الفصل الرابع والعشرون: مستقبل شعب الله

الفصل الرابع والعشرون
مستقبل شعب الله
30: 1- 31: 40

يتضمّن ف 30- 31 سلسلة من الأقوال النبويّة تصوّر مستقبل شعب الله الذي سيكون مدهشاً: هو اليوم مشتَت ومعذّب. ولكنه سيعود إلى فلسطين، ويتجمّع حول صهيون (31: 6، 12) في ظروف جديدة كل الجدّة. يبدو أن أقدم ما قيل في ف 30- 31 قد توجّه إلى مملكة اسرائيل (في الشمال، عاصمتها السامرة) أو افرائيم (31: 5- 6، 18- 20) الذي هو "بكر" الله (31: 9، 20)، وسلالة راحيل (31: 15) الراغب في العودة إلى السامرة. هذه النصوص تتوازى مع 3: 11- 18، وتعود إلى بداية رسالة إرميا. بعد دمار أورشليم، أعيدت قراءة هذه الأقوال، وأعيد تفسيرها بالنظر إلى الوضع الجديد. فبدت وكأنها موجّهة أيضاً إلى يهوذا (في الجنوب، عاصمتها أورشليم). رج 30: 3 - 4؛ 30: 17؛ 31: 23- 27، 31. ثم أضيفت عناصر جديدة (31: 38- 40) في خطّ اش 40- 55 (رج 30: 10؛ 31: 10) أسلوباً وفكراً. يشدّد هذان الفصلان (30 - 31) على طابع الألم الذي يفرض نفسه من أجل تربية (30: 11، 14؛ 18:31) شعب يرفض الخضوع للربّ (30: 14-15؛ 31: 19، 32، 37). كما يشدّدان على عظمة حبّ الله (31: 3، 20، 32) ونعمته التي ستطبع كلمة الله في عمق أعاق الأنسان (31: 31- 34).

1- عودة إلى الماضي (30: 1- 24)
بعد مقدّمة قصيرة (آ 1- 4)، يذكّر الربّ شعبه بالعقاب (آ 5- 7) الذي تبعته الحريّة (آ 8- 9). جُرح الشعب ولكنه كلني (آ 10- 17) من أجل تجديد كامل (آ 18 - 22) بعد العاصفة التي حلّت به (آ 23- 24).
أ- قراءة النصّ
آ 1- مس 30= سب 37.
آ 3- "أعيد سبي شعبي اسرائيل". رج 29: 14. نستطيع القول: "أعيد بناء شعبي". أو: "أعيد أمجاد". اعترت بهس أن "يهوذا" إضافة إلى النصّ (في الأصل، فقط اسرائيل. رج أيضاً آ 4). رج 31: 1: جميع عشائر اسرائيل.
آ 5- "هكذا قال الربّ". إضافة تدوينيّة تحوّل التقرير حول شفاء الأمّة إلى قول إلهي. "معنا". سب: تسمعون. بهس: سمعتُ أنا. وذلك مقابل "رأيتُ" في آ 6 ب. "ف ح د"، الرعب، الهول. يترافق مع يوم يهوه (أش 2: 10- 17؛ عا 5: 18- 20؛ صف 1: 18). لا يظهر هذا الموضوع في التقليد الارميائي (ما عدا في ف 46- 47).
آ 6- نجد في سب قراءتين لهذه الجملة: "ما بالي رأيت كل رجل يداه على حقويه"؟ في مس: كالتي تلد ولدًا، كالتي تضع. رج 8:31؛ مي 2:5. لا نجد هذه اللفظة (ك. ي ول د هـ) في سب. "ي رق ون" (رج اليرقان في العربيّة). في سب: صار شاحباً.
آ 7- "هـ و ي"، ويل. "ولكنه سيخلّص منه". قبل إضافة آ 10- 11، كانت صيغة الاستفهام: "أيخلَّص منه"؟
آ 8- "أكسر نيره عن عنقك"= أش 27:10. إلى من يعود الضمير (ك)؟ في سب: عنقه أي عنق الشعب أو عنق يعقوب. "ربطك". في سب: ربطهم. "لا يستعبده الغرباء" (14:24 ؛ 7:27). في سب: لا يعود يخدم (يتعبّد لـ) الغرباء. مس: ب و (الغائب المفرد، هو). سب: هم (الجمع).
آ 9- رج هو 3: 5: يطلبون الربّ إلههم وداود ملكهم. هنا: وع ب دو، تعبّدوا.
آ 10- آ 10- 11= 27:46- 28. لا نجد هذا في سب، لأن الأقوال على الأمم تسبق ف 30- 31. تتحاشى سب هذه التكرارات، أو هي مس تجعل هذا التكرارات في "النشرة" الثانية. لا نجد في 27:46 "يقول الربّ". "عبدي يعقوب". رج أش 44: 1 ؛ 4:45؛ 48: 20. في أشعيا الثاني يُستعمل لفظ اسرائيل، يعقوب، يهوذا، أورشليم، صهيون للدلالة على المنفيين أو على الذين يعيشون في أورشليم وفي جوارها (40: 1-2 ،27؛ 41: 8، 21، 27؛ 24:42 ؛ 43: 14-15 ؛ 48: 1-2).
آ 11- رج 28:46 حيث الشطر الأول يكرّر الشطر الأول (لا تخف يا عبدي يعقوب، ولا تفزع يا اسرائيل) في الآية السابقة (27:46)، وحيث "لأني أنا معك" (آ 11 ؛ رج 1 :8) هي في نهاية الشطر الأول. "شتّتك". في 28:46. "دحرتك". أما موضوع التأديب مع العدالة، رج 10: 24 ؛ وموضوع "لا أفنيك"، رج 4: 27؛ 10:5 ،18.
آ 12- كسر عظمك (ضربتك) لا يجبر. في سب: حملت الدمار. بالنسبة إلى "لا يجبر"، رج آ 15 أ؛ 18:15؛ 17: 9، 16.
آ 13- "ليس من يجري لك الحكم بسبب جرحك". م زور، الجرح، رج هو 13:5.
آ 14- "لأجل كثرة آثامك وعظمة خطاياك": تكرار لما نقرأ في آ 15 ب (لا نجده في سب، لأنه يتكرّر في آ 14- 15).
آ 15- نجد صيغة المذكر في مس (ت ز ع ق، تصرخ). ولكن الكلام يتوجّه إلى صهيون (صيغة المؤنث). مس: "صنعتُ (أنا) هذه الأشياء لكِ". في 18:4: "صنع (هو) هذه الأشياء لكِ".
آ 16- ل ك ن. ك ل: لذلك كل. ولكن ليس من رباط بين آ 15 وآ 16. لهذا قرأت بهس: كل. في مس: "كلهم يذهبون إلى الجلاء". سب: كل جمل لحمه. هناك مخطوطات يونانيّة تجعل آ 15 ب في قلب آ 16.
آ 17- قلبت بهس شطري الآية الأولين، ونقلت "يقول الربّ" إلى نهاية الآية. مس: من ضرباتك. سب: من ضرباتك الخطيرة. مس: صهيون. سب: طريدتنا.
آ 18- "أعيد سبي". رج 29: 14؛ 30: 3؛ 23:31؛ 32: 44 ؛ 33: 7، 11، 26؛ 47:48؛ 6:49، 39. لا نجد في سب: أخبية. هي لفظة ترتبط بعالم الرعاة وتتوازن مع "مساكنه" في الشعر العبري. "أرحم" (في معنى إيجابي في التقليد الارميائيّ). رج31: 20؛ 33: 26؛ رج12: 15؛ أش 49: 10، 13، 15؛ 54: 8، 10؛ 55: 7 ؛ 60: 10. مس: مساكنه. سب: أسراه. مس: على تلّها. أي فوق دمار المدينة (أو: مدن يهوذا). "ويؤسّس القصر (أو القلعة، قلعة صهيون) على رسمه " أي في موضعه السابق، موضعه العاديّ.
آ 19- لا نجد في سب: "أكُرمهم فلا يذلّون". رج أي 14: 21 من أجل التعارض بين الاكرام والذلّ. رج 10: 24؛ 29: 6 من أجل موضوع كثرة السكّان أو قلّتهم.
آ 20- مس: "ويكون بنوهم كما في القديم". سب: "ويسير بنوهم كما في السابق". رج 46: 26 ب ؛ مرا 5: 21. "وجماعته (و. ع د ت و)، أي الجماعة المقدّسة (رج 9:26، 17 حيث نجد "ق هـ ل"). ما يدلّ على أن الجماعة مقدّسة، هو العقاب (ف ق د) الالهي لمضطهديها.
آ 21- "ويكون كبيره منه". تجعل بهس صيغة الجمع (منهم، لا من مضطهديهم). رج آ 8- 9. رج 14: 3؛ 25: 34- 36 للفظة "أ د ي ر" (كبير، قائد). رج 22: 30؛ 26:33، مي 5: 1 للفظة "م ش ل" (رئيس، متسلّط، موجّه). يقول تث 17: 15 إن على الملك أن يخرج من بين اخوته (أي لا يكون غريباً). هنا الرئيس هو وجه عبادي، ولا يدلّ على الملك (رج آ 21 ب: يدنو إليّ كالكاهن ليقرّب الذبيحة). مس: "أقرّبه فيدنو إليّ". سب: "أجمعهم فيعودون إليّ". مس: "من يجعل قلبه رهناً ليقترب مني"، أي "من يجرؤ أن يقترب"؟
آ 22- لا نجد هذه الآية في سب. فقد أضيفت لتعطي قوّة لما في آ 18- 21، أو لتعكس 31: 1. وما يدلّ على الطابع الثانوي، هو الانتقال من الغائب المفرد إلى الخاطب الجمع.
آ 23- آ 23- 24= 23: 19- 20.
ب- التفسير
أولاً: المقدمة (آ 1- 4)
آ 1- نقرأ في آ 1- 4 المقدّمة لما سيقوله الربّ لاسرائيل في الأصل، ولما سيُصبح في النسخة الأخيرة كلاماً يتوجّه إلى اسرائيل ويهوذا. هي الكلمة جاءت إلى إرميا، فبدت كشخص حيّ. رج 21: 1.
آ 2- أكتب في كتاب. رج 36: 2. يؤمر إرميا بأن يكتب ما يُملى عليه. اذن، لا وسيط بين الله والنبيّ. ولكن الله يلامس قلب النبيّ، والنبيّ يعبّر بطريقته البشريّة عن كلمة الله التي تتعدّى قدرة البشر هذا ما نسميّه الالهام.
آ 3- إن آ 1- 3 هي مقدّمة دُوّنت فيما بعد. أمّا المقدّمة الأصلية فهي آ 4: "هذا هو الكلام". تأتي أيام. هذا ما يدلّ على قرب تدخل الله. وهنا يكون التدخّل للخير. أعيد سبي. رج 29: 14. كان القول النبويّ في الأصل موجّهاً إلى اسرائيل، لأن يهوذا لم يذهب إلى السبي قبل سنة 597، ساعة قال النبيّ هذا الكلام في بداية رسالته، أي سنة 627. "يقول الربّ". تتكرّر هذه العبارة مراراً لتدلّ على أن هذا القول الذي يبدو من البشر، هو في الواقع صادر عن الربّ. رج 5: 9؛ 6: 15، 21... ويُذكر الآباء. هي مغامرة جديدة مع الربّ على مثال الخروج الأول من مصر.
آ 4- هنا تبدأ المقدمة الاصلية إلى ما سُمّي "كتاب التعزية" في ف 30- 31.
ثانياً: العقاب (آ 5- 7)
آ 5- في آ 5- 7، يذكّر النبيّ الشعبَ بيوم العقاب، بيوم الربّ العظيم (آ 7). بعد أن تشتّت اسرائيل (أي مملكة الشمال، عاصمتها السامرة) سنة 722 بسبب هجوم الاشوريين، وعاش عيشة الذلّ في أرض غريبة، رأي النبي في هذا الوضع عقاباً من الله. ولكنه عقاب تأديبي ستتبعه بركة. لهذا سفاه "مخاض الولادة". فبعد الموت الحياة، ولعد التشتّت العودة وإعادة البناء. رج 12: 17؛ 23: 19.
آ 7- إذا كان الرجال يتألّمون كما لو كانوا نساء، في ساعة الولادة، فما يكون حال النساء والأطفال. وهذا ما بدا واضحاً على وجوه مصفرّة وكأنه أصابها اليرقان. لهذا هتف النبيّ: ويل! هو يوم عظيم. هو"يوم الربّ". يوم ظهوره المجيد تحيط به قوى السماء. ونتيجة هذا الظهور دمار وإفناء كل ما لا يتوافق مع قداسة الله، رج يوء 1: 15؛ 2: 1؛ عا 8:5 (يوم ظلام لا نور)، صف 1:14- 18. "يعقوب" هو مملكة الشمال في معنى أول، ثم الشعب العبراني كله فيما بعد.
ثالثاً: الحرية (آ 8- 9)
آ 8- إن الشعب سينتقل من العبودية، عبوديّة البابليين، ليعبد الله الواحد، لا في برئة سيناء كما حدث بعد الخروج، بل في أورشليم. ولن يكون ذلك بقيادة موسى، بل بقيادة داود جديد يقيمه الربّ. رج لا 13:26؛ أش 14: 25؛ حز 27:34؛ نا 1: 13؛ مز 107: 14. هو الربّ يفعل بعد أن فعل الانسان. يكسر النير الذي وضعه ملك بابل. رج 2: 20؛ 28: 11. الربّ هو الذي يعطي الحريّة الحقة، أش 10: 27؛ نا 1: 13.
آ 9- تبدو آ 8- 9 آيتين تدوينيتين امتلأتا تذكّرات من إرميا بشكل خاص ومن الأنبياء بشكل عام. رج 23: 5- 6؛ حز 24:37؛ هو 3: 5
رابعاً: الجراح والشفاء منها (آ 10- 17)
هنا يقرأ النبيّ (إرميا أو تلاميذه) الأحداث على ضوء كلمة الله بلغة جرح يُشفى بعد أن وضع الله يده (27:46- 28). تكلّم الربّ، حدّث يعقوب (أش 44: 2) حديث الصديق، ووعده بالأمان (مي 4: 4؛ صف 3: 13).
آ 11- أنا معك. هكذا كان مع نبيّه (1: 8). فاذا كان الله معه، فمن عليه. وهكذا تعود الثقة إلى قلب الشعب. ووجود الربّ يدلّ دومًا على أنّه حاضر ليفعل. وهنا لكي يحمل الخلاص.
آ 12- كان القول الأول (آ 10- 11) قول نجاة وخلاص. والقول الثاني (آ 12- 17) شفاء جرح وتأديب.
آ 14- جميع محبّيك. هم حلفاء مملكة اسرائيل تجاه الشرّ الآتي من الشمال. رج 22: 20. وبين هؤلاء المحبيّن هناك محبّ "حقيقيّ" هو الربّ. وهو الذي ضرب شعبه بسبب خطاباه لكي يعودوا إليه. وها هم يعودون.
آ 16- ويُعلن هنا عقابُ الأعداء الذين ضربوا شعب الله بحسب شريعة المثل: جميع آكليك سيؤكلون. رج 10: 25 ؛ أش 4:20؛ نا 2: 11؛ 10:3.
آ 17- وينتهي قول الربّ في هذه القطعة (آ 10- 17) حول الجرح الذي يُشفى وعودة العافية. نلاحظ الاشارة إلى صهيون في نصّ توخه في البدء إلى مملكة اسرائيل. ولكن أعيدت قراءة النصّ لا خلال المنفى وحسب، بل بعد إعادة بناء الهيكل وترميم أسوار المدينة في القرن الخامس ق. م.
خامساً: تجديد شعب الله (آ 18- 22)
آ 18- ونسمع قولاً جديداً حول تجديد شعب الله (آ 18- 22)، مقابلة بين الخيام (عا 9: 11) والمساكن. قد تكون هناك إشارة إلى الإقامة في البرية وسعادتها برفقة الربّ، والإقامة في صهيون. تُذكر المدينة التي تتحدّى دمارها ورمادها، وتبنى من جديد. ويُذكر القصرُ وربّما الهيكل.
آ 19- توقّفت الأناشيد... قل الشعب، فكاد يفنى. ولكن تبدّلت الحال الآن.
آ 21- لن يكون الحاكم أجنبياً، بل واحد منهم. ولكن يبدو أن الحاكم قد صار رئيس الكهنة بعد أن حلّ يشوع الكاهن محل زربابل الذي كان من نسل داود، ولكنه لم يكن على قدر الأمانة (زك 8:3).
آ 22- تكونون لي شعباً. رج 31: 1؛ لا 12:26؛ تث 12:29؛ 1 مل 11: 7.
آ 23- وعاد النبيّ يتكلّم عن العاصفة التي ضربت المدينة والهيكل. هذه العاصفة مرّت بعد أن عاد الشعب. ولكن الدينونة باقية للشعوب التي تفعل الشرّ، وأولّها شعب الله.
آ 24- "تفهمونها في آخر الأيام". أجل، لم يفهم الشعب ما أصابه في الوقت عينه، بل حمل جرحه ومضى في طرق المنفى. ولكن الآن، بعد العودة، أعاد قراءة نصوص إرميا وبدأ يفهم مشروع الله.
ج- دراسة عامّة
نجد في ف 30- 31 مجموعة قصائد وأقوال نثريّة، هي كلام الله كما قاله إرميا ودوّنه في كتاب. هذا الكتاب قد سمّاه الشرّاح كتاب التعزية لأن مضمونه يشير إلى خلاص الجماعة بعد المحنة القاسية التي مرّت بها. إن تمثّل إرميا وهو يدوّن كل أقوال الله في كتاب، يعكس حقبة صارت فيها الكلمة الشفهيّة مكتوبة، فتبذل الدور الذي يلعبه النبيّ تبدّلاً لافتاً. حين نُسب كل هذا إلى إرميا، أخذت أقوال الخلاص التي قيلت فيما بعد، سلطة لم تكن لها في ذاتها، فأصبح الكتاب المكتوب بيد إرميا "شرعة" من أجل المستقبل بعد أن يعود الشعب (آ 3). نشير هنا إلى أن ما نقرأ في ف 30- 31 ليس عمل شخص واحد، بل نتيجة حلقات (تأثر بعضها بأشعيا الثاني). لهذا ببقى من الصعب على الشرّاح يميّزوا الطبقات المتعاقبة.
القصيدة الأولى (آ 5- 7) هو وصف لجواب الانسان على يوم الربّ الرهيب. هو الرعب يمسك بالشعب، فيصبح الرجال كالنساء التي تلد. هو يوم ضيق على يعقوب. هو أكثر من تذكّر لما حدث سنة 722 أو 597، أو 587، بل هو يوم اسكاتولوجي (23:4 - 26) قد صوّره أش 2: 10- 17؛ 6:13- 16؛ عو 15- 21؛ يوء3:3- 5؛ صف 1: 14- 18. وهكذا كان لنا المناخ لتوسّع في أقوال حول الخلاص.
وكانت قطعة نثرية (آ 8- 9) تتحدّث عن المستقبل، عن عمل الله التحريري لشعبه الذي يستعبده الغرباء (رج 27، 28؛ ق 2: 20؛ 5: 5 على مستوى الصور). نجد مثل هذا الرجاء في الآتي من الأيام في أش 27:10. جُعلت هذه القطعة هنا لتشرح ما قيل في نهاية القصيدة (آ 7) عن الخلاص. لا عبوديّة بعد اليوم، بل عبادة لله واحد. ولكن الواقع هو أن الغرباء سيظلّون مسيطرين في فلسطين بعد البابليين، مع الفرس والاسكندر المقدوني والرومان.
في آ 15- 11 نقرأ قصيدة قصيرة تعبّر عن رجاء الشعب بالعودة من السبي في لغة قريبة من لغة أشعيا الثاني. هي تمزج موضوع العودة، مع الاعتقاد بأن الأمم الوثنية سوف تدمَّر. إذا كان يهوه لم يعد عن شعبه، فكيف يعد عن الأمم، بل هي ستتألّم أكثر من شعبه (25: 29). سياقُ هذه القصيدة هو هو: منفى اسرائيل وتسلّط الأمم على شعب الله. يتحدّث النص عن يعقوب أو اسرائيل، ولا يتحدّث عن يهوذا، لأنه في الأصل كُتب من أجل مملكة الشمال. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، يصبح النصّ أمام تنوعّ الاسماء فلا يتكرّر اسم يهوذا.
في العقاب الذي أعدَّ، اختلاف بين ما حصل لاسرائيل وما يحصل للأمم. دمار جزئيّ بالنسبة إلى اسرائيل. ولكن إفناء تام للأمم. هكذا تفنى معها آلهتها الكاذبة. ثم إن هذا الخلاص هو خلاص كهنوتي، بمعنى أن الدور الذي يلعبه الكهنة يكون كبيراً. وأخيراً، ظهر موضوع التأديب بقدر ما، لأن الربّ لا يريد موت الخاطئ، بل عودته عن ضلاله ليحيا.
وتصوّر قصيدة أخرى (آ 12- 17) وضع الأمّة أو المدينة (صيغة المؤنّث) في صور مأخوذة من عالم المرض والجراح. رج 8: 18- 22؛ 10: 19؛ 14: 17. إذا كانت هذه القصيدة في غير محلّها في مجموعة أقوال الخلاص، إلاّ أن وجودها هنا تبرّره آ 16- 17 (أضيفت فيما بعد من أجل هذا الهدف). لقد تألّمت الجماعة كثيراً بسبب ضعفها (رج أش 1: 5- 6)، وتركَها محبّوها (2: 25، 33؛ 3: 1- 2). نحن هنا أمام صورة عن تاريخ مملكة يهوذا مع جيرانها وحلفائها. جُرحت، فتركها الجميع. ولكن الربّ هو الذي يشفيها. تُقسم القصيدة قسمين. في آ 12- 15، حديث عن الجرح والشفاء. وآ 16- 17 عمّا سيصيب أولئك الذين جَرحوا الشعب. لهذا جاءت الأداة "ل ك ن"، لهذا، فربطت قسمي القصيدة، كما ربطت القصيدةَ بعمل الخلاص الذي لا ينتهي إلاّ بمعاقبة الخاطئ.
دُمّرت البلاد، وصارت أرض يهوذا تلّة من الركام، وفرغت من سكّانها. لهذا، لا بدّ من برنامج بناء (آ 3، 18) يعيد إلى الأرض سكانها. هذا هو موضوع هذه القصيدة (آ 18- 22). إعادة بناء الشعب والمدينة، مع لفظة هامة "ش و ب". لقد تحوّل كلُّ شيء. تحوّل غضب الله إلى رحمة (ر ح م)، وتحوّل الركام إلى مدينة تُبنى بحسب "الرسم" الالهي، وتحوّل البكاء والدموع (رج 17:9- 22 ؛ 17:14) إلى أناشيد الفرح. والشعب القليل نما، فانتقل من الذلّ إلى الإكرام. هكذا كان في الماضي، وهكذا يكون في المستقبل، بل أفضل من ذلك.
وترد آ 23- 24 في سياق مختلف. هل عاد الكاتب إلى الأنبياء كما في ف 23؟ أو هل ما زال في كتاب التعزية مع ف 30؟ أما الصورة التي نجدها هنا فصورة العاصفة التي تسقط على رؤوس الأشرار. عندئذ يكون الأشرار هم الذين ضايقوا يعقوب، ويضايقونه اليوم. فليحذروا العاصفة التي تصيبهم هم أيضاً كما أصابت الاشوريين والبابليين في الماضي. وهكذا يفهم الشعب في المستقبل أن دمار الأشرار هو مقدّمة لبناء الأمّة بعد عودتها من السبي. واليوم الرهيب، يوم ضيق يعقوب (آ 7)، سيكون أيضاً اليوم الذي فيه يحوّل الربّ مصير شعبه. أما إذا عدنا إلى ف 23، فيتماهى الأشرارُ مع الأنبياء ويصبحون أولئك الذين يضايقون اسرائيل. أما نحن فنأخذ بالرأي الأول.

2- نظرة إلى المستقبل (31: 1- 40)
كان ف 30 عودة إلى الماضي بما فيه من دمار وعذاب، ورجاء بمستقبل يبنيه الله حين يبني أرضه ويجمع شعبه. أما ف 31، فيجعلنا نُلقي نظرة إلى المستقبل، عنوانها إقامة الشعب في أرض يفلحها ويزرعها لنفسه، لا للآخرين كما كان الأمر في أيام المنفى. يعلن الرقباء النداء (آ 6)، فيسير الناس كما في حجّ إلى صهيون، برفقة الربّ (آ 7)، ويكون الاعلان الرسمي: من بدّد بني اسرائيل يجمعهم (آ 10). كان البكاء، والآن جاءت التعزية (آ 15)، وعاد شعب يهوذا إلى أرضه (آ 24). عندئذ يبدأ نظام جديد تُنسى فيه الخطايا السابقة، ويُقطع عها جديد يختلف عن العهد الذي قُطع مع الآباء (آ 32)، بحيث يتعلّق الربّ باسرائيل، وبتعلّق اسرائيل بالرب، فلا يعود يرذل الربّ شعبه (آ 37)، ولا تعود أورشليم تقع في يدي الأعداء.
أ- قراءة النصّ
آ 1- مس 31= سب 38. "إلى كل عشائر". سب: إلى عشيرة (اسرائيل). تمثّل صيغةُ الجمع توسّع "الطبعة" الثانية التي عرفت الشتات الواسع. في 2: 4 نقرأ: "كل عشائر بيت اسرائيل". في 1: 15: "كل عشائر مملكة الشمال". في 25: 9: "كل عشائر الشمال". إن 31: 1 يلعب دور مقدّمة للمجموعة التي نقرأ في ف 31 (رج 3:30، 4). إن 30: 22 يقابل 31: 1.
آ 2- "نال حظوة في البرية الشعبُ الذي نجا من السيف". في سب: "وجدته حاراً في البرية معهم بحيث قتلوا بالسيف". رج خر 12:32-17 وعبارة "نال حظوة". قرأت بهس: كما في البرية، أي كأنه في البرية، وقد نجا من المعركة. مقدّمة القول الالهي (هكذا قال الربّ) هي شكليّة هنا، لأن الله لا يتكلّم قبل آ 3 ب. "ذاهب ليجد راحة اسرائيل". بهس (مع سيماك، 6: 16): ذاهب من أجل راحته. رج تث 28: 64 (لن تجدوا راحة).
آ 3- "من بعيد تراءى لي الربّ". في سب: تراءى له. مس: احببتكِ (يا عذراء اسرائيل) مع صيغة المؤنث، لا مع المذكر كما في آ 2. "جذبتك (أمسكتك) برحمة". رج استعارة مماثلة في هو 4:11.
آ 4- عذراء اسرائيل. رج آ 21؛ 13:18؛ عا 5: 2. مس: في مراقص الطربين. سب: برفقة الذين يلعبون (يرقصون). رج آ 13؛ 30: 19 (رج 33: 11 مع ألفاظ مختلفة). موضوع البناء (29: 5 ؛ 30: 18؛ 31: 4- 38) عبده في القسم الثاني من إر (رج 1: 10. وهناك أيضاً موضوع الغرس، 5:29؛ 31: 5، 12)، نلاحظ المثلّث: ع ود... ع ود... ع ود (في آ 4- 5): بعد، بعد، بعد.
آ 5- "يغرس الغارسون ويحلّلون" (لنفوسهم أن يأكلوا). رج "ح ل ل" كما في العربية (ضد "ح ر م"، حرّم). رج تث 20: 6؛ 28: 30؛ لا 19: 23- 25 (ثمار تؤكل بعد خمس سنوات). يأكلون هم الثمار ولا يأكلها الآخرون (بهس). رج أش 65: 21- 22؛ ق عا 5: 11 (تغرسون كروماً ولا تشربون من خمرها). "جبال السامرة". نقرأها هنا وفي عا 9:3 (في 1 مل 16: 21؛ عا 4: 1؛ 6: 1 نقرأ "جبل السامرة" في صيغة المفرد).
آ 6- "الراصدون، النواطير، الرقباء". في سب: المدافعون دفاعاً يصرخون.
آ 7- "بفرح": لا نجدها في سب. مس: رأس (راش) الأمم. سب: أول (= راش ي ت) الأمم، بداية. رج عا 6: 1. بدأت المسيرة وعلى رأسها يعقوب. رج 5: 8. اقترحت بهس "الجبال"، بدل "الأمم". مس: "خلّص أيها الربّ شعبك". سب: الربّ خلّص شعبه. "بقية اسرائيل": حاشية مضافة (بهس) ولكنها موجودة في اليونانية. رج 23: 3.
آ 8- "الأعمى والأعرج". سب: في عيد الفصح. بالنسبة إلى الأعمى والأعرج، رج 2 صم 5: 6، 8؛ أش 35: 5- 6. إن الصورة التي نجدها في آ 8- 9، نجدها أيضاً في أش 35 ؛ 3:40-5؛ 17:41-19؛ 16:42؛ 43: 5-6؛ 3:44- 4؛ 48: 20؛ 9:49-13. مس: هنا (يرجعون إلى هنا). تقرأ بهس: "ها" وتربط مع آ 9: ها هم يأتون.
آ 9- "يأتون". سب: فرجون. "و ب ت ح ن و ن ي م": يتوسّلون لكي يتحنّن الله عليهم. رج 3: 21؛ دا 9: 18. سب: "وبتعزية" (= و ب ت ن ح و م ي م). يكون التعارض أفضل مع "باكين": يذهبون باكين ويعودون بتعزية.
آ 10- الجزر (ب إ ي ي م) أو شواطئ البحر. رج 2: 10؛ أش 41: 1، 5 ؛ 42: 4، 10، 12 ؛ 49: 1؛ 5:51؛ 18:59؛ 9:60؛ 19:66: مز 97: 1: صف 2: 11. "وقولوا": حاشية غير ضروريّة (بهس). ولكن رج آ 7. مس: "ويحفظهم كالراعي قطيعه". رج أش 40: 11 (كالراعي يرعى قطيعه).
آ 11- "ف د هـ... ج أ ل و": افتدى واشترى (تولّى أمر). نجد هاتين اللفظتين مراراً في أش 40- 55 وفي إر 15: 21؛ 31: 11؛ 55: 34 فقط.
آ 12- "علاء صهيون". تعتبر بهس هذا تصحيحاً جاء من يهوذا (رج 7:30 ب). يجب أن نقرأ فقط "الجبال" (ب. هـ ري م). "و ن هـ ر و"، يضيئون، يشعّون. رج 44:51 ب ؛ أش 65: 5؛ مز 6:34. في سب: يفرحون. "الحنطة والخمر والزيت": مثلَّث منتوجات أرض كنعان الخصبة. رج تث 13:7؛ 11: 14؛ 12: 17؛ 14: 23؛ 18: 4؛ 28: 51؛ رج هو 2: 10؛ يوء 1: 10 ؛ 2: 19 ؛ حج 1: 11. خيرات، طيبّات (ط و ب). نحن أمام نموّ جديد للأرض. سب: "إلى أرض حنطة". مس: جنّة ريّا. رج أش 58: 11 ؛ حز 36: 35 (يشبّه الأرض الجديدة بجنّة عدن). سب: "مثل غابة مثمرة".
آ 13- "في الرقص والشبّان". سب: "في جماعة الشباب". رج آ 4. مس: "ي ح د و" أي معاً (وكأنهم شخص واحد). سب: يفرحون (ح د هـ). المشهد الذي نجده في سب، هو مشهد عذارى نعمن برقصة الشباب، وشيوخ يفرحون. مس: أحوِّل. سب: أعزّيهم. مس: "م ي ج و ن م"، من حزنهم. سب: أعظّم (ويربط الفعل مع الآية التالية) وأشجّع بالخمر.
آ 14- أشبع الكهنة طعاماً وشراباً. أروي نفوس الكهنة بالدسم، فيشبع شعبي بالطيبّات. نجد في سب "بني لاوي" موضع "د ش ن" أي الدسم.
آ 15- إن عبارة التقديم (هكذا قال الربّ) لا تقدّم القول الالهي (يبدأ كلام الله في آ 6)، بل (رج آ 3) تدلّ على وحدة تدوينيّة (آ 15- 25) تتقبّلها الجماعة على أنها كلام الله (رج يقول الربّ في آ 16، 17). "بالرامة" (تبعد 8 كلم إلى الشمال من أورشليم). "بكاء مرّ". رج 26:6؛ هو 15:12. جُعلت راحيل (إحدى نساء يعقوب) صورة عن الجماعة التي تبكي أبناءها الذين ماتوا. فكان تلميحٌ إلى موتها حين ولدت ابنها بنيامين (تك 16:35-20). حسب 1 صم 2:10، يقع قبر راحيل في صلصح التي هي أرض بنيامين، ولا تبعد كثيراً عن الرامة (1 صم 8: 4). إن تك 35: 19 جعل هذا القبر بجانب بيت لحم، على الطريق إلى بيت إيل.
آ 16- لا نجد في كسب "يقول الربّ".
آ 17- سب: (موضع) باقٍ لأولادك. نصّ سب أقصر من نص مس الذي يشدّد على ثبات الأولاد في أرضهم، في المستقبل. على عودتهم إلى بلادهم. نقرأ في آ 16 وآ 17 فعل "رجع، عاد". لا نجد في كسب: يقول الربّ.
آ 18- "أدّبتني فتأدّبت". رج مثل هذا التكرار في 17: 14. "أعدني فأعود". رج فعل "ش و ب" في آ 16، 17، 18، 19. إن صورة افرائيم "كالعجل الغير المروَّض" تقابل ما في هو 10: 11 (عجلة مروَّضة). نجد فعل "ل م د" (كما التلميذ).
آ 19- "بعد رجوعي ندمت". يرى الشرّاح أن كلمة سقطت من هذه الجملة. "رجعت وندمت" (بهس). سب: "سبي". بهس: بعد سبيي رجعت وندمت.
آ 21- "إشارات" (ص ي ن ي م). سب: صهيون. "ت م روي م" (رج آ 15، مرارة). تعود إلى "ت م ر" أو النخل الذي يرتفع فيُرى من البعيد. "ل م س ل هـ" (مسلّة): المنهج، الطريق. رج أش 40: 3 ؛ 49: 1؛ 62: 10، من أجل التكلّم عن العودة من المنفى. مس: (مدنك) هذه "إ ل هـ". رج آ 8. "هـ ن هـ". سب: الحِداد.
آ 22- "البنت المرتدّة". رج 3: 14، 22 (الابن المرتدّ). مس: أنثى تتغزل برجل. سب: يذهب الرجل في أمان.
آ 23- سب: مبارك الربّ على جبله البار المقدس. ربطت سب "ق د ش" و"ص د ق" بالرب، لا بجبل الهيكل.
آ 24- يسرحون مع القطعان. بهس راحت مع الترجمات فقالت: الذين يسرحون، أي الرعاة.
آ 25- كل نفس ذائبة. أي جائعة. رج آ 12.
آ 27- "أزرع ". هي صورة عن إعادة السكان إلى الأرض. رج هو 2: 25. ونجد في زك 9:10 صورة عن تشتّت الشعب بعيداً عن أرضه.
آ 28- "سهرت". هو المعنى الايجابي لفعل "ش ق د". رج 44: 27 من أجل التطبيق السلبيّ (في 1: 12 استعمال حياديّ). سب: أدمّر واسيء. ينقص فعلان نجدهما في مس للحديث عن عمل الله ضدّ الأمم. لا نجد هذه الأفعال الستة معاً إلاّ هنا وفي 1: 10. ولكننا نجد بعضها بقدر متفاوت في 12: 14- 17؛ 7:18، 9 ؛ 6:24؛ 31: 40؛ 10:42؛ 44:45.
آ 29- لا يقال بعد (لا يقولون). رج 16:3 ؛ 7:23؛ رج 16: 14. هذه الجملة تقابل آ 23 (سيُقال بعد). ولكن العبارتين تدلاّن على انقلاب الوضع تجاه ما أصاب الشعب من شقاء. "في تلك الأيام" تربط كلاماً مستقلاً برجاء مقبل في آ 27. "ب س ر" الحصرم. رج أش 18: 5؛ حز 18: 2؛ أي 15: 33. يرد القول المأثور "الآباء أكلوا الحصرم" هنا وفي حز 32:18 (مع جدال طويل). رج مرا 7:5.
آ 30- رج تث 24: 16 وانقلاب الكلام القائل بأن المجازاة موضوع ميراث من الآباء إلى البنين (خر 20: 5؛ تث 9:5). رج 2 مل 6:14.
آ 31- ألغت بهس عبارة "بيت يهوذا"، لأنها غائبة من آ 33. وفهمت "بيت اسرائيل" على أنه مملكة الشمال، لا شعب الشمال والجنوب كله. وهناك رأي آخر: إن الإشارة إلى يهوذا تبدو توسّعاً. ولكن في هذه الحالة، اسرائيل هي الشعب كله لا مملكة الشمال فقط.
آ 32- "نقضوا عهدي". رج 11: 10؛ 14: 21؛ 33: 20. مس: وأن ك ي. ب ع ل ت ي. ب م. وأنا كنت بعلهم، زوجهم، سيّدهم. رج 3: 14 (أنا سيّدكم). سب: كرهتهم. وهكذا نكون أمام جواب (منطقي) للذين نقضوا العهد.
آ 33- "بيت اسرائيل". في بعض المخطوطات: يا بني اسرائيل. مس: بعد تلك الأيام. رج آ 31: تأتي أيام. رج آ 29. قد يكون الكاتب جمع موضوعين: في الأيام الآتية يُعاد البناء من أجل عهد جديد. فيكون هذا حدثاً مقبلاً في إعادة البناء. "أكون لهم إلهاً ويكونون لي شعباً". رج 23:7؛ 11: 4؛ 13: 11؛ 7:24؛ 22:30؛ 31: 1؛ 38:32. وكتابة الشريعة في قلوبهم (ل ب) هي استعارة تدلّ على تحوّل من الممارسة الخارجيّة إلى شريعة داخليّة. نجد تحوّلاً مماثلاً في صورة الختان (4: 4 ؛ تث 6:30).
آ 34- "أغفر ذنوبهم" (آثامهم). رج 5: 1، 7؛ 8:33؛ 3:36؛ 50: 20؛ رج عا 7: 2: أش 55: 7. في عد 14: 18- 20، غفران الله لاثم شعبه هو غفران متواصل منذ الخروج حتّى الوقت الذي فيه كُتبت صلاة موسى (حتّى الآن). رج صلاة سليمان في 1 مل 30:8-50.
آ 35- هناك من يعتبر هذه الآية مقدّمة نثرية كما في آ 36 (قول نبوي في قالب شعري)، وآ 37 خاتمة نثرية. إن سب جعلت آ 37 قبل آ 35- 36. "ح ق ت"، أحكام. نظام الشمس والقمر. في 33: 20، 25 حديث عن أحكام الليل والنهار (عهد الله مع النهار والليل). مس: "يثير البحر فتعجّ أمواجه. رب الجنود اسمه"= أش 15:51 ب. سب: عجيج في البحر.
آ 36- إن تحرّك هذا النظامُ أو زال من أمام الربّ، يزول زرع (زرع، نسل) اسرائيل. كلاهما يستمرّ أمام الربّ.
آ 37- لا نجد في سب "هكذا قال الربّ". مس= يُقاس. سب: يُرفع. لا نجد في سب "كل" أمام "نسل اسرائيل". مس: يفحص. سب: يذوب.
آ 38- برج حننئيل: القسم الشمالي من أسوار أورشليم القديمة (نح 3: 1 ؛ 12: 39). باب الزاوية: يقع في سور المدينة الغربي (2 مل 14: 13؛ 2 أخ 26: 9؛ رج زك 14: 10). نقرأ: مدينة الربّ. أو: مدينة للربّ.
آ 39- خيط القياس: يقيسون به ليحدّدوا الأرض التي يبنون فيها. رج زك 1: 16 - 17. تلة جارب: تقع غرب أورشليم. جوعة: تقع جنوبي غربي أورشليم. قال بعضهم: جعلتنا آ 38 إلى الشمال، آ 39 إلى الغرب، آ 40 إلى الجنوب والشرق. مس: ويستدير إلى جوعة. سب: يحيط بدائرة من الحجارة المنتخبة.
آ 40- لا نجد في سب "كل وادي الجثث والرماد". الوادي هو وادي إبن هنوم حيث تُمارس عباداتٌ تُحرق فيها جثثُ الأطفال. رج 23:2؛ 7: 31- 32. باب الخيل: يقع في سور المدينة الشرقيّ. "فلا يُقلع ولا يُهدم". رج 1: 10 وموضوع القلع والهدم والغرس والبناء.
ب- التفسير
أولاً: الإقامة في الأرض (آ 1- 6)
آ 1- عادت العلاقة بين الله وشعبه كما في أيام الإقامة في البرية. رج آ 33؛ 38:32 ؛ حز 11: 20. جاءت لفظة "عشائر" في صيغة الجمع، لأن مملكة اسرائيل لم تعد مجموعة في شمال فلسطين، بل تشتَّتت. ذهبَ من ذهبَ منها إلى السبي. وهرب من هرب إلى أورشليم، حاملاً معه كتاب الشريعة الذي "سيُدفن" في الهيكل قبل أن يُكشف سنة 622، في أيام يوشيا الملك.
آ 2- في البرية (هو 16:2). أي بريّة المنفى التي تشبه برية سيناء. في سيناء قطع الله عهداً مع شعبه. وكذلك سيفعل مع المقيمين في الجلاء. الكلمة الهامة هي: م ص ا. ح ن: وجدَ إلهاً يتحنّن عليه.
آ 3- حدّثنا النبي عن الربّ الذي تراءى له من بعيد كشف له كلمة الخلاص. في اليونانية، يبدو أن الله ظهر لاسرائيل مباشرة. وقال الربّ لشعبه الذي شبّهه بعذراء محبوبة يحبّها عريسها الذي هو الربّ. حبّ الربّ حبّ أبدي. ورحمته (أو: أمانته) هي التي تفعل. رامز 36: 11؛ 12:109.
آ 4- نقرأ هنا فعل "ب ن هـ" (بنى). هكذا بنى الله المرأة في الابتداء (تك 2: 22). هكذا يبني عذراء اسرائيل. لا ننسى أن المرأة تدلّ على الشعب. حوّاء تدلّ على البشرية. وعذراء اسرائيل تدلّ على كل اسرائيل. كانت قد توقفت الدفوف والرقص. فها هي تعود.
آ 5- كانت السامرة تزرع وغيرُها يقطف (العدوّ). أما الآن فتبدّلت الأمور: هي تغرس وجمل ثمر ما تغرس.
آ 6- جبال افرائيم. أي شمال البلاد حيث مملكة اسرائيل. هي أيضاً ستمضي إلى الحج للقاء الربّ مثل اختها يهوذا. رج 33: 11؛ 4:50- 5.
ثانياً: الربّ مع شعبه في صهيون (آ 7- 14)
آ 7- وانطلقت مسيرة الحج من مملكة الشمال إلى أورشليم. ووصل الربّ مع الواصلين. يعقوب يدلّ أيضاً على مملكة الشمال في معنى أول. سيّد الأمم هو الربّ. يسود على الأمم ويحمل الخلاص إلى شعبه. يبقى على الناجين أن يهتفوا للرب هنا من الفرح، أن يرنّموا، أن يهلّلوا.
آ 8- سيذهب الربّ إلى الشمال، إلى بلاد الرافدين، إلى عالم الاشوبين في مرحلة أولى، وإلى عالم البابليين في مرحلة ثانية، بل سيذهب إلى أطراف الأرض. يكون نوراً للعميان، سنداً للعرج والحبالى والنساء اللواتي وضعن حديثاً.
آ 9- هو بكاء الفرح، ونداء التحنّن. يتحوّل القفر إلى وديان تسيل فيها المياه (أش 49: 10)، والمنعرجات إلى طريق قويم. ذهب افرائيم إلى المنفى، وبدت مملكة اسرائيل وكأنها تركت الربّ. ولكن عاد كل شيء إلى ما كان أولاً. الربّ أب لاسرائيل وافرائيم بكره. هناك تعادل بين افرائيم واسرائيل.
آ 15- كانت الأمم قد شهدت ما عمله الربّ حين ذلَّ (7:15) اسرائيل، وها هي تُدعى لكي تشهد كيف يفتدي الربّ يعقوب (= اسرائيل) بيد قويّة (آ 11؛ خر 6:6: أش 25:49). نجد هنا صورة الراعي وقطيعه.
آ 12- لقد عادوا. بل وصلوا إلى أرض الربّ بخيراتها. عاد الشبّان والصبايا، وعاد معهم الفرح، وزال الحزن من الأرض بعد أن عادت إليها بركة الله وحضوره.
آ 14- وتعود الذبائح وافرة على مذبح الله في هيكله: ينعم بها الكهنة والآتون إلى العيد.
ثالثاً: بكاء وعزاء (آ 15- 22)
آ 15- وصل الشعب فتذكّر المائتين. أولاد راحيل، وراحيل هي أم بنيامين حيث الهيكل. مات أولادها وماتوا. ولكن هل تتعلّق أورشليم بموتاها؟ كلا، بل تستقبل العائدين (آ 16) وتنظر إلى المستقبل المليء بالرجاء (آ 17). وستفهم أن هذه العودة الخارجيّة ترمز إلى عودة من نوع آخر عودة إلى الربّ الذي يُسرّ باستقبال شعبه.
آ 18- أجل عاد افرائيم (= اسرائيل). ولكن هل عاد حقاً؟ ما زال عجلاً لا مروَّضاً مع أنه مرّ في تأديب الربّ. مع أنه يُفترض فيه أنه تعلّم من سنوات المنفى (نجد فعل ل م د. في العربية: تلمذ). ولكن كما كانت خبرة الخروج من مصر والحياة في البرية سلسلة من "التمرّدات" على الربّ، وكأن الشعب لا يريد أن يرجع، هكذا يحسّ اسرائيل (ومعه يهوذا) العائد من المنفى بحاله تجاه الربّ. فيعلن إيمانه بالرب ويترك آلهة تعلّق بها في بابل: "أيها الربّ، يا يهوه، انت وحدك إلهي".
آ 19- بدأ الشعب ينتحب، والرب "سمعه " كما سمع صراخه في مصر وها هو يدخل في طريق التوبة متذكّراً خطاياه (22: 21- 22: 32: 30). كانت تلك صلاة افرائيم.
آ 20- فجاء جواب الربّ، جواب الأب وابنه عزيز (ي ق ي ر، له وزنه في نظري)، جواب الأمم التي تحرّكت أحشاؤها (م ع ى، الامعاء هي مركز الشعور والعواطف). وترد لفظة "رح م" (المرتبطة برحم المرأة كما ترتبط برحمة الله تجاه ذاك الذي هو بهجته فيذكره مراراً).
آ 21- ويتوجّه النبي إلى عذراء اسرائيل، أي إلى شعب مملكة اسرائيل الذين هم في المنفى، ويدعوهم إلى العودة. فهم محبوبو الربّ كما في أيام البرية. ولكن الآن انقلبت الادوار: كان الرجل يطلب المرأة، وها هي المرأة تطب الرجل. يعني على "اسرائيل " أن تبدأ طريق العودة، والرب ينتظر منها الخطوة الأولى وهو يكمل.
رابعاً: عودة يهوذا (آ 23- 30)
آ 23- عاد الشعب والرب يعيد بناءه. يعيد إليه عزّه وأمجاده. لم تعد أرض يهوذا أرض الخراب والدمار والشرّ. صارت من جديد أرض البركة، أرض البرّ، الجبل المقدس. عادت إلى ما كانت إليه بعد أن عاد إليها الربّ.
آ 24- يقيم في هذه الأرض المقدسة "يهوذا" العائد من السبيّ، على مثال العابرين في سيناء مع قطعانهم، والمدن التي تمثل الشعب الذي بتي في فلسطين ولم يذهب إلى المنفى. هم الفلاّحون. وكما التحمت جماعة يشوع (وموسى) بأهل البلاد بعد الخروج، كذلك سيلتحم العائدون من بابل مع العائشين في مدن يهوذا، فلا تفتخر فئة على فئة.
آ 25- أولئك الذين كانوا في البرية، ارتوى (هـ روي ت ي، أروي، يقول الربّ) عطشهم. والذين ظلّوا في البلاد بعد أن حلت المجاعة، شبعوا (م ل ا ت ي، ملأتُ، أشبعتُ).
آ 26- نجد هنا مقابلة بين النوم واليقظة. على مستوى الواقع، هذا يبقى حلماً. على مستوى النبوءة، تراءى الربّ للنبيّ في الحلم كلّمه. فرح النبيّ لهذا المستقبل الزاهر. ولكن حين نعرف الصعوبات التي لاقاها العائدون في فلسطين (دُمّرت بيوتهم، أخِذت أراضيهم)، نفهم أن مثل هذه الحالة بعيدة المنال.
آ 27- فتطعّ النبيّ إلى نظام جديد مؤسّس على الله، لا على البشر وانتظره في وقت قريب: ستأتي أيام. هنا نجد صورة الزرع، مع المعنى الواسع للفظة زرع: على مستوى النبات والبهائم والبشر (30: 19). كما تعود الأفعال: بنى، غرس، اقتلع، قلب. نقض، دمّر، أساء. في الماضي "سهر" (ش ق د) الربّ (رج ف ق هـ). بمعنى اهتمّ. والآن ها هو يسهر فذاك الذي يميت هو الذي يحي. وذاك الذي يقلع هو الذي يغرس.
آ 29- وورد مثل يربط عقاب الأبناء بخطيئة الآباء. نحن نتألّم لأن آباءنا خطئوا. لا، يقول إرميا، كل انسان يُعاقب بخطيئته. رج تث 24: 16؛ 2 مل 14: 6. وسيتوسّع حز 18: 1 ي في هذا الموضوع. ربّما كان الأمر كذلك (يقول إرميا) كما في خر 20: 5؛ 34: 7 (أعاقب ذنوب الآباء في الأبناء). ولكن بعد اليوم، يُلغى كل عقاب جماعيّ (يتألم الفرد بسبب الجماعة، أو الجماعة بسبب الفرد، بسبب الملك مثلا، رج 2 صم 24)، كل عقاب ينتقل من الآباء إلى الأبناء. بل من يخطأ هو الذي يُعاقَب.
خامساً: العهد الجديد (آ 31- 40)
آ 31- نقض الشعب عهده مع الربّ، فغفر الربّ لهم رغم كل شيء (آ 34)، واهتمّ بتساميه أن يقيم عهداً جديداً (آ 32 ب). لا يكون هذا العهد "ترقيعاً" للعهد السابق، عهد سيناء. ولا يكون في تبديل بعض التوجيهات القديمة، ولا يتوقّف عند بعض شعائر العبادة مهما حاول الأنبياء السابقون أن يروحنوها. فهذا العهد "الجديد" يقوم في أن التوجيهات والالتزامات السابقة ستُكتب (ستنطبع) منذ الآن في القلوب، في عمق الانسان الحميم (رج أش 48: 17؛ 51: 17؛ 54: 13؛ 55: 3؛ أم 9: 1- 6). سيُبنى الانسان من جديد، يُولد شخصه مرّة ثانية في شكل يجد كماله مع حديث يسوع ونيقوديمس في يو 3. وسبب هذه الولادة، لن يحتاج الانسان أن يتعلّم ممارسة الوصايا. تصبح عنده هذه الممارسة طبيعة ثانية. فالانسان يعرف في ذاته إرادة الله ويتمّمها (رج زك 9:13). لا شكّ في أن العهد الجديد والايدي لن يتمّ إلاّ في ذبيحة المسيح، في سر الافخارستيا (لو 22: 20؛ 1 كور 11: 25). ولكن هذا العهد الذي يتحدّث عنه إرميا هو صورة بعيدة تهيّئ الطريق له.
آ 32- نلاحظ فصلاً بين جماعة اسرائيل وجماعة يهوذا. فهذا القول توجّه أولاً إلى اسرائيل، ثم طبِّق على يهوذا. كما نلاحظ اختلاف هذا العهد "الجديد" عن العهد مع الآباء الذين خرجوا من مصر فالخروج الثاني من أرض المنفى، سيتفوّق على الخروج الأول من مصر وهكذا نقول عن العهد. ولكن الربّ يبقى الربّ. وهو الذي يأخذ المبادرة كما قال في هو 11: 9: إله أنا لا إنسان. لا أتصرّف كما يتصرّف الانسان.
آ 33- هنا نقرأ إعلان العهد "الجديد" مع جماعة اسرائيل: تُكتب الشريعةُ في القلوب، يكون الله ربهم، ويكونون هم شعبه (23:7؛ 38:32؛ حز 28:36؛ زك 8:8).
آ 34- هذه المعرفة التي تحدّث عنها أشعيا، التي تملأ الأرض، ستنطبع في قلوب الكبار والصغار. لا حاجة بعدُ إلى معلّمين. فقد صار علمُ الله جزءاً من الانسان. رج 7:24؛ أش 9:11.
آ 35- في الماضي، نقض الشعب عهد الربّ (آ 32 ؛ 11: 15). أما الآن فيتعلّقون بالرب تعلّقاً لا يقطعه شيء، لا يبدّله شيء. لن يعود الناس يتنقّلون من يهوه إلى بعل (أو الآلهة) ومن بعل إلى يهوه. وما الذي يحدث لكي يبقى الشعب أميناً؟ هذا لا يعود إلى البشر، بل إلى الله الذي يكفل أمانة الشعب، يأخذها على عاتقه. فالرب الذي هو سيّد الشمس والقمر والكواكب، سيّد البحر والأمواج، الذي اسمه "القدير"، "رب الصباؤوات، ربّ الأكوان". هو الذي يكفل هذا العهد، ويرفض أن يلغي شعبه كأمّة أمامه (آ 36). قرأ التقليد اليهودي "يثير البحر" في عبارة "يشق البحر" فرأى في ذلك إشارة إلى عبور البحر الأحمر.
آ 37- وفي قول إلهي آخر يشدّد فيه الربّ على سلطانه على السماوات (لا يستطيع أحد أن يقيسها) وعلى الأرض (لا يعرف أحد أسسها)، فيصل إلى ما سيفعل على مستوى شعبه: لن يرذله مهما حصل: هو لم يرذله بسبب خطيئة الآباء، ولن يرذله بسبب خطيئة الأبناء.
آ 38- والقول الأخير في ف 31 يتحدّث عن المدينة المقدّسة التي ستُصبح منيعة بقدرة الله. نحن في بناء الشعب كما في بناء أورشليم أمام صورة نستطيع أن نقرأها بشكل عاديّ. ولكنها لا تصخ لأن الشعب سيبقى خاضعاً للحكم الاجنبيّ ويتشتت أكثر من مرة، والمدينة المقدسة سيجتاحها الغرباء مراراً. لهذا، نقرأ هذا الكمال بشكل روحي عن شعب الله الذي يتأسّس في المسيح، وعن أورشليم السماوية التي لن تحتاج إلى الشمس والقمر، لأن الربّ نفسه نورها.
آ 39- يجب أن يكون هذا النصّ قد دُوّن في شكله النهائي في القرن الخامس ق. م، وبعد بناء أسوار أورشليم على يد نحميا. وما هو عظيم، هو أن أورشليم توسّعت حتى ضمّت وادي هنوم، وادي الموت. فقام الله المقدّس غرس لا يُقلع، وبُناء لا يُهدم. الربّ تكلم وهو يفعل.
ج- دراسة عامّة
في آ 2- 22 نقرأ مجموعة قصائد تتحد في موضوع واحد مع إضافة بدت بشكل عنوان: أكون لهم إلهاً ويكونون لي شعباً. وجاءت العبارة الأولى "في ذلك الزمان"، فربطت هذا المقطع مع 30: 24 ب (تفهمونها في آخر الأيام). ففي المستقبل الذي سوف تفهمونه في وقته (هي كلمة الرجاء)، يصير الله إله كل عشائر اسرائيل، وهم يصبحون شعبه. هكذا نكون في إطار الشتات وتوزُّع جماعات اسرائيل ويهوذا عبر العالم الفارسيّ واليونانيّ. والصورة في المستقبل تعني توحيد كل هذه العشائر من جديد بحيث تصبح شعبَ الله.
إن آ 2- 22 تتضمّن قصائد تختلف عن تلك التي نقرأ في 30: 5- 7، 10- 21، في أمور عديدة، وإن كان الموضوع واحداً، موضوع العودة. تُستعمل لفظةُ "افرائيم" (31: 6، 9، 18، 20) كي تصف الأرض. إذا وضعنا جانباً 4: 15 و 7: 15، لا نجد هذه اللفظة في التقليد الارميائي. وهذا ما دفع الشرّاح إلى القول بأن هذه القصائد دوّنت في بداية رسالة إرميا، فأشارت إلى مملكة الشمال (بعاصمتها السامرة) ساعة حاول يوشيا أن يضمّها إلى مملكة يهوذا (هناك فراغ سياسيّ. ضعف الاشوريون، وما امتدّ بعد تأثير البابليين، وكانت مصرفي وضع ترقّب). لا شك في أنه أعيدت قراءتها على ضوء ما حدث ليهوذا وأورشليم. ولكن التمتمات الأولى ترتبط ببدايات إرميا مع تأثير هوشع وصوَر الزواج للحديث عن علاقة الله بشعبه.
القصيدة الأولى في ف 31 (آ 1- 6) هي قول نبويّ وإن لم يتكلّم الله إلاّ في آ 3. يصوّر اسرائيلُ كرجل نجا من السيف ووجد طعاماً في البرية. تدلّ الصور على نجاة عجائبيّة من الدمار، دون أن نعرف نوع الكارثة (المنفى، عاصفة من يهوه، ضيق يعقوب). وظهر يهوه من البعيد (23:23؛ 30: 10)، وتكلّم كلام الحبّ إلى شعبه. وتُصبح الصورةُ صورة امرأة محبوبة، وحبّ المتكلّم هو الذي يبنيها، ويزيّنها بالدفوف فترقص وتحتفل بالنصر (خر 15: 20؛ قض 11: 34؛ 1 صم 6:18). وتُغرس الكرومُ من جديد فينعم الشعب بثمرها. عادت الأيام القديمة، ولاسيمّا تلك التي فيها يصعد افرائيم في حجّ إلى صهيون حيث يقيم الربّ في هيكله.
وفي القصيدة الثانية (آ 7- 9) نحسّ بالفرح والترانيم بعودة الشتات من الشمال (أش 43: 6) ومن سائر الأماكن (6: 22). تشتّت بنو يهوذا إلى أطراف الأرض. وهم يعودون من أطراف الأرض. وهكذا تبدّل مصير الأمّة عما كان عليه في الماضي. في الماضي، جاء جيش قويّ ودمّر أورشليم ويهوذا (أو: اسرائيل والسامرة) (4: 13؛ 5: 15- 17؛ 6: 22 - 26). أما الآن فالشعب يعود إلى أرضه، في وفد يضمّ الأعمى والاعرج والحبلى والوالدة والمرضع. هو تطواف أناس ضعفاء يحملون الوعد بحياة جديدة من أجل الشعب. أما حملة الأعداء فقد كانت مثل قبر مفتوح (16:5)، تحمل الموت وتنرك وراءها مملكة مدمّرة. أما الشعب فجاء بما يعيد الحياة إلى الأرض مع الفرح والعزّ (آ 12- 14).
نادى المنادي بأن الشعب عاد من الضربة (آ 7) بشكل تطواف بقيادة قائد (آ 9) هو الربّ سيّد الأمّة. افرائيم هو بكره. والعودة ليست فقط من بابل، بل من سائر الشتات. هذه الجماعة الكبيرة (ق هـ ل. ج د ول) التي تأتي "منتصرة" من أماكن عديدة من العالم، التي تسير بسهولة في طرق سلة قرب ينابيع المياه، نجدها أيضاً في أشعيا الثاني (أش 8:49؛ 17:51- 20). مع سقوط بابل، نما رجاء عظيم لدى المنفيّين، واعتادت الجماعات المشتّتة أن تحجّ إلى أورشليم. فمثّلت هذه القصائد تعبيراً عن هذا الرجاء عند المؤمنين، وأملاً بإعادة بناء المدن والقرى في الحقبة الفارسيّة.
وارتبطت آ 10- 14 بما في آ 7- 9 باستعمال ذات الألفاظ في آ 7، آ 10 (رنّموا، نادوا، تولوا، أو أسمعوا، نادوا، قولوا) مع الاشارة إلى "الأمم". والموضوع المشترك في هاتين القصيدتين هو عودة الشعب المشتّت إلى أرضه. غير أن آ 10- 14 تختلف عمّا في آ 7-9 بصورة الراعي وقطيعه، وتشدّد على خصب الأرض التي إليها بعود الشعب المشتّت (رج آ 4- 5). فالرب راع يجمع قطيعه المشتَّت (والرب هو السبب، آ 10). أما أساس هاتين القصيدتين، فالاعلان بأن الربّ خلّص شعبه وافتداه (آ 7 ب، 11). في آ 12- 14، يعود المنفيون إلى صهيون فتشرق وجوههم أمام خيرات الربّ، أمام محاصيل الأرض الثلاثة، الحنطة والخمر والزيت. وهكذا تتحوّل حياة الشعب من الحداد والحزن إلى الفرح والسعادة.
أما القصيدة التي نقرأها في آ 15- 20، فتتضمّن عناصر عديدة: آ 15- 17، 18 - 19، 20. وما يربط هذه العناصر"قول الله" (آ 15، 20). هي مستقلّة بعضها عن بعض، ولكنها صارت قصيدة واحدة حين ضمَّت آ 15 كقول نبويّ مع أنها ليست كذلك. في آ 18- 20، يتكلّم يهوه وافرائيم مع أن صورة افرائيم لا تقابل المتكلّم في آ 15، ولا الأنثى التي يوجّه إليها الكلام في آ 16- 17. إن الحداد في آ 15 يجد جواباً في آ 16- 17، وما قيل في آ 16- 17 يجد جوابه في آ 20 بفم الله. في آ 15- 17، الأنثى هي التي تتكلّم، تلك التي يوجّه إليها الكلام. في آ 18- 20 الابن هو الذي يتكلّم ويوجّه إليه الكلام. والرباط بين الآتين تدوينيّ لأن كل عنصر يختلف عن الآخر في شيء ما. بكاء راحيل في آ 15 هو يأس امرأة حزنت على غياب بنيها "لأنهم زالوا من الوجود". والجواب الإلهي في آ 16- 17، يرتبط بالبكاء، ولكنه يتطرّق إلى عودة الأبناء من المنفى. بينما تتطرّق آ 15 إلى موت أبناء الأم. فقدت أولادها، لهذا، فهي لا تتعزّى. ولكن هذا اليأس سيتحوّل إلى رجاء في المستقبل. ووضعُ القطعتين الواحدة بجانب الأخرى يحوّل معنى آ 15. في آ 18- 19 تحدّث الشعب كرجل يبكي على شبّانه، فأجاب الروث وكأنه أم تحرّكت أحشاؤها في آ 20. إن الصور في آ 18- 20 اختلفت عن تلك التي نجدها في آ 15- 17. هناك شرّاح ضمّوا إلى هذه القطعة آ 21- 22، ولكن المتكلّم تبدّل، كما تبدّل الشخص الذي يوجَّه إليه الكلام واختلف أيضًا موقف الله.
في آ 21- 22، ما زال الكلام يوجَّه إلى الجماعة. ولكن تبدّل المتكلّم كما تبدّلت الصورة. فصورة افرائيم (الذي هو رجل في آ 18- 20) صارت صورة امرأة (عذراء اسرائيل). واحتفظ الله بدوره الوالدي. طُلب من المنفيّين المشتتين أن يستعدّوا للعودة إلى أرضهم "فيعلّمون" طريقهم (يجعلون معالم) في الصحراء لئلاّ يضلّوا. والمرأة التي يوجَّه إليها الكلام ليست صورة الأمم كما في آ 15- 17، بل الشعب في المنفى. يصوَّرون وكأنهم يدورون دون أن يجدوا طريقهم على مثال آبائهم في البرية، لأنهم لا يعرفون أن يرجعوا أو هم لا يريدون.
نستطيع القول إن مجموعة القصائد التي بدأت ببداية ف 30 انتهت هنا في 31: 22. وقد أضيف إليها خمس وحدات تتوسّع في موضوع العودة (آ 23- 26، 27- 30، 31 - 34- 35- 37، 38-. 4). كل هذا يرتبط بأقوال خاصة (آ 23، 26، 29، 34) ومواضيع تشير إلى المستقبل الذي ينتظر الشعب في أرضه. وأولى هذه الوحدات (آ 23- 26) تشير إلى عودة جبل الهيكل ساعة يعيد الله شعبه. فحين يتمّ البناء العظيم تستطيع الجماعة أن تنال حقاً بركة الله، في تضامن بين الفلاّحين والرعاة. هذا هو حلم النبيّ وحلم الجماعة بأن يكون لها السلام والازدهار في الأرض مع حضور الربّ.
والوحدة الثانية (آ 27- 30) تقدّم أول الرجاءات الثلاثة الآتية (آ 27، آ 31، آ 38، وستأتي أيام). نحن في تعارض مع ما حصل في الماضي من فراغ. فالآن سيعود السكّان إلى يهوذا واسرائيل، سيزرعهم الربّ من جديد كما تُزرع الأرض. والوحدة الثالثة (آ 31- 34) تقدّم الرجاء الثاني (وستأتي أيام) الذي هو عهد جديد بعد أن نقض الآباء عهد سيناء. والوحدة الرابعة (آ 35- 37) هي قصيدة تمتدح الله الذي يحافظ على نسله محافظته على الشمس والقمر والكواكب. والوحدة الخامسة والأخيرة (آ 38- 40) هي ثالث رجاء (ستأتي أيام) حول إعادة بناء مدينة الله أورشليم. هي تتوسعّ ولن يهدّدها أحد. وستعرف الازدهار بسبب حماية الربّ لها (أش 4: 5- 6).
د- الخلاصة
أولاً: كتاب التعزية
اكتشفنا في قلب إر كتاب التعزية الذي يقدّم تعليم الرجاء لشعب إسرائيل. فالظروف المأساوية التي حفت بالشعب والبلاد، جعلت "الناشر" يضع هنا أقوال الخلاص بعد أن أعاد قراءتها كمّلها على ضوء الأوضاع الجديدة. ولكن يُطرح سؤال: ما علاقة هذه الأقوال بكرازة النبي إرميا؟
نستطيع أن نكتشف في ف 30- 31 سلسلة أقوال خلاص توجّهت إلى مملكة اسرائيل، إلى مملكة الشمال، التي ذهبت إلى المنفى يوم دمّر الاشوريون السامرة سنة 722/ 721. وما يميّز هذه الأقوال هو أنها توجّهت إلى جماعة اسمها افرائيم، اسرائيل. في الواقع، يجب أن نستعمل هذا المقياس مع مقاييس أخرى. فإن أش 40- 55 يستعمل مراراً المثنى "يعقوب اسرائيل" (أش 8:41، 14؛ 43: 1). غير أن معظم الشرّاحِ يعتبرون أن إر 30: 12- 15، 23- 24؛ 31: 2- 6، 15- 20، يشكّل أقوالاً ارميائية. أي إن إرميا هو الذي تفوّه بها، وإن أعيدت قراءتها فيما بعد.
وإذا بحثنا عن التاريخ الذي فيه استشفّ إرميا خلاصاً قريباً لمملكة اسرائيل (في الشمال)، فلا يمكن أن يكون إلاّ في أيام الملك يوشيا، الذي حاول أن يعيد بناء المملكة الداودية كما في الماضي، مستفيداً من ضعف القوّة الأشورية. تحقّق هذا الأمل تحققاً بسيطاً، فكانت أقوال إرميا التي أدخِلت مع أقوال أخرى ني مجموعة ستغتني شيئاً فشيئاً. وتوسّع "الناشر" في منظور إرميا، فطبّق أقواله على يهوذا كمّلها بمواعيد تدلّ على انتظارات مملكة يهوذا. مثلاً، نقرأ 8:30 حيث الخلاص يتمّ بعودة ملك داودي على رأس الشعب العائد من المنفى (ق حز 23:34). وأعلن أيضاً الخلاصُ ليهوذا في 31: 23، 26، فضُمّ إلى خلاص اسرائيل في 30: 3- 4 (الماسوري)، وفي 33: 14- 17 الذي هو نصّ يستعيد 23: 5- 6 بعد أن يستعيد قراءته. ففي النهاية، أورشليم هي التي تنال اسم "الربّ صدقنا" (رج حز 48: 35).
ثانياً: عودة الشعب وإعادة بنائه
إن بعض أقوال الخلاص التي توسّع فيها ف 30- 31، يُنسب إلى السنوات الأولى في كرازة إرميا. هذا هو وضع 30: 1- 15 الذي يصوّر الوضعَ الديني في مملكة اسرائيل: نحن أمام شعب قد جُرح، فلا يستطيع أحد أن يشفي له جرحه، بل لا يهتمّ به أحد، بعد أن تركه محبّوه (3: 1؛ رج هو 7:2، 9، 12). إن كانت اسرائيل قد وجدت نفسها في هذه الحالة، فلأن الشعب ترك إلهه. غير أن هذا الوضع سوف يتبدّل، لأن الله سيكون الطبيب الذي يشفي الجراح (30: 17). إنه الإله الذي يتدخل.
وترك القول النبويّ في 31: 2- 6 موضوع الانسان الجريح، فتطلعّ إلى إعادة بناء اسرائيل متخيّلاً الشعب وهو يعيش خبرته الأصليّة. أحاطت به رحمة الله كما أحاطت به في البرية. فسار نحو راحته، واكتشف حبّ الله له. وتتوالى الصور لكي تصف عودة الشعب وإعادة بنائه: صورة البناء، صورة الأعراس... والموضع الذي يتحقق فيه هذا الخلاص قد أشير إليه بوضوح: جبال السامرة وجبل أفرائيم (آ 5- 6).
أما القول في 15:31- 20 فيعبّر عن شكوى راحيل، أم (وجدّة) قبيلتي يوسف (منسى وافرائيم) وبنيامين (تك 22:30- 24 ؛ 16:35- 17). عبر هذه الصورة النسائيّة، دلّ النبيّ على وضع مملكة اسرائيل، مملكة الشمال. وبعد آ 16، حرّك الأمل بعودة أبناء راحيل إلى أرضهم، ولاسيمّا افرائيم الذي اعرف بخطيئته وبدأ مسيرةَ التوبة. وينتهي القول الإلهي بصورة عن حبّ الله الذي يفيض حناناً من أجل افرائيم (رج هو 11: 1-3).
ونضمّ إلى القول السابق (31: 15- 20) الذي ينتهي بعبارة "يقول الربّ" (ن أ م. ي هـ و هـ)، التي ترد مراراً في إر، آ 21- 22، لأن القولين يستعيدان موضوعاً مركزياً هو موضوع العودة. فعلى المنفيين أن يسلكوا ذات الطريق التي سلكوها ليذهبوا إلى المنفى (آ 21). أخذ النبيّ بأسلوب المراثي. فدعا اسرائيل إلى طلب الربّ والسير في الاتجاه الصحيح. وعبارة "فتاة متمرّدة" (أو: بنت مرتدّة) لا يمكن أن تدلّ إلاّ على مملكة الشمال كما في 6:3- 13 حيث تُوصف مملكة اسرائيل بالمتمرّدة ومملكة يهوذا بالخائنة. فتجاه موقف اسرائيل التي لا يؤمَّن لها، تحدّثت آ 22 ب عن عمل الله في ألفاظ لم نتعوّد عليها. ما سيخلقه الله تعبّر عنه جملة تبقى ملغزة بالنسبة إلينا: امرأة تحيط بالذكر نحن في عالم الجنس مع ولادة عجيبة. نحن نفهم هذه الولادة بشكل رمزيّ كجواب يُعطى لراحيل. فالأم التي كانت تبكي أولادها ستلد اسرائيل الجديد. ودعوة المنفيّين إلى أرضهم تُقابَل بفعل زواج تصدر عنه ولادة غير متوقّعة. فوحده عمل الله يجعل مثل هذه الولادة ممكنة.
ويُقابل 31: 21- 22 مع 30: 6: "هل يحبل الرجل ويلد؟ فماذا أرى كل رجل يداه على وسطه كالتي تلد"؟ نحن نرى في هذا النصّ عالم الولادة، الذي يصف بشكل رمزيّ ضيق يعقوب (7:30)، وهو ضيق لا تستطيع النسوة فيه أن يلدن. وإن أراد الرجال أن يحلّوا محلّهن، كانوا كمن يحاول المستحيل. أما في 31: 22، فقد انقلبت الصورة، وصار الخلاص ممكناً بواسطة المرأة التي تلد شعباً جديداً.
ثالثاً: وجاء عهد جديد
بعد أن قرأنا 31: 15- 22، يجب أن نقرأ أكثر نصّ معروف في إر، وفيه يُعلَن عهدٌ جديد (31: 31- 34). وقد تكون آ 15- 22 ارتبطت بما في آ 31- 34 في مرحلة أولى، بواسطة لفظة "جديد" (ح د ش هـ) (31: 21، 31). فإن 31: 23- 26 الذي يعني عودة يهوذا، يمكن أن يُعتبر إضافة جعلها المدوّن الذي أحسّ أن الأقوال السابقة تشير فقط إلى مملكة اسرائيل: إن آ 29- 30 (= حز 18: 2) تمثّلان أيضاً إضافة متأخّرة تفرض نصّ حزقيال. وقدّمت آ 27- 28 وعداً بالعودة إلى الأرض، عودة اسرائيل وعودة يهوذا، بفضل عمل الله. نجد في بداية هاتين الآيتين (كما في 31: 31) عبارة "ها تأتي أيام" فتدلّ على عمل تدوينيّ يتوخى ربط أقوال قيلت في حقبات مختلفة.
ويبدأ 31: 31- 34 بتأكيد يُعلن فيه الله أنه يقطع عهداً جديداً مع بيت اسرائيل وبيت يهوذا. إن عبارة "وبيت يهوذا" هي تفصيل أضافه ذاك الذي أضاف آ 27- 28، لأنه اعتبر أن لفظة "اسرائيل " تدلّ فقط على مملكة الشمال، وهذا ما يستبعد يهوذا من الوعد الذي يعلنه النصّ. وبهد إشارة هامّة إلى الطابع المتأخّر لهذا التفصيل في مقابلة آ 31 مع آ 33 التي لا تتكلّم إلاّ عن "بيت اسرائيل". في الواقع، وقبل المنفى، دلّت لفظة "اسرائيل" على الشعب بقبائله الاثنتي عشرة، التي عقد الله معها عهداً. فإن نظر النبيّ إلى عهد جديد، فالذي ينعم به هو اسرائيل كله كشعب يمتدّ من دان إلى بز سبع. من هذا القبيل، لا يمكن أن يكون سياق المقطع سياق 15:31 الذي يشير فقط إلى مملكة اسرائيل، مملكة الشمال.
حدّدت آ 32 موقع العهد الجديد الموعود به، بالنسبة إلى عهد آخر أُلغي، هو العهد الذي قُطع مع الآباء خلال الخروج من مصر هذا العهد هو ذلك الذي اتخذ فيه الله المبادرة، فقطعه على الجبل، وتضمّن شريعة أعطاها الله بالذات. هذا العهد القديم قد نقضه بنو اسرائيل (في آ 32 ب نجد ضمير الغائب الجمع، هم. لا نعرف من يعني "هم"). هذا العهد هو عهد الله، "عهدي"، يقول الربّ. فكيف ينقضه بنو اسرائيل؟ غير أن النصّ لا يتحدّث عن الطريقة التي بها نُقض هذا العهد (نقرأ في نهاية آ 32: ظهرت بعلاً لهم). هذا يعني أن الربّ يبقى السيّد في اسرائيل. إن اختيار فعل "ب ع ل ت ي" (أي صنع كما يصنع بعل) يدلّ على هجوم على مملكة الشمال التي تعلّقت بالبعل وحسبته إلهاً. إذن، خطيئة عبادة الأوثان تشكّل خطيئة الشعب بعد أن أقام في الأرض، وهكذا انقطع العهد بين الشعب والله.
بعد أن شجب النصّ نقض العهد، قدّمت آ 33 تفصيلاً حول جديد هذا العهد: أجعل شريعتي في ضمائرهم (ق ر ب م، صدر، عبّ، حرج)، وأكتبها على قلوبهم (ل ب م). لا تُلغى الشريعة كتعبير عن إرادة الله. بل تُكتب بيد الله على قلب الانسان. فتتيح تحوّلاً أساسياً في سلوك الانسان. دخلت الشريعة في حميميّة الانسان، ففرضت نفسها بنفسها. ويبقى الفرق شاسعاً بين هذا النصّ وبين تث 30: 10- 14 الذي يدعو إلى استبطان الشريعة (جعلها في باطن الانسان، في داخل الانسان). ففي إر 31: 33، يتلّقى قلبُ الانسان إمكانيّة جديدة يعطيها الله فتتيح لكل انسان أن يعبد الله ويكون له أميناً.
ويتواصل القول الإلهيّ، فيستعيد عبارة الانتماء المتبادل: الله إله الشعب، والشعب شعب الله: "أكون لهم إلهاً ويكونون لي شعباً". هذه العبارة ستتحقّق في كل ملئها في إطار العهد الجديد.
وتتوسّع آ 34 في نتيجة عمل الله: لم يعد التعليم ضرورياً، لأن معرفة الله تُعطى للجميع، من الصغير إلى الكبر. وهذه المعرفة هي جوهريّة في إر (8:2؛ 4: 22؛ 5: 4 - 5 ؛ 9: 2، 5، 23؛ 16:22؛ 24: 7؛ رج هو 2: 20؛ 4: 1، 6). وتنتهي هذه الآية بإعلان غفران الخطايا. وُضع هذا الاعلان هنا فكان له معناه. فمن جهة الانسان، ما يدلّ على أن غفران الخطايا قد مُنِح له، هو عطيّة العهد الجديد (هنا يقف النصّ). ولكن من جهة الله، يسبق الغفرانُ كل شيء، يسبق كل ما يريد أن يفعله الله لشعبه. فنحن لا نستطيع أن ننسى (رج 30: 12) أن خطيئة الشعب لا تُشفى. إذن، على الله أن يتدخل، لأن الشعب لا يقدر أن يقوم بالخطوة الأولى.
إن 31: 31- 34 قول يتمتع بأصالة كبيرة. لهذا استنتج بعض الشرّاح أنه ليس من أقوال إرميا. وهكذا كان الجدال. ولكن المهم هو أن نكتشف أن هذا القول يتلاقى بشكل إيجابي مع تشاؤم انتروبولوجي (على مستوى الانسان، الانسان مرتبط بالخطيئة ولا يستطيع أن يتخلّص منها) نكتشفه حين نقرأ أقوالاً يكشف فيها النبي قلب الانسان وما فيه من شرّ وخطيئة.
رابعاً: الأمل بالعودة
أعلن إرميا سياسة الخضوع لبابل، فاهتمّ قبل كل شيء بمواجهة وضع ملموس بعيشه سامعوه، سواء ظلّوا في يهوذا أو ذهبوا في طرق المنفى. لم يتكلّم إرميا أبداً عن العودة إلى أرض الآباء. وأقواله القديمة وحدها حول عودة بني اسرائيل (من مملكة الشمال)، تتيح لنا أن نؤسِّس أملاً للمنفيّين الذين تركوا أرضهم سنة 597 وسنة 587. ولكن لم يكن الأمر كذلك بالنسبة إلى تلاميذ النبي، الذين أحسوا نفوسهم مسؤولين عن انتشار "الدرج الارميائي" خلال المنفى وبعد العودة. فمان كان إرميا قد قاوم النبي حننيا (ف 28)، فبسبب حديث عن عودة قريبة للمنفيين الذين ذهبوا إلى بابل سنة 597. من أجل هذا، ظلّ الأمل بالعودة ظاهراً.
خلال "نشر" الدرج الإرميائي خلال المنفى وبعد المنفى، أعطيت أهميّة كبيرة للعودة إلى الأرض. وهذا ما يفترض التساؤل حول الزمن الذي يمتدّ فيه المنفى (ف 29). فمنذ بداية كتاب التعزية، تسجَّل هذا الرجاء كأساس لما سيحقّقه الله من أجل شعبه (3:35). وجاء قول آخر من أقوال إرميا (30: 10- 11) قريباً جداً من أقوال أشعيا الثاني. فظنّ الشرّاح أنه استلهم أقوال الخلاص التي أعلنها اشعيا الثاني، نبيُّ المنفى. فنلاحظ فيها بشكل خاص المثنى "يعقوب اسرائيل" وصفة "عبدي" التي تُعطى ليعقوب. في هذه الظروف تدلّ لفظة "اسرائيل" على الشعب كله، لا على مجموعة قبائل الشمال وحدها. ثم إن إرميا حين تكلّم عن اسرائيل الشمال، قد شدّد بالأحرى على التوبة (3: 12 ؛ 4: 1)، لا على العودة من المنفى.
وقدّم قول إر 31: 7- 9 هو أيضاً تقارباً مع أشعيا الثاني، ولا سيّما من جهة الألفاظ. ولكن إن كان هذا النبيّ يعتبر المنفيّين عمياناً (أش 42: 7، 16، 18)، فالإشارة إلى العميان والعرج لا ترد إلاّ في أش 35: 5- 6. في هذا النصّ الأخير، يشير الرجاء إلى عودة خارقة غير التي تحقّقت بشكل وضيع سنة 538. ونقول الشيء عينه عن إر 31: 10 - 14 الذي يتحدّث عن العودة من المنفى. يتحدّد موقعُه في ذات منظور القول السابق. وهكذا تبقى جذور الأمل حيّة، لأنها تتوق إلى أن تتحقّق بشكل جذريّ لم يعرفه العائدون من السبي على أثر قرار كورش

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM