الفصل الرابع
الحكمة في أرض إسرائيل وحكمة المشرق
لم توجد الحكمة أوّلاً في أرض اسرائيل. فالشعب العبراني متأخّر على مستوى الحضارة بالنسبة إلى شعوب الشرق الأدنى ولاسيّما المصريين والسومريين... لهذا نودّ في هذا الفصل أن نكتشف المنابع الشرقية التي استقت منها الأسفار الحكمية، كما نكتشف ما قدّمته التوراة من وجهات أصيلة.
نكتشف في أم تقاربًا مع حكمة أهل المشرق: تقارب في المبنى، تقارب في المضمون. أحب الحكماء السفَر (سي 39: 4؛ 3:51؛ جا 1: 16) وضاعفوا علمهم بعد أن غرفوا من كنوز الشعوب المجاورة. ثم إنّ الفنّ الذي اتّخذه تعليمهم (لا حديث عن العهد ولا عن الشريعة الخاصة بشعب من الشعوب) أتاح لهم أن يُدخلوا في كتبهم خبرةَ العالم ويكيّفوها حسب إيمانهم (30: 5- 9).
1- على مستوى المبنى
نستطيع أن نقابل بداية أم (1: 1- 7) مع بداية "تعليم امينوفي " و" تعليم امينختي ". والدعوة إلى الاصغاء نجدها أيضاً في تعليم امينختي وما بقي من تعليم "شوروفاك ". وعرضُ أمثال الكتيّب الثاني بشكل دبتيك نجده في أسفار الحكمة البابلية وأناشيد اوغاريت (راس شمرا). يبدو أن الحكمة في إسرائيل استقت أولاً من العالم الكنعاني، قبل ان تلجأ إلى سائر حكمات الشرق.
2- على مستوى الأفكار
اولاً: هناك تقارب بين أم 17:22- 23: 15 مع كتاب امينوفي المصري ومع حكمة احيقار الاشوري. فقصة احيقار اشتهرت في الشرق، وعرفها المستوطنون اليهود في جزيرة الفيل (في النيل). تُرجمت واستوحى منها سفرُ طوبيا من أجل بنيان كتابه (تعليم الحكماء قسم من الكتاب. وهو يُعطى في خطة الاب لابنه). يتفق أم مع احيقار في المواضيع العامة وفي أقوال أكثر دقّة. ولكن الفن الأدبيّ في أم يختلف عن الفنّ الأدبيّ في احيقار ولهذا تبدو المقارنة صعبة.
ثانيًا: وهناك مقارنة بين أم وحكمة السومريين والاكاديين. مثلاً: موضوع الفقر، حماية اليتيم والأرملة. السلوك تجاه الأعداء، أهميِّة الصدقة والاحسان، وهو عمل يباركه الله. واجبات العدالة: على الملك أن يرفض الهدايا، على العظماء أن لا يظلموا الفقراء لأن الآلهة يكفلون العدالة ويعاقبون الظلم. أهميّة الكلمة وواجب الحكيم أن يكون معتدلاً في كلامه. السلوك الواجب في الخلافات والدعاوى. العمل كينبوع غنى. الله هو سند الإنسان لا ماله. السلوك مع المرأة ولاسيّما الزانية واحترام الزوجة الصالحة التي هي بئر ماء صاف يجري. الواجبات نحو الله.
ثالثًا: وهناك أيضاً مقارنة بين أم وحكمة مصر على مستوى الفكر الدينيّ. يشدّد الحكماء على سلطة الله السامية على الأحداث (16: 1- 9 مع امينوفي 19)، على ثقتنا بالله سيد الغد (27: 1، وأمينوفي 19؛ 22) الذي نسلّم ذواتنا بين يديه (16: 3، 7، 10 وامينوفي 9، 23)0 الله يهتمّ بالعدالة، فيدافع عن البار ولا يسمح أن يغطّي القويّ الظلم بقوته (15: 29؛ 17: 15، 20، 22 وامينوفي 22). إنه كفيل النظام الأخلاقي، كفيل الملك والصدق (11: 1؛ 15: 25؛ 16: 11 وامينوفي 7، 8، 18)0 العدالة ترضي الله أكثر من الذبائح (3:21). ويلفت الحكماء انتباهنا إلى ما يُحبّ الله وما يكره، إلى ما يبارك ويلعن (3: 32- 33؛ 11: 20؛ 12: 22؛ امينوفي 5، 14، 19) فيعلنون أن الفقر مع الله أفضل من الغنى مع الظلم والقلق (28:11؛ 16:15؛ امينوفي 16:9). وهناك الواجبات الدينيّة (3: 9- 10) والدعوة لكي نقرّ بخطيئتنا (20: 9 ؛ امينوفي 19).
3- مستويات التقارب
أ- على مستوى الحكمة
الحكيم هو الذي يُصغي (12: 15؛ 13: 1؛ 21: 28)، لأن الحكمة لا تأتي بالولادة بل بالمثابرة (20: 11 ؛ 22: 15). لن يجد الحكيم فائدة في أن يجادل الجاهل والبليد (13: 20؛ 7:14؛ 26: 4- 5؛ امينوفي 5)0 القلب هو مركز الحكمة، ولهذا يجب أن نربّيه ونهيّئه لتقبّل الحكمة (3: 1 ؛ 4: 4، 21- 22؛ فتاح حوتب 40؛ امينوفي 3، 9، 20). لا نجد مقابلة بين الحكيم والجاهل في عالم مصركما في أم. والسبب في ذلك هو أن الحكمة المصريّة تتوجّه إلى الكاتب الذي تهمّه الكلمة المكتوبة أو الملفوظة. لا إلى الحكيم الذي يهمّه الكمال الأدبي بمعزل عن أية وظيفة عامة. يقابل "حكم " العبري "سأى" المصري، ولكننا لا نجد "فتى" (فتى، جاهل، غبي) ولا "كسيل " (كسول، بليد) كما في أم.
ب- على مستوى متطلّبات الحكمة
يحذّر الحكماء في مصر وإسرائيل من التعدّي على العدالة، على حقوق الآخرين، ولاسيّما الضعفاء والفقراء والبائسين والارامل (17: 15، 23؛ 17:20 ؛ 22: 22- 23؛ 29: 4؛ امينوفي 4، 7، 8، 21، 23). ويحذّرون من المحاباة والتمييز في العدالة (18: 5؛ 23:24؛ 28: 21 ؛ 29: 14؛ 31: 5). والغشّ في الموازين والمكاييل ووضع الحدود (20: 10، 23؛ 22: 28؛ 23: 10؛ امينوفي 7، 8، 17، 19)0 العدالة فريضة من فرائض الله وهو يحميها (3:21) ويرضى عنها أكثر من الذبائح. ويشدّد الحكماء على واجب الاستماع للطالبين والمشتكين (17:18؛ 7:29؛ 8:31- 9؛ فتاح حوتب 339)، وممارسة الحق من أجل ازدهار البلاد (29: 4)، على شجب شهادة الزور (6: 19؛ 19: 5؛ 25: 18؛ امينوفي 20)، على التحذير من الهدايا التي تعمي القضاة (15: 27؛ 23:17؛ امينوفي 21).
ويهتمّ الحكماء في مصر وإسرائيل بأخلاقيّة اللسان. يقدّرون الكلمة الصادقة والكلمة الحلوة، فهي قوة وغنى (12: 6، 25: 11- 12، ماريكارع 32) ويشيرون إلى الشرور التي يسبّبها لسان غير مضبوط وماكر (ق أم 17: 9، 27- 28 وامينوفي 10، 11؛ أم 13: 3؛ 18: 6؛ 21: 23 وامينوفي 4، 5، 7). ويشجبون اللسانين والكذب (28:26؛ امينوفي 14:13 ؛ أني 7). ويشدّد الحكماء على قيمة الصمت والسكوت، على حفظ السر، على أخطار معاشرة الثرثار (11: 12؛ 27:17- 28؛ 20: 19 ؛ 23:21؛ 7:25-8 ؛ 26: 20؛ فتاح حوتب 11، 17، 20، 21، 25، 26، امينوفي 5، 6، 22) ويشجب الحكماء المفتري والنمام (28:16؛ 8:18؛ امينوفي 11). ويعلنون أن الخصومات تنتج عن عدم ضبط اللسان (17: 9 ؛ 18: 6؛ 22: 10؛ امينوفي 5).
واهتمّ الحكماء بالأخلاقيّة العائلية. هناك نصائح لاختيار الزوجة: الزوجة الصالحة كنز، والأمانة الزوجيّة خير نحافظ عليه (15:5- 20 ؛ 22:18، فتاح حوتب 325- 332؛ اني 3). ونجد تحذيرًا من الزنى وسحر المومسات (2: 16- 19؛ 23: 26- 28؛ اني 3).
ونلاحظ فرقًا بين الحكمة المصريّة والإسرائيليّة على مستوى العلاقات بين الاهل والاولاد. يهتمّ أم بتربية الأولاد، والحكمة المصرية بتربية الكاتب. ولكن الابن العاقل والخاضع يهم والديه وبلده. ونقدّم بعض الملاحظات: سلوك الاب الصالح مفيد من أجل مستقبل ابنه (20: 7 ؛ امينوفي 5، 17). على الأولاد أن يساعدوا والديهم. وتعالج التوراة قضيّة الذين يهملون هذا الواجب (26:19 ؛ 20: 20؛ 28:28). وتحرِّض مصر على القيام به (اني 7، 8) وتمتدح الابن الطائع (فتاح حوتب 565- 575، 591- 595). أما التوراة فتمتد الابن الحكيم (23: 19، 22، 24- 26؛ رج 10: 1؛ 15: 20).
وتشدّد حكمة مصر وحكمة إسرائيل على الصداقة: تبرز قيمتها في التوراة (18: 24، 27: 10). كيف تختار صديقك في فتاح حوتب 464- 470؟ وتذكرنا بواجب الصبر نحو القريب (19: 11، امينوفي 22، 23) والعطف عليه (3: 27- 30، امينوفي 24)، والمحبّة نحو المساكين (17:19، فتاح حوتب 161- 162، اني 8) وواجب ردّ الخير على الشرّ (25: 21، رج 17: 31، امينوفي 4، 5).
وهناك حكم مشترك على الغنى والفقر. يشجب الحكماء رغبة الغنى والطمع والبخل (28: 20، 22؛ فتاح حوتب 298- 320) واستعمال خيرات اقتنيناها بالظلم (20: 21) ويبيّنون أن المال غير ثابت (5:23؛ 27: 24؛ امينوفي 9) ويشجبون غنى اقتنيناه بسرعة وقد جاءنا من الأهل (13: 11- 12؛ اني 6)، أو ميلاً لاكثار املاكنا على حساب القريب (23: 10- 11، امينوفي 8). فللغنى سيّئاته وليس أقلها القلق الذي يسبّبه (16:15 ؛ امينوفي 9).
ويلاحظ الحكماء حياة البشر فيكتشفون الرذائل ويحذّرون منها. يحذّرون من السكر (20: 1 ؛ 23: 29- 53؛31: 4؛ ني 4)، من الكسل (10 :26 ؛ 18: 9؛ 24: 30- 34). أكان كسل العامل (كما في إسرائيل) أو كسل الكاتب (كما في مصر). وإذا ذكرنا حكمة مصر نشير إلى أسماء بعض أسفار الحكمة المصرية التي سنشير إليها في هذا التفسير.
* تعليم امينوفي أو أمينيموفي، أو حكمة امينيموفي المصرية. بردية مصرية طبعت سنة 1923 واحتوت مقاطع تشبه أم 17:22- 23: 11. يعود هذا التعليم إلى القرن الثاني عشر ق م وهو بالتالي أقدم من أم. وقد يكون هذا التعليم استقى من مرجع قديم يعود إلى القرن الرابع عشر ق م، استقى منه أيضاً سفر الأمثال عبر ترجمة أرامية.
* أقوال فتاح حوتب. كان وزير الفرعون إيساسي من السلالة الخامسة (2500- 2350 ق م).
* تعليم الملك اختي إلى ابنه ماريكارع من السلالة العاشرة (حوالي سنة 2200). واجبات الحكم، نظرة متشائمة إلى العصر الذي يعيش فيه، الخلفيّة السياسية حيث الملك مسؤول تجاه عبيده.
* تعليم اني (المملكة الجديدة، تبدأ بالسلالة الثانية عشرة: 1570- 1293): نصائح عملية: كيف تختار اصدقاءك؟ كيف تسلك أمام الغرباء، أمام الشرطة، أمام الأعداء، أمام أفراد عائلتك...
خاتمة
تلك كانت أقوال سريعة، وسنعود في فصل لاحق إلى نصوص مصر نقرأها مطوّلاً لكي نكتشف بشكل أدقّ المقابلات بين حكمة مصر وحكمة فلسطين، وإن كانت الواحدة تأثرت بالأخرى