الفصل الخامس والعشرون: عودة الحياة إلى يهوذا

الفصل الخامس والعشرون
عودة الحياة إلى يهوذا
32: 1- 44

خلال حصار أورشليم (588- 587)، دعا الربّ إرميا ليقوم بعمليّة بيع وشراء تدلّ على جنون مبين: أجبر احدُ أقارب النبيّ أن يبيع أرضًا له لسبب نجهله. لجأ إرميا إلى واجب السلفيّة فاقتنى الأرض. هذه العمليّة هي أكثر من تصرّف فرديّ. إنّها عنصر من كرازة إرميا النبويّة. إنها فعلة رمزيّة تسند قول خلاص سيعلنه النبيّ: إنّ الحياة ستأخذ مجراها الطبيعيّ مهما كانت صعبة الأزمنة التي يعيشها يهوذا.
أ- قراءة النصّ
آ 1- سن32= سب 39. كت: ب ش ن ت. تر: ب ش ن ه، في السنة (العاشرة). رج 28: 1 حول اختلافات ما يُكتب (كت) في النص وما يقرأ (قع في الحاشية. هذه العبارة التي تدلّ على قبول كلمة الله، نجدها في 21: 1؛ 34: 1، 8 ؛ 35: 1؛ 40: 1. وهناك ما يشهها في 7: 1 ؛ 11: 1 ؛ 18: 1 حيث نجد "ل ا م ر" (قائلاً) بدلاً من جملة زمنيّة تدلّ على الظرف الذي فيه تقبّل النبيّ كلامَ الله. "السنة الثامنة عشرة لعهد نبوخذ نصر". رج 29:52 الذي يجعل الجلاء يحصل سنة 587 (حسب سنته الأولى سنة 604-603). ولكن 25: 1؛ 12:52؛ 2 مل 8:25 (تعدّ منذ سنة 605) تجعل الجلاء في السنة التاسعة عشرة.
آ 2- آ 2- 5 هي معترضة تدوينيّة تتحدّث عن سجن إرميا وسبب سجنه (رج 37: 11- 14 من أجل خبر مختلف؛ 2:34- 3 من أجل ملخّص يهاجم فيه النبيّ صدقيا الملك). مس: "النبيّ". لا نجد اللفظة في سب.
آ 3- رج 37: 21 الذي يتحدّث عن سبب سجن إرميا، 34: 2 عن البلاغ الذي في آ 3.
آ 4- رج 3:43. "فمه يكلّم فمه، وعيناه تريان عينيه". أي وجهًا لوجه، وبدون وسيط.
آ 5- "تفقّده" (ف ق د). رج 15:15؛ 22:27؛ 29: 10؛ را 1: 6؛ مز 65: 10 (في 34: 4- 5. سيموت بسلام). لا نجد في سب الشقّ الثاني من الآية، فنقرأ فقط: "ويذهب صدقيا إلى بابل ويبقى هناك". في سب (الاسكندراني): يموت (رج 22: 12- 26). لقد مات صدقيا في السجن (52: 11). ظنّ بعض الشرّاح أنّ "الناشر" خلط بين صدقيا ويوياقيم (52: 31- 34).
آ 6- "إليّ" (كانت كلمة الربّ). سب: إلى إرميا (رج آ 8). ليس هذا جواب إرميا إلى صدقيا، بل بداية عمل رمزيّ (آ 6- 15) يسبقه موقع تدوينيّ قرأناه في آ 1- 5. لا يدلّ النصّ على الشخص الذي كلّمه إرميا.
آ 7- حنمئيل بن شلوم. رج حننئيل في 38:31. "م ش ف ط. هـ ج ا ل ه": حقّ، واجب، عادة الافتداء. هذا الحقّ يخصّ أقرب الأقرباء. رج لا 25: 25- 28. بالنسبة إلى القول الإلهيّ الذي يستبق تصرّف الشعب، رج 13: 12- 13.
آ 8- لا نجد في سب "على حسب كلمة الربّ". تعتبر بهس "التي في أرض بنيامين" إضافة يُستغنى عنها. في سب نقرأ: في أرض بنيامين، في عناتوت. مس: لك حق الافتداء فاشتره لك. سب: أنت الاكبر سنًّا. أي أوّل من له حقّ في ذلك. مس: حقّ الإرث (= آ 7). "فعرفتُ أنّها كلمة الربّ". مثَل غير عادي حول تثبيت كلمة الله في التقليد.
آ 9- في الظاهر، اشترى إرميا الأرض دون أن يراها. رج 37: 12 حيث استفاد من المناسبة ليزور الأرض خلال حصار المدينة (37: 11- 15). لا نجد في سب "الذي بعناتوت" ولا "الفضة" (ووزنتُ له). لن نتوقّف عند قيمة الحقل وسعره. المهمّ ما يتبع من عمل رمزيّ.
آ 11- لا نجد في سب "الوصيّة والشروط". هناك نسخة مختومة تُحفظ، وأخرى مفتوحة لأخذ العلم.
آ 12- باروك بن نيريا. سكرتير إرميا وصديقه. رج 36: 4- 32؛ 3:43- 7؛ 45. مس: حنمئيل عمي. بعض المخطوطات والترجمات تقرأ: ابن عمي كما في آ 8- 9. مس: عيون الشهود الذين وقعوا. سب: عيون الذين وقفوا معنا ووقّعوا.
آ 14- لا نجد في سب "هذين الصكّين" ولا "المختوم". وُضع الصكّان في جرّة وكأنّ لا حاجة للتعرّف إلى الصك المفتوح في الوقت الحاضر
آ 16- وصلّيت إلى الربّ. ق 16:7؛ 11: 14 ؛ 14: 11.
آ 17- "لا يصعب عليك شيء". هذا الشطر يربط الصلاة بالقول النبويّ في آ 26 - 35 بواسطة شطر مشابه نقرأه في آ 27 ب (أيصعب عليّ شي؟). رج تك 18: 14 أ (أيصعب أمر على الربّ؟). مس: ف ل ا، صعب، عجيب، خارق. سب: خفيّ. إن "هـ ن ه" (ها إنّك) قد ترتبط بـ "هـ ن ه" في آ 24 (ها إن) حيث الصلاة تُقال وتتواصل بعد تعظيم الله في آ 18- 23. نحن نجد عناصر اشتراعيّة في هذه الصلاة.
آ 18- لا نجد في سب "الجنود اسمه"، فيربط "يهوه" مع "عظيم" في آ 19، حيث نجد "بنتوكراتور"، الضابط الكلّ (وهكذا تكون لفظة "الجنود" التي تترجمها سب "ضابط الكلّ" قد انتقلت وما ألغيت). إنّ القول عن رحمة الربّ وانتقامه (رج خر 20: 5- 6؛ تث 9:5- 10) يتعارض مع 29:31- 30، ولكنّه يدلّ على الطابع الليتورجيّ في هذه القطعة.
آ 19- تبدو هذه الآية وكأنّها تعارض مبدأ امتداد الخطيئة في آ 18، ولكن هذه الصلوات في وحدتها (رج نح 9: 6- 37؛ دا 3:9- 19) مؤلّفة من جمل مقولبة بحيث لا يمكن أن تُفحص لتحديد مبدأ أو فكرة. لا نجد في سب "حسب ثمار أعماله".
آ 20- هذا اليوم أي اليوم الحاضر بالنسبة إلى النبيّ، إلى الذي قرأ النصّ مرّة اولى أو قرأه مرّة ثانية. رج آ 3:31: 25. هذا يعني أنّ لعمل الله امتداده في الزمن. مس: كما في هذا اليوم. رج 11: 5؛ 18:25؛ 44: 6، 23.
آ 21- رج تث 4: 34 ؛ 8:26- 9.
آ 23- في شريعتك (في توراتك بالمعنى الحصري). رج 30: 3 حيث يُنظر إلى امتلاك الأرض في المستقبل. نجد معنى آ 23 في 13:9؛ 11: 8؛ 44: 10، 23.
آ 24- "المتاريس بلغت إلى المدينة". سب: الجموع (33: 4؛ رج 6: 6). هذا يعني أنّ الحصار وصل إلى هدفه. لا نجد في سب: "وها أنت ناظر". يعني: ألا يرى الربّ أين وصل المهاجمون في حصارهم للمدينة؟
آ 25- "أَشهد شهودًا". هات الشهود. تبعت سب آ 10 هنا: "فوقعتُ الكتاب وختمتُه وجئتُ بشهود". إن الأمر "ببيع الحقل بالفضة" ليس جزءا من آ 7- 8، بل يعكس الدرس الأخير الذي نأخذه من الخبر في آ 44: تُبتاع الحقول بالفضّة.
آ 26- مس: إلى إرميا. سب: إليّ. رج آ 16 حيث إرميا هو المتكلّم. وما يتبع في آ 28- 30 هو قول نبيّ وبشكل هجوم على الشعب يختلف كل الاختلاف، بحيث لا يتوافق مع سياق آ 30- 31. نجد العبارة في 33: 19- 23؛ رج 31: 1؛ 35: 12؛ 37: 6.
آ 27- رج آ 17. لا نجد هذه المطالبة حتى آ 37- 41. "يهوه إله كل بشر" (ب ث رفي العبرية). رج عد 22:16: ايل، إله الأرواح وكلّ بشر هذا ما يقال عن يهوه في عد 16:27. مس= صعب. سب: خفيّ. رج آ 17.
آ 28- رج آ 36. مس: أعطي (أجعل) هذه المدينة. سب: أعطيها عطاء (رج بهس). رج 34: 2.
لا نجد في سب "الكلدانيّين وفي يدي نبوخذ نصر". رج النصّ الماسوريّ القصير في آ 3.
آ 29- رج 37: 10 حول موضوع حرق المدينة على يد الكلدانيّين (لا في 32: 2- 5). في 2:34؛ 8:39 يُحكى عن حرق المدينة كليًّا أوجزئيًّا. رج 13:19 حول موضوع التقتير للآلهة على المشارف.
آ 30- نجد في آ 30- 35 ملخّصًا عن تاريخ إسرائيل ويهوذا مع الأصنام. بالنسبة إلى آ 30، رج 7: 30. تقابلت المملكتان مع توجّه أساسيّ في 32: 44 حيث الكلام يكون عن أرض يهوذا والجنوب. غير أنّ هذا حاشية ترتبط بالتقليد الاشتراعي. إنّ عبارة "عمل أيديهم" تعود إلى الأصنام. رج 1: 16، ورج 18:7- 19 للكلام عن إثارة غضب الله بممارستهم شعائر عبادة أخرى. لا نجد في سب القسم الثاني من آ 30. فنقرأ فقط: "فإنّ بني إسرائيل وبني يهوذا وحدهم صنعوا شرًّا في عينيّ منذ صبائي".
آ 31- "إلى هذا اليوم". رج آ 20. إنّ الطابع الاستعاري لهذه الكرازة يكون ظاهرًا في العودة إلى اليوم الذي فيه بُنيت أورشليم. وهو زمن طويل بعد أن احتلّ يهوذا المدينة. ولكننا نجد عبارة بلاغيّة في "من ذاك اليوم إلى هذا اليوم". رج 7: 25- 26 من أجل عبارة بلاغيّة أخرى تشير إلى الخروج. بالنسبة إلى صيغة آ 31، رج 3:52.
آ 32- رج الحاشية في 2: 26 ب.
آ 33- "علّمتهم مبكرًا في التعليم" (بغير انقطاع). رج 7: 13، 25؛ 11: 7؛ 4:25 ؛ 26: 5؛ 19:29؛ 14:35، 15؛ 4:44.
آ 34- رج 7: 30.
آ 35- رج 7: 31؛ 19: 5. بالنسبة إلى شعائر العبادة وحرق الأولاد بالنار، رج 7: 30- 34. "ليجيزوا بنيهم"، أي ليكرّسوا (أفضل من "ليقدّموا). "أوقعوا يهوذا في الإثم" هي إضافة عا في 7: 31؛ 19: 5. وأضافت سر "في توفت" بعد "بعل" (ومثلها فعلت بهس). سب: الملك مولك.
آ 36- لا نجد في سب "لذلك". مس: قائلون (الجمع). سب: المفرد. إنّ تحوّل آ 3، 28 حيث يقول الربّ إنّ المدينة ستُعطى للبابلونيّين، يتميّز عن قول الشعب (مس) أو النبيّ (سب). قالت مس: وبالوباء. سب: بالمنفى. إنّ المثلّث "السيف، الجوع، الوباء" يظهر عبر آخر أقسام التقليد النثريّة (آ 24؛ 14: 12؛ 21: 7 ؛ 24: 10؛ 27: 8، 13؛ 18:29؛ 17:42، 22؛ 13:44).
آ 37- "من" (كل الأرض). سب: "خارج". عادت مس إلى الشتات، لا إلى منفى بابل. "هذا الموضع" قد يكون الهيكل. وربما المدينة والأرض.
آ 38- رج 7: 23؛ 11: 4؛ 24: 7؛ 30: 22؛ 31: 1، 33.
آ 39- "قلب واحد وطريق واحد". سب: طريق آخر وقلب آخر (قرأ "ا ح ر" بدل "ا ح د"). سر: طريق جديد (ح د ش). رج حز 11: 19؛ 36: 26. "جميع الأيّام" أي على الدوام. رج تث 4: 10؛ 29:5؛ 6: 24؛ 14: 24 ؛ 13:31.
آ 40- "عهد أبديّ ". رج حز 16: 60 ؛ 37: 26. رج "عهد جديد" في إر 31: 31. لا نجد في سب "أحسن إليهم".
آ 41- مس: أفرح بهم. سب: افتقدهم (لأحسن إليهم). رج تث 30: 9 وموضوع فرح الربّ بشعبه. ونعود إلى الغرس كما في 1: 10. والعبارة الاشتراعيّة "بكلّ قلبي وكل نفسي" تطبّق هنا فقط على الله.
آ 42- رج 19: 15؛ 17:35 حيث الكلام عن الشرّ. إن وعْد الربّ لشعبه (تكلَّم) قد لمِّح عنه في آ 37- 41. رج انعكاس مماثل في 31: 28.
آ 43- رج آ 36. في مس: صيغة الجمع. في سب: المفرد (قال). رج 9: 10 وموضوع الأرض بدون بشر ولا حيوان. في آ 36 أشار القول الشعبيّ إلى المدينة (آ 28). هنا يشير إلى الأرض (وجود الحقول).
آ 44- الجبل، السهل. رج تث 1: 7؛ يش 9: 1 في تصوير المناطق الفلسطينيّة. نجد هذه اللائحة في إر 17: 26؛ 33: 13 0 الجبل هو جبل يهوذا، السهل سل بنيامين. أجل عاد الشعب وعادت معه أمجاده. رج 30: 3، 18؛ 23:31؛ 33: 26 ؛ رج أيضًا 29: 14.
ب- التفسير
نقسم ف 32 ثلاثة أقسام: إرميا يشتري الحقل (آ 1- 15). صلاة إرميا (آ 16- 25). جواب الربّ (آ 27- 44).
أولاً: إرميا يشتري الحقل (آ 1- 15)
آ 1- السنة العاشرة لصدقيا أي سنة 788.
آ 2- يقدّم لنا النصّ إطار الخبر: في أيام صدقيا، وخلال حصار أورشليم على يد نبوخذ نصر إرميا هو في السجن لانّه تنبّأ على المدينة، وحتى على الملك صدقيا. نشير هنا إلى أنّ الناس اعتبروا إرميا هاربًا من المدينة وذاهبًا إلى البابليّين. ثمّ إنّ صدقيا لم يكن معاديًا لإرميا بشكلٍ عام. فكان يدافع عنه عندما يستطيع ذلك.
آ 6- كانت آ 1- 5 مقدّمة تدوينيّة. وبعدها يبدأ خبر شراء الحقل. نحن أمام خبر شراء بسيط. ولكن هذا جُعل في إطار كلمة الله، كما جُعلت حياةُ إرميا كلّها.
آ 8- قال الربّ. وها كلامه يتحقّق. فالله هو الذي يخطّط سيرة النبيّ. هذا لا يعني أنّ الكتاب يُلغي الأحداث الماديّة، بل هو ينظر إليها من وجهة الله. كلّم الربّ النبيّ في أعماق قلبه. جاء ابن عمّه حنمئيل بن شلوم، فرأى إرميا من خلال الحدث إرادة الله. ولكن لا ننسى أنّنا لسنا أمام عمليّة شراء بسيطة. وإلا لما كان الله تدخّل. بل إنّ الربّ سيستخلص عبرة من هذا الشراء.
آ 9- وتمّ الشراء، وإرميا له حقّ الأفضليّة لأنّه أقرب الناس إلى البائع.
آ 11- نقرأ في النصّ الماسوريّ (لا في النصّ اليونانيّ) عبارة قاطعة: "الوصيّة والشروط". هذا يعني أنّ الشراء تمّ حقيقةً وفعلاً ولم يكن "تمثيليّة"، والحالة هي ما عليه من الحرب. سلّم حنمئيل النصّ، ووُجد الشهود.
آ 13- هنا يأتي باروك، صديق إرميا وأمين سرّه. فيسلّمه النبيّ الصكّ ليحفظه إلى أوانه فيكون شاهدًا لسكّان يهوذا.
آ 15- وجاءت العبرة التي أرادها الله: يشترون فيما بعد بيوتًا وحقولاً. لا، لم ينتهِ كل شيء رغم الحرب الدائرة، والحياة ستعود إلى طبيعتها. إذن، لا حاجة إلى اليأس مهما كانت الظروف.
ثانيًا: صلاة إرميا (آ 16- 25)
آ 16- هنا تبدأ صلاة إرميا في خط صلوات التوبة، التي نجد مثلها في سفر نحميا أو سفر دانيال، مع الإقرار بالخطايا. الربّ هو خالق السماء والأرض، هو القدير، هو ذاك الذي لا يصعب شيء عليه. إذن، اعتراف بعظمة الله في البداية.
آ 18- الفكرة الأساسيّة: التضامن في الخطيئة وفي العقاب: الرحمة للألوف، وعقاب البنين بذنوب الآباء.
آ 19- ويصحّح "النبيّ" حالاً هذا الموقف: تحاسب كلّ إنسان بحسب طرقه (17: 10 ؛ أي 34: 11).
آ 20- ويعود المصلّي إلى التاريخ فيبدأه في مصر، ويمرّ في البرّية، ويصل إلى أرض الموعد.
آ 23- ماذا كان جواب الشعب على خيرات الله؟ ما سمعوا لصوتك. ما سلكوا حسب شريعتك.
آ 24- والنتيجة: حصار المدينة بالسيف والجوع والوباء.
آ 25- ويطرح النبيّ سؤاله على الربّ: بما أنّ الأمور هي ما هي، فلماذا طلب الربّ من إرميا أن يشتري الحقل؟ وجاء النبيّ بشهود! لاشكّ في أنّ الناس هزئوا منه. فالمدينة ستسقط قريبًا، ويأخذ العدوّ الأرض والسكّان.
ثالثا: جواب الربّ (آ 26- 44)
آ 26- سأل النبيّ، فجاءه الجواب من قبل الربّ. قال النبيّ: لا يصعب عليك شيء. فأجاب الله موافقًا. لا شيء يخفى على الله (كما قال النصّ اليونانيّ)، الذي يعرف أن يخطط للأحداث قبل أن تقع.
آ 28- ويبدأ الله فيطبّق في الواقع القول القائل بأن لا صعب عليه ولا خفيّ. هو عارف بما يفعله الكلدانيّون، وعارف أنّ بني يهوذا يستحقون مثل هذا العقاب لأنّهم تعبّدوا لآلهة أخرى.
آ 30- وعاد الربّ إلى بداية الإقامة في أرض الموعد، بل إلى الحياة في البريّة. "منذ صبائهم"، منذ فجر تاريخهم (2: 20؛ حز 16: 3- 5، 45؛ 23). أغاظوا الربّ بممارساتهم (25: 6، هي إضافة في النسخة الثانية. لا نجدها في اليونانيّة).
آ 32- وهذه الخطيئة هي خطيئة الجميع بدون استثناء: بنو إسرائيل وبنو يهوذا. من الملك إلى الرؤساء والكهنة والأنبياء والشعب.
آ 33- أداروا لي ظهورهم. رج 27:2؛ 15: 6. مع أنّ الربّ استمرّ يعلّمهم. ما قبلوا التعليم فكان التأنيب.
آ 34- جعلوا أرجاسهم (أصنامهم الرجسة) في الهيكل. رج 16: 18. في 7: 10 يُذكر البيت الذي دُعي باسم الربّ.
آ 35- هناك بعل الذي بنوا له مذبحًا. ومولك (أو: ملكوم) الذي يكرّسون له الاطفال، ويذبحونهم ويحرقونهم (2 مل 23: 10).
آ 36- وبعد أن عدّد الربّ خطايا شعبه على مرّ عصورهم، أصدر الحكم فدُمّرت المدينة. ونبدأ هنا قولاً جديدًا حول المدينة. انتظرنا كلمة اليأس فإذا هي كلمة الرجاء. انتظرنا كلمة الضياع والتشتّت، فإذا الربّ قد بدأ من قلب المحنة يجمع شعبه. فكأنّي بالكاتب يقول: سقوط أورشليم أمر بعيد. وها الربّ يعيد الشعب ويعيد إليه الأمان. هذا يعني أنّنا لم نعد فقط حوالي سنة 587.
آ 38- هم شعب الله، والله إلههم (11: 4 ؛ حز 23:37، 27).
آ 39- يُذكر القلب. يُذكر الطريق. هناك تبدّل. أو يصبح القلب جديدًا. أو يكون لهم طريق واحد هو طريق الربّ. لا يكون لهم قلبان. ولا طريقان. أي لا يكونون منقسمين بين يهوه وبعل. وما يتمنّاه الله هو لخيرهم وسعادتهم.
آ 40- عهد أبديّ. رج أش 24: 5. أي عهد في الأيّام المقبلة، لا يتبدّل بتبدّل الأيّام. في الماضي كان الربّ يلاحقهم "بالشرّ". والآن "بالخير" أنّ. هـ ي ط ي ب ي، ما هو طيّب، ما هو خيّر). وتأتي صورة الغرس (آ 41).
آ 42- وتعود المقابلة فتدلّ على قدرة الله: ذاك الذي جلب الشرّ في الماضي يجلب الخير الآن.
آ 43- حينئذٍ يشترون حقولاً في هذه الأرض. من أجل هذا اشترى إرميا الحقل، وجعل الصكّ في جرّة. وهو الآن يستطيع أن يخرجه ويريه للناس فيكون شاهدًا على مخطّط الله. حين كان الله يضرب المدينة، كان يتطلّع إلى خلاصها. فضربتُه ضربة تأديب لا ضربة انتقام.
ج- دراسة عامّة
إنّ خبر شراء إرميا لحقل ابن عمّه في عناتوت يتضمن عددًا من المواضيع (آ 1- 15، 16- 25، 26- 35، 36- 41، 42- 44). يبدأ بمقدّمة تروي سجْن إرميا على يد صدقيا خلال حصار أورشليم سنة 588- 587. هذا الموضوع الخاصّ يقدّمه التقليد أكثر من مرّة، مع أنّ هناك اختلافات في خبر لقاء إرميا بصدقيا (21: 1- 7؛ 32: 1- 5؛ 34: 1- 7؛ 37: 1- 15، 26- 21؛ 38: 1- 6، 14- 28). جُعلت هذه المقدّمة لتربط شراء الحقل بسقوط المدينة، مع أنّ إرميا لن يذهب إلى عناتوت ليزور أرضه في بنيامين إلاّ في 37: 12 (حسبوه ذاهبًا إلى العدوّ).
بعد هذا البيع، يصوَّر إرميا رافعًا صلاة مديح إلى الله (آ 16- 25) يشير فيها إلى عصيان الشعب للربّ، ويتساءل لماذا طلب منه الربّ أن يشترك أرضًا سيحتلّها العدوّ قريبًا. أمّا ما يجمع هذين الموضوعين فعبارة: لا يصعب شيء على الله. فسيكون مستقبل خير في الأيام المقبلة. أمّا الصلاة فجاءت في لغة اشتراعيّة على مثال ما نجد في الحقبة الفارسيّة. هنا نتذكّر أنّ هذه الصلاة ليست الوحيدة التي رفعها إرميا. فهذا النبيّ هو رجل الصلاة.
وفتحت هذه الصلاة طريقًا لإرشاد يتوجّه إلى المدينة، ثمّ إلى يهوذا وإسرائيل. فقيها يُروى حصار المدينة وحرقها في تاريخ طويل من عبادة الأوثان في إسرائيل ويهوذا (آ 26- 35). ذاك كان القول السلبيّ. وسيأتي بعده القول الإيجابيّ (آ 36- 41): بعد دمار المدينة، سيُجمع المنفيّون المشتّتون في كل مكان. وفي النهاية، نصل إلى مدلول ما فعله إرميا حين اشترى أرض العائلة (آ 15). فالتشديد على أنّ لا شيء صعب غلى الله (آ 17 ب، 27) كان استباقًا لإعلان باب الربّ يعيد السعادة إلى الأرض وإلى مدن يهوذا. خلال الحقبة البابليّة، بدت هذه العودة غير معقولة، مع اعتراف الإيمان بقدرة الله. ولكن حين قُرئ هذا الكلام من جديد، فهم الناس أنّ الحكم البابليّ لن يدوم إلى الأبد. وحده إرميا استنار بنور الربّ، وتحدّى الظواهر، وأعلن أن جبال يهوذا وسول بنيامين ستعود إلى ازدهارها وتعرف بركة الربّ.
د- الخلاصة
هنا يُطرح سؤالٌ عن مستقبل شعب الله. بعد كلّ الدمار الذي حصل، يقول النبيّ إنّ المستقبل ممكن والربّ لا يصعب عليه شيء. من أجل هذا، نحن نقرأ بعد أقوال عن الخلاص، فصلين ملحقين يكمّلان كتاب التعزية ويتّخذان مكانهما في هذه المجموعة.
يبدو ف 32 بشكل خبر، فيورد عملاً تام به إرميا (رج 37: 12): اشترى النبيّ في عناتوت حقلاً يخصّ ابن عمّه. انحصر الخبر القديم في آ 6- 15، فكشف عن الوعد الذي يتضمّنه هذا العمل: "يشترون بيوتًا وحقولاً وكرومًا في هذه الأرض" (32: 15). فأقحمت النسخة المنفاويّة هذا الوعد في كتاب التعزية، وجعلت للقطعة الأولى (آ 6- 15) مقدّمة (آ 1- 5)، وتفسيرًا (آ 28- 35) يدلّ على الأسباب الدينيّة التي دعت إلى تدمير أورشليم سنة 587. أمّا النسخة البعد منفاويّة فأعادت قراءة النصّ بقدر ما المستقبل الذي أعلنه النبيّ لم يتحقّق بسقوط عاصمة يهوذا. عند ذاك، أقحم "الناشر" صلاة للنبيّ تُذكر فيها مآثر الله من أجل شعبه في الماضي (آ 16- 25). وهي صلاة تشدّد على التناقض الذي أشرنا إليه. غير أنّ آ 36- 44 أعلنت تجمّع الشعب على أرضه، وتجديد هذا الشعب بعطيّة "قلب آخر"، بحيث لا يعودون يرتدّون عن الله. فالذين سيرجعون إلى الأرض، هم الذين كانوا في المنفى، فيعقد الربّ معهم عهدًا أبدئا (آ 40؛ رج حز 16: 60- 61؛ 37: 26). في 32: 44 انحصرت الأرض التي عاد إليها المنفيّون بأرض بنيامين، بما يحيط بأورشليم، وبمدن يهوذا. أي في المنطقة التي أقام فيها الشعب بعد أن عاد من المنفى

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM