الفصل الثاني والثلاثون: مصر والفلسطيون

الفصل الثاني والثلاثون
مصر والفلسطيون
46: 1- 47: 6

قدّم لنا إرميا، شأنه شأن سائر الأنبياء، سلسلة من الأقوال على الأمم (ف 46- 51)، مع مقدّمة عامة نجدها في 25: 15- 38. ماذا نجد في هذه النصوص البعيدة عنا بمنظورها الجغرافيّ والتاريخيّ؟ في الواقع، تبدو هذه الأقوال مهمّة من أجل فهم النبوءات في الكتاب المقدّس. فيجب أن لا ننسى أن المهمّة التي سلّمها الله إلى النبيّ هي بأن يكون نبياً للأمم (1: 5). وقد اعتبره تلاميذه قد "أُقيم على الأمم والممالك" (1: 10). إذا كان النبي بدأ يكلّم يهوذا واسرائيل باسم الله، فهو لا يستطيع أن يفعل إلاّ في إطار سياسيّ تلعب فيه الأمم دوراً حاسمًا، بحيث لا تستطيع مملكة يهوذا أن تُفلت منه. من هذا القبيل، بدا إرميا في خطّ التقليد النبويّ الذي أفرد حيّزاً هاماً للأقوال على الأمم. وهذا ظاهر في مختلف المجموعات النبويّة.
وقبل أن نبدأ دراسة النصوص، نودّ أن نقول كلمة في البعد السياسيّ واللاهوتي لهذه الأقوال. فهناك يقين يقول: إله اسرائيل هو الربّ والسيد. فإذا الإله الذي يحمل النبيّ كلمته، لا ينحصر في الشعب المختار، بل يصل إلى جميع الأمم، لأنّه سيّد التاريخ. من هذا القبيل نُخطئ إن نحن قلنا إن مهمة الانبياء كانت اعلان إله اسرائيل للأمم ودعوتهم إلى عبادة هذا الإله. لقد كانت مهمّة الأنبياء اعلان قدرة الله التي بدأت في تاريخ اسرائيل منذ الخروج من مصر وكانت أيضاً إعلان هذه القدرة التي تعمل عملاً لا حدود له في التاريخ، وهذا ما اختبره شعب اسرائيل حين خضع للأمم بسبب خيانته لإلهه. وهكذا صارت الأمم، لوقت محدود، منفِّذة قضاء الله في شعبه. بما أنّ الله يفعل في التاريخ، وجب على إسرائيل، بسبب اختيار الله له، أن يرى عمل الله هذا يمرّ في أحداث التاريخ حتى المؤلم منها. إذن، تصدر الأقوال على الأمم من هذا اليقين النبويّ المتجذّر في رؤية إله يتجاوز عملُه أرضَ اسرائيل من كل جانب.
إذن، يجب أن نفهم الأقوال على الأمم في منظور العلاقات التاريخية بين يهوذا (اسرائيل) والأمم. فالأمم التي تسحق اسرائيل هي أيضاً خاضعة لله. لهذا، يفهم اسرائيل هذه الأقوال كأقوال خلاص له. وبما أن هذه الأمم لا تزول تماماً، ولو خضعت لدينونة الله مثل اسرائيل، فالأقوال التي تعنيها تستحقّ أن نقرأها ونعيد قراءتها. هذا ما فعل الشعب اليهوديّ الذي قرأ هذه الأقوال، وكيّفها مع وضع تاريخيّ ما زال يتطوّر.

1- أقوال على مصر (46: 1- 28)
نجد هنا مقطعين. هزيمة مصرفي كركميش (آ 1- 12)0 اجتياح مصر.
أولاً: هزيمة مصر (آ 1- 12)
أ- قراءة النصّ
آ 1- سن46= سب 26. هذه المقدّمة المقولبة (كلمة الربّ التي كانت...) ترد أيضاً في 14: 1؛ 47: 1؛ 34:49 (في 14: 1 لا ترد لفظة "النبيّ"). رج 1: 2. لا نجد في سب هذه الآية لأنها تضمّ الأقوال على الأمم مع 25: 15- 38 في سب 25: 14- 32: 24، لهذا لا تحتاج إلى عنوان منفصل كما هو الحال في مس. مس: على الأمم. مخطوطات: كل الأمم. رج 13:25 ب حيث نقرأ "حيث تنبّأ إرميا على كل الأمم". أضافت بهس "في السنة الرابعة ليوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا" من آ 2 ب، لأنها ترى في 46: 10- 49: 32 أقوالاً تنتمي إلى السنة الرابعة ليواقيم (49: 34 مؤرَّخة ببداية ملك صدقيا). رج 45: 1 ب.
آ 2- "ل م ص ري م". عنوان قسم في الكتاب. "على مصر". رج 23: 9؛ 48: 1، 7، 23. نجد عنواناً أطول في 47: 1؛ 28:49؛ رج 49: 34؛ 50: 1. هذا العنوان يمكن أن ينفصل عن الحاشية الظرفية التي تليه: كعنوان عام لما في ف 46، وبسبب التفاصيل في آ 2، هو يرتبط فقط بما في آ 3- 12 (رج آ 13). الظرف هو سنة 605، حين هزمت بابل مصر في كركميش. رج 25: 1؛ 36: 1 ؛ 45: 1 بالنسبة إلى هذا التاريخ. إن للتاريخ علاقة بما في 25: 1 في أن 25: 19 تجعل من المصريين أول آنية كأس غضب الله.
آ 5- ما بالي رأيتهم؟ ما الذي يحدث لأراهم؟ غابت العبارة من سب بسبب خطأ الناسخ. انهزموا انهزاماً حقيقياً، وربّما سريعاً. "خمول من كل جهة". رج 25:6؛ 3:20؛ 4، 10؛ 29:49؛ مرا 22:2؛ مز 3:31.
آ 6- إذا كان الخفيف لا يستطيع الهرب، فمن سيهرب؟ رج عا 15:2.
آ 7- نجد صيغة الجمع للتفخيم: تلتطم أمواجه كالانهار.
آ 8- نجد الجواب على سؤال آ 7. ألغت بهس آ 8 لأنها غير ضرورية. لا نجد في سب آ 8 أ، كما لا فبد "المدينة و" في آ 8 ب.
آ 9- فوط أي ليبيا. رج نا 3: 9. وقد تكون على شاطئ الصومال. لوديم، لا ليدية في آسية الصغرى، بل شعب أفريقي خاضع لمصر (تك 13:10).
آ 15- لا نجد في سب "الجنود". مس: السيف. بهس: سيفه (= سيف الربّ). قد نكون على مستوى تلاعب على الكلام، والقول بشير إلى مصر "م ص ري م "، كما يشير إلى الله الذي ينتقم من أعدائه (م ص ري و).
آ 11- رج 8: 22 والربط بين جلعاد (ج ل ع د) والشفاء (ت ع ل هـ). العذراء بنت: تشخيص للأمّة. رج 13:18؛ 31: 4- 21؛ عا 5: 2 (عذراء اسرائيل، أي أمّة اسرائيل)، إر 14: 17 (العذراء بنت شعبي)؛ 23: 12 (العذراء بنت صيدون)، أش 47: 1 (العذراء بنت بابل).
آ 12- مس: صياح. سب: صوت.
ب- التفسير
آ 1- "ع ل. هـ ج وي م"، على الأمم. هو كلام قاسٍ يحكم عليهم. رج 13:25.
آ 2- كان نكو فرعون مصر (609-593)، وقد قهر يوشيا في مجدو (22: 10) سنة 609، وحاول ألط يُنجد ملك أشور (2 مل 23: 29- 35). كركميش: مدينة هامة في بلاد الرافدين. هي اليوم جرابلس. تقع على الحدود بين تركيا وسوريا. إلى هنا جاء المصريون يحاربون البابليين بجانب الأشوريين، فمُنوا بهزيمة لم يطلعوا منها. رج 25: 1. السنة الرابعة ليوياقيم هي سنة 605. رج 36: 1.
آ 3- هي دعوة إلى الحرب في لغة شعريّة.
آ 5- ولكن المصريين ارتدوا إلى الوراء، انهزموا. رج نا 9:2.
آ 6- وحُدّد الموضع: عند نهر الفرات.
آ 7- مصر هي النيل. وعظمتها من عظمته. أما وقد انهارت، فماذا بقي من النيل؟
آ 8- كما النيل يغمر الأرض بمياهه، هكذا اعتبر نكو أنه يستطيع أن يخرّب المدن والساكنين فيها. هذا ما يُسمّى كبرياء الأمم. لا ليس الفرعون هو السيّد، بل الربّ هو سيّد التاريخ.
آ 9- وعاد الكاتب يصوّر الجيش المصري بفرقه المتعدّدة: من كوش (السودان الحالية، النوبة) وفوط (ليبيا) ولود (شعب إفريقي غير معروف بالنسبة إلينا). تتكرّر اللفظة (خطأ الناسخ): قابضين، ويطأون القسىّ.
آ 10- ويقرأ النبيّ نتيجة المعركة: الربّ حاضر هنا وهو "يعمل" بسيفه.
ج- دراسة عامّة
الأمّة الأولى التي يتوجّه إليها النبيّ هي مصر (رج 25: 19. أما سب فتجعل عيلام في الأول (رج 25: 14- 20، رج أش 19؛ حز 29- 32). بما أن كل الأقوال على الأمم هي اعلان هزائم وخراب، فإن آ 2 تعكس محاولة لربط القصيدة بأحداث تاريخيّة. كانت سنة 605 قاتلة بالنسبة إلى مصر، لأنها جعلت من بابل سيدة فلسطين وسورية ولبنان... بل ستصل بابل إلى مصر نفسها.
متى قيلت القصيدة في هزيمة مصر (آ 3- 12)؟ خلال الهزيمة أو بعدها. في آ 3- 4، يُسمع القوّاد وهم يدعون جنودَهم إلى المعركة. في آ 5- 6، هُزم المهاجمون وهربوا. بل سقطوا في النهر. وصوّر الكاتب مرّة ثانية المعركة (آ 7- 9) وأعطى معناها (آ 10- 12). صُوّرت كبرياء مصر بشكل مياه النيل الجامحة. ذهب المقاتلون المصريون وأعوانهم إلى الحرب في الشمال (آ 9)، ولكن يوم الحرب هو يوم الربّ (رج أش 2: 12- 17).
ثانياً: اجتياح مصر (آ 13- 28)
أ- قراءة النصّ
آ 14- لا نجد في سب "في مصر وأعلنوا" و"وفي تحفنحيس". مس رج 44: 1؛ أش 11: 11. بالنسبة إلى فعل "هـ ج ي د و"، أخبروا، "هـ ش م ي ع و"، أسمعوا، "ا م ر و"، قولوا، رج 4: 5. في مس: ما حولك (س ب ي ب ي ك). سب: شجرة أثلك، رج 14:21.
آ 15- مس: لماذا انحنت عجولك؟ أي المقتدرون، المحاربون سقطوا إلى الأرض. سب: "لماذا هرب أبيس" (أو: أفيس) "عنك" (فاتيكاني). أبيس هو العجل المكرّس لدى المصريين. يُعبد كتجسيد للاله المصري بتاح (أو: فتاح). هناك من ترجم: لماذا هرب أفيس، لماذا لم يقف عجلكم؟
آ 16- "كثّر العاثرين". سب: عثر الكثيرون. بهس: عثر رهب القدير (أش 7:35). رهب هو وحش البحر الميتولوجي الذي يتماهى مع مصر هناك من قرأ: الجيوش الغريبة بينك. مس: بسبب سيف القاهر، رج 38:25. سب: من سيف اليونان.
آ 17- "سمّوا هناك فرعون". سب: حموا الفرعون نكو. تعتبر بهس "ملك مصر" إضافة. مس: الميقات جلب الهلاك. قد تكون إشارة إلى معركة لم يُحسب لها حساب من هذا النوع (رج 25: 31؛ 48: 45 حيث "ش ا و ن" تعني ضجيج المعركة). هو اسم جديد يُعطى للفرعون: يحدث ضجّة ولا يفعل. قد تكون "هـ. ع ب ي ر" تحويراً لـ "خفرع". إن سب نسخت حرفياً في اليونانية ما في العبرية لأنها لم تفهم.
آ 18- مس: "الملك رب الجنود اسمه". سب: "الربّ الإله". "الملك" في مس (رج 48: 15) يقابل "ملك مصر" (آ 17)، وهكذا يبرز يهوه كالملك الحقيقيّ، لا ذاك "العجّاج" الذي لا يعرف أن يعمل في الوقت المناسب.
آ 19- "الساكنة بنت مصر" (الأمّة الساكنة أرض مصر). رج العذراء بنت مصر، آ 11، أو"عذراء شعبي" (رج 19:8 ؛ 23:21). هو تجسيد لشعب مصر بشكل امرأة. رج 2: 15؛ 9: 10 في كلام عن مدن يهوذا وأورشليم التي صارت دماراً بدون ساكن. تلاعب على الألفاظ والمعاني: "ي وش ب ت"، ساكنة. ثم "ي وش ب"، ساكن، وهنا بلا ساكن.
آ 20- "ق ر ص"، زنبور، ذبابة، حشرة. رج أم 6: 13 ؛ 10: 10؛ 16: 30. أي 6:30. رج أش 18:7 للحديث عن الاجتياح والهزيمة.
آ 21- شبّه المقاتلين بالعجول المسمّنة. رج أش 16:10. هم من المرتزقة (ث ك ري هـ). "زمن الافتقاد، وقت العقاب"، رج 6: 15؛ 8: 12؛ 10: 15؛ 8:49؛ 50: 27، 31؛ 18:51. رج سنة الافتقاد 11: 23؛ 12:23؛ 48: 44.
آ 22- "صوتها كالحية تسري". حسب: صوتهم يصفر كالحيّة. "ب ح ي ل"، بقوة. سب: في الرمل (ب ح ول). مس: عليها. مخطوطات: عليك.
آ 23- مس: الماضي (قطعوا). سب: المضارع: يقطعون. "لا يستقصى"، لا يمكن الدخول إليه. رج 21: 14 ؛ 22: 7 لصورة الغابة مع الدمار (رج أش 10: 33- 34).
آ 24- صُوّرت مصر بشكل صبيّة لحقها العار بسبب الزاحفين من الشمال.
آ 25- سب أقصر: "ها أنا أنتقم من امون وجميع المتوكلين عليه". مس: امون نو (طيبة). كان آمون الاله الأكبر في طيبة، عاصمة مصر العليا (رج حز 30: 14- 16). بهس رأت تلاعباً على الألفاظ بين: "وع ل. ف رع هـ" (وعلى فرعون) و "وع ل. ف ر هـ" (وعلى البقرة).
آ 26- لا نجد آ 26 في سب. رج 7:21 ؛ 30:44 من أجل موضوع آ 26 أ (أجعلهم في أيدي طالبي نفوسهم). "مسكونة كما في أيام القدم"، رج 48: 47؛ 49: 6، 39
آ 27- آ 27- 28= 30: 10- 11 مع بعض اختلافات.
ب- التفسير
آ 13- وأعلن الربّ لإرميا أن نبوخذ نصر آتٍ إلى مصر مثل هذه الكبرياء يجب أن تخفض. ولا يخفضها سوى العدوّ الآتي من الشمال في شخص نبوخذ نصر.
آ 14- في التقليد البيبلي، مجدل (مجدول) هي مدينة تقع على حدود مصر (خر 14: 2). "نوف" (في العبرية: ن ف) تعني "السور الأبيض". هي مركز اداري يبعد 20 كلم إلى الجنوب من القاهرة (هو 9: 6). تحفنحيس (دفنة). رج 16:2.
آ 15- تماهى أبيس مع فتاح الإله المحامي عن مدينة ممفيس (نوف)، كما تماهى مع اوزيريس. صورته صورة عجل، لهذا كان التوازي بين: لماذا هرب أفيس؟ لماذا لم يقف عجلكم؟ من صرعه؟ لا نبوخذ نصر في الدرجة الأولى، بل الربّ. هكذا يُصرع الطغاة.
آ 16- الرجال هم المقاتلون الذين جاؤوا من لود وفوط... رج آ 9. هربوا من المعركة وتركوا فرعون.
آ 17- فرعون ملك يُحدث ضجيجاً ولا ينفع. قالت له "الكواكب" متى يجب أن يضرب، فتأخّر عن الموعد.
آ 18- الملك الذي يفعل هو الربّ. يُشبّه بجبلين في فلسطين: تابور والكرمل (على شاطئ البحر). "ي ب ي ا". هو يأتي. من؟ الله أو نبوخذ نصر وفي أي حال، هو الله يمسك بيد نبوخذ نصر، فيبدو كالجبل متانة.
آ 19- يبقى أن تستعدّ مصر للرب بعد أن أحرقت ممفيس (نوف). رج 17:10؛ حز 3:12.
آ 20- مصر عجلة (رج أبيس). رج هو 10: 11. يأتي الذباب من الشمال عليها. والمرتزقة التي "سمّنتهم" كالعجول تركوها.
آ 22- وهربت مصر كحيّة دون أن تُحدث ضجّة، أو وهي تصفر.
آ 23- أيشبَّه جنودها بغابة كثيفة تقطع؟ ويشبّهون أيضاً بالجراد لكثرتهم (14:51؛ قض 12:7: يوء 1: 4). ولكن ما نفع كل ذلك؟
آ 24- بنت مصر (أي شعب مصر) غطّاها الخجل. هي كامرأة عارية.
آ 25- بعد الذي حدث لمصر، تكلّم الربّ. هو سيّد التاريخ. امون هو إله طيبة، يتخذّ أشكالاً بشريّة وحيوانيّة عديدة. ويجمع في شخصه جميع الآلهة. طيبة (أو: تيبة) هي عاصمة مصر العليا. في العبرية: نو. أضافت النسخة الثانية (النص الماسوري) عبارة "وفرعون ومصر وآلهتها وملوكها".
آ 26- بعد هذه الضربة القاضية لمصر، فهي ستقوم مثل يهوذا واسرائيل. فالأمم الغريبة لها مكانتها في مخطّط الله، شأنها شأن شعب الله (47:48؛ 6:49، 39). فالعقاب ليس الكلمة الأخيرة عند الربّ، ولا الهدم والقلع. بل البناء والغرس. نجد مثل هذا الكلام المليء بالامل (وقد يكون صورة عن الواقع) في أش 16:19- 25 ؛ حز 13:29- 15.
آ 27- فإذا كان الربّ يعيد بناء مصر، فما تراه يفعل بالنسبة إلى شعبه، يعقوب، اسرائيل؟ سيعيده من المنفى. يكون معه. قد يُفني الربّ الأمم. ولكنه لا يفني شعبه أبداً بعد أن نقش اسمه على كفّ يده. هو يؤدِّب حين يضرب، لأنه يعاقب ساعة يستحقّ شعبه العقاب (آ 8). نقرأ آ 27- 28 في 35: 10- 11 فنتذكّر اسلوب أش 40- 55. يعاد بناء جميع الأمم ويهوذا (أو اسرائيل) في الوسط.
ج- دراسة عامّة
إن مقدّمة (آ 13) القصيدة (آ 14- 24) تربط كلام النبيّ هنا بهجوم نبوخذ نصر على مصر في آ 20، خرج الذباب من الشمالي. وفي آ 24، جُعلت مصرفي أيدي شعب الشمال. غير أن نبوخذ نصر لم يهجم على مصر سوى سنة 568- 567، وذلك اربعين سنة بعد هزيمة كركميش. جُمعت القصيدتان (آ 3- 12، 14- 24) لأنهما تُمثّلان هزيمة مصر على يد البابلونيين، وتحدّد مصيرُ مصر في إطار سيادة بابل. هناك شرّاح نسبوا آ 14- 24 إلى إرميا على أساس أنها قيلت سنة 604، ساعة بدا اجتياح بابل لمصر ممكناً. وهناك تاريخ آخر (حوالى 587) يشير إليه 37: 6- 10 الذي هو هجوم على الحزب الموالي لمصر في أورشليم: كيف يأملون بسند من مصر، ومصر قد حُكم عليها؟ أما أفضل وقت لهذه القصيدة فهو عقدان من السنين بعد سقوط أورشليم. إذا جعلنا جانباً صور الاجتياح في القصيدة، يدلّ التلاعب على الألفاظ في آ 17 على أن خفرع كان الفرعون الحاكم في ذلك الوقت.
أجل، نقرأ في آ 14- 24 القصيدة الثانية التي تُبرز هزيمة مصر على يد العدوّ الآتي من الشمال. نبِّه الشعبُ في مدن مصر (آ 14؛ رج 4: 5). سيستعد للدمار. فمن خلال الاجتياح، الربّ يهزم مصر وآلهتها، وعلامةُ الهزيمة تظهر في أن الفرعون لم يستفد من الظرف المناسب (آ 17)، وفي أن المرتزقة الذين علفهم كالعجول تراجعوا أمام القوى المجتاحة (آ 1 2). وهكذا تصوّر القصيدة هزيمة مصر واجتياحها، بشكل نشاط يقوم به الربّ فيعكس موضوع "الحرب المقدسة" الذي يظهر أيضاً في آ 3- 12. هناك مقابلة بين يهوه، وأبيس إله مصر (حسب اليونانية)، وملك مصر يهوه هو القوّة الفاعلة من وراء الأحداث السياسيّة.
وينظر شعب يهوذا إلى هزيمة مصر من على جبلين: تابور والكرمل. ويرى الكرمل كيف صارت ممفيس قفراً، ساعة كانت تكسو الخضرة جبل الكرمل.
ويأتي كلام أخير في قصيدة (آ 27- 28) قصيرة تشير إلى بناء يهوذا وسط الأمم. إن وجود هذه القصيدة هنا وفي 30: 10- 11 يطرح سؤالاً حول موقعها الأصليّ (جعلتها سب هنا) ووظيفتها في الأقوال على الأمم (رج 30: 10- 11). في مس، نجد هاتين الآيتين بين الأقوال على مصر وموآب، ساعة تبعتا مصرفي سب، وسبقتا القول على بابل (سب 27- 28). فعودة اسرائيل من السبي موضوع نجده في أقواله على بابل (50: 4- 5، 17- 20؛ رج آ 33- 34). وهكذا تكون آ 27- 28 حاشية أخذت من 50: 2 - 5 وجعلها الناشر في هذا الموضع.
2- قول على الفلسطيين (47: 1- 7)
جاء الفلسطيون من جزيرة كفتور وأقاموا على شاطئ البحر، فسُمّوا شعوب البحر بمدنهم الخمس (غزة، اشقلون، جت، عقرون، اشدود). سيأتي عليهم المدمّر.
أ- قراءة النصّ
آ 1- مس 47- سب 29. لا نجد في سب هذه الآية ما عدا العنوان: على الفلسطيين. قد يكون هذا العنوانَ الأصليّ (46: 2؛ 48: 1؛ 49: 1، 7، 23، 28). أما مس فقدّمت الظرف الذي فيه أعلن هذا القولُ النبويّ.
آ 2- رج 7:46- 8 بالنسبة إلى موضوع المياه الجارية؛ أش 7:8- 8 (ش ط ف). "الأرض وملئها، المدينة وسكّانها"= 8: 16 ب. في مخطوطات: كل ساكن الأرض (المفرد). سر: (كل) سكّان.
آ 3- استرخاء الايدي. من الضعف والخوف. رج 6: 24.
آ 4- صور، صيدون. مدينتان على الشاطئ الفينيقي الذي لاسم في وقت من الأوقات شاطئ الفلسطيين، فوصل إلى عكا. كان يمكن للفلسطيين أن يجدوا حليفاً في صور وصيداً. سب: سأدمّر صور وصيدا وسائر الحلفاء: هي نبوءة غريبة على صور وصيدا في قول نبويّ على الفلسطيين. ربما نكون في امتداد القصيدة. لا نجد "الفلسطيين" في آ 4 ج (يدمّرهم). كفتور: جزيرة كفتور أو كريت في البحر المتوسط. هي اليوم جزيرة يونانيّة. سب: الجزر. كانوا يظنّون أن الفلسطيين جاؤوا من كريت ومن الجزر المجاورة (صناعة الحديد). رج عا 9: 7.
آ 5- رج 16:16 ؛ 41: 5 في ما يتعفق بعلامات الحداد ولا سيمّا حلق الرؤوس. مس: دُمّرت. بل "سكتت"، والوقت وقت حداد. مس: بقية واديهم. سب: بقيّه عناقيم. رج يش 11: 22. عناقيم شعب من الجبابرة أقاموا في أرض كنعان قبل وصول بني اسرائيل بقيادة يشوع، وبقيت منهم بقيّة في غزة، جت، أشدود. رج صف 2: 4 الذي يذكر غزة، اشقلون، أشدود.
آ 6- لا نجد في سب "ويل". رج 35:51- 37 من أجل صورة السيف.
آ 7- كيف تكفّ. سب: كيف يكفّ (السيف) ؛ تواصل آ 7 ما في آ 6 ب، ولكن آ 7 تتحدّث عن السيف في صيغة الغائب.
ب- التفسير
آ 1- يذكر النصّ هنا هجوم فرعون على غزة. إلى أي حدث تاريخيّ يلمّح؟ قد يكون حدثَ ذلك على أثر هزيمة المصريين في كركميش. فنبوخذ نصر لحق بالمصريين واحتلّ أشقلون ودمّرها كما دمّر سائر المدن (آ 5). ولكننا نعرف أن مصر ستعود إلى أرض الفلسطيين بعد ذلك (آ 1، 5). وهكذا يكون النصّ وكأنه لا يتكلّم عن الاجتياح البابليّ، أو هو يمزج ما فعله البابليّون (آ 2- 4 أ) والمصريون (آ 4 ب- 7) بغزّة. في أي حال، سواء كان الحديث عن المصريين أو البابليين، فالله هو الذي يفعل.
آ 2- جاء العدوّ من الشمال كسيل جارف (7:46؛ أش 28:30؛ نا 1: 8؛ مز 124: 4- 5). يغمر الأرض، يغمر المدن. وسيذكر النصّ فيما بعد صور، صيدون، غزة، اشقلون. بل يذكر جميع الآتين من كفتور، يذكر الفلسطيين.
آ 4- من أجل اليوم الآتي. هو يوم الربّ مهما كانت أعال البشر.
آ 5- نجد هنا علامات الحداد: حلق الرأس، الصمت، تخديش الأجساد. نذكّر أن هذه الممارسات كانت ممنوعة في تث 14: 1. أتراها جاءت من عند الفلسطيين، أم من عند الكنعانيين بشكل عام؟
آ 6- وكان حوار بين "القارئ" وبين النبيّ. طلاب القارئ من سيف الربّ أن يهدأ. فأجاب النبيّ (آ 7): كيف يهدأ والربّ هو الذي يرسله؟ فهذا السيف لا يخضع للبشر، بل لله. نشير هنا إلى أن هذا الكلام هو نظرة إلى الأحداث على ضوء كلمة الله. غير أن النبيّ يعرف أن الله يخطّط. لهذا تصبح الأفعال في صيغة المضارع فتدلّ على المستقبل، بينما يجب أن نقول من جهة الانسان: هذا ما حدث.
د- خلاصة
نتوقف هنا في محطّة أولى عند قراءة الأقوال على الأمم، قراءة جغرافية وقراء تاريخيّة.
أولاً: القراءة الجغرافيّة
ننطق من خارطة إجماليّة عن الشرق الأوسط، ونشير إلى المدن التي أصابتها الأقوال النبويّة، والتي تبعد قليلاً أو كثيراً عن مملكة يهوذا (دون أن ننسى مملكة اسرائيل التي دُمرت عاصمتُها السامرة على يد الاشوريين سنة 722- 721). نكتشف في الجنوب موقع مصر وأرض الفلسطيين. يقع عمون وأدوم لشرقيّ البحر الميت. في الشمال الشرقي نجد في القول على دمشق (49: 23- 27) إشارة إلى حماة وأرفاد. هذا يعني تجاوزاً لحدود مملكة دمشق القديمة. فأرفاد الواقعة شمالي حلب تمثّل أقصى ما في الشمال. ويشير 28:49 إلى قيدار القبيلة العربيّة (تذكر مع سكّان حاصور، أي القبائل العربيّة) المقيمة في عرابية الشماليّة.
هذه القبائل حلّت محلّ الأدوميين الذين أجبروا على الإقامة في الجزء الجنوبي من أرض يهوذا. لهذا قالت التوراة في أدوم أقوالاً عنيفة جداً. وعيلام التي ذُكرت نادراً في التوراة (حز 24:32- 25) هي أرض تقع إلى الشرق من بابلونية، ذُكرت هنا فدلّت على هدف النبوءة بأن تمدّ سلطة الله إلى أبعد ما يكون من الأمم. وتنتهي الأقوال على الأمم بإشارة إلى بابل، عاصمة الامبراطورية التي احتلّت أورشليم، والتي تقع على الفرات في القسم الجنوبيّ من بلاد الرافدين.
ثانياً: القراءة التاريخيّة
وفي امتداد القراءة الجغرافيّة، نجد القراءة التاريخيّة. مصر هي موضوع قولين نبويّين (46: 2- 26). القول الأول يشير إلى محاولات الفرعون اليائسة لإيصال النجدة إلى أشورية (46: 2- 12). وتقدّم آ 2 حاشية كرونولوجيّة فتدلّ على أن القول يرتبط بمعركة كركميش حيث انتصر نبوخذ نصر سنة 605 على الأشوريين وحلفائهم المصريين. ولكن لا نستطيع أن ننسى أن الفرعون نكو الثاني كان قد سار لنجدة الأشوريين سنة 609، ففشلت محاولته. مهما يكن من أمر، يصوّر النبيّ بسخرية لاذعة كبرياء مصر التي تعتبر نفسها لا تُقهر، كما يصوّر الرعب الذي حل بأشجع جنودها عند شاطئ الفرات. والقول الثاني (13:46- 24) يذكر حملة نبوخذ نصر على مصر متى حدث هذا التدّخل؟ هناك تردّد. فالملك البابلي حاول أن يحتلّ مصر سنة 601 ثم سنة 568. ولكنه لم ينجح.
مهما يكن من تاريخ هذه الأقوال، المهمّ هو أن نلاحظ أن النبيّ لا "يوالي" مصر، ولا يتردّد في أن يقول ذلك بعبارة واضحة. فالخلاص لا يمكن أن يجيء من تلك المملكة. ومع ذلك، لم يسمع شعب يهوذا لإرميا، بل اتّبع سياسة موالية لمصر وستكون المفارقة كبيرة حين نرى النبيّ مجبراً على التوجّه إلى تلك البلاد. ومع ذلك، فلا هو ولا تلاميذه صدّقوا بأن مصر تستطيع أن تلعب دوراً إيجابياً في المستقبل. ونسخة الكتاب البعد منفاويّة سوف تعلن أن العقاب سيحلّ "بالذين يقيمون في أرض مصر" (8:24)، أي بالذين ذهبوا إلى المنفى في بلاد خرج منه موسى وشعبه في زمن الخروج.
والمثل الثاني هو مثل الفلسطيين الذين يشكلون محطّة متقدّمة قبل الوصول إلى مصر اجتاح العدوّ الآتي من الشمال أرضهم، جاء نبوخذ نصر مع الجيش البابلوني. أخبرت الكرونيكة البابليّة أن ملك بابل احتلّ اشقلون سنة 603. ولكن هذه لم تكن حملته الوحيدة على أرض الفلسطيين. فالقول على الفلسطيين حصل "قبل أن يأخذ الفرعون غزّة" (47: 1)، وهو حدث حصل سنة 601. مثل هذه التحديدات نادرة، بحيث إننا لا نستطيع أن نحدّد بعض الأقوال من الوجهة التاريخيّة إلاّ بصعوبة. هذا هو الوضع بالنسبة إلى أدوم الذي يستعيد القول فيها (7:49- 22) بعض أقوال عو 1- 9

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM