الفصل الرابع عشر: النبيّ إرميا وعزلته

الفصل الرابع عشر
النبيّ إرميا وعزلته
15: 10- 16: 13

وندخل أيضاً في "اعترافات إرميا". كأني بالرب يدعوه مرّة ثانية. أو هو النبيّ بدأ يتراخى، فجدّد الربّ له النداء. وأعطاه القوّة. ولكن النبيّ وحده! وسيظلّ وحده دون أن يخاف، لأن الربّ جعله سوراً من نحاس: يحاربونه ولا يقدرون عليه.

1- الربّ يثبّت نبيّه (15: 10- 21)
اشتكى إرميا إلى الربّ، لأنه لا يقدر أن يشتكي إلى أحد من البشر فقال له الربّ: "أنا معك" فكفت هذه الكلمة النبيّ، ليقوم من جديد ويتابع الجهاد.
أ- قراءة النصّ
آ 10- "ك ي" أن (لأنك ولدتني). في اليونانية: التي. في الماسوري: انسان خصام. زاد سيماك وبعض المخطوطات "ونزاع"، كما في اليونانيّة. الماسوري: كله. بهس: كلهم (يلعنونني). قالت اليونانيّة: "ضعفت قوّتي" (بين الذين يلعنوني). بهس جعلت "ك ي" أمام "كلهم يلعنونني".
آ 11- قال الربّ. في اليونانية: آمين (ليكن هكذا)، يا سيّد (دسبوتا). كت: "ش روت ك". قر: "ش ري ت ك". في اليونانية: ازدهار، هناؤهم (رخ أ ش ر في العبرية: هنيئاً). قرأت بهس: "خدمتك" (بنيّة صالحة). هناك من تحدّث عن "العدو" (ش ر ر) أو عاد إلى الإراميّة (ش ر ر): ثبت.
آ 12- يعتبر الشرّاح أن آ 12- 14 قد أقحمت هنا. رج 17: 1- 4. نقرأ في الماسوري: "هل يحطّم الحديد حديد الشمال والنحاس"؟ في اليونانيّة: "هل يُعرف الحديد؟ ولكن قوّتك نحاس يُغطيّ".
آ 13- ترى بهس في آ 13- 14 إضافة جاءت من 3:17-4.
آ 14- في الماسوري: "أجعل (أعداءك) يمرّون". في 17: 4 (في عدد المخطوطات): "أجعلك تخدم" (أعداءك). الماسوري: "في أرض (أش ر، التي، 17: 4) لا تعرفها". في الماسوري: تتّقد عليكم. في 17: 4: تتّقد إلى الأبد.
آ 15- ينقص في اليوناني "عرفتني". نقلت بهس الجملة إلى نهاية آ 11. نقرأ في الماسوري: لا تأخذ. غير موجود في اليونانيّ. فنقرأ: "وانتقم لي من مضطهديّ".
آ 16- "كلماتك وُجدت فأكلتها فصارت". في اليونانية: "من الذين يحتقرون كلماتك. أفنهم فيكون". كت: كلماتك (صيغة الجمع). قر: كلمتك (صيغة المفرد).
آ 17- "و إ ع ل ز، (لا) ابتهج". في اليونانية: احترزت (بسبب قوتك). في الماسوري: ز ع م، (امتلأ) غضباً. في اليونانية: مرارة.
آ 18- "صارت كآبتي (ك ا ب ي) مستديمة". في اليونانية: الذين احزنوني سيطروا عليّ. "تأبى الشفاء". في اليونانيّة: فكيف أُشفى؟ "صارت كنهر كاذب". هي صورة وادي يعرف المطر في الشتاء، ولكنه يجفّ في الصيف (أي 15:6- 20).
آ 19- تلاعب النصّ على فعل "ش و ب" (رجع، عاد، تاب). إن رجعتَ أرجعك (أو: أثيبك).
آ 20- "سور من نحاس". رج 1: 18 (أسوار من نحاس).
ب- التفسير
آ 10- عادة تُهنأ الأمم التي ولدت شخصاً عظيما. أما هنا، فابنها يحمل الويل إليها (20: 14). ويشدّد النبيّ أن الخلاف مع الناس لا يرتكز على المال. لا هو أقرض ولا هو استقرض.
آ 11- تكلّم النبيّ فأجابه الربّ: السعادة أمامك. والعدوّ يرجع إليك متوسلاً. هذا رأي. وهناك آراء.
آ 12- هنا يتداخل النبي والمدينة. فالنبيّ يكون كالحديد والنحاس (آ 20). أو: هل يستطيع أن يقاوم شعباً قاسياً كالحديد والنحاس؟ وقد يكون الربّ يعلن العقاب القاسي الآتي من الشمال (رج 4: 6؛ 6: 1).
آ 13- ويعلن الربّ عقاب المدينة (أو بالأحرى هذا ما حدث لها): يُنهب الغنى والكنوز (19:6؛ 16:14). يُستعبد الشعب، تُحرق المدينة (17: 4 ؛ تث 22:32 ؛ مز 9:18). لا بيد الأعداء، بل بغضب الله.
آ 15- أنت تعرف. وهكذا نعود إلى حوار إرميا مع الربّ وقد بدأ في آ 10. "أفتقدني". رج 9: 8 حيث الافتقاد يعني العقاب كما يعني المجازاة الحسنة. "لا تأخذهم بطول حلمك". أي أسرع وعاقِبْهم بعد أن عيّروني فاحتملتُ من أجلك التعيير (مز 8:69). أو: خذني بحلمك ولو غاب صبري ضدّ أعدائي، ولو طالبتُ بعقابهم سريعاً.
آ 16- وجدتُ كلماتك. تلك التي قالها له الربّ. وتلك التي وجدها في الأسفار المقدسة (مز 19: 9، 11؛ 119: 111، 131). "دُعيت باسمك" (7: 10؛ 14: 9). أن صرتُ أخصّك
آ 17- تحدّث النبيّ عن عزلته. فتفكيره غير تفكير الذين من حوله.
آ 18- بدا الله متقلّباً في نظر النبيّ، كالمياه في وادي فلسطين: تكثر في الشتاء، تجفّ في الصيف.
آ 19- ويأتي جواب الربّ بعد تشكّي النبي لكي يشجّعه ويقول له إنه معه، وإن لا أحد يقدر عليه.
آ 21- وترد في آ 20 وآ 21 "هـ و ش ي ع" (خلّص)، "هـ ص ل ت ي ك" (أنقذ)، "ف د ت ي ك" (افتدى).
ج- دراسة عامّة
يتألّف 15: 10- 21 من ثلاث وحدات (آ 10- 14، 15- 18، 19- 21). وتبدأ مع آ 10- 14. هناك اختلاف في التفسير. كما أن هناك اختلافاً بين العبري واليوناني، فنجد نفوسنا أمام تقليدين. إن وجود آ 10- 14 بعد 15: 5- 9 يعود إلى توارد أفكار مع لفظة "أم" في آ 8- 9 و آ 10. ترخه الرثاء إلى أم المتكلّم في إطار من الألم والحداد. قد يكون رثاء جماعيّ وأورشليم هي أمّ. هذا رأي. وهناك رأي آخر يعود إلى أمّ إرميا فيربط آ 10 مع 11: 21-23؛ 12: 6.
في آ 15- 18، يتابع النبيّ مرثاة بدأها في آ 10 مع عبارات تتحدّث عن الألم والاضطهاد واحتجاج يقول بأنه بريء. وهكذا قسم العالم بين بريء يشتكي وجماعة الأشرار (رج مز 26: 1- 6)، بين أمانة المتكلّم وعداوة الذين لا يهمّهم الله. وسبب الاضطهاد هو تعلّق إرميا بالله (لأجلك، آ 15 ؛ رج مز 44: 22)، ولهذا السبب يذكر النبي الربّ بوضعه، ويدعوه ليأخذه بحلمه ويكون قاسياً على مضطهديه.
إن الاحتجاج على مستوى البراءة برد في آ 17، حيث يتجنب النبي مجلس المازحين (19:30؛ 31: 4)، الذين لا يفكرون بشيء سوى بالحياة اليوميّة، ولا يتطلّعون إلى ما يريده الله. وتجنّبُ الأشرار هو علامة الرجل البار (مز 1: 1)، مع أن الاشارة إلى "الضاحكين" (م ث ح ق ي م) لا تتضمّن صفة الهزء أو الشرّ. إذا كانت آ 15- 16 تقدّمان صورة مضطهَد بيد أناس لا يؤمنون بالله، فإن آ 17- 18 تقولان لنا إن هذا المضطهَد هو ضحيّة قدرة الله وغضبه. وهكذا نكون أمام وجهتين في إطار واحد (مثل خبر أيوب وبراهين أصدقائه). ألم المتكلّم لا يُشفى (رج 17: 9، 16؛ 30: 12). وهذا العذاب المستمرّ جعله يطرح سؤالاً حول تصرّف الله. إذا كان البار يتألّم بهذا القدر، والأشرار ينجحون (رج 12: 1- 3)، فيا لخيبة الأمل من مثل هذا الاله؟
ويظهر الجواب على هذا الرثاء في آ 19- 21، فيؤكد للنبي النجاةَ من قوّة الأشرار في إطار فعل "ش و ب"، رجع، تاب. حين يعود حقاً إلى الربّ، يعود إليه الأشرار. لها يجتذبهم إليه، ليس شخصه البشر في ولا قوّته الخاصة، بل حضور ذاك الذي يمثّل وقوّته، أي الله. ذاك كان الوضع بين موسى وفرعون: لم تكن قوّة موسى من عصا رافقته حين كان يرعى غنم حميّه يترو، بل من ذاك الذي يمثّله ويعمل باسمه. صارت العصا عصا الله، ويد موسى امتداداً ليد الله. هذا يعني أن رجل الله يتعلّق بالله وحده ويترك الأساليب البشرية. ويثق كل الثقة بذاك الذي يعمل باسمه. فإن هو خاف، نقص ايمانُه وما عاد يستطيع أن يفعل ما يُطلب منه. فيغرق في "البحر" كما غرق بطرس لولا أن الربّ مدّ إليه يده.
إن الموضوع المركزي في آ 10- 21 هو الصراع بين الأبرار والأشرار، وهو موضوع رئيسيّ في المزامير (مز 3، 4، 5، 6، 7، 9، 10، 11، 12، 13، 22، 43، 44). غير أنه موضوع عام بحيث لا يتيح لنا أن نقدّم تفسيراً عميقاً عن تعليم إرميا. قد يمثّل الصراعَ داخل الجماعة بين الأبرار والأشرار في القرن السادس ق. م، أو معارضة الأمم ليهوذا، أو الحرب بين المجموعات النبويّة، أو خبرة إرميا.

2- جلس النبيّ منفرداً (16: 1- 13)
قال إرميا في 17:15: "فرضت عليّ يدكَ، فجلست منفرداً". تلك هي الصورة التي تُرسم مراراً عن النبي. هو وحده تجاه الآخرين. كلهم يقولون سلام، سلام، ووحده يرى الحرب وما سوف تفعله في البلاد وفي العباد. امتلأ من غضب الله، فما كان باستطاعته أن يسكت، ولهذا عاداه الجميع وسوف يحاولون قتله.
أ- قراءة النصّ
آ 1- لا نجد هذه الآية (هي مقدّمة تدوينية) في النص اليوناني الذي يبدأ مع آ 2: "لا تتّخذ لك امرأة".
آ 2- نقرأ في اليونانيّة بعد المنع من اتخاذ امرأة: "قال الربّ إله اسرائيل".
آ 4- آ 4 ب= 7: 33.
آ 5- "ب ي ت. م رزح" بيت الحداد. في اليونانية: في رفقة المعيّدين. رج عا 7:6.
آ 6- "يدفنون". الكلام يتوخه إلى الذين ما زالوا أحياء. "يندبون". جعلت الترجمات الجمع توافقاً مع ما سبق.
آ 7- الماسوري: لا يكسرون لهم (ل هـ م). بعض المخطوطات اليونانية: لا يكسرون خبزا (ل ح م، الهاء قريبة من الحاء في العبرية).
آ 9- رج 7: 34.
آ 13- "نهاراً وليلاً". هي عبارة لا نجدها في اليونانية. في الماسوريّ: لا أهبكم (أنا الربّ) رحمة. في اليونانية: (إن آلهة الأمم الغريبة) لا يهبونكم رحمة.
ب- التفسير
آ 1- إن كلمة الله تبدو وكأنها رفيقة حيّة لإرميا. هو لا يتصرّف بدون إشارة منها.
آ 2- سيعيش إرميا وحيداً فريداً منعزلاً: لا امرأة، لا بنون، لا بنات (حز 24: 16).
آ 4- فالبنون والبنات والامّهات سيموتون جوعاً، حسب التفاسير اليهودية (رج 18:14). هناك من قال: بالجوع. أو بسبب الضعف. لن يكون هناك من يدفنهم (2:8؛ 14: 16)، بل يكونون أكلاً لطير السماء (12: 9؛ 19: 7 ؛ مز 79: 2-3). وهذا منتهى العقاب الذي يحلّ بالافراد والجماعات.
آ 5- لا تدخل بيت الحداد (والنواح والندب). فلو دخل لدلّ يملى أن الربّ يرضى عن هؤلاء الناس.
لا سلام بعد لهذا الشعب (عد 26:6، ولا خير؛ رج إر 13:14). ترك الشعب العهد، فلم يعُد من مكان للأمانة (أو المحبة أو الرأفة) والرحمة. الله هو إله الأمانة (3:31؛ 33 : 1) والرحمة (خر 34: 6). تخلّى عنه "المتعاقدون" معه، فتخلّى عنهم. غاب، فلم يعد من مكان للسلام ولا للخير.
آ 6- يموت الجميع (رج 47: 5 ؛ 14: 1، لا ندب، لا خدوش؛ حز 23:24). نحن حقاً في عالم الحرب والاجتياح الأخير للمدينة.
آ 8- لا يدخل النبيّ مع أي جماعة، لا جماعة النائحين، ولا جماعة الولائم والفرح والطرب (25: 10؛ أش 24: 8). فكل هذا سيزول. وهكذا تبدو الصورة: أورشليم ضُربت والني يرثيها.
آ 10- يسلّم الله إلى النبيّ كلامه، فيسلّمه النبيّ بدوره إلى الشعب. وبما أن كل كارثة هي نتيجة الخطيئة، يسأل الناس: ما أثمنا؟ ما خطيئتنا؟
آ 11- هناك أولاً خطيئة الآباء: تركوا الربّ وعبدوا الآلهة. لم يحفظوا شريعة الربّ.
آ 12- وهناك ثانياً خطيئة الأبناء: لم يسمعوا، عاندوا، وما زالوا على عنادهم.
آ 13- أحبّ الشعب هذه الآلهة، فسيرسلهم الله إليهم علّهم يجدون رحمة لم يجدوها عند الربّ الإله. نلاحظ هنا أسلوب السخرية. حتّى بعد المنفى، لم يفهم الشعب بعد، وهو يتطلعّ إلى بابل، كما تطلعّ آباؤهم إلى مصر وبصلها ولحمها وسمكها.
ج- دراسة عامّة
نجد في آ 1- 21 عدّة قطع حول دمار الجماعة بسبب العبادات الوثنيّة، وقد دُوِّنت في جوّ اشتراعي. إنّ ارتباط آ 1- 9 بما سبق يجد ما يبرّره في لفظة "أم" التي نقرأها في 8:15- 9، 10؛ 3:16. إن اتساع الموت في الأرض سيكون كبيراً، بحيث تصبح الجثث مأكلاً للطيور والوحوش (رج 7: 33- 34؛ 8: 1- 3). يتجنّبون الزواج، ويتجنبّون حفلات الحداد كل ما يتعلّق بعالم الموت... نحن هنا أمام استعارة واسعة تشير إلى دمار الجماعة والأرض. هذا على المستوى الجماعي. ولكن بعضهم قرأ آ 1- 9 وكأَنها تمنع إرميا من المشاركة في الحياة العامة، لا في جنازة ولا في زواج. وهكذا نكون أيضاً أمام فعلة رمزيّة يقوم بها إرميا ليدلّ شعبه على الوضع الذي سيصلون إليه.
في آ 10- 11 نجد سؤالاً وجواباً في إطار اشتراعيّ كعرض تعليمي لما قرأنا في آ 3- 9. بدا اللاهوت كما يلي: "الدمار... الإثم... الخطيئة... تركوني... ساروا وراء آلهة أخرى... تركوني أنا... لم يحفظوا شريعتي". سقوط أورشليم وجلاء السكّان يشكلاّن الدمار، والايديولوجيا الاشتراعيّة تقدّم الشرح. طرح الشعب اسئلته، ففهمنا عندئذ أن آ 2- 9 هي اعلان أكثر ممّا هي فعلة رمزية. أما الأسئلة فتبدأ: لماذا (ع ل. م هـ)، ماذا (م هـ). السيف، الجوع. غاب السلام والازدهار والبركة. لماذا حلّت كارثة 587 بالأمّة؟ هناك أسباب عديدة: سياسة لم تقدّر قوّة البابليين. تيّار وطني متطرّف يعارض كل تسلّط أجنبيّ... أما الفكر الاشتراعي فأعطى سبباً واحداً: تركوني هم وآباؤهم وساروا وراء آلهة أخرى.
وبسبب هذا التاريخ الطويل من عبادة الأوثان ورذل الشريعة، "قُذف" (ط و ل) الشعب من أرضه (كما يُقذف الحجر) إلى أرض مجهولة، إلى بابل. هناك يعبدون الآلهة التي أحبّوها، ولكنهم لن يجدوا من يتحنّن عليهم (على مثال الربّ). كذا في اليونانية. في النص الماسوري، هو الرب لا يرحم، بحيث لن يلقى الشعب عوناً من يهوه ولا من الآلهة الأخرى. لا مساومة مع عبادة الأوثان بالنسبة إلى الاشتراعي. فلا رحمة بعد لمن يتعلّق بالآلهة الغريبة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM