الفصل الخامس عشر: بصيص العودة والشفاء

الفصل الخامس عشر
بصيص العودة والشفاء
16: 14- 17: 27

في إطار التقليد الاشتراعي، حلّ اليأس في القلوب. لا مجال لرحمة الله تجاه الذين عبدوا آلهة أخرى وتركوا الله الحيّ. اذن، سيذهبون إلى السبي. والذين ماتوا، لن يجدوا من يدفنهم، فيأكلهم طير السماء وبهائم البرية. ومع ذلك، فالعقاب ليس الكلمة الأخيرة. ونحن نرى هنا بصيصاً من الأمل، من أجل العودة والشفاء. سيسمعون: "حيّ الربّ الذي أخرج بني اسرائيل من أرض الشمال".

1- حيّ الربّ (14:16- 21)
فهم الشعب في المنفى أن آلهة الأصنام لها عيون ولا ترى وآذان ولا تسمع. وأن يهوه وحده هو الإله الحيّ، الذي عاقب شعبه فشتّتهم، وها هو الآن بعيدهم إلى أرضهم. هو وحده يستطيع أن يفعل.
أ- قراءة النصّ
آ 14- آ 14- 15= 23: 7- 8. في الماسوري: لا يقال فيها من بعد. في اليونانية (مع 7:23): لا يقولون (صيغة الجمع).
آ 15- في الماسوري: بنو اسرائيل. في اليونانية: بيت اسرائيل (كما في 23: 8، إن اليوناني قد جعل 23: 7- 8 أَلماسوري في نهاية 23: 40). "دحرهم" (صيغة الغائب). في السريانية، صيغة المتكلّم: أدحرهم (كما في 8:23).
آ 16- "و. دي ج و م" (كت). قر: د ي ج ي م (رج "د ج"، السمك): صيّادين. ويقابل ذلك: قنّاصين (ص ي دي م. صيّادين). رج أش 8:19 حيث نجد قر، وحز 10:47 حيث نجد كت.
آ 17- "ليست بمستترة". عبارة غائبة من اليونانيّة.
آ 18- "أجزيهم أولاً ضعف إثمهم ". هناك من ترجم، أجعلهم يدفعون ملء الدفع عن الشرّ الذي صنعوه. لا نجد "أولاً" في اليونانية. قد يكون الماسوري أضاف اللفظة بحيث يسبق العقاب المضاعف الوعد بالعودة في آ 14- 15. "ضعف". رج أش 40: 2؛ 7:61
آ 19- يرى بعضهم في آ 19- 21 نثراً. أما بهس فرأت فيها شعراً وطبعتها كذلك.
ب- التفسير
آ 14- بعد التهديد بالمنفى (آ 13: أقذفكم من هذه الأرض)، أدرج الناشر هنا مواعيد العودة التي نقرأها مع اختلافات طفيفة في 23: 7- 8. "تأتي أيام". هي عبارة الرجاء. وتُذكر العودة من مصر.
آ 15- تتقابل مع العودة من الشمال. ويقول أشعيا: ستتفوّق العودة الثانية على العودة الأولى. الربّ هو الذي شتّت، والرب هو الذي يعيد. أما الآلهة فلا تستطيع أن تفعل شراً ولا خيراً.
آ 16- ولكن الخطأة لن يسلموا. فلا موضع لعبّاد الأوثان في أرض الربّ. غير أن الله لن يفعل، بل يترك مرسليه يفعلون. هنا نجد القنّاص والصيّاد، أو بالأحرى من يصطاد في البحر (د ج، سمك) ومن يصطاد في البرّ (ص ي د). نتذكّر هنا صورة الشبكة، مثلاً في حب 1: 14- 15.
آ 17- يبدو الله كقائد جيش لا يُخفى عنه شيء (11: 20 ؛ سي 17: 15، 19- 20؛ 23: 19- 21). قد يعمل بيده كما في حز 12: 13؛ 17: 20؛ 29: 4؛ 9:32؛ أي 6:19، وقد يرسل "البابليين" مثلاً. وهذا ما فعل.
آ 18- ظنّ الشعب أنه ينجو من العقاب الإلهي. ولكن قبل الصورة، هناك عقاب على خطيئتين: تركوا الربّ (وراحوا وراء الالهة)، وما حفظوا وصاياه. نلاحظ تسمية الأصنام بشكل محقّر: م ل ل (دنس، عار، رجسا)، "ش ق و ص"، ما يقارب الزبل، "ت وع ب هـ": ما هو ممقوت. رج 27:13؛ 2 مل 13:23؛ أش 44: 19؛ نا 3: 6. هذه الأصنام قد نجّست أرض الربّ (لا 18: 24- 30؛ حز 18:36؛ رج لا 26: 30).
آ 19- ولن تتوقف العودة على بني اسرائيل (آ 14- 15)، بل تصل إلى الأمم التي ترفع صلاتها إلى الله تاركة آلهتها. فيعرّفهم الربّ باسمه. في 3: 10 عرفنا أن الأمم تأتي إلى أورشليم لأجل اسم الربّ. أنها لن تبقى على إصرار قلبها، فتصبح عبرة ليهوذا واسرائيل. عندئذ تصل البشريّة معاً إلى الربّ، كما الحجّاج الصاعدون إلى الهيكل. رج أش 19: 23 - 25. ترك الوثنيون ما تعلّق به آباؤهم، تركوا الباطل والكذب (23:3؛ 10: 8). فتى سيتبعهم شعب يهوذا؟
آ 20- شرح أول: كيف يصنعون آلهة ممّا ليس بآلهة؟ الإله هو حاضر هنا. ونحن لا نصنعه. فإن صنعناه ليس بإله. فالإله هو الذي يصنع البشر لا العكس. شرح ثان: هل البشر آلهة ليصنعوا بدورهم آلهة؟ هنا نكون في خط الميتولوجيا الوثنيّة حيث يؤلَّه الأبطال. لقد قدّم الوثنيون أنفسهم برهاناً عقلياً على بطلان عبادتهم. سوف نجد مثله في حك 16:15-17.
آ 21- طلب الوثنيون أن يعرفوا الله، فيتجاوب الله معهم (23:9؛ 35:31 ؛ حز 13:5): "فيعلمون أن اسمي الربّ".
ج- دراسة عامّة
إن قوّة آ 13 مع رفض الله بأن يعطي رحمته، احتاج ما يوازن هذه القساوة بكلمة من أجل مستقبل الشعب. هذا ما نجده في آ 14- 15 (= 7:23- 8) اللتين تقطعان مسيرة الأقوال حول دمار الشعب. إن إدراج أقوال الرجاء بعد أقوال الدينونة هي سمة "ناشري" الأقوال النبويّة (رج تث 29: 22- 28 الذي تبعه تث 30: 1- 5). أجل، ورغم العقاب، ستكون عودة من المنفى بعد أيام قليلة.
ونموذج هذه العودة هو الخروج من مصر فكا خرجوا من مصر (أش 51: 9- 11) سيعودون من الشمال. فالخروج هو الذي يكفل العودة. والذي فعل مرّة أولى يفعل مرّة ثانية. كانوا يحلفون بالرب الذي أخرجهم من مصر (حيّ الربّ). فسيحلفون بذاك الذي جاء بهم من الشمال. عُوقب الشعب سنة 587 بسبب خطيئته وخطيئة آبائه، أما الآن فهم سيعودون إلى أرضهم، إلى الأرض التي أعطاها الله لآبائهم. وهكذا يجد التاريخ كمالَه مع نشيد الخلاص في 7:23- 8.
في آ 16- 18، نعود إلى كلام العقاب. ولكن الله لا يفعل هذه المرّة بيده، بل يرسل "القنّاصين والصيّادين" حنى إلى شقوق الصخور. هذا يعني أن عدداً من الناس هربوا إلى الجبال والمغاور قبل أن يتسلّق البابليون أسوار المدينة. ولكن جيش العدو لاحقهم كما لاحق صدقيا في سل أريحا واقتاده إلى ملك بابل في ربلة (2 مل 25: 4- 7).
وفي نهاية ف 16 (آ 19- 21) نقرأ نشيداً حول الأمم التي عادت إلى الربّ، واعترفت بكذب آلهة آبائها وبطلانها (ش ق ر، هـ ب ل). يستحيل على البشر (أدم) أن يصنعوا من اللا آلهة آلهة. هذا ما أقرّوا به في صلاة "وثنيّة" تحاول أن تقترب من الله وترفض الآلهة. نحن هنا في حقبة متأخّرة تطلّعت إلى وقت فيه تطلب الأمم الله (17:3؛ 16:12؛ عا 12:9؛ أش 2:2-4؛ زك 16:14-19).

2- ويل لمن يتكل على البشر (17: 1- 11)
ويعود "الناشر" أيضاً إلى خطيئة يهوذا، قبل أن يفهم خيبة أمل شعبه بعد أن تعلّقوا بالآلهة. حينئذ يأخذ لهجة تثنية الاشتراع ليعلن: "ملعون من يتوكّل على الانسان ويجعل البشر سنداً له".
أ- قراءة النصّ
آ 1- لا نجد آ 1- 4 في اليونانية. فقد جُعلت في 12:15- 14 مع بعض الاختلافات. "مذابحكم". في الترجمات: "مذابحهم". رج آ 2.
آ 2- "ك زك ور. ب ن ي هـ م"، حين يُذكر بنوهم. هناك من بقول: "كذكرانة (علامة تذكّر) عليهم". ويقول آخرون: "تشهد عليهم"، ويجعلون العبارة في نهاية آ 1. وما تبقّى من آ 2 يعتبر مادة ثانويّة.
آ 3- "جبلي في البرية". رج 27:13. تيودوسيون: جبالي (صيغة الجمع). تقرأ بهس: "جبال..."، وتعتبر الجملة جزءاً من آ 2. رج 13:15- 14.
آ 4- في الماسوري: "وش م ط ت هـ. و ب ك": تخسر وبك. هناك عبارة: خسر يده (تث 15: 3). لهذا يقرأون "ي د ك" (يدك) بدل "و ب ك" (بهس): تخسر ملك (يدك في) ميراثك.
آ 5- "هكذا تكلّم الربّ ". عبارة لا نجدها في اليونانيّة. هذه المقدّمة التدوينية التي نجدها في النصّ الماسوري، تحوّل القصيدة إلى قول إلهي، فلا تعود مثلاً تقابل عدداً من المواقف.
آ 6- "ك. ع رع ر": كشجرة، كالأثل. هناك جدال حول نوع هذه الشجرة. لا شك في أنّا نجد هنا تشديداً على رنّة الحروف. "أرور" (ملعون) و"ع روع ر" (48: 6). تدلّ اللفظة على شجرة معرّاة لأنها في الصحراء، وهي تقابل أشجاراً زُرعت على المياه فأخضرّت أوراقها (آ 8). رج "ع رع ر" في مز 102: 18. نجد في الماسوري: "إرص. م ل ح هـ" أرض الملح. رج تث 29: 22؛ قض 9: 45؛ صف 2: 9 (عقاب أو لعنة).
آ 7- هناك من يرى في آ 7 ب (يكون الربّ معتمده) تكراراً. نجد فعل "ب ط ح " (توكّل) في شطرَي الشعر.
آ 8- رج مز 1: 3. كت: ي ر ا (الماضي). قر: ي ر ا هـ (المضارع). لا يرى. رج آ 6: لا يخاف (بهس).
آ 9- "ع ق ب". رج 9: 3 (خدع). في اليونانية: عميق (باتايا= ع م و ق). "أن ش". لا يُشفى. هناك جرح لا يُشفى (18:15 ؛ 12:30، 15). وهناك من قال: يوم الدمار (17: 16). أو "مرض عضال". في اليونانية: والانسان (ا ن ش: أنس في العربية). نقرأ: "القلب عميق فوق (أعمق من) كل شيء، وهو الانسان، فمن يعرفه "؟
آ 10- "ب ح ن. ك ل ي وت": يمتحن الكلى. أي الشعور والعواطف. رج 11: 20 أ؛ 20: 12 أ. وقبل ذلك نقرأ: أفحص القلوب، أي الأفكار وإرادة الانسان. آ 10 ب (فأجزي الانسان...)= 32: 19 ب. كت: ك درك و(حسب طريقه، المفرد). قر: ك درك ي و (حسب طرقه، الجمع).
آ 11- "الحجلة" (ق ر ا) تجمع (تحضن) ما لم تلد. رج اليونانيّة (سيناغاغان) والاراميّة (د ج ر. ترجوم تك 31: 46). وهناك تقليد يرى الحجل يجمع بيض غيره. نقرأ في اليونانيّة: يرفع الحجل صوته (فعل ق ر ا الذي يعني قرأ، تلا). كت: ي م و (يومه، المفرد). قر: ي م ي و (أيامه، الجمع).
ب- التفسير
آ 1- رجع الخطأة، فرجع الربّ إليهم. رجع الوثنيون وتنكروا لآلهة آبائهم، فعزفهم الربّ باسمه. أما الخطأة المتصلّبون، فما يكون مصيرهم؟ يعرّيهم الربّ كما تعرّي الريحُ الشجر من أوراقها. يتحدّث النصّ هنا عن خطيئة يهوذا التي هي في أعماق القلب (22:2؛ 7:6). هي متجذّرة ولا شيء يقتلعها. على "قرون المذابح" (خر 2:27، أقدس موضع). وما يدلّ عليها كثرة الأماكن الأصناميّة (= عبادة الأوثان) (آ 2- 3 ؛ رج 1: 27؛ 11: 13). فإذا أراد الربّ أن يجدّد العهد، يجب أن يذهب إلى هذه الأعماق، أن يبدّلها (31: 33؛ رج حز 36: 25- 27).
آ 2- مذابحهم قريبون منهم (أو: عديدون) مثل بنيهم. وهم لا يتخلّون عنها مهما كلّف الأمر. ويذكر النص الأوتاد المكرّسة، والأشجار الخضراء مع الماء، ومشارف المدن. كل هذا سيصبح في الإصلاح الاشتراعي عبادة أصنام وتعلّقاً بآلهة أخرى.
آ 3- كل غنى هذا الجبل المقدس، جبل أورشليم، سيُسلم للسلب والنهب. وسكّانه يستعبدون (تث 48:28).
آ 5- ما زلنا في موضوع الطمأنينات الصادقة والطمأنينات الكاذبة (2: 18؛ أش 30: 15؛ 31: 1- 3). ويصبح الموضوع عاماً فيلتقي بموضوع الطريقين (تث 30: 15- 20؛ مز 1: 1 ي ؛ أم 18:4- 19). في آ 5- 6، نجد الانسان الذي يستند إلى البشر ويميل عن الربّ. تكون إمكانيّاته إمكانيّات بشر لا أكثر (2 أخ 8:32). يشبه شجرة في الصحراء. (آ 6). لا ورق عليها ولا خضرة. لا ماء في الأرض التي جملها الملح (مز 13:34؛ أي 20: 17 ؛ 6:39).
آ 7- هنا نجد الانسان الذي يستند إلى الله (مز 18: 19؛ 34: 9؛ 13:84؛ أم 16: 20؛ سي 15:34). هو مغروس على المياه: لا يخاف الحرّ، أوراقه خضراء (حز 47: 12)، لا يخاف الجفاف، يُثمر دوماً.
آ 9- نجد في آ 9- 10 ملحقاً أول بعد صورة الانسان المتكلّ على البشر وذاك المتكّل على الله. يتحدّث النصّ عن القلب الخبيث: من يستطيع أن يعرفه؟ ويأتي الجواب: الربّ يعرف الأفكار والعواطف، ويجازي كل واحد حسب أعماله (32: 19؛ حز 30:18؛ هو 3:12).
آ 11- ونقرأ ملحقاً ثانياً هو في الواقع مثَل عن الحجل (يحضن ما لم يبض)، يطبّق على الانسان الذي جمع ماله بالحرام (مز 39: 7؛ 55: 24؛ أم 28: 8). سيموت شاباً ويترك ماله. وإن هو شاخ، اقتصر نظره على ما يرى ويحسّ به، لا على ما بقول الربّ.
ج- دراسة عامّة
نجد في آ 1- 4 قولاً حول عبادة الأصنام، يتركز على خطيئة يهوذا، التي هي ارتباط بطقوس الخصب وعبادة الطبيعة المخلوقة (2: 20، 23، 27 ؛ 6:3، 13، 23؛ 27:13). نقرأ هنا حكماً على مثل هذه الممارسات، مع ارتباط بطرد الشعب من أرضه ليُستعبَد للأعداء في أرض غريبة (رج 13:16). على مثل هذه العبادات الاضافيّة اتّقد غضب الله وما زال. الشكل الأصلي لهذا القول هو آ 1 مع طقوس الخصب في آ 2 التي أضيفت إلى النصّ الماسوري. وارتبطت آ 1- 2 بهجوم اشتراعي على عبادة الأوثان كما في 10:16-13، 18. لقد حُفرت خطيئةُ يهوذا في القلوب وعلى المذابح، وهي لا تُمحى. حُفرت بشكل عميق جداً، حُفرت بالحديد والماس لتحمي الشعب كما يحميها دمُ الذبائح الذي يُرشق على قرون المذبح (خر 29: 12 ؛ 30: 10؛ لا 4: 25، 34؛ 18:16). نشير إلى أن قرن المذبح يعني حماية الانسان من الخطر (1 مل 1: 55- 51؛ 2: 28).
سيُسلب غنى الشعب بسبب هذا. ستأتي القوى المعادية (أو هي أتت). ولكن بما أن غضب الربّ ما زال مشتعلاً كالنار، فعلى يهوذا أن يخاف حتى بعد العودة من المنفى.
في آ 5- 8 نجد أقوالاً حكميّة تقابل الأشرار والأبرار، مع ملحقين في آ 9- 10 وآ 11. ما يميّز البار ليس في أن يكون من شعب الله (وعكس الشرير). ما يميّز البار هو سلوكه وأعماله. هناك الانسان الملعون الذي جعل ثقته بالبشر فخاب أمله. وهناك الانسان المبارك الذي جعل ثقته بالرب فصار كشجرة على مجاري المياه. أما الملعون فيُشبه شجرة تعيش في أرض قاحلة، في أرض مالحة. لا يمكنها أن تختبر الخير والسعادة.
في آ 9- 15 نقرأ الملحق الأول حول الانسان. لا يمكن أن نفهمه. وحده الربّ يتفحّص قلبه ومشاعره ويدينه بحسب أعماله. أجل، مجازاة الله وحدها تقول لنا إن كان الانسان "ملعونا" أو "مباركا". ولكن الخوف يأتي من نظرة بشريّة تنطلق من مصائب تحصل للانسان فنحسبه خاطئاً. أما هكذا تصرّف الأصدقاء مع أيوب مع أن الكتاب شدّد منذ البداية على برارة رجل الله؟
في آ 11 نقرأ الملحق الثاني الذي يقابل الحجل الذي يجمع بيض غيره ليحضنه، بالانسان الذي جمع ماله بالحرام. فصير هذا وذاك هو أن يخسرا ما جمعا. وطبيعة الممتلكات العابرة تجعل مقتنيها جاهلاً وبليداً. وفي النهاية نعود أيضاً إلى الانسان "الملعون" والانسان "المبارك" مع التشديد على الشخص الأول الذي سيخسر كل ما جمعه.

3- يا عرش المجد السنيّ (17: 12- 27)
نجد في هذا المقطع صلاة يتلوها إرميا (آ 12- 18)، ثم كلاماً عن السبت الذي هو يوم مكرّس للرب (آ 19-27).
أ- قراءة النصّ
آ 12- "اروم"، ارتفاع، علوّ. في اليونانية: الرفيع، المعظّم (رج بهس). لا نجد في اليونانية "منذ الأول"، ولا "مقرّ". ما نجد في اليونانية: "عرش مجد رفيع معبدنا".
آ 13- "منتظر اسرائيل"، رجاء اسرائيل. رج 14: 8 أ. كت: ي س وري (ينصرفون في الأرض). قر: ينصرفون عنك (يا رب). "يُكتبون في الأرض" أي يُوضعون في لائحة الموتى (في العالم السفلي). أو "يُقطعون من الأرض". "تركوا ينبوع...". رج 13:2.
آ 14- "انت تسبحتي". بس: رجائي.
آ 16- "لم اعزل عن كوني راعياً (م رع هـ) وراءك" (الماسوري). في اليونانية: "ما تعبتُ لكي أتبعك". السريانية "من الشر". قرأت بهس: للشر (رع)، رج 15: 11. أيكون إرميا قد صار "راعياً" أي مسؤولاً؟ "و. ي و م. أن وش"، يوم المعضلة (لا شفاء فيه). في اليونانية: يوم الانسان. بهس: عرفتَ ما جاء من شفتيّ.
آ 18- "وبتدميرين دمّرهم". لماذا؟ لأنهم تركوا الربّ (آ 13)، ولأنهم هزئوا بكلمة الله (آ 15) فبدا هزؤهم تجديفاً.
آ 19- "قال لي". في اليونانية غابت "لي". نجد فقط: قال. "بباب بني الشعب". في اليونانية: شعبك. اين يقع هذا الباب؟ هناك من قال باب بنيامين حسب 17:37؛ 38: 7. ولكن كيف نربط آ 19 بهذين المرجعين. وقالوا: باب الشعب هو باب العوام (لا الكهنة ولا اللاويين). رج 2 أخ35: 5، 12- 13.
آ 23- نجد في اليونانيّة "أكثر من آبائهم" بعد "قسوّا رقابهم". رج 26:7. كت: ش وم ع. قر: ش م وع (لم يسمعوا).
آ 24- "ب هـ" (كت) أو "ب و" (قر): غير موجود في اليونانيّة (حتى لا تعملوا "فيه"). السبت هو مؤنّث ومذكر، لهذا نستطيع أن نستعمل كت أو قر.
آ 25- "وش ري م"، والرؤساء. هم لا يستطيعون أن يجلسوا على عرش داود. قد نكون أمام حرت كُتب مرتين. رج 26:2 (الرؤساء ورجال يهوذا).
آ 26- "يحملون ذبيحة شكر إلى بيت الربّ". رج 33: 11.
آ 27- "وتدخلوا به من أبواب أورشليم". أقحمت بهس "ب و" (به) بعد "و ب و" الذي سقط.
ب- التفسير
آ 12- عرش الله هو أورشليم. رد17:3 ؛ رؤ 19:11.
آ 13- "جميع الذين يتركونك". رج 13:2؛ 5: 19 ؛ 50: 7؛ مز 36: 10؛ با 3: 12. كأنهم يتركون ينبوع الماء الحيّ. ينتظرهم اليباس والموت. نجد هنا عبارة قاطعة: "الذين يبتعدون عنك يهلكون". حرفيا: يُكتبون (في سجل) الأرض، في مثوى الأموات الذي يقع في قلب الأرض (يون 7:2).
آ 14- نبدأ هنا جزءاً آخر من "الاعترافات" (رج 11: 18). هذا المقطع (آ 14- 18)، شأنه شأن 18:18- 23، يكشف تعاقب العواطف المتضاربة التي تمزّق نفس إرميا. فالنبيّ الذي تعب من إعلان العقاب بدون انقطاع (آ 16؛ 17:15- 18؛ 18: 20؛ 20: 9، 14- 18 ؛ رج 8:20)، هو مستعدٌ لكي يتقبّل تفاؤل سائر الأنبياء (4: 10؛ 14: 17؛ 28: 6)، ومتألّم لآلام شعبه الحاضرة والمقبلة (18:8- 22 ؛ 17:13 ؛ 17:14). لهذا وصلت به الأمور بعد أن تعب من هزء المستهزئين ومؤامرات الأشرار (آ 15 ؛ 18:11- 19؛ 15: 10؛ 18:18؛ 7:25- 8، 10)، إلى أن يتمنّى أن تتحقّق بسرعة تهديدات الله (15: 15)، أن يخزى أعداؤه (يحلّ جهم الشقاء (18: 21- 23)، لأنهم أعداء شعبه (0 1: 25)، أن يفنى الأشرار (3:12). ينطلق هذا التمنيّ (وهذا الانتظار) من تسليمه ذاته إلى يدي الربّ (11: 20؛ 20: 11- 13)، من إيمانه بقدرة الله الخلاصيّة (آ 13- 14 ؛ 12: 14). وأخيراً، هو يكتشف في أعماقه فرحاً يصله من حياته الحميمة مع الربّ (16:15). نجد في آ 14 ثقة كبيرة بالرب. يكفي أن يقرّر الرب شفاء نبيّه حتى يُشْفى. انت موضوع تهليلي وفخري (ت هـ ل ت ي). أُشفى فأسبّحك.
آ 15- ولكن شكك المشكّكون: تكلّم الربّ فلم تتحقّق كلمته! ماذا تنتظر هذه الكلمة (أش 5: 19)؟
آ 16- واعترف النبيّ بأنه ما تمنى الشرّ (18: 20؛ رج 15: 11). بل ترك الربّ يفعل.
آ 17- وطلب النبيّ أن يجد ملجأ له لدى الربّ.
آ 18- وليأت الشرّ على الأعداء. رج 18:16. نلاحظ أن النبيّ يسلّم أمره إلى الربّ، كما يسلّمه أعداءه. ما صرنا بعدُ على مستوى الانجيل حتّى مع نبيّ مثل إرميا، مع محبّة الاعداء وصلاة للمضطهدين.
آ 19- نجد هنا حديثاً عن السبت (خر 23:16؛ 20: 8- 11) كيوم مكرّس للرب. رج نح 13: 15- 22. هذا هو المقطع الوحيد في إر، الذي يتكلّم عن السبت فيدلّ على عقليّة كهنوتيّة نجدها مثلاً في حز 20: 20؛ 26:22؛ 24:44، رج أش 56: 2- 6؛ 13:58. "باب بني الشعب". الذي يمرّ فيه الشعب، أي الباب الذي يمرّ فيه أكثر عدد من الناس. وبعد ذلك الباب، يمرّ النبيّ بسائر الأبواب، وهكذا يسمع الجميعُ كلمة الله.
آ 21- جاء الأمر كما في الشريعة: لا تحملوا حملاً يوم السبت. لا تعملوا عملاً. قدّسوا يوم السبت. أي اعتبروه يوماً مقدّساً، يوماً مكرّساً للربّ.
آ 23- هذا الأمر أعطي للآباء، ولكنهم لم يسمعوا (3:5 ؛ 19: 15؛ صف 3: 2). وهكذا يعود النبيّ إلى الآباء الذين نحتمل نتيجةَ عدم سماعهم لكلام الله. فهناك المثل: "الآباء أكلوا الحصرم، وأسنان البنين ضرست". غير أن إرميا سيرفض هذا القول المأثور. ومثله سيفعل حزقيال. لهذا كانت الأضافة: وأنتم أيضاً ما سمعتم كلام الربّ.
آ 24- وبدا الربّ وكأنه نسي ما فعله الآباء. فَتوخه إلى الأبناء الذين يحدّثهم النبي: إن حفظتم السبت، تُسكن أورشليم إلى الأبد، أي لا تدمَّر ولا تفرَّغ من سكانها. نحن هنا بعد المنفى. وكلام النبيّ (أو تلاميذه) هو تحذير إلى العائدين من السبي والمقيمين في المدينة مع ما في هذه الإقامة من خطر
آ 26- عندئذ يأتي الجميع إلى بيت الربّ، كما يفعلون الآن، ويقدّمون المحرقات والذبائح...
آ 27- وإن لم تسمعوا، أُضرم النار في أورشليم. هذا ما حدث حين جاء البابليون، وهذا ما يمكن أن يحدث الآن.
ج- دراسة عامّة
في آيتين (آ 12- 13) يمكن أن تكونا منفصلتين، نجد قولاً يقابل أولئك المتّكلين على الله، وأولئك الذين تركوه. يوافق هذا التعارض سياق آ 5- 11، ولكنه يرتبط بينبوع عباديّ أكثر منه بالحكة. هناك كلام عن الهيكل (أش 60: 13)، عرش الله منذ الابتداء (مز 93: 2). والكلام عن "الأعالي " يشير إلى جبل الهيكل (أو أرض اسرائيل، حز 20: 40). في الهيكل يُعبد الله كرجاء اسرائيل (8:14). هذه هي العبادة الحقّة تجاه خطيئة يهوذا (آ 1- 4) على الجبال وقرب الأشجار الخضراء. الرفيع حقاً هو جبل الهيكل، لا المشارف بعباداتها الوثنيّة.
ما يربط آ 12- 13 مع آ 11 هو فعل "عزب"، ترك: الأحمق يترك غناه. والذين يتركون الربّ يهلكون، "يكتبون في الأرض" (يوضعون في التراب بعد أن ماتوا). إن التشديد على الذين تركوا الربّ تجاه الذين رأوا فيه منتظر اسرائيل، يجعل من آ 12- 13 مقدّمة لتشكي الأبرار من الأشرار في آ 14- 18.
بعد ملاحظات عامّة في آ 5- 13، نجد تشكياً فردياً في آ 14- 18. إن عداوة المقاومين هي مناسبة هذا التشكّي. يدعو المتكلّم الله من أجل الشفاء والخلاص، فيسبّح اسمه ويهلّل له. في ضوء آ 12- 13، يبدو المتكلّم في آ 14، شخصاً ارتبط بالربّ وسلّم إليه أمره. قد تكون آ 15 تعبيراً عن خلاف إرميا مع الأنبياء الكذبة. وفي آ 16 يعلن النبيّ أنه بريء (3:12 أ)، فيدافع عن نفسه. ويقرّ في آ 17 بأن الله ملجأه، ويُبعد عنه الرعب. فالربّ ينبوع رعب حتى للأبرار.
ما نقرأ في آ 19- 27 ليس جواباً على تشكّي النبي (الذي يمثّل جماعة الأبرار تجاه الأشرار)، بل عظة حول السبت. قلبُ العظة حفظُ السبت (لا نحمل حملاً، لا نعمل عملاً) في حياة الجماعة. أُمر الآباء بحفظ السبت المقدّس، ولكنهم رفضوا التعليم. لا يقال شيء عن نتيجة عصيانهم لوصيّة الربّ. ولكن الواعظ يدعو الجماعة كي تؤسّس المستقبل على مراعاة يوم السبت. وتُوضع أمامها طريقان: إن حفظت السبت تصبح المدينة مركز عرش داود، ويأتي الناس إليها فيقدّمون ذبائحهم في الهيكل. وإن لم تحفظ، تحرق قصورها ولا تنطفئ

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM