتّضح لنا من خلال دراسة الكتاب المقدّس، والتقليد التفسيري له، ومن خلال الدراسات الحديثة أن الاعجوبة هي قبل كل شيء كلمة من الله وعلامة تدلّ على حضوره. إنها عملُ قدرة منه، ونحن لا نستطيع أن نقرأه خارج إطار الخلق وتاريخ الخلاص. كلّ التاريخ هو معجزة إلهية مستمرة والإنسان مدعو إلى اكتشافها ومباركة الله الدائمة يسجلها.
طبعًا توجد قصص معجزات معينة في العهد القديم ولها طابع مميّز من حيث طابعها الخارق والغير المألوف وبعضها قريب من القصص الاسطورية التي نجدها في الادب الشرقي القديم.
فهناك القصص الملحميّة التي تميل إلى تعظيم الاحداث وتفصيلها وإدخال عناصر خيالية عليها، والهدف من ذلك تجميل القصة وجعلها أكثر إثارة وحيويّة، كما أن المراد الاساسي هو التغنّي بعظمة وقدرة وسلطان وطيبة الله... ومع ذلك، فإنَّ مثل هذه القصص، في الكتاب المقدّس، ترتكز على حدث تاريخي واقعي اختبره الذين أخبروا به يحافظ على حيويّته الخلاصية دائمًا، من جيل إلى جيل، وكلما أعيد إخبار تلك القصة إن في الإطار العائلي أو الليتورجي... من هذه القصص: قصة الخروج من مصر وما رافقها من معجزات وعبور للبحر ومسيرة في الصحراء...
ويجدر بنا أن نتوقف قليلاً عند إحداها، وهي عبور البحر، لنكتشف أن كلّ المعجزة تهدف إلى إظهار قدرة الله الخلاّقة والخلاصية في آن.
وبهذا المعنى فإنَّ تقليد الكتاب المقدّس حول المعجزة يختلف عن نظرتنا نحن إليها، وبينما نميل نحن إلى النظر إلى المعجزات وكأنها اختراق لنظام الطبيعة، فإنَّ الكتاب المقدّس يعتبر أن التدخّل الإلهي لا يخالف أبدًا نظام الطبيعة، بل هو استمراريّة لعمل الخلق الذي هو معجزة المعجزات. والنظرة الكتابية إلى الخلق الذي صنعه الله هي أيضًا مميّزة بكونها نظرة أخلاقية. فالله خلق الكون والإنسان لهدف معيّن وهو أن يعيش الإنسان بالسعادة التامة وأن يكون محور سعادته ارتباطه بالله.
من هنا فإن الوصايا الإلهية هي نفسها مرتبطة بالخلق، أي إن الإنسان مدعوّ لاتّباع الوصية الإلهية حتى يتحقّق فيه الهدف الذي لأجله خلق الله العالم. وحدها مخالفة الوصية الالهية من قبل الإنسان، تحيد به عن الهدف الاساسي للخلق وتهدّد مراد الله الخلاصي والحبيّ فيه!
وهنا، تكون المعجزة التي يصنعها الله ذات غاية أساسية وهي إعادة الإنسان إلى إمكانيّة الاستفادة من حبّ الله والوصول إلى غايته في الخلق أي السعادة.
باختصار، إن الاعجوبة في الكتاب المقدّس هي تدخّل إلهي لتصحيح مسار خاطىء اتخذته الخليقة وابتعدت بسببه عن تدبير الله.
لذلك، فهدف المعجزة هو مؤقت وتدريبٌ على العودة إلى الحرية الاصلية حيث لا يحتاج الإنسان إلى معجزة طارئة بل يعيش في المعجزة الدائمة التي هي الخلق وتدبير الله الخلاصي الذي يقود الإنسان المؤمن في الطريق المؤدي إلى تحقيق إرادة الله في سعادة الإنسان التامة. هذا هو معنى المسيرة نحو أرض الميعاد. هذا هو معنى إعطاء الوصايا وتحقيق العهد. إنها المعجزات الحقيقية، لأنها تحقيق إرادة الله الخلاّقة في شعبه.
وعليه يمكننا القول بأن المعجزة هي دائمًا علامة- هي علامة العهد مع البشرية المائتة بالطوفان- هي علامة إرادة الله في إخراج شعبه من عبودية مصر وبالتالي إعادته إلى حالته الأولى: على صورة الله ومثاله. هي علامة رحمة الله للخاطئ، كما هي الحال في معجزة يونان النبيّ.

ج- الاعجوبة
الاعجوبة هي إذاً كلمة من الله لشعبه أو للآخرين. وبينما يبدو لنا أن كلمة الله الطبيعية الدائمة هي، كما قلنا، فعل الخلق والخلاص المستمر، فإن الاعجوبة تبدو بالأكثر في العهد القديم كلمة باتجاه غير المؤمنين أو المشكّكين بقدرة الله وإن كانوا شعبه أنفسهم. بهذا المعنى نفهم كلّ الاعاجيب والخوارق التي صنعها الله في مصر "ليظهر قوته لفرعون"، "فيعرف إني أنا الله"، ومنها الضربات العشر وعبور البحر وموت الجيش الفرعوني... وكذلك معجزات الصحراء التي أتت كجواب على تذمّر الشعب وتشكيكه بالربّ...
وهكذا الامر مع إيليا النبيّ الذي لم يجترح أية أعجوبة إلا ليؤكّد تعليمه حول وحدانية الله ودعوة إسرائيل للابتعاد عن الاصنام. كان إيليا يعيش في زمن عبادة الآلهة المزيفة، وكان شعب إسرائيل قد تخلى عن الله. فكثر الظلم واستغلال الفقراء وزاد الفحش والمجون ولم يعد الشعب ولا حكّامه يسمعون تعاليم النبيّ فقسوا قلوبهم ورفضوا التوبة عن ضلالهم: ولذلك فقط تحدّى إيليّا كهنة البعل الذين كانوا يضلون شعب الله واجترح تلك الاعجوبة الشهيرة التي بيّنت أن تعاليمه صحيحة وتعاليم كهنة البعل باطلة: هدف تلك الاعجوبة كان تأييد كلمة النبيّ أمام الشعب غير المؤمن (1 مل 18: 17- 40).
وهكذا الامر أيضًا مع باقي الانبياء في العهد القديم. ما صنع الله عن يدهم آية إلاّ لتأكيد كلمته عند الناس غير المؤمنين أو لتشجيع المؤمنين منهم على الثبات والرجاء.

ثانيًا: في العهد الجديد
أ- الاطار العام وبعض التعابير
بُني العهد الجديد على حدث معجزة القيامة، وقد أُعلن هذا الحدث واحتفل به المسيحيون وتأمّلوا فيه مطولاً قبل أن يكتبوه في أسلوب أدبي معيّن خاص بالجماعات التي كُتب لاجلها. ولا شكّ أن الانجيلي قد استعمل الاسلوب الادبي المناسب لسكب قصته حول تعاليم المسيح أو أعماله ومعجزاته.
ومن الملاحظ أن كلّ الاناجيل تتفق على أن "يسوع قد صنع الكثير من المعجزات" وغالبًا ما تأتي هذه الملاحظة في بداية أو نهاية مقاطع من هذا الانجيل أو ذاك.
أما الذين يشفيهم يسوع فهم موصوفون بشكل عام بأنهم مرضى أو ممسوسون.
والملاحظ أنهم في لمسهم ليسوع ينالون "الخلاص" sozon وليس الشفاء فقط، وهذا فيه تلميح واضح إلى الطابع الخلاصي للمعجزات التي يصنعها يسوع. (متى 14: 35- 36؛ مر 6: 56).
أما يسوع فيصفه الانجيليون عامة بأنه "يعتني" بالمرضى والممسوسين Therapeuo؛ وحده لوقا يصف عمله بأنه Hiastai أي شفاء Guérison.
فالتركيز إذًا هو على الحبّ، على الرحمة التي تصدر من يسوع تجاه المرضى أكثر منه على النتيجة، أي الشفاء!
من الملاحظ أيضًا، أن أخبار المعجزات والأعاجيب تختفي تدريجيًا كلما تقدم الوقت بيسوع نحو "ساعته"، ولهذا لا نجد أنه اجترح أيّة أعجوبة خلال عمله في أورشليم (سوى متى 21: 14).
بدت هذه الاعمال قد صارت ثانوية جدًا تجاه العمل الاساسي الذي سيقوم به في أورشليم ألا وهو آلامه وموته وقيامته.
أخيرًا، تشكّل روايات المعجزات في الاناجيل ما مجموعه 65 رواية منها ما يرد في أكثر من إنجيل واحد، ولذلك فهناك 32 رواية مختلفة لعجائب ومعجزات قام بها الرب.
ونجد في متى 20 رواية، وفي مرقس 18 وفي لوقا 19 وفي يوحنا 8 فقط.
وإذا احتسبنا عدد الآيات التي تحتلها هذه الروايات، نجد أنها لا تشكّل سوى 119 آية في إنجيل متّى من مجموع آياته الـ 1071 أي بنسبة 10، 11% من الانجيل.
أما الروايات نفسها فتتبع غالبًا مبنى تقليديًا ينقسم إلى خمسة أقسام:
- وصف المريض أو الممسوس
- إيمان الذي يطلب الشفاء:
هذا الايمان إما مُثنى عليه من قبل يسوع أو مطلوب من طالب العجيبة الجهار به.
- الشفاء يحدث بكلمة من يسوع (أو فعل ما)
- الشفاء يصير فورًا وبوضوح
- الرواية تنتهي عادة بالاعتراف بالعمل الإلهي وتمجيد الله.

ب- معنى الاعجوبة
أولاً، يجب أن نعرف أن التقليد اليهودي في زمن يسوع لم يكن ينظر بعين جيدة إلى الاطباء راجع أي 13: 4؛ مز 87: 11؛ سيراخ 38: 1- 15 حتى إن بعضهم كان يعتبره كاللحّام الذي يمارس القطع والوصل... وفي التقليد الرباني (قدشيم 4: 14) يقول أنه يمارس مهنة اللصوص (راجع مر 26: 5).
أمّا المعزِّم أو الذي يطرد الارواح النجسة فقد كان يعتبر ذا وظيفة نبيلة وقريبة من وظيفة الكهنوت (متى 12: 27).
من هنا فإن الأناجيل تبرز يسوع بالاحرى كونه صاحب سلطان على طرد الارواح النجسة وشاف من علل الجسد والنفس المستعصية على الاطباء... وبذلك فهم يبرزون العجيبة كونها علامة على أن ليسوع سلطانًا على الخطيئة التي هي في أصل المس الشيطاني، وعلى الشيطان نفسه الذي يأسر الناس بأمراضٍ مستعصية، ولا سيّما تلك التي لها معنى لاهوتي: كالعمى، أي عدم القدرة على رؤية النور، نور الله ونور الإيمان. والصمم أي عدم القدرة على الاصغاء إلى كلمة الله وكلمة الحياة... والخرس، أي عدم القدرة عن إعلان أعمال الله... والبرص أي النجاسة التي هي مضادة لقداسة شعب الله أي الوثنية، والشلل أي عدم القدرة على السير في طريق الله ونحو بيت الله... من جهة أخرى من الملاحظ بشكل واضح أن الاعاجيب تركز بشكل أساسي على يسوع المسيح والايمان به، وعلى ملكوت الله أكثر منها بكثير على الذين ينالون الشفاء أو يستفيدون من الاعجوبة والمعجزة.
ولنا في رواية متى 11: 2- 3 ولو 7: 18- 21 خير مثال على المعنى اللاهوتي الملكوتي المسيحاني ولعمل العجائب في العهد الجديد: فهناك يرسل يوحنا المعمدان من سجنه بعض تلاميذه إلى يسوع يسألونه: هل أنت الآتي أم ننتظر آخر؟
وهنا لا يجيب يسوع إلاّ بفعل معجزات عديدة: فقد شفى أمامهم الكثير من المرضى والمصابين بالعاهات والارواح الشريرة وأعاد البصر إلى كثيرين.... ثم يقول لهم: اذهبوا وأخبروا يوحنا بما رأيتم وسمعتم: "... العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يبرأون، والصمّ يسمعون، والموتى يقومون... وطوبى لمن لا يشك فيَّ!" (متى 11: 4- 6 ولو 7: 11- 23).
من الواضح إذًا أن الهدف الاساسي من صنع المعجزات هو إعلان ملكوت الله والتأكيد بأن يسوع هو المسيح! إنها علامات الملكوت كما تنبّأ بذلك الانبياء في العهد القديم.

ج- الاعجوبة: الآية والكلمة
نجد في الأناجيل ملخصات كبرى لشفاءات وأعاجيب صنعها يسوع وأهمها ما نجده في متى 4: 24؛ ومتى 8: 16- 17؛ ومرقس 1: 32- 34؛ ولو 4: 40- 41 الخ... وتبرز هذه الملخصات أمرين مهمين:
كون يسوع المسيح قد افتتح عهد ملكوت الله الذي هو عهد شفاء من كلّ مرض وشيطان! والاثنان هما رمز للخطيئة التي تبعد عن الله وتنتج المرض والاستعباد للشيطان.
وكون هذه الشفاءات هي آيات تدفع الناس إلى تمجيد الله (لو 11: 12؛ 2: 20؛ 7: 16؛ متى 16: 14). من جهة ثانية، لا شك أن هذه الشفاءات والاعاجيب هي أحد البراهين الحسيّة عن سلطان المسيح التعليمي وصحة الكلمة التي يعلنها. وهذا واضح من خلال أمثلة عديدة. يكفي أن نذكر شفاء المخلع في كفرناحوم (لو 5: 17- 26) وتكثير الخبز والسمكتين عند بحيرة طبرية (يو 6: 1- 71). فقبل أن يشفي يسوع المخلع من مرضه الجسدي، غفر له خطاياه مؤكّدًا بذلك أن خلاص الإنسان من مرض الخطيئة المميت أهم بكثير من شفاء جسده من المرض. وهو لم يقل له: "قم واحمل سريرك وامش" إلاّ ليؤكّد كلمته السابقة أي قدرته على شفاء الخطايا.
أما معجزة تكثير الخبز والسمكتين فلم تكن إلا تهيئة لاعلان يسوع أنه هو نفسه خبز الحياة النازل من السماء ليعطي الحياة الحقيقة. ولعل هذه الحادثة هي أفضل برهان على أن الأعجوبة لا تكون فعالة إلا اذا قبلها الناس كآية أي كعلامة تدعوهم للإيمان. فهذا الشعب الذي أكل وشرب وشبع وكاد من شدة حماسته يعلن يسوع ملكًا ومسيحاً (6: 14- 15)، احتشد في اليوم التالي طالباً الخبز الفاني وأعجوبة جديدة، لكن يسوع بادرهم بقوله: "الحق الحق أقول لكم: أنتم تطلبوني، لا لأنكم رأيتم الآيات، بل لأنكم أكلتم الخبز وشبعتم". وهذا ما حدث فعلاً، إذ إنهم جميعهم، ما عدا بطرس وباقي الرسل، تركوه رافضين الايمان بكلمته".
فالاعجوبة ليست بالضرورة آية أو علامة كافية. وقد يتحقق ما قاله أشعيا النبيّ: ينظرون ولا يرون، ويسمعون ولا يفهمون، ويقسّون قلوبهم لئلا يتوبوا فأرحمهم. وهذا ما يقوله يسوع في متى 7: 22- 23: "كثيرون سيقولون لي في ذاك اليوم: يا رب، يا رب، أليس باسمك تنبّأنا، باسمك طردنا الأبالسة وبإسمك أتينا آيات كثيرة؟ وعندها أقول لهم: ما عرفتكم قط!" (راجع أيضًا متى 25: 41- 45). ونجد أن يسوع يعلن بمرارة شديدة فشل الآيات والمعجزات التي صنعها بنفسه في أن تعيد الناس إلى الايمان والتوبة عن أعمالهم. وها هو يبكّت مدن الجليل لأنها لم تتب بالرغم من الآيات والمعجزات التي صنعها فيها.
وفي مكان آخر يرفض يسوع أن يعطي الكتبة والفرّيسيّن آية إلاّ آية يونان النبيّ! وماذا صنع يونان؟ هناك تقليد يفسّر كلام يسوع هذا بأنه تلميح إلى موته وقيامته. وهذا ما يؤكده نص متى 12: 40. ولكن الآية الأهم التي تتفق عليها كل النصوص هي: دعوة النبيّ يونان أهل نينوى للتوبة (بواسطة الكلمة!) وقبولهم الدعوة وتوبتهم. فالذي يرغب بالتوبة تكفيه كلمة! والذي يرفض التوبة، لا تفيده الاعجوبة! "فإنهم إن كانوا لا يسمعون لموسى وللأنبياء فحتى ولو قام واحد من الأموات لن يتوبوا!" (لو 16: 30- 31).
هنا أيضًا نستحضر نص شفاء الممسوس الوثني في ديار الجرجسيّين. فبالرغم من هذه الآية العظيمة التي صنعها يسوع، فإنَّ أهل البلد رفضوا الايمان خائفين على خسارة قطعان أخرى! مفضلينها على حضور المسيح بينهم وشفاء ممسوسهم! وهذا تأكيد على البعد الوثني للاعجوبة! فهي ليست علامة للايمان، بل وسيلة لإرضاء مشيئة الإنسان وما يعتقده هو مصلحته! وإذا كانت الاعجوبة تخسر الناس قطعان خنازيرها فأي أعجوبة هي هذه؟ بل فليُطرد مسبّب الخسارة هذا!
أخيرًا نؤكّد هذا المعنى القوي للاعجوبة كونها آية لتثبيت الكلمة المعلنة من خلال سفر أعمال الرسل نفسه. فالرسل بعد القيامة لم يجترحوا أعجوبة إلا لتأيّيد "الخبر السار" بقيامة يسوع المسيح من الموت مخلّصًا الذين يؤمنون باسمه. وهكذا فإنَّ شفاء المقعد عند باب الهيكل دفع الكثيرين للاصغاء إلى تعليم الرسل وللإيمان باسم يسوع المسيح (أع 3: 1- 26).
ومن جهة ثانية، إذا قرأنا سفر أعمال الرسل بتمعّن، نلاحظ أن الأعاجيب والخوارق تختفي تقريبًا بعد ولادة الجماعات المسيحية الأولى. فحيث توجد الكنيسة الحقيقية لا حاجة إلى الاعاجيب، لأن الكنيسة هي الاعجوبة الكبرى والآية العظمى التي يدعو الله من خلالها جميع الناس إلى الايمان وهي التي تعطي الايمان.
فالاعجوبة اذا مفيدة بقدر ما تؤيّد الكلمة وتؤكّدها أمام الذين هم بحاجة إلى علامة حسيّة ليؤمنوا. لكنها عاجزة أمام الذين يرفضون الكلمة ولا يريدون الايمان بها.

خاتمة
إن كلمة الله، أعني أفعال خلقه العظيمة وأعماله الخلاصية المستمرة في التاريخ، هي الـ "دَبَر" الحقيقي والدائم، أي الكلمة الفعالة التي تدعو الناس إلى الحياة. وهي إذاً الاعجوبة المستمرة التي يستطيع من يراها ويسمع الاعلان عنها أن ينال الخلاص والحياة مهما يكن الواقع الذي يجد فيه نفسه.
من يرى ويسمع "كلمة" الله لا يحتاج إلى خوارق جديدة أو أعاجيب إضافية تخرق قوانين الطبيعة كما يسمّيها "هيوم" ومن بعده كثيرون!
وقد نكتشف بواسطة العلم أن ما اعتبرناه اليوم خرقًا لقوانين الطبيعة لم يكن سوى مظهر من مظاهر الطبيعة الغنيّة جدًا التي خلقها الله ليساعدنا من خلالها على الايمان، ولكن ذلك لن يزيل عن هذه الخوارق كونها كلمة من الله!
لذلك فالتمسك بالتعليم وبإعلان الكلمة وبعيش هذه الكلمة في جماعات مسيحية حيّة، هو العجيبة الفضلى والعظمى التي لا خوف من أن يضعفها علمٌ أو معرفة متطورة. فهي آية دائمة لكل الناس تعلن لهم قدرة الله على الخلق والخلاص في كنيسته.
الخوري جان عزّام

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM