الفصل التاسع والأربعون: الحكمة شخص حيّ هو يسوع المسيح

الفصل التاسع والأربعون
الحكمة شخص حيّ هو يسوع المسيح

حين ظهر يسوع على الأرض أذهل الناس بحكمته التي تجلّت، في جميع المناسبات. إذ كان طفلاً، امتلأ بالحكمة فأدهش الحاضرين بأسئلته وأجوبته. وحين بدأ يعلن شرعة الملكوت، تساءل سامعوه: "من أين له كل هذا؟ ما هي هذه الحكمة التي أعطيت له؟ أما هو النجّار" (مر 2- 3، مت 13: 54- 56)؟ هذا ما أورده متى ومرقس. أما لوقا فلم يتوقّف عند ملاحظات الناس معتبرًا أن يسوع هو حكمة الله التي أعطيت للبشر.
سنتوقف عند يسوع الذي هو حكمة الله في الأناجيل الإزائية، في رسائل القديس بولس، وأخيرًا في إنجيل يوحنا.

1- في الأناجيل الإزائية
في أحد النصوص المشتركة بين لوقا ومتى، يبدر المسيح كمن يرسل إلى العالم من يتكلّم باسمه ولاسيّما الحكماء (متى)، أو كالحكمة الإلهية التي توفد مرسلين لا يسمّون حكماء بل موفدي الحكيم الوحيد والسامي. يقول مت 23: 34- 36: "من أجل ذلك، ها أنا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة. منهم من تقتلون وتصلبون، ومنهم من تجلدون في مجامعكم، وتطاردون من مدينة إلى مدينة. لكي ينزل عليكم كل دم زكي هُدر على الأرض، من دم هابيل الصدّيق إلى دم زكريا بن بركيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح. نعم أقول لكم: إن هذا كله ينزل بهذا الجيل ". وفي لو 11: 49- 51: "فمن أجل ذلك، قالت أيضاً حكمة الله: سأرسل إليهم أنبياء ورسلاً فنهم من يقتلون ومنهم من يضطهدون لكي يُطلب من هذا الجيل دمُ جميع الأنبياء المهدور منذ إنشاء العالم، من دم هابيل إلى دم زكريا الذي قُتل بين المذبح والقدس. نعم أقوله لكم: إنه يطلب من هذا الجيل ".
عاد الانجيليان إلى مرجع واحد، وعالجا موضوعه بشكل مختلف. احتفظ متى لكلمات يسوع بطابع بيبلي: فيسوع يبدو ذاك الذي يقدر أن يرسل إلى البشر"الأنبياء والحكماء والكتبة" أي: حاملي الوحي الكامل بشهادتهم المثلثّة: شريعة ينقلها الكتبة. أقوال يتلوها الأنبياء. وكتب يدوّنها الحكماء. ولكن هؤلاء المرسلين سوف يُضطهدون، يُجلدون ويُصلبون مثل معلّمهم. وسيكون قاتلوهم امتدادًا لآبائهم لا منذ إبراهيم بل منذ بداية الجنس البشري. والله لا يترك هذه الجرائم إلاّ ويعاقبها.
أما لوقا فلا يتكلّم عن تلاميذ جُلدوا وصُلبوا. فيسوع وحده جلد وصلب. ففي نظر لوقا هناك مجلود واحد، مصلوب واحد يحسب له حساب: هو الربّ. واحتفظ لوقا من مرسلي يسوع "بالأنبياء" وجعل "الرسل " يحلّون محلّ الكتبة الذين صاروا محتقرين. ولم يذكر "الحكماء" لأنه لا يرى إلا حكيمًا واحدًا هو الرب. ومع ذلك، فهو لا يلغي العودة إلى الحكمة، بل ينقلها إلى الذي يحملها في كمالها، إلى يسوع المسيح. ففي نص لوقا، تدل حكمة الله على يسوع المسيح نفسه الذي سيستعيد الكلام فيما بعد في صيغة المتكلّم المفرد: "أجل، أقول لكم ". حين أعلن يسوع أنه يرسل خدمه، دلّ على أنه يتصرّف كالحكمة المشخَّصة (أم 9: 3 حسب اليونانية). إنه الحكمة التي تبدو كشخص حي.
وما يسند هذا التفسير هو قرب لوقا من بولس الذي لا يرى حكيمًا إلا يسوع ويسوع المصلوب الذي هو حكمة الله (1 كور 1:17 ي). وحين فسّر آباء الكنيسة لو 11: 49 رأوا من خلال الحكمة التي ترسل تلاميذها، يسوعَ الذي يوفد رسله.
والتنبيه الذي أعطاه يسوع للفريسيين يترافق في إنجيل متى (37:23- 39) بتشكِ يتوجه إلى أورشليم، ونجده أيضاً في سياق آخر في إنجيل لوقا (13: 34- 35): "يا أورشليم... كم مرة أردت أن أجمع بنيك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها... ولم تريدوا. فها هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا". فوراء هذا التوبيخ للمدينة المقدّسة نستطيع أن نقرأ كلمات الحكمة المشخّصة. غير أن هذا التقارب لا يفرض نفسه. فحين يجعلنا يسوع نكتشف أن الهيكل سيخرب، فهو يتكلّم مثل إرميا وحزقيال. وحين يقابل مجهوده ليجمع المؤمنين باهتمام الدجاجة (الأم) الساهرة على صغارها، فهو يستعيد دور يهوه التقليدي الذي تمتدّ اجنحته المحامية على أبنائه (تث 32: 11؛ خر 19: 4). ففي شخص يسوع نجد حبّ الله يجول فوق أورشليم لكي يحميها (أش 5:31).
ونجد لوقا ومتى أيضاً في نصّ آخر يبدو فيه يسوع بصفات الحكمة. نحن أمام مثل صغير يشبّه فيه سامعو الإنجيل بمجموعة أولاد لا شيء يرضيهم فيتذمرون: لم يرضوا من يوحنا المعمدان ولا من يسوع. قال لو 35:7: "إن الحكمة قد زكّاها جميع بنيها". وقال مت 19:11: "إن الحكمة تزكّت بسبب أعمالها". ففي جملة لوقا، جاء أولئك الذين تقبّلوا الحكمة فأعلنوها بارة (حسب ارادة الله). إنهم أولئك الذين قبلوا معمودية يوحنا (آ 29). هذه النفوس المستعدّة كل الاستعداد، رأت في ما فعله يوحنا المعمدان تدخلاً من قبل الله. وسيكتشفون هذا التدخّل بشكل أوضح في رسالة يسوع الذي كان يوحنا سابقه. تنبّه أبناء الحكمة لأمهم فصاروا أبناء الله الذين يسمعون لأبيهم ساعة يحدّثهم بواسطة يوحنا، ثم بشكل أوضح بواسطة يسوع. وهكذا يقودنا كلام لوقا بشكل غير مباشر إلى النظر إلى يسوع على أنه حكمة الله.
أما متى فيفهمنا بشكل أوضح أن الحكمة هي المسيح. فأعمال الحكمة (آ 19) هي أعمال المسيح (آ 2) التي يطب يوحنا إيضاحًا عنها. هذه الأعمال التي جهلها كورزين وبيت صيدا وكفرناحوم (آ 20- 24) تشهد ليسوع شهادة أسطع من شهادة يوحنا (يو 5 :36) وتتيح للناس أن يكتشفوا في ذاك الذي يتمها، حكمة الله شخصيًا.
إذن، تتجلّى حكمة الله في أعمال المسيح. وتتجلّى في أقواله. فيسوع نفسه يشير إلى هذا الأمر حين يقابل بين سامعيه المتحجّرين وبين ملكة سبأ التي جاءت تتعلّم في مدرسة سليمان. "إن ملكة الجنوب تقوم مع هذا الجيل وتدينه لأنها جاءت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان، وها هنا أعظم من سليمان " (مت 12: 42؛ لو 11: 31). إذا أردنا أن ندرك بُعد هذا الكلام، يجب أن نتذكّر أن سليمان اعتبر مثال الحكيم. وقد نُسبت إليه أمثاله عديدة، كما نُسبت إليه الأسفار الحكمية التي نجدها في التوراة. ولكن يسوع يؤكد أنه أعظم من سليمان. ففيه تجسّدت الحكمة الإلهية كاملة.
وبما أن يسوع يعرف أسرار الله، فهو يستطيع أن يكشفها، وهو بهذا يدلّ على الحكمة الالهيّة. نقرأ في مت 25:11- 27: "أشكرك أيها الآب، يا رب السماء والأرض، لأنك أخفيت هذا عن الحكماء والفهماء، وأظهرته للأطفال. نعم يا أبتاه. تلك كانت مشيئتك. لقد دفع إليّ أبي كلّ شيء. وليس أحد يعرف الابن إلا الآب ولا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن يريد الابن أن يكشف له " (رج لو 10: 21- 22). ويتابع مت 11: 28- 30: "تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والمثقّلين وأنا أريحكم. إحملوا نيري عليكم كونوا لي تلاميذ لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا الراحة لنفوسكم. أجل، إن نيري ليّن وحملي خفيف ".
هل يجعلنا يسوع نستشفّ في هذه الأقوال أنه الحكمة؛ الجواب هو نعم. فيسوع كالحكمة (حك 10: 21) يهب نوره للصغار والوضعاء. وهو كالحكمة يعرفه الله وحده، وهو وحده يعرف الله. وأخيرًا، هو يدعو سامعيه لأن يقتربوا منه ويأخذوا نيره لكي يجدوا الراحة. هذا ما قاله إبن سيراخ في الحكمة الالهية. "تعالوا إليّ أيّها المشتاقون واشبعوا من ثماري " (19:24).

2- في رسائل القدّيس بولس
تكلّم بولس الرسول في 1 كور على حكمة كاذبة مليئة من نفسها، متعلّقة بحيل البلاغة ومرتبطة بنزاعات تقود إلى خلق شيع متقاتلة. ثم وضع تجاه حكمة البشر هذه وما فيها من ادّعاء، حكمة الله الحقيقيّة التي هي يسوع المسيح المصلوب، الذي فيه تجلّى حبّ الله وقدرته من أجل الغفران والفداء والحياة الأبدية. "إن ما ننطق به هو حكمة الله التي في السرّ، المكتومة، التي سبق الله فحدّدها، قبل الدهور، لمجدنا؛ التي لم يعرفها أحد من رؤساء هذا الدهر، ولو عرفوها لما صلبوا ربّ المجد" (1 كور 7:2- 8).
يبدو أن بولس يتحدّث هنا عن الحكمة المشخَّصة. ولا يكتفي بأن يجعلها قريبة من يسوع. بل هي يسوع. ظلت مخفيّة مدة طويلة، مثل سرّ الله نفسه، وكانت قبل الدهور موضوع اهتمام من قبل الخالق. وقد أعدّت لمجدنا. ولا ننسَ أن الحكمة في العهد القديم بدت مغمورة بمجد الله لكي تغمر بدورها البشر فيسوع المسيح الربّ الممجّد هو الحكمة. جهله كما جهلها رؤساء هذا العالم (با 3: 16) فقاسى عذاب الصليب، ولكنه بذلك ظفر على الشرّ وأعطانا الخلاص.
إنه هذه الحكمة الالهيّة السابقة للخليقة، هذه الحكمة التي تحيط بالكون. ولكن الكون المحدود في حكمته، لم يستطع أن يعرفه: "إن العالم، بحكمته، لم يعرف الله في حكمة الله " (1 كور 1: 21). لهذا أراد الله أن يصدم البشر، أن "يعمي" أنظارهم حين يضع أمامها شكّ الصليب. "نحن نكرز بمسيح مصلوب، عثرة لليهود وجهالة للأمم. أما للمدعوين يهودًا ويونانيين فهو مسيح، قدرة الله وحكمة الله " (1 كور 1:23- 24، 30).
كل ما قالته التوراة والعالم اليهودي عن الحكمة المشخّصة، ساعد بولس على إبراز شخص المسيح وعمله. وفي 1 كور 10: 4 حيّى بولس يسوع على أنه الحكمة. فحين شرح أن حماية ابن الله رافقت بني إسرائيل في البرية وأمّنت لهم الطعام الضروري لحياتهم، نسب إلى يسوع وظيفة أمّنتها الحكمة (حك 10: 17- 18) التي اعتبرت الصخرة وينبوع الحياة الحيّة. نقرأ في 1 كور 10: 4: "كانوا يشربون من صخرة روحية تتبعهم. وهذه الصخرة كانت المسيح ".
وحين كتب بولس إلى أهل رومة قابل بين حكمة البشر وما فيها من جهل، وحكمة الله التي لا يُسبر غورها. حكمة البشر متجاهية (روم 1: 22)، متكبّرة (12: 16). والله وحده حكيم (16: 27) بحكمة عميقة (11: 33).
نقرأ في روم 33:11-35: "يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه! من عرف فكر الربّ، ومن كان له مشيرًا؟ من سبق فأعطاه " (رج أش 13:40؛ أي 3:41)؟
نحن هنا في جوّ حكمي. وإذ تُذكر الحكمة بين صفات الله، فهي تذكّرنا بامتيازات الحكمة في العهد القديم. فالحكمة، شأنها شأن الله، تمتلك وحدها المعرفة والفطنة والغنى. فإذا أردنا أن نصل إلى هذه الكنوز وندخل في جماعة الخلاص، نتعلّق بالمسيح (لا بالشريعة، كما قالت العالم اليهودي) الذي يتمّ الشريعة (روم 10: 4). إن بولس يرى أن كنوز الله التي أعطيت لحكمته، صارت الآن في يد يسوع المسيح الذي فيه نجد كل غنى كل فهم وكل علم.
لم تماثل روم بشكل واضح المسيح مع الحكمة، ولم تورد مدائح تنشد الحكمة المشخّصة. أما الرسالة إلى كولسي فتغذّت بنصوص مكرّسة للحكمة، ونسبت إلى المسيح امتيازات مجيدة، امتيازات الحكمة الالهية. حين تحدّث بولس عن الربّ يسوع قال: "إنه صورة الله الغير المنظور، المولود قبل كل خلق، إذ فيه خُلق جميع ما في السماوات وعلى الأرض... " (كو 1 :15- 20).
نجد في هذا النشيد الليتورجي القابًا ووظائف أعطيت في الماضي للحكة، والآن للمسيح. المسيح هو صورة الله مثل الحكمة (حك 26:7). المسيح هو مبدأ الخلق مثل الحكمة (أم 8: 22)0 المسيح هو فاعل الخلق مثل الحكمة (أم 8: 27- 30؛ حك 9: 9) ولكن بشكل أوضح: به خُلق كل شيء. له خُلق كل شيء. فيه يثبت كل شيء.
بعد هذا استماع بولس أن يقود الكولسيين "إلى الفهم الكامل بكل غناه، إلى معرفة سرّ الله، أي المسيح المكنونة فيه جميع كنوز والعلم " (كو 2: 2- 3). نجد هنا أربع كلمات مأخوذة من أم 2: 4- 6. وهكذا اكتشف بولس في المسيح كل كمالات الحكمة وقد اجتمعت فيه.
ونجد هذا اليقين في الرسالة إلى أفسس. قال بولس الرسول: "لي أعطيت هذه النعمة: أن ابشرّ في الأمم بغنى المسيح الذي لا يُستقصى، وأوضح للجميع ما تدبير هذا السرّ المكتوم منذ الدهور في الله خالق كل شيء، لكي تتجلّى الآن للرئاسات والسلاطين في السماوات، بواسطة الكنيسة، حكمة الله بوجوهها المتعدّدة، وذلك على حسب قصده الأزلي الذي أجراه في المسيح يسوع ربنا" (أف 8:3- 11).
إن غنى المسيح (كالحكمة) كان خفيًا في الله منذ البدايات، وقد فرض نفسه على أعظم الخلائق. فقدرة الربّ يسوع تستطيع أن تجمع في كنيسة واحدة اليهود والأمم (أف 3: 6)، فتدلّ في وجه الأمم على حكمة الله "اللا محدودة في غناها". هذا ما قيل عن الحكمة في حك 22:7- 23. أخذه بولس وطبّقه على يسوع الحكمة المشخّصة.
فالمسيح وحده يحمل إلى العالم الحياة الالهية، فيغمر البشر بمعطف من نور. فإذا أردنا أن نلتحف بمجد الله، علينا أن نلبس المسيح (غل 27:3 ؛ روم 13: 14؛ كو 3: 10؛ أف 4: 24). هكذا وجب على مؤمني العهد القديم أن يلبسوا الحكمة لكي يلبثوا تحت تأثير الله (سي 6: 31). ونستطيع أن نقابل بين رائحة المسيح (2 كور 2: 14- 17) ورائحة الحكمة (سي 24: 15). والكتب المقدسة تجعل الإنسان حكيمًا بالإيمان بيسوع (2 تم 3: 15) كما بالخضوع للحكمة في العهد القديم (أم 33:8). وهكذا يرى بولس في المسيح يسوع حكمة الله التي جاءت إلى عالمنا.

3- في إنجيل يوحنّا
لا ترد لفظة الحكمة مرة واحدة في إنجيل يوحنا. والتقاربات الأدبيّة الممكنة بين يو والأسفار الحكمية هي نادرة وغير كافية. فهل نعتبر أن الإنجيل الرابع جهل صفحات من العهد القديم تتحدّث عن الحكمة؟ الجواب هو كلا. فيوحنا سار على خطى سابقيه فصوّر شخص ابن الله وعمله في لغة تتوافق مع ما يقال عن الحكمة. وهذا ما نكتشفه منذ مطلع الإنجيل: "في البدء كان الكلمة... كلّ به كوّن... فيه كانت الحياة... كان النور الحقيقي " (يو 1: 1-18).
حين نقرأ هذا المطلع نجد حالاً أنه قريب جدًا من الأناشيد التي تمتدح الحكمة: على مستوى البنية. على مستوى اللغة. على مستوى التوازي بين الحكمة والكلمة. فبنية المقاطع اليوحناوية توافق ترتيب القصائد التي تنشد حكمة الله. فالحكمة (والكلمة) تبدو في علاقتها مع الله، في أسبقيتها للخلائق، في مشاركتها لعمل الخلق، في رسالتها وسط البشر، في مجيئها إلى أرض إسرائيل، وفي سخائها تجاه البشر الذين يتقبّلونها.
وداخل هذه الرسمة المشتركة، نجد ألفاظاً استعملت عن الحكمة كما عن كلمة الله. "في البدء كان الكلمة". هنا نتذكر أم 8: 22. أشار يوحنا إلى أن الكلمة الذي به خُلق كل شيء جاء على الأرض من أجل خلق جديد. فالكلمة كائن فريد، ومثله الحكمة. بل هو الابن الوحيد. نصب الكلمة خيمته على أرضنا، مثل الحكمة (سي 24: 8) ومثل الله نفسه (خر 40: 34؛ عد 12: 5)0 الكلمة هو نور لا غروب فيه، وهو يمنح المجد والنعمة والحق. هكذا هي الحكمة (حك 26:9- 30)، وهكذا هو الله.
ومع هذه التقاربات التفصيليّة، هناك تواز هامّ بين الكلمة والحكمة. فهذا التوازي نجده في العهد القديم نفسه بشكل تلميح أو بشكل توضيح. وهكذا تصبح ملحمة الحكمة هي ملحمة الكلمة التي صارت شخصاً حيًا له علائق مع الله والخليقة والبشر.

* الكلمة والله
خرجت الكلمة من شفتي الله، شأنها شأن الحكمة (سي 3:24) التي تحدّثت عن نفسها (سي 1: 5)، فكانت في الله أزليّة وغير متبدّلة مثله (أش 8:40). حين ترجمت التوراة التسامي بألفاظ تدل على البعد اللا محدود، والتفوّق بما يدلّ على العلو، جعلت الكلمة، مثل الله، في الدوائر السماوية (مز 119: 89). فالكلمة (كالحكمة) تُجعل على عرش الله عينه. هي تلامس السماع وبالقدرة ذاتها تتحرّك على الأرض (حك 18: 15- 16).

* الكلمة والحلق
إن الله قد خلق بكلمته: قال فكان كل شيء. والكلمة الذي هو روح الخالق يدعو الكائنات إلى الحياة، ويحفظ جميع الكائنات في الوجود. نقول: إن الله خلق بحكمته. ونقول أيضاً: إن الله خلق بكلمته. هكذا تتوجّه الحكمة إلى إله الآباء فتحيّيه بهذه الكلمات: "لقد صنعت كل شيء بكلمتك، وكوّنت البشرية بحكمتك " (حك 9: 1- 2). فالكلمة الخلاقة، شأنها شأن الحكمة الخلاقة، تلجأ إلى الخلائق لكي تعبّر عن حياتها الخاصة وقدرتها المحيية: إنها أيضاً الماء الذي هو ينبوع حياة. الذي ينزل من السماء ويتغلغل في الأرض وينمي السنابل التي تعطي الحنطة (أش 55: 10- 11)0 الكلمة هي أيضاً النور الخارج من الشريعة والهادف إلى إضاءة مسيرة المؤمنين (مز 119: 105).

* الكلمة والبشر
إن أنوار الكلمةْ المشعّة وأمواجها الخصبة مخصّصة للبشر فالكلمة هي التي خلقت البشرية (تك 1: 26) وتسهر بعنايتها على مصيرهم، وتخف تأثيرها الخيّر على أبناء إبراهيم. فالمؤمنون يغتذون بالكلمة المشبعة (حك 16: 26)، ويشفون بالكلمة التي تهتمّ بهم (مز 107: 20؛ حك 12:16)، وينجون بالكلمة الذي يحارب عنهم (حك 18: 15). إن الكلمة المدافع يتدخّل أيضاً ليبرّر أخصاءه كما فعل مع يوسف (مز 19:105).

* الكلمة والشريعة
الكلمة الالهي هو خالق. وهو يحمل وحيًا. إنه يعبّر عن نفسه في فرائض الشريعة (مز 15:147-.2). وهو يُحفر على لوحي الوصايا (خر 28:34). وهو يكتب على اللفائف بشكل وصايا إلهية تهب الحياة (تث 32: 45- 47). وهكذا تتماهى الكلمة، شأنها شأن الحكمة، مع الشريعة. نقرأ هذا التوازي في أش 5: 24: "نبذوا شريعة الربّ القدير واستهانوا بكلام قدوس اسرائيل " (رج تث 33: 9- 10).

* الكلمة "المتجسّدة"
ليست الكلمة في الشريعة حرفًا ميتًا، بل صوتًا حيًا. صوت رجال الله الذين يعلنون الشريعة، يعلّمونها، يطبّقونها. هكذا انتقلت في فم النبي الذي يتقبّلها وينقلها. فالنبي الذي هو المرسل الأمين يسمع بملء أذنيه، ويحفظ في قلبه، ثم يعلن على السطوح أقوالاً حملها الله إليه بروحه (زك 7: 12). والحكيم وعى بدوره أنه يتنبأ (سي 24: 33)، فأعطي له أي يسمع كلام الله (إر 9: 11). وهذه الكلمة تُلفظ أيضاً على شفتَي الكاهن الذي يُطلب منه أن يحفظها وينقلها ويعلنها (لا 10: 11). وقد تصل الكلمة إلى السامعين بواسطة الملك.
حُفرت الكلمة في الشريعة فصارت مقروءة ومسموعة، وانتقلت بواسطة وكلاء الله، وتحقّقت بالأحداث التي أعلنتها. لقد "رؤيت " على الأرض (أش 2: 1؛ إر 2: 31؛ 38: 21)، شأنها شأن الحكمة. وما ظلّت خارج البشر بل دخلت فيهم لكي تحوّل أفكارهم وأعمالهم كما يقول تث 30؛14: "الكلمة قريبة منك. هي في فمك وفي قلبك لكي تعمل بها" (رج إر 31: 33).
إن النصوص التي جمعناها تبرز ميزتين هامتين. أولاً، تشير إلى الكلمة كشخص حي. وامتدّ يوحنا في هذا الاتجاه فسمّى يسوع إبن الله المتأنس، الكلمة. ثانيًا، نسب إلى الكلمة ألقاب الحكمة ووظائفها، لهذا حين نرى في يسوع امتيازات الكلمة، فنحن نرى فيه امتيازات الحكمة. في هذا المجال، قال اثناسيوس، أسقف الاسكندرية: "ليس في الله الا حكمة واحدة، وهذه الحكمة هي كلمته ".
إن المسيح الذي هو حكمة الله المتجسّدة، جمع في ذاته انحدار إله تأنّس ورفعة إنسان تألّه. ففي شخصه تمّ عمل الخلق. فالكون توحّد، والتاريخ اكتشف وجهته، والله انتقل إلى البشر، والناس تصالحوا مع الله فنالوا الخلود والسعادة.
إذن، ربنا هو هذه الحكمة التي تأمّلنا فيها مطوّلاً: هي مساوية الله، وسعها ومع الزمان والمكان. وهي أيضاً أخت أبناء آدم وصغيرة مثلهم (حك 9: 10). هكذا بدا ابن الله في سرّ التجسد: هو الله الذي نزل إلى البشر، فصار مثلهم ضعيفًا، طائعًا حتى الموت والموت على الصليب. وهو الإنسان الذي صعد إلى السماء وجلس عن يمين الله فرفع معه البشريّة ومجّد ما في جسده من ضعف. وهكذا نقول عن الحكمة. هي حكمة بشرية تألّهت. وهي حكمة الهية تأنّست. "فيا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه "!

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM