الفصل السابع عشر: الجرّة المكسورة

الفصل السابع عشر
الجرّة المكسورة
19: 1- 30: 18
ويتتابع سفر إرميا. ينتقل من الخزّاف الذي هو حرّ في طينه كما سيقول بولس الرسول، إلى الجرّة التي يكسرها النبيّ بمشهد من الرجال الذين يرافقونه. ولكن هذه الفعلة الرمزيّة ستكلّف إرميا غالياً، فيشتكي إلى الله من جديد: خدعتني يا رب فانخدعت. صرت أضحوكة ليل نهار، وجميعُهم يستهزئون بي.

1- الكارثة آتية (19: 1- 15)
كما دعا الربّ إرميا ليذهب إلى الخزّاف، ها هو يدعوه ليأخذ جرّة يكسرها أمام الناس ليدلّ على أن الربّ يكسر شعبه أيضاً. من فعلة رمزيّة إلى فعلة رمزيّة، كان تأثير إرميا كبيرًا على أبناء يهوذا. وهذا ما سوف يكففه غالياً.
أ- قراءة النصّ
آ 1- هكذا قال الربّ. في اليونانيّة: حينئذ قال لي الربّ. في بعض المخطوطات "إ ل ي" (إليّ). أقحمت بهس: إرميا، فقرأت: "حينئذ قال الربّ لإرميا". رج آ 14. مثل هذه المقدّمة ضروريّة وإلا بدت القطعة بلاغاً لا تعليما. رج 13: 1. "اذهب وابتع جرّة خزّاف". لا حاجة إلى لفظة "خزّاف" (رج 18: 2) فألغتها بهس. وألغت السريانية: من فخّار. "من شيوخ الشعب وشيوخ الكهنة". لا نجد فعلاً في مس. في اليونانية: خذ (= ل ق ح). قرأت بهس: خذ معك بعض الشيوخ. هكذا بتوافق النصّ مع آ 10 (بمشهد من الرجال الذين مشوا معك). تحدّثت اليونانيّة عن "الكهنة" لا عن "كبار الكهنة" كما في النص الماسوري. رج 2 مل 19: 2 الذي هو في خطّ النصّ الماسوري: شيوخ الكهنة.
آ 2- "إلى وادي ابن هنوم". في اليونانية: "إلى مدفن بني بنيهم" = آ 6 حسب الماسوري. إن مزج الخبرين (عمل سحري مع الجرّة والتنديد بحرق الأولاد في النار) في ف 19 لا يُفهم إلاّ إذا فُصل الموضوعان (آ 1، 2 أ، 10، 11 أ، 14، 15. ثم آ 2 ب- 9، 11 ب- 13). كت: هـ. ح ر س وت. قر: هـ. ح ر س ي ت (كما في اليونانية). باب بقايا الفخّار (هناك تُرمى بقايا الفخّار). في مخطوطات نجد "هذه" بعد "الكلام". في اليوناني: (ناد هناك) بكل الكلام.
آ 3- رج 17: 20. وضعت اليونانية عبارة "ورجال يهوذا" بين "ملوك يهوذا" و "سكّان أورشليم". في الماسوري: "تطن". رج "ص ل ل" (هنا: ت ص ل ن هـ). رج 1 صم 3: 11؛ 2 مل 12:21.
آ 4- ألغت بهس "و" قبل "ملأوا" ووضعت نقطة بعد "آباؤهم". "ملوك يهوذا ملأوا...". الملوك ملأوا المكان بالدم الزكيّ لا الشعب وآباؤه. رج الحاشية في مز 106: 38. نقرأ "الشعب وآباؤه" في 16: 11، 13.
آ 5- رج 7: 31 حيث نجد "تافت" لا "بعل". "ب م وت" المشارف. قد نكون أمام المفرد مع "توفت" "لم آمر به". لا نجد هذا في 7: 31، ولا في اليونانيّة كما في الفاتيكاني والسينائي.
آ 6- القتل (هـ ر ج هـ). بل "القتلى" كما في السرياني والارامي. رج 7: 32.
آ 7- "فارغة" (ب ق ت ي). بدون فائدة. تلاعب على الألفاظ مع "ب ق ب ق "، الجرّة. ترذل الآلهة مخططات الجماعة التي تصبح بلا فائدة. آ 7 ب. رج 7: 33؛ 16: 4؛ 34: 20 ب (أكلاً لطير السماء وبهائم الأرض).
آ 8- رج 16:18؛ 17:49.
آ 9- لا نجد في اليونانيّة "طالبو نفوسهم". رج تث 53:28-57؛ لا 29:26؛ مز 10:5؛ مرا 2: 20؛ 10:4.
آ 11- لا نجد في اليونانية "ويدفنونهم في توفت لعدم موضع للدفن". رج 32:7 ب. يمثّل النص الماسوري مزجاً للخبرين.
آ 12- "وإلى سكانه". تلغيه بهس (يرد بعد يقول الربّ). قُرئت هذه الآية كما يلي: "هكذا أصنع لهذا الموضع، يقول الربّ، جاعلاً هذه المدينة مثل توفت". في الماسوري: ك. ت و ف ت. في اليونانية: مثل شيء سقط، مثل الخراب.
آ 13- الماسوري: كموضع توفت نجسة. في اليونانيّة: تكون موضع دمار بسبب نجاستها. رج عا 17:7. ويحدّد الماسوري "جميع البيوت" (لا يُفلت بيت واحد).
آ 14- "من توفت" (الماسوري). بهس: من الباب (م. هـ. ف ت ح، الفتحة): من فتحة الباب (م. ف ت ح. هـ. ش ع ر). ولكن هذا التبديل يفرض أن آ 14- 15 هما من العمل الأصلي، بينما هما ينتميان إلى العظة حول "أورشليم، توفت".
آ 15- كت: م ب ي. قر: م ب ي ا: جالب (سقطت الألف. م ب ي (إ). إل. الماسوري: "وعلى كل مدنها". ماذا تعني عبارة "أورشليم كل مدنها". في اليونانيّة: كل قراها (القرى المحيطة بها)، قد تدلّ اللفظة على مدن يهوذا أو ضواحي أورشليم.
ب- تفسير
آ 1- "من ذاك الذي يجبل الطين". حاشية أضافها العبري للتوضيح. خذ بعض شيوخ... أنت تختارهم.
آ 2- باب الفخّار. هذا الباب، شأنه شأن باب الوادي (2: 23) وباب الزبل (نح 3: 14، قد يكون هذا الباب الذي بقربه تُوضع بقايا الفخّار هو باب الزبل أو باب الدمن)، يصل إلى وادي ابن هنّوم. تمّت الفعلة الرمزيّة (المصوّرة في آ 10؛ رج 13: 1) تجاه هذا الوادي، فكرّر "الناشر" (مع بعض الاختلافات) أقوالاً سبق له وأوردها (7: 30 - 3:8) ضدّ هذا المكان الملعون.
آ 3- يُعلن شرّ كبير جداً سيدهش له الناس.
آ 4- تُذكر ذبائح الأطفال في توفت للإله بعل. هذا "لم آمر به" (حز 20: 25).
آ 6- ستأتي أيام قليلة... قريباً جداً. "ت ف ت". رج 7: 31 (مذبح).
آ 7- هذا ما حدث لأورشليم سنة 587: "أسقطهم بالسيف أمام أعدائهم".
آ 8- والمدينة تصبح خراباً، لا ساكن فيه (في العامية اللبنانية: تصوفر).
آ 9- أطعمهم لحم بنيهم. رج لا 29:26؛ 1 مل 29:6؛ حز 5: 10؛ با 3:2.
آ 10- بعد أن تكلّم النبي، قام بالفعلة النبويّة: كسرَ الجرّة. هكذا يكسر الربّ الشعبَ والمدينة (أش 30: 14؛ مرا 4: 2).
آ 13- ستصبح المدينة نجسة بسبب الموتى الذين سقطوا فيها. ستصبح مثل توفت، فلا يعودون يستطيعون أن يقدّموا فيها ذبائح، بعد أن صارت نجسة. والسبب: لأن سكان يهوذا "قترّوا على سطوحها لجند السماء وسكبوا سكباً لآلهة أخرى" (16:1؛ 29:32؛ 44: 17- 19). نلاحظ هنا عبادة الكواكب بتأثير من العالم الأشوري والبابلي المسيطر في يهوذا وأورشليم.
آ 14- وجاء إرميا من توفت (الموضع المنجَّس) إلى دار بيت الربّ. وأعلن العقاب: لم يسمعوا كلامي.
ج- دراسة عامّة
ويتواصل موضوع الخزّاف (الذي بدأ في 18: 1- 12) في 19: 1، محوّلاً صورة العامل على دولابه والطين في يده. في ف 18، شدّد النصّ على موقف الله من الأمم وعلى ندائه إلى شعبه. في ف 19، لن نتوقف عند الخراف، بل عند إناء صنعه الخزاف. إناء صُنع وطُبخ فلا يمكن أن يتغيّر، حين يستعيد الخزاف طينه ليصنع إناء آخر. لهذا، لن يبقى أمام الفخار في سوى أن بكسره ويرميه حيث تُرمى بقايا الفخّار. ربّما في وادي الزبل (آ 2).
ويترك النصّ عالم الفخّار، ويقدّم عظة عفا يحدث في توفت من ذبح الأولاد وحرقهم في النار إكراماً لبعل. كلهم ينتظرون العقاب: الملك والشعب وسكّان أورشليم. وجاءت العظة في لغة اشتراعيّة كما اعتدنا أن نرى في عدّة مقاطع ارميائيّة.
هنا يجب أن نميّز خبر الجرَة من العظة للشعب. ينحصر خبر الجرّة في آ 1- 2 أ، 10 - 11، مع تفسير في آ 14- 15. أخذ إرميا بعض الشيوخ كسر أمامهم الجرّة قائلاً: هكذا يكسر الله الشعب. كسرُ الجرّة يدلّ على كسر الشعب والمدينة. والأناء المكسور يبقى مكسوراً، لأن الطين المحروق لا يمكن أن يُجبل من جديد. هذا يعني استمراراً لدمار المدينة التي قد لا تقوم من تحت الرماد.
إن وجود العظة داخل الخبر (رج في انجيل مرقس الكلام عن دمار الهيكل بين لعن التينة ويباسها، مر 11: 12- 23) يدلّ على هدف "ناشر" الكاتب الذي جمع نصوصه في الرتيب الذي نراه اليوم. لا يُذكر إرميا في آ 1. ولكنه حاضر (رج آ 14). يستطيع أن يأمر الشيوخ فيطيعوه ويرافقوه في مهمّته كشهود لما سيفعل وما يقول. ليس هو ضحيّة مؤامرة الكهنة والحكماء (18:18)، بل ذاك الذي بأمر فيطيعونه ويتبعونه. قد يعارضه بعضهم (مثل فشحور 20: 1). ولكنه يأمر الشعب فيسمع له. ويظهر النبيّ في القسم الثاني كالنبيّ (20: 2) ويحدّد كلامه "نبوءة" (آ 14: 20: 1. لهذا يعارضونه). لهذا، فهو يبدو شخصاً له موقعه في الجماعة، ويجب أن يميَّز عن ذاك الوحيد المنعزل أو المختبئ في المدينة. وهكذا نجد في إر أكثر من صورة لهذا النبيّ العظيم.
إن خبر كسر الجرة حيث كانت تُرمى بقايا الفخّار، قد وجد توسّعاً في عظة ضدّ شعائر العبادة في الوادي. نحن في خط 7: 31- 32 حيث ندّد النبيّ بما يُصنع في توفت. هاجم النبيّ أول من هاجم، ملوك يهوذا، لأن هذه العبادة ارتبطت بهم منذ أحرق أحاز ابنه أمام الخطر الذي يهدّد أورشليم. هذه العظة هي مزيج من أقوال اشتراعيّة عرفها التقليد. غير أننا نجد صورة لم نتعوّد عليها هي أكل لحوم البشر (رج تث 53:28-57). خلال حصار المدينة الذي طال وطال، أكل الناس لحوم أولادهم وجيرانهم.

2- اعتقال إوميا وإطلاقه (20: 10- 18)
بعد أن اعتُقل إرميا وأطلق، قال كلاماً قاسياً كعادته. ثم عاد إلى الشكوى أمام الربّ.
أ- قراءة النصّ
آ 1- إمير. في السريانيّة: أمريا. بدل "الكاهن" تقرأ اليونانيّة في مخطوطات قليلة: النبيّ الكاذب. رج آ 6 (تنبّأت لهم بالزور). رج 26:29 في ما يتعلّق بوظائف ولاة الكهنة.
آ 2- الماسوري: وضرب فشحور إرميا النبيّ. في اليونانيّة: ضربه. ضربه أو أمر بضربه. إن غياب عبارة "إرميا النبي" من اليونانيّة، يدلّ على التبدّل بين النسخة الأولى (اليوناني) والنسخة الثانية (العبري)، لكي تبرز صورة إرميا كالنبيّ. "هـ م هـ ف ك ت"، المقطرة. رج 29: 26. قال الترجوم: السجن. الماسوري: بباب بنيامين. في اليوناني: في باب علّية أفرزت الاستعمال خاص). رج 37: 13 ؛ 2 مل 15: 35؛ 2 أخ 20: 5؛ حز 2:9 ؛ باب في الجهة الشماليّة، تجاه أرض بنيامين.
آ 3- "وفي الغد": غير موجود في اليونانية. "م ج ور. م س ب ي ب"، هول من كل جهة. رج 25:6؛ 20: 10؛ 5:46؛ 29:49؛ رج مز 14:31 ؛ مرا 22:2. في اليونانية: المنفى (غابت من كل جهة). إن العودة إلى فشحور ك "م ج ور" في آ 4 يدلّ على أن "م س ب ي ب" لم تكن جزءاً من الاسم بل توسعاً تدوينياً لتقليد بشبه استعمال ألفاظ 1: 10 عبر الكتاب. ربط اليوناني "م ج ور" مع "ج و ر"، أقام (جار)، لا "خاصم" أو "يبس". هناك من قال: ف ش ح. س ح ور (دمار من كل جانب): كل أصدقاء فشحور سيسقطون حوله. ألغت بهس "م س ب ي ب " كما فعلت اليونانيّة.
آ 4- "وأجعل كل يهوذا". في اليونانية: آخذك انت كل يهوذا.
آ 5- لا نجد في اليونانيّة "كل نفائسها... فينتهبونها ويأخذونها".
آ 6- لا نجد في اليونانيّة: "تذهب (إلى بابل) وهناك (تموت)".
آ 7- "كل واحد (ك ل هـ). في اليونانية: دوماً، باستمرار.
آ 8- "لأني كلّما تكلّمت فأنا أصيح". رج 27:48. في اليونانية: لأضحك بسبب كلامي المرّ. وموضوع الصياح هو العنف. الشدّة (أي 7:19).
آ 9- غابت في اليونانيّة لفظة "قلب". "حُبست" (في اليونانيّة: اشتعلتُ).
آ 10- الهول أحاط بي. رج آ 3. في اليونانية: (كثيرون) اجتمعوا حولي. الماسوري: أخبر واسمح لنا أن نخبر. في اليونانية: "اشتكوا فنشتكي عليه". الماسوري: "كل من أصحاب سلامي المراقبين سقوطي". رج مز 35: 015 المراقبين جانبي. رج مز 56: 7؛ 71: 10. رجل سلامي أي صديقي، المهتمّ بسلامتي، براحتي. رج 38: 22؛ عد 7 ؛ مز 41: 10. في اليونانية: كل أصدقائه. "سقوطي" في الماسوري صار في اليوناني: هدفه.
آ 11- "يسقط مضطهديّ ولا يقومون (يقدرون)". في اليونانيّة: يَضطهدون ولكنهم لا يقدرون.
آ 12- رج 11: 20 (ص دي ق، مقابل: صادق). اعتبرتها بهس إضافة هنا. "ج ل ي ت ي": كشفت. رج 33: 6. قرأت بهس: ج ل و ت ي.
آ 13- "ا ب ي ون"، المسكين. هي لفظة تدلّ على الأتقياء، على الأبرار. رج آ 12.
آ 16- "وهـ ي ه". (وهذا الرجل) يكون. في اليونانية: ليكن (ي هـ ي). بهس: هـ ي وم (هذا اليوم). رج آ 14 للنص الماسوري "هـ ا ي ش". المدن التي قلبها الربّ هي سدوم وعمورة. نقرأ في اليونانية: "في غضب" (ب أ ف) بعد "يهوه". "قلبَها الربُّ في غضب". الماسوري: وش مع. في السريانية: ليسمع (صيغة الأمر).
آ 17- "من الرحم" (م ر ح م) كما في آ 18. في اليونانية: في الرحم (ب. ر ح م).
ب- التفسير
آ 1- وسمع فشحور. نميّز هذا الرجل (هو إبن إميّر) عن ذاك المذكور في 21: 1 (رج 38: 1) والذي هو ابن ملكيا. أما فشحور المذكور هنا فهو "رئيس" بيت الربّ. رئيس القيّمين على بيت الربّ. قد تكون وظيفته مدنيّة، لا دينيّة، وإن يكن فشحور كاهناً. أما فشحور بن ملكيا فكان من العوام.
آ 2- في المقطرة، في القيود. أو علّقه برجليه. في أي حال، كان العقاب علنياً فرأى الناس النبيّ في هذه الحالة. باب بنيامين الذي يصل إلى الهيكل، غير باب بنيامين الذي يصل إلى المدينة. فهناك بابان (37: 13؛ 38: 7).
آ 3- ربط النبيّ اسم فشحور بالهول، بالرعب. هذا الرعب الذي يحلّ بالمدينة. ويذكر إرميا للمرة الأولى "ملك بابل". قد يكون إرميا أعلن للمرة الأولى هويّة العدوّ الآتي من الشمال (رج 6:4؛ 6: 1)، بعد معركة كركميش سنة 605 ق. م.
آ 5- ويتمّ السلب والنهب، ويؤخذ كلّ شيء إلى بابل. هذا الكاهن النبيّ الذي هو فشحور، قد أخِذ إلى بابل (على ما يبدو) سنة 597. ففي سنة 594 نجد مسؤولاً آخر عن الهيكل هو صفنيا بن معسيا الذي خلف الكاهن يوياداع (29: 25- 26).
آ 7- نجد في آ 7- 18 آخر عناصر "اعترافات" إرميا (رج 17: 12)، وهي قريبة ممّا في 15: 10- 21، مع شهادة أصيلة نقرأها في آ 7- 9 حول مأساة الخدمة النبويّة (رج 18:11). تصرّف النبيّ بحريّة كبيرة مع الله، فهاجمه واعتبر أنه احتال عليه وخدعه (آ 7- 8). ولكن ما الحيلة والنبيّ لا يقدر أن يقاوم. فكلمة الله فيه نار محرقة (آ 10؛ رج 5: 14؛ 23: 29؛ عا 8:3).
آ 8- سيطر الرب على النبيّ (مز 44: 14؛ مرا 3: 14). فهزئ الناس منه وهولا ينادي إلاّ بالعنف والقتل والدمار. والسبب هو كلمة الله: لو لم ترسل إليّ كلمة الله لكنتُ في راحة. هذا ما كاد النبيّ يقوله.
آ 9- أراد النبيّ أن بتخلّص من هذه الكلمة، ولكنها كالنار في داخله.
آ 10- سمع التهديد من كل جهة. حتى أصدقاؤه تخلّوا عنه وانتظروا سقوطه.
آ 11- ولكن أتُرى ترك الربُّ إرميا يتخبّط وحده في الصعوبات والمقاومات؟ هنا ينطلق فعل إيمان من قلب النبيّ: الربّ معي. عادة نسمع كلام الربّ: أنا معك. وهذا ما قاله لإرميا حين دعاه (1: 19). أما هنا فيفهم النبيّ أو يختبر أنّ الله بجانبه. أنه الأقوى وأن أعداءه يسقطون ولا يستطيعون أن يقوموا من عثرتهم.
آ 12- الله يعرف القلوب (الأفكار) والكلى (العواطف). ويعرف أن نبيّه بريء. أما خصومه فهم أشرار وهم يستحقون العقاب: فكل عمل شرّير يقابله عذاب "يرسله" الله (10: 25؛ 17: 12). نلاحظ أن إرميا لا يتدخل هو، بل يسلّم أمره إلى الله (11: 20؛ تث 32: 35؛ مز 37: 5). غير أنه يفرح إن أصاب العقابُ أعداءه. بل هو يتوسّل من أجل ذلك. في العهد الجديد، صلّى يسوع من أجل جلاّديه (لو 23: 34) لأنهم لا يعرفون ماذا يعملون. وفي خطاه سار اسطفانس (أع 7: 60). وكانت بداية "غفران" عند إرميا في 15: 11؛ 16:17.
آ 13- وبدأ نشيد الشكر (مز 96: 1؛ 148: 1)، لأن إرميا متأكّد من عدالة الله، بل من اهتمامه بالمساكين وتخليصهم من يد الأشرار. رج 15: 21؛ 17:39؛ مز 97: 10.
آ 14- رج أي 23:3. قد تكون آ 14- 18 (رج 15: 10) قد ألهمت أي 3: 1 ي: لماذا تُعطى الحياة للانسان؟ لماذا يهيَّأ الواحد بولادة ابن له؟ بل يجب أن يتعزّى. ما عاد إرميا يستطيع أن يتحمّل وضعَه، فتمنّى لو لم يولد. هذه وجهة من حياة إرميا. غير أن هناك وجهة أخرى نجدها في 15: 19- 21 حيث يفهم النبيّ أن الربّ معه وأن خصومه لن يقدروا عليه مهما فعلوا.
آ 15- كان من يبشّر الوالد بولد، ينال هديّة. أما هنا فينال اللعنة والدمار لأن من بشّر ذاك الإنسانُ بولادته، كان رجلَ آلام وعذاب.
آ 17- ويعود إرميا إلى الربّ: لماذا لم يقتله وهو في الحشا؟ لو فعل لكان الآن في راحة. رد أي 3: 10- 11، 20
ج- دراسة عامّة
في آ 1 يصوَّر نشاطُ إرميا كنبيّ. في آ 2 يتحدّث النصّ عنه كالنبي. هذان هما النصّان الأولان في التقليد حيث يُذكر نشاط إرميا (رج 1: 4- 10 الذي هو نصّ تدوينيّ متأخّر). هو نبيّ يعمل في الهيكل، حيث يرسله الله ليحدّث الشعب والمدينة بكلام الدمار (3:19- 9)، أو التحذير (7: 3- 7؛ 22: 1- 5). فرض على الكهنة وسائر الرؤساء احترامه، فتنبّهوا إلى كلامه ورافقوه كشهود (19: 1 ؛ 26: 16، 24؛ 35: 2). في هذه الظروف نكتشف شخصاً هو نبيّ وكاهن معاً (1: 1- 2): يتحرّك بأمر الله (13: 1، 4؛ 19: 1- 2). ويعارض في الوقت عينه الكهنة الكذبة والأنبياء الكذبة (آ 6؛ 29: 24 - 32). وفي سياق كلامنا عن إرميا كنبيّ نكتشف صراعه مع الأفراد (آ 1- 6؛ ف 28 – 29).
إن القول على فشحور (آ 1- 6) يتكوّن من عنصرين: تبديل الاسم، وسبي كل ما له على يد ملك بابل. إن تبديل الاسم يُعطي وجهاً شخصياً للحكم على أورشليم ويهوذا. سيكون فشحور، الذي هو سبب عذاب إرميا، مناسبة لدمار أصدقائه. لم يعد اسمه فشحور (يرافقه العنف في مرا 3: 11، مزّقني إرباً) بل "م ج و ر"، الهول والرعب. لم يعد ذاك الذي يفرض العذاب على الآخرين، بل ذاك الذي يقاسي العذاب مع أصدقائه (آ 4). لا يُسمَّى خصومه فقط الهول، بل أصدقاؤه أيضاً.
وما يحدث لفشحور سيحدث للمدينة. سيُقتل هو، وتسقط المدينة (والأرض) في يد البابليين، ويُجلى سكان أورشليم ويهوذا ويُذبحون. ويُسلب غنى أورشليم. وهكذا، حين ذكر إرميا ملك بابل، تميّز كنبيّ حقيقيّ (27:36- 31) تجاه الأنبياء الكذبة الذين أعلنوا السلام وما من سلام.
في آ 7- 13، وبعد تبادل الكلام بين إرميا وفشحور، نجد شكوى يرفعها النبيّ إلى الله وكلام الثقة والتسليم (آ 7- 10، 11- 13). إن القصيدة في آ 7- 10 هي صرخة الذلّ والألم النبي يوجّهها النبيّ إلى الله بسبب حالة الاضطهاد التي يعيشها. في هذا الظرف (رج 12: 1- 2؛ 18:15 ؛ 17:17)، بدا الله جزءًا من المسألة، بعد أن خيّب أملَ المتكلّم باسمه، أضعفه وجعله أُضحوكة للناس. فإن تكلّم النبيّ أو لم يتكلّم فحالته هي هي من العذاب (آ 8- 9). إن هو تكلّم صاح: الويل والدمار. وإن هو لم يتكلّم أحسّ بنار في داخله. عندئذ تتدبّر المؤامرة من كل جهة حتّى من الأصدقاء أنفسهم.
في آ 10، نجد صورة الجمع (فاعلي السوء، آ 13) الذي يتآمر على النبيّ، ويراقب سقوطه، ويعتبر هزيمته انتقاماً من ذاك الذي لا يتكلّم إلاّ بالشرّ على أورشليم وعلى يهوذا. ونتيجة تشكي المتكلّم تظهر في آ 011 الله هو الجبّار، وهو مع النبيّ. لهذا سيعثر مضطهدوه ولا يقومون، ولا يقوون عليه. وسيكون العار الدائم (23: 40؛ رج 25:3 ؛ 51: 51) نصيب الذين اضطهدوه. والنتيجة الثانية هي كلام حميم يماهي بين هذا المتشكّي وصراع الأبرار والأشرار، وهو صراع ينجّي فيه الله المسكين (مز 107: 41؛ 132: 15) من سلطة الأشرار (مز 9: 18؛ 12: 5؛ 40: 17؛ 70: 1 ي).
وتنتهي هذه المجموعة (18: 1- 18:20) بصراخ يأس مفاجئ (آ 14- 18). يتمنّى النبيّ أن لا يكون وُلد، ويلعن يوم ولادته، كما يلعن الرجل الذي أعلن هذه الولادة لوالده. فلو لم يُولد لما كانت حصلت هذه الأمور. يا ليت حشا أمه كان قبراً له، بعد أن صارت حياته شقاء وعذاباً (13:8 أ). إن أيامه تفنى في العار. يتكلّم إرميا باسم نفسه فيجد كلامه صدى في سفر أيوب. ويتكلّم باصم مدينة أورشليم ولاسيّمّا في آ 16. وهكذا تكون حياة النبيّ وآلامه صورة مصغّرة عمّا سيحدث لمدينته المحبوبة، أورشليم

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM