الفصل الثاني
المعجزات في سفر الخروج

مقدمة
ينبغي التميّيز في العهد التهديم بين الخوارق بالمعنى المجازي للكلمة، الوارد ذكرها خاصة في الكتب ذات الأسلوب التعليمي (يون، طو، القسم القصصي من أي، أم. دا 1- 6، 2 مك، كما في أش 37/ 36- 37 و38/ 7- 8)، وبين المعجزات التي تظهر بقوة في وقتين أساسيين في تاريخ شعب الله، أي مع موسى ويشوع بن نون في مرحلة تأسيس شعب الله واستقراره، ثم مع إيليّا وأليشاع في الزمن اللاحق.
طالت التوسيعاتُ الأدبية التقاليدَ المتعلقةَ بالضربات العشر التي حلّت بمصر، والمعجزات التي رافقت شعب الله في مسيره في الصحراء أولاً، وعند احتلاله أرض كنعان لاحقًا.
لا شكّ في أنّ ما دوّنه الكتّاب الملهمون يتماشى مع ذهنية عصرهم، من حيث الأسلوب الأدبي الذي استعملوا، دون إغفال الهدف الديني الأساسي للقصة، ألا وهو أن الله حاضر أبدًا مع شعبه، يحميه (يش 42/ 17)، ويقود خطاه في انطلاقته ومسيرته. إن التقاليد التي تخبرنا عن معجزات الرب في سفر الخروج، بأسلوب ملحمي شيّق، هي تعبير قوي عن تدخّل الله لصالح مختاريه، من أجل أن يثبتهم في انطلاقتهم كشعب هو خاصّتُه، وبه يتمجد؛ فمن خلال المعجزات يظهر الله فاعلاً في التاريخ، يدعم بها نبيَّه ناقلَ كلمته إلى الناس، ويثبته في مهمته (خر 4/ 1- 5؛ 1 مل 18/ 36- 38؛ أش 38/ 7- 8؛ ار 44/ 29- 30)، ويُرِي بها الخلاص الذي يرمي إلى تحقيقه.

سفر الخروج
هو ثاني أسفار التوراة، وهو إلى حدٍّ ما العمود الفقري للكتاب المقدّس، حتّى إنه يُسَمَّى "انجيل العهد القديم"، لأنه يتضمن "البشرى" بأن الله سيخلّص شعبه، ويحرّره، ويقدّسه. الكلام بحد ذاته عن هذا السفر أمر شيّق جدًا، لأنه، إذا كان سفر التكوين يُعنى في بداياته "بالخلق" بمعناه الطبيعي، فسفر الخروج يُعنى بخلق آخر "خلاصي"؛ فَمَعَ تحقيق الاخراج من مصر والتحرير، صار هناك "تكوين" جديد لشعب الله، بالمعنى اللاهوتي للكمة. لذلك، فالمعجزات العديدة التي حفظ سفر الخروج ذكرها، هي ذات هدف "تكويني" و"خلاصي"، يسمح بأن يكون بنو إسرائيل شعبَ الله.
لقد أثّر هذا السفر كثيراً في حياة شعب الله حصرًا، وفي روحانية الكنيسة لاحقًا، واستلهمه العديد من الآباء القدّيسين، شرقًا وغربًا، في كتاباتهم، وتأمّلاتهم، ومواعظهم، واعتنق مبادئه العديدُ من المناضلين على الصعيد الاجتماعي في سبيل الحرية، والعدالة، والكرامة البشرية، فكان هكذا وسيبقى كنزًا ثمينًا يشتهي اقتناءه والاستقاءَ منه كلُّ منقاد بروح الله، قبل التجسّد الإلهي وبعده.
وعى اسرائيل وجودَه كشعبٍ انطلاقًا من حدث الخروج؛ وليُسمَح لي هنا باستعمال كلمة "إخراج" التي تدلّ على أن الفاعل هو الله، بواسطة موسى، بدلاً من كلمة "الخروج" حيث الفاعل هو الشعب. لذلك، فإنَّ هذا الأخير يعتبر حدثَ الخروج أساسَ وجوده، وميثاقَه، وهويتَه، لأنه قصةُ اختباره الأول لعمل الله الخلاصي؛ إليه تعود شرائع حياة شعب الله، ومعتقداتُه، وطقوسُه، كونه الحدثَ التأسيسي والمرجعَ الأكبرَ في مسيرته، حتى مجيء المسيح وبعده. فعلى ضوء حدث الخروج قرأ بنو إسرائيل كلَّ الأحداث الكبيرة اللاحقة، ومنه عرفوا الكثيرَ مما يتعلق بليتورجيتهم، وهو الذي كان يحثّهم على الرجاء، وعلى الثقة بخلاص الله في أشدّ المحن قساوةً. لذلك يمكن القول بأنّ بني إسرائيل قد اختبروا الله "مخلّصًا" قبل أن يختبروه "خالقًا"، وهما الصفتان الأساسيتان في العهد القديم اللتان تختصران محبَّة الله للإنسان، وأنهم تعرّفوا إليه واكتشفوه عندما نالوا منه الخلاص في تاريخ معيّن، وفي مكان محدّد، فكانوا الشاهدَ على تدخّل الله الخلاصي لصالحهم كشعب من خلال التحرير ومواصلة العناية.
بكلمة وجيزة، يمكن اعتبار سفر الخروج بقطبَيْه، أي الإخراج من مصر وما استتبعه، والعهد في سيناء، سفرَ "تكوين" من نوع آخر.
يتضمن سفر الخروج موضوعين أساسيين، هما الأحداث والتشريعات، التي باستطاعتنا أن نتبيّنها من خلال أقسام السفر الثلاثة الثالية:
- القسم الأول (1/ 1- 15/ 27): يروي الإخراج من مصر مع كل ما تبعه؛
- القسم الثاني (15/ 22- 18/ 27): يرسم الحياةَ في البرّية، في عبادة الله، وإعطاء العهد؛
- القسم الثالث (19- 40): يتضمّن عناصر مختلفة، ولكنها مرتبطة كلها بعهد سيناء.
يشكّل الاخراج من مصر، وإعطاء العهد في سيناء، حدثَيْن رئيسيّين في تكوين شعب الله، وتنظيم حياته الدينية والمدنية؛ منهما سيغتذي بنو إسرائيل، وإليهما سيعودون أبدًا. لذلك، فإنَّ تدخّل الله في حياة شعبه بالمعجزات والآيات، كما حفظه لنا سفر الخروج، سيتردد صداه في كل الكتاب المقدّس.
اذا استعرضنا مضمون سفر الخروج بنظرة شمولية، لوجدنا أن فيه، ومنذ البداية، مسلسلاً من المعجزات، بدءًا من دعوة موسى بالذات. حيث نتبيّن عمل الله في مشهد العليقة الملتهبة، مرورًا بكل الأحداث اللاحقة، وصولاً إلى برّية سيناء. إنه يضيق بنا الوقت الآن للكلام عن كل المعجزات التي رافقت عملية التحرير التي شاءها الله والتي يضج بها سفر الخروج، لا بل كل الكتاب المقدّس؛ هذا ما يضطرنا في بحثنا إلى الانتقاء من أجل التركيز والتعميق.
يحتل عمل الله لصالح شعبه حيّزًا هامًا بدءًا بمشهد العليقة الملتهبة، كما ذكرنا، رمز حضور الله، على جبل سيناء (حسب التقليدَين اليهوهي والكهنوتي) أو حوريب (حسبَ التقليدَين الألوهيميّ والاشتراعيّ)، حيث أعلن عن هويته قائلاً: "أنا إله أبيك" (خر 3/ 6). نزل الله لينقذ شعبه بواسطة موسى، ووعد هذا الأخير بأن يكون معه (3/ 12).

1- عملٌ إلهيٌّ عُشاريُّ المعجزات
تنفيذًا لأمر الله، طلب موسى من فرعون السماح بأن يذهب الشعب مسيرة ثلاثة أيام ليذبح للرب؛ أمام رفض فرعون، تدخّلَ الرب وضرب المصريّين بواسطة المعجزات التي جعلت هؤلاء يتراجعون عن رفضهم. تثبت هذه المعجزات ما كان موسى بحاجة إليه، أن سلطة عليا تعطيه القدرة والحق في التكلّم إلى شعبه، واقناعه بأنه مرسل من الله لتنفيذ عملية التحرير، من جهة، وتبيّن للفرعون ولسحرته أن إله العبرانيّين متفوق على إله المصريّين من جهة ثانية.
أما المعجزات التي حفظها سفر الخروج، والتي تسبق الضربات العشر، فهي التالية:
- الأولى (4/ 1- 5): العصا تتحول إلى حية؛
- الثانية (4/ 6- 7): اليد الصحيحة تصير برصاء؛
- الثالثة (4/ 9): ماء النهر يتحول دماً.
تسبق هذه المعجزات ما سيحلّ بمصر على يد موسى من ضربات. فتحويل ماء النهر إلى دم سيتم في الضربة الأولى (7/ 14- 19)، وسيشكّل تحويل العصا إلى حيّة مقدمة لسلسلة الضربات؛ أما اليد الصحيحة التي صارت برصاء، فليس لها ما يقابلها في مسلسل الضربات.
ليست المجابهة الواقعة حتماً بين موسى وفرعون مصر، بل هي بين إلهه وإله هذا الأخير. سيصنع سحرة الفرعون الأعمال العجيبة التي يصنعها موسى وهارون (خر 7/ 11 و22؛ 8/ 3)، ومع هذا فإنَّ الهزيمة ستلحق بهم وبسحرهم. وما المعجزات التي وُهب لموسى أن يصنعها سوى بداية المجابهة بين الله ومصر، كما أنها علامة حضور الله إلى جانب موسى.
تتوالى الأحداث التي نحن بصددها على الوجه التالي: على إثر تحويل هارون عصاه إلى حية، حذا سحرة مصر حَذْوَهُ، فألقى كل واحد عصاه، فصارت عصيُّهم حيّات، فابتلعت عصا هارون عصيَّهم (7/ 8- 13). يلي ذلك مسلسل الضربات التسع، أي: تحويل الماء إلى دم (7/ 14- 25)، الضفادع (7/ 26- 8/ 11)، البعوض (8/ 12- 15)، الذباب السام (8/ 16- 28)، الوباء (9/ 1- 7)، القروح (9/ 8- 12)، البرَد (9/ 13- 35)، الجراد (10/ 1- 20)، والظلمة (10/ 21- 29). أخيرًا يعلن الله عن الضربة العاشرة، وهي الإنباء بموت أبكار المصريّين (11/ 1- 10). نذكر أن المصريّين قد سبق واتخذوا قرارًا بقتل أبناء العبرانيّين الذكور (خر 1/ 15- 16).
إن تحويل العصا إلى حية في خر 7/ 8- 13 (تقليد كهنوتي) هو تكرار لما سبق ذكره في خر 4/ 1- 5 (تقليد يهوهي)، ولكن مع تغيير في الهدف: ففي المرّة الأولى (خر 4/ 1- 5) يصنع موسى المعجزة كي يقنع شعبه بأن الله قد تراءى له (4/ 5)، وفي الثانية يصنع هارون المعجزة وهو برفقة موسى، في حضرة الفرعون، ليؤمن هذا الأخير بقدرة إلههما، ولكي يثبتا له أنهما فعلاً مكلَّفان بالمهمّة التي يقومان بها (7/ 8- 13). إنّنا أمام صراع بين الله من جهة، والفرعون وسحرته من جهة ثانية، وستكون الغلبة بالطبع لله الكلي القدرة على الفرعون وسحرته المحدوديّ القدرة، مهما تعاظمت هذه الأخيرة وامتدت.
هناك نوعان من المقاربات لمسألة الضربات العشر (7/ 14- 11/ 10):
- الأولى، وهي التي كانت سائدة لمدة طويلة، كانت ترى في هذه الحوادث أمورًا فائقة الطبيعة، أي إنها نتيجة تدخّل الله الكليّ القدرة بشكل واضح ومباشر، من أجل أن يحقّق تحرير شعبه.
- الثانية، وهي التي تستقطب حاليًا إجماع مفسّري الكتاب المقدّس، ترى أنّ الضربات هي عوارض طبيعيّة تحدث في مصر سنويًا، أو أقلّه بشكل متواتر، عندما تتعاظم مياه النيل وتفيض خارج مجراها المألوف. ولئلا يُتّهموا بنكران وجود يد الله في ما يجري، يسارع أصحاب هذا الرأي إلى التأكيد على دور العناية الإلهية في حصول العوارض المذكورة، من حيث قوتها ومفعولها، إذ إنّ الله هو المحرّك لها من أجل تحقيق تصميمه الخلاصيّ، أي إطلاق العبرانيّين. من ناحية ثانية يفسِّر القصصُ البيبلي كل ما يحصل على أنّه إرادة الله.
إلى ماذا يرمي الكاتب من خلال الطابع العجائبي لهذه الأحداث؟
بفضل الوحي الإلهي، أدرك الكاتب العبري أن يهوه الكليّ القدرة يمسك بقوى الطبيعة، ويستعملها لتحقيق مقاصده. وهكذا تصبح هذه القوى نوعًا من تجلي قدرة الله. لذلك كان الكاتب المذكور يرى في الظواهر الطبيعيّة غير العاديّة علامات عجائبيّة مصدرها يهوه بالذات. أفضل استعمال كلمة "يهوه" بدلاً من كلمة "الرب"، أو كلمة "ألوهيم" أيضًا، من أجل تسهيل التمييز بين التقاليد المتضمنة في سفر الخروج.
لا يُدرجِ أيُّ من التقاليد كلَّ الضربات الواردة في سفر الخروج: فالتقليد اليهوهي يتكلّم عن ثماني ضربات، والألوهيمي عن خمس، والكهنوتيّ أيضًا عن خمس، والثلاثة مجمعون على أوّل ضربة وعلى الأخيرة. كالمعتاد، تتبدّل المصادر في مقاربتها: في التقليد اليهوهي، يتدخّل الله مباشرةً عند كلمة موسى؛ في الألوهيمي، يعمل اللهّ عندما يمد موسى عصاه؛ في الكهنوتيّ، يُبْرَزُ تدخّلُ هارون الذي بيده العصا، ويَظهرُ سحرة مصر الذين يضعون في الواجهة التعارضَ بين يهوه وبين آلهتهم. لقد نسَّق جامع هذه المصادر بحنكة كبيرة المواد التي وجد، وذلك من أجل أن يضاعف طابعها المأساوي. لقد رأى هو أيضًا في هذه الحوادث المذكورة تعارضًا بين يهوه وبين الآلهة الوثنيّة، الأمر الذي سيؤكّد قدرة الله التي لا تخضع للمقارنَة.
لنستعرض مضمون الضربات العشر، كي نتبيّن هدف كل منها والطابع الخاص بها:

الضربة الأولى: الماء يتحوّل إلى دم (7/ 14- 25)
لا يهتم الكاتب بالتدقيق في الأمور، عندما يتكلّم عن تحوّل الماء إلى دم. فهو يخبرنا أن كل مياه مصر، وليس فقط مياه النيل، قد تحوّلت إلى دم. وذلك بهدف أن يُظهر أن لا أحد يمكنه أن يفلت من الضربة التي بها يعاقب الله، ليس فقط الإنسان، بل الطبيعةَ أيضًا، تمامًا كما سبق وعاقب آدم، بعدما عاقب الأرض بسبب خطيئة هذا الأخير. إنّها إذا ضربة قاسية وموجعة تحلّ بالمصريّين، من أجل أن يتنبّهوا إلى حضور الله.
من المعروف أنّ مياه النيل تصبح إلى حدّ ما حمراء عند حصول الفيضانات الموسمية، وذلك بسبب ما تجرفه المياه من أتربة حمراء. لقد قرأ الكاتب في حدوث هذا الأمر تدخلاً إلهيًا، لا سيّما وأن السمك، وهو مورد عيش أساسي في مصر، قد مات، فأنتن النيل، ولم يعد باستطاعة المصريّين أن يشربوا منه. إنّ الحدث بحدّ ذاته غير هام، أمّا قراءته قراءة بيبليّة فهذا ما يعنينا في بحثنا وفي مرماه الأخير.

الضربة الثانية: الضفادع (7/ 26- 8/ 11)
كما حوّل الله مياه النيل إلى دم، أي أنه، بتعبير آخر، قد انتصر عليه، هكذا ستكون الضفادع رهن إشارته؛ فلقد ملأت البلاد كلها، حتى قصر فرعون بالذات. نتيجة لذلك، أدرك هذا الأخير أن مصدر الآفة هو الله بالذات، وهو الذي يضع حدًّا لها؛ وهذا ما دفعه إلى طلب شفاعة موسى وهارون لدى الله. ينبغي هنا إضافة ملاحظة، وهي أن ظهور الضفادع بشكل كبير هو أمر مألوف ويتكرّر سنويًا على إثر فيضان نهر النيل.

الضربة الثالثة: البعوض (8/ 12- 15)
يعود سبب ظهور البعوض، كما الضفادع، إلى فيضان النيل الذي يسهّل تكاثر البعوض. المهمّ في هذه الضربة هو أن المعجزة لا تكمن في ظهور البعوض بحدّ ذاته، بل في توقيت حصول الضربة، أي بعد أن ضرب هارون تراب الأرض بعصاه، الأمر الذي يدلّ على أن كلمة الله هي التي فعلت.

الضربة الرابعة: الذباب السام (8/ 16- 28)
تبدو هذه الضربة وكأنها تكرار للسابقة. لكن هل نحن أمام ذباب عادي موجود في الشرق الأوسط عامة، أم أمام نوع معيّن من الذباب المؤذي؟ المهمّ هو أن هناك رمزًا يظهر من خلال تكاثر الذباب في أرض مصر، ومن خلال عدم دخوله أرض جاسان التي عليها يقيم شعب الله؛ فالضربة تطال حصراً المصريّين. هذا يعني أن الله يقاصص هؤلاء، ويحمي شعبه من الأذى؛ فهو حاضر حيث شعبه حاضر، الأمر الذي سيجعل المصريّين يدركون أن من يقسون عليهم هم شعب الله وخاصته. ومهمُّ أيضًا هو ارتفاع الذباب عن مصر، تلبيةً من الربّ لتشفّع موسى.
هنا حصل العبرانيّون على أوّل تنازل من الفرعون الذي وافق على أن ينطلقوا ليقدّموا ذبائحهم للربّ، ولكن شرط ألاّ يبتعدوا كثيرًا في المسير، وذلك كي يبقوا ضمن حدود البلاد وتحت ناظري جيشه.

الضربة الخامسة: موت المواشي (9/ 1- 7)
تضرب يدّ الربّ بالطاعون الشديد مواشي المصريّين، مع التمييز بين هذه وبين تلك التي للعبرانيّين، والتي لا يموت منها واحد. مع هذا، لن يسمح الفرعون للشعب بأن يذهب إلى البرّية لعبادة الله.

الضربة السادسة: القروح (9/ 8- 12)
رمى موسى الرماد، فتحوّل قروحًا في الناس والبهائم، وحتى في السحرة.

الضربة السابعة: البَرَد (9/ 13- 35)
تحلّ ضربة البرَد بالمصريّين دون العبرانيّين الذين في أرض جاسان. إنّه امتحان جديد للفرعون الذي يكتشف مرّة جديدة أن ليس لله من نظير. لقد أُعطيَتْ لمن شاء أن يسمع فرصةُ إيواء ماشيته وحمايتها من ضربة البرد. ينبغي هنا لفت النظر إلى التمييز بين شعب إسرائيل وبين المصريّين، كما بين الذين يخافون الله وبين الذين لا يخافونه؛ هذا يعني أن الله يخلّص أيضًا من ليسوا من خاصته، إذا ما كانت مخافته في قلوبهم.

الضربة الثامنة: الجراد (10/ 1- 20)
يُعتبر الجراد في العهد القديم عقابًا جذريًا ينزله الله حيثما دعت الحاجة (راجع عا 7/ 1- 2؛ ناح 3/ 15 ت؛ يوء 1- 2)، أي أنه يساوي العودة إلى العدم وإلى اللاحياة.
سيقضي الجراد، بشكل لا سابق له، على ما تبقى من النبات والزرع بعد ضربة البرد. العنصر الجديد هنا هو موقف رجال الفرعون الذين ينصحون ملكهم بأن يطلق بني إسرائيل، وذلك بعد أن أدركوا أن مصر قد خربت، ومع هذا لن يصغي إليهم.
ملفت للنظر هو مضمون الآية الثانية حيث للمعجزات دور تعليمي لبني إسرائيل: "ليعلموا أن الله هو الرب"، فلا ينسوه من بعد أبدًا على مدى أجيالهم.

الضربة التاسعة: الظلام (10/ 21- 29)
يتّفق الشرّاح على القول بأن عواصف رمليّة قويّة تواكب رياح الخمسين، إلى حدّ أنها تحجب نور الشمس، فيشعر المرء أنه أمام نوع من الظلام الحقيقي. لقد دامت الظلمة ثلاثة أيام في كل أرض مصر. المهمّ في هذه الضربة هو أن الرياح المذكورة تخضع لإرادة الله، فتطيعه، وتحجب نور الشمس عن الأرض، باستثناء مكان إقامة العبرانيّين.
يمثّل النور الحياة النابعة من حقيقة عبادة الله، وأمّا الظلمة التي حلّت بالمصريّين، فهي ظلام الوثنيّة الموازي للموت.

الضربة العاشرة: موت أبكار مصر (11/ 1- 10)
ستجلب هذه الضربة الموت على أبكار المصريّين، ومن بينهم بكر الفرعون.
إنّ ضربات مصر العشر هي "علامات" خلاص حقيقية من قبل الربّ، ومرحلة من مراحل الصراع المتواصل بين الله، الإله الحقّ، وبين فرعون مصر وآلهته.
لا بدّ للضربات هذه من أن تبعث في نفس بني إسرائيل الإيمان بالله وبقدرته، وبأنه يحقّق مواعيده، فيخلّص شعبه، ويضرب أعداءهم. وهكذا تمثّل صورة واضحة عن انتصار الله، كما أدّت بالتالي إلى انتقال الشعب من العبوديّة إلى الحرّية، حرّية العيش مع الله.
تهدف هذه الضربات إلى تبيان العقاب الذي يحلّ بمن يقاوم إرادة الله؛ حتّى شعب إسرائيل نال جزاءه عندما حاول أن يقاوم موسى المرسل من الله، فحلّت به الضربات القاسية في الصحراء، لأنه كان يقاوم الله بالذات. لقد لحق ما لحق بالمصريّين لأنهم رفضوا أن يسمحوا للعبرانيّين بالانطلاق لعبادة الله. وترمي المعجزات أيضًا إلى إظهار قدرة الله أمام المصريّين وسحرتهم، وبطلان سحر هؤلاء، بالرغم من نجاحهم في صنع المعجزات، كما هارون؛ ولكن عصا هذا الأخير التي تحوّلت إلى حيّة قبل تحوّل عصي هؤلاء أيضًا، قد ابتلعت حيّاتهم.
أمّا الكلام في هذا الإطار عن قساوة قلب الفرعون، فيهدف إلى إيصال رفض الطاعة لله إلى أقصى حد، كي يتغلّب الله أخيرًا، ويحطّم الشر برمته، ويكون انتصاره مدويًا ونهائيًا.

2- عبور البحر الأحمر
نصل الآن إلى معجزة عبور شعب الله البحر الأحمر، التي بقيت محفورة في ذاكرة بني إسرائيل، والتي شكّلت للكنيسة مصدر غنى روحي كبير، خاصة من حيث اعتبارها عبورًا روحيًا من حال الخطيئة إلى حال النعمة، ومن العبوديّة إلى الحرّية.
فوجئ بنو إسرائيل الفارّون بالجيش المصري يطاردهم؛ مع هذا، وعلى نقيض مشاعرهم المبلبلة والمضطربة، فإنّ الله الذي أجرى المعجزات كي يخرجهم من مصر، لم يتركهم لقمة سائغة في فم أعدائهم، بل نجّاهم بتدخّل عجيب، فعبروا البحر كما على اليابسة، وأطبقت المياه على جيش الفرعون وأبادته. يشكّل هذا الحدث ختامَ العبوديّة في مصر، وبدءًا لمرحلة تكوين شعب الله المحرَّر، وعبورًا نحو الحرية ونحو الاستعداد لتلقي العهد في سيناء.
في الرواية عناصر عدة تُبرز تدخّل الله؛ فملاك الربّ ينتقل من أمام بني إسرائيل إلى ورائهم ليحميهم من المصريين (14/ 17- 19)، والهواء الشرقي يجعل طريق البحر كاليابسة (14/ 21)، ويد موسى تفصل المياه عن بعضها ثم تعيدها كما كانت (13/ 20- 14/ 4)؛ هذه العناصر الثلاثة هي مزيج من التقاليد الألوهيمية، واليهوهية، والكهنوتية.
أمّا عمودا الغمام والنور اللذان يرمزان إلى حضور الله، فهما يقودان الشعب في الاتجاه الذي يشاءه الله في المسير خلال البرّية.
أهمّ ما في حدث العبور وفي الترحال في البرّية، هو حضور الله، كما أن الأمر هو هكذا منذ دعوة موسى، وصولاً إلى جعل الفرعون يقسّي قلبه، فإلى بلبلة عسكر المصريّين، ثمّ شقّ البحر بالريح الشرقية ليعبر الشعب، وإعادة إطباقه على المصريّين.
تُعتَبَر معجزة الله لتخليص شعبه عند البحر الأحمر عنصرًا أساسيًا في إيمان بني إسرائيل، لذا سيدوّي صداها في مجمل كتب العهد القديم، وسيرى فيها التقليد اليهودي "علامة" لحضور الله الكليّ القدرة، الذي لا يحرّر شعبه فقط وينقذه، بل ينشّئه بالمعجزات، ويربيّه بها، ويجعله ينمو في إيمانه.
أمّا المعجزة الثانية التي تدلّ على حضور الله، وعلى اعتنائه بشعبه، فهي ظهور الغمام والنور، الأوّل ليحجب الشمس في النهار فلا تؤذي بني إسرائيل، والثاني كي يتمكنوا من السير في طريق آمنٍ ليلاً. للغمام دلالة أساسيّة في العهد القديم، هي تجلّي الله وتنازله ليصبح قريباً من شعبه. وإذا أردنا أن نوجز مدلولات الغمام نقول بأنه:
- علامة مجيء الربّ أو حضوره أو مجده (كما عند تجلّي الرب يسوع)؛
- موجِّهٌ للشعب خلال مسيرته في البرّية؛
- يؤمّن الظلّ للحماية من الشمس الحارقة، دون أن يحجب النور بالتمام.
كل هذه الأحداث هي معجزات متواصلة، تصب بمجملها في اتجاه معيّن؛ فهي موجّهة لصالح العبرانيّين، ولكنّها، في الوقت عينه، هي ضد أعدائهم المصريّين؛ كما أن هناك أمورًا أخرى تهدف إلى دعم عمليّة التحرير ومواصلتها، كالتغذية في البرّية، أو قيادة الله لشعبه عبر عمودَي الغمام والنور وغيرهما.

3- المعجزات في الصحراء (15/ 22- 18/ 27)
يكفي أن نقول "الصحراء" لندرك أن الحياة فيها ليست بالأمر السهل، إن لم تكن مستحيلة؛ فكم بالاحرى إذا كان هناك شعبٌ بكامله يحتاج إلى الماء والغذاء في تلك الأماكن المقفرة والجدباء! من هنا، تستوقفنا أحداث عدّة في هذه المرحلة، هي المعجزات التي تدلّ على مدى العناية الإلهيّة، وهي التالية:
- تحلية مياه "مارّة" (15/ 22- 27)؛
- انزال المن والسلوى (16/ 1- 36)؛
- اخراج المياه من الصخر (17/ 1- 7).
إنّ الله الذي حرّر شعبه من استعباد المصريّين له، وأخرجه من أرض فيها خيرات كافية لإطعامه، لن يدع هذا الشعب تحت رحمة الصحراء التي توازي العدم من حيث ندرة مواردها. إذا كان الله قد اختار الصحراء لشعبه، من أجل أن يطهره وينقيه، فهذا لا يعني أنه سيدعه تحت رحمة الجوع والعطش؛ وما تدخّله سوى برهان على أبوّته، ورعايته، وعنايته.

خاتمة
تسبق المعجزات، التي استعرضنا بالإيجاز، الكلمةُ التي هي أهمّ من هذه الأخيرة، لأنها تنقل إرادة الله التي تفوق التنفيذ المادي حصرًا، ولأنّه، في البدء، كانت الكلمة قبل التكوين. هكذا يمكننا اعتبار المعجزة تجسيدًا للكلمة، وبين الاثنين تواصل جوهري. من هنا ضرورة التمييز في عالم المعجزات بين ما هو من الله، وبين ما هو من عمل السحرة: لقد نجح هؤلاء في صنع المعجزات عندما حوَّلوا عصيَّهم إلى حيّات، ولكن هذه لم تصمد أمام حيّة هارون التي ابتلعتها؛ هذا يعني أن بإمكان بعض الناس التلبّس بمظهر القدرة الخارقة، الأمر الذي قد يعمي بصائر الناس؛ وما يجعل هذا التضليل قابلاً للنقض والدحر، هو الكلمة التي تتضمن الحقيقة التي من عند الله؛ إنّها إذًا المقياس الذي لا غنى عنه لمعرفة مصدر القوة التي صنعت المعجزة، وهدفها، وأبعادها.
لنقرأ ما يقوله سفر الخروج في هذا المجال:
"مَن مثلك، يا رب، في الآلهة؛
مَن مثلك جليلُ القداسة، مهيب المآثر، صانع العجائب؟" (خر 15/ 11).
نجد صدى لهذا الكلام في سفر المزامير عن قدرة الرب العظيمة:
"مَن الذي يحدّث بمآثر الربّ، ويُسمع تسبحته كلها؟" (مز 106= 105/ 2).
باختصار نقول: ليس سفر الخروج حدثاً يخص التاريخ وحسب، بل حدث يتردّد صداه في كل تاريخ شعب الله. هذا ما جعل الأجيال اللاحقة تقرأ ما حفظه لها هذا السفر، وتتأمل فيه وتعتبره، وتتخذه بمنزلة المرجعية الصالحة لعيش متحرّر أبدًا من العبودية بهدف العيش على أنها خاصة الله، وليس فقط من أجل "تكوين" ذاتها كأمّة مختارة ومميّزة. هكذا يصبح للمعجزة في سفر الخروج دوران: "تكويني" و"تخليصي"، بهما يتجلّى عمل الله الكليّ القدرة والمحبّة.
الأب أيوب شهوان