الفصل الرابع: كلام الربّ إلى إرميا

الفصل الرابع
كلام الربّ إلى إرميا
1: 1-19
نجد في هذا الفصل مقدّمة الكتاب، ودعوة النبيّ، وأخيراً الرؤى والايحاءات.

1- المقدّمة (1: 1- 3)
أ- قراءة النصّ
آ ا- كلمات إرميا. رج عا 1: 1 (كلمات عاموس). هناك من قال: خبر إرميا. نقرأ في اليونانيّة: كلمة الله التي جاءت إلى إرميا. رج 7: 1؛ 11: 1؛ 18: 1؛ 34: 1، 8 ؛ 35: 1؛ 40: 1. رج أيضاً هو 1: 1؛ يوء 1: 1؛ مي 1: 1؛ صف 1: 1. معنى لفظة إرميا: غير أكيد. يهوه رفع. يهوه رمى. يهوه برّر. ربما: يهوه أطلق الرحم. هو اسم معروف في التوراة. ونجده مرّتين في إر 3:35 (إرميا بن حبصينيا) ؛ 52: 1 (إرميا من لبنة). رج 1 أخ 5: 24؛ 12: 4؛ 10، 13 ؛ نح 2:10؛ 12: 1، 34. حلقيا هو أيضاً اسم علم. رج3:29؛ 2 مل 18:18، 26؛ 4:22 ،8 ، 10، 12، 14؛ 1 أخ 13:6؛ 26: 11؛ نح 7:12، 21 (ح ل ق: قسم). من الكهنة. رج عا 1: 1: من رعاة تقوع في ما يخصّ عناتوت، رج 11: 21، 23؛ 27:29؛ 7:32- 9. إن ترجوم راشي 1: 1 يجعل من إرميا عظيم كهنة، لأن عائلته عاشت في عناتوت.
آ 2. كانت إليه كلمة الربّ. نحن أمام عنوان ثان (وثانوي) يستعمل حاشية تعبّر عن قبول كلمة الله. رج 14: 1؛ 46: 1؛ 47: 1؛ 34:49. رج أيضاً 1 مل 31:18. امون. في اليونانية: اموص (رج أش 1: 1 كما في اليوناني). رج 6:3؛ 3:25 في ما يتعلّق بحقبة يوشيا في إر. السنة 13 ليوشيا هي سنة 627.
آ 3. نجد في العبرية "ت م" (تمام، نهاية)، لا في اليونانية. لا يبدو النص متماسكاً مع عبارة "في الشهر الخامس" (ربما نهاية السنة 11 لصدقيا). رج 52: 4، 12 للتاريخ هنا (587 ق. م). لهذا يقول الشرّاح إن آ 3 أضيفت لتضمّ كل نشاط إرميا في إطار واحد.
ب- التفسير
آ 1- هذه الكلمات لا تعلن فقط أقوال إرميا، بل بعض أحداث حياته وما يتعلّق بالتاريخ الذي عاش فيه والذي ارتبطت به رسالته. عناتوت هي مدينة لاوية في بنيامين (يش 18:21). تقع اليوم قرب عناتا القرية الفلسطينية، وتبعد 5 كلم إلى الشمال من أورشليم.
آ 2- كلمة الربّ هي مقدّمة بعض الأقوال أو مجموعة أقوال في 14: 1؛ 46: 1؛ 47: 1 ؛ 49: 34. أما العبارة المعروفة فنجدها في 3:13. بدأت "الكلمة" تمدّ نشاطها الشخصي الذي هو نشاط الربّ بالذات. وصارت ناشطة تجاه النبيّ فاجتاحت حياته، وبه دخلت التاريخ (50: 1) في وقت محدّد في تاريخ واسع. نحن هنا في خطّ يصل بنا إلى العهد الجديد حيث الكلمة تنمو (أع 7:6)، بل صارت الكلمة شخصاً حياً هو يسوع المسيح وابن الله الحيّ. أيام يوشيا. رج 6:3؛ 2:36، صف 1: 1. حكمَ يوشيا (رج 15:22-16) من سنة 640 حتى سنة 609 (2 مل 24:21؛ 35:23). لاشكّ في أن إرميا فرح بإصلاح يوشيا، وربّما شارك فيه مشاركة ناشطة بحضوره وكرازته. يهوذا هي مملكة الجنوب المرتبطة بداود. عاصمتها أورشليم.
آ 3- يوياقيم (609- 598، رج 2 مل 23: 34- 24: 6). سه قه إلى الحكم أخوه يوآحاز أو شلّوم (1 أخ 3: 15) الذي اقتاده الفرعون نكو أسيراً إلى مصر (22: 10- 12 ؛ 2 مل 23: 30- 34؛ حز 19: 4) فانهارت الآمال التي حرّكها إصلاحُ يوشيا وضمُّ جزء من مملكة الشمال بعاصمتها السامرة (التي دمّرها الاشوريون سنة 722/ 721). أراد إرميا أن يدمّر هذا الاكتفاء الذاتي بديانة تبقى على مستوى الكلام ولا تصل إلى التزام الانسان في كل سلوكه تجاه الله (ف 7: هيكل الله، هيكل الله)، فجعل نفسه في بداية هذا الحكم (ف 26: في بدء ملك يوياقيم بن يوشيا). كان التعارض عميقاً بين النبيّ وهذا الملك (ف 36)، وهذا ما عبّرت عنه بعض الأقوال النبويّة. رج 13:22- 19؛ وربما 21: 11- 22: 9. صدقيا جاء بعد ابن أخيه كونياها (أو كونيا) أو يكنيا أو يوياكين (37: 1) الذي حكم منذ منتصف كانون الأول سنة 598 حتى منتصف آذار سنة 597 (2 مل 6:24- 17). بعد ذلك، سُبي إلى بابل (22: 24- 30؛ 52: 31- 34). دام ملك صدقيا 11 سنة، من آذار 597 حتى تموز 587 (2 مل 17:24- 7:25) يبدو أن صدقيا فعل كما فعل يوياقيم، فلم يسمع للنبيّ (37: 2). لا شكّ في أنه كان يسأله مراراً، يستشيره، لأنه احتاج الاستناد إليه. وكان يحميه قدر المستطاع (21: 1- 10؛ 37؛ 38).
ج- دراسة عامة
تشكّل هذه الآيات أطول مقدمة (رج حز 1: 1- 3) لمجموعة أقوال الأنبياء، مقدمة بعداشتراعية للكتاب كله (يقابلها ما في 25: 1- 3). تدلّ على المتكلّم في ف 2- 20 (+ 21- 24) كأحد كهنة عناتوت في أرض بنيامين. إرميا بن حلقيا. لقد مارس هذا النبيّ خدمة الكلمة من سنة 627 حتّى سنة 587. إذن، أربعين سنة مع ما في هذا الرقم من مدلول يربط إرميا بموسى الذي قاد الشعب من مصر إلى كنعان في 40 سنة (تث 34: 7) وبداود كملك اسرائيل ويهوذا (1 مل 2: 11). وهكذا مثّل إبن حلقيا (الذي سيتماهى مع يشوع، عظيم الكهنة) صورة هامة في السنوات المصيرية التي قادت أورشليم إلى المنفى.
إرميا كاهن بدأ عمله سنة 627. قد لا يكون عضواً في عالم العبادة الرسميّة في هيكل أورشليم (رج حننيا من جبعون في 28: 1). غير أن إر يبيّن هذا النبي عاملاً في الهيكل (2:7 ؛ 19: 1-2، 14؛ 22: 1؛ 2:26 ؛28: 1؛ 26:29 ؛ 2:35 ؛ رج 36: 5- 6) بحيث اعتبره "ناشر" الكتاب كاهنا يعمل في الهيكل. ارتبط إرميا بكهنة عناتوت، الموضع الذي إليه نفى سلمان الكاهن أبياتر (1 مل 2: 56- 27)، كتتمّة لقول ضد بيت عالي في شيلو. ما حدث لشيلو من دمار سيحدث لأورشليم وهيكلها (7: 14). فمن الموضع الذي إليه نُفي ابياتر، قبل أن يُبنى الهيكل، جاء انسان يتكلّم ضدّ هيكل أورشليم ويُنبئ بدماره.
قيل إن إرميا تسلّم كلام الله في السنة 13 لحكم يوشيا الملك (627)، وهذا ما يطرح سؤالاً حول تفسير الكتاب: لا نجد شيئاً ننسبه إلى حقبة يوشيا (627- 609) في الكتاب. ربّما هناك تلميح إلى موت يوشيا في 16:2 (رج 22: 10). هناك مقطعان يعودان إلى حكم يوشيا 6:3- 10؛ 3:25- 7، مع العلم أن 6:3- 10 يعتبر توسيعاً لاحقاً وضعه التقليد هنا. أما 3:25 فيعكس ما في 1: 1- 3. وهكذا يمكن أن نعتبر الكثير من القسم الأول قد قيل في إطار حكم يوشيا، كما نعتبره مرتبطًا بحكم آخر. ولكن يبدو أن الناشر الاشتراعي أراد أن يضمّ النبوءة إلى الملكيّة كمؤسستين توأمين في تاريخ اسرائيل.
2- دعوة النبيّ (1: 4- 15)
أ- قراءة النصّ
آ 4- كلمة الربّ إليّ. ني اليونانية: إليه. رج آ 11، 13؛ 2: 1؛ 16: 1. وفي اليونانية: 26:32؛ 12:35. هي نصوص في صيغة المتكلّم.
آ 5- أصوّرك (ص ور في العبرية). هناك مقابلة مع النصوص المصرية. رج أش 49: 1، 5 ب. كرّستك. حرفيا: قدّستك، أي وضعتك جانباً، هيّأتك كما تُهيّأ الذبيحة. رج 6: 4؛ 7:22؛ 51؛ 27، 28. لا ننسى أن إرميا كاهن (آ 1). نبيّ للأمم. رج 15:25-38؛ ف 46- 1 5.
آ 6- "ن ع ر" يعني: صبي، شاب، فتى. نحن هنا أمام جواب تقليديّ يعكس الطريقة الاشتراعيّة التي بها قُدِّم شخصُ سليمان (1 مل 3: 7) وشخصُ صموئيل (1 صم 1:3 ،8).
آ 7- سبب الارسال (ش ل ح) مهمّ في الأقسام المتعلقة بالنبي (23: 21، 32؛ 15:28؛ رج 2:43). كل ما آمرك به تقوله. رج تث 18:18؛ خر 2:7.
آ 9- مدّ الربّ يده ولمس فمي. رج أش 7:6. جعلتُ كلامي في فمك. رج تث 18:18؛ أش 16:51؛ في حز 8:2- 3:3 نجد طريقة أخرى للتعبير عن تقبّل الكلمة.
آ 10- نجد هنا ستة أفعال: ن ت ش (قلع)، ن ت ص (هدم)، أ ب د (أباد، أهلك)، هـ رس (نقض)، ب ن هـ (بنى)، ن ط ع (غرس). نجدها في 31: 28. إرميا هو الذي يقلع... وفي نصوص أخرى، الله هو الذي يفعل. رج 12: 14- 17؛ 7:18، 9؛ 6:24 ؛28:31، 38، 40 ؛ 42: 10؛ 4:45.
ب- التفسير
آ 4- رج 3:13. يتحدّث النبيّ عن لقائه مع كلمة الربّ الحيّة. فهذه الكلمة تفعل كما قيل في آ 3.
آ 5- عرفتك. الله خالق كل شيء (16:10 ؛ 51: 19) قد جبل الانسان الأول وأعطاه نفساً حيّة (تك 7:2، ي ص ر). قد صوّر كل الانسان منذ الحبل به في البطن (18: 6 ؛ مز 33: 15؛ 104: 30؛ 139: 13-16؛ أي 10: 8- 12؛ حك 7: 1؛ 2 مك 7: 22- 23، ص و ر). هذا عملُ حكمة وجبّ لدى الذي عرف (ي د ع) مسبقاً أولئك الذين دعاهم إلى الوجود، دعاهم لكي يعرفوا حياته الحميمة (رج روم 8: 29). وهذا يتحقق بشكل خاص بالنسبة إلى الأفراد أو الجماعات الذين سيلعبون دوراً هاماً في تتميم مقاصده في البشرية (تك 19:18؛ أش 2:44، 21، 24؛ 49: 1، 5؛ رج أم 8: 22- 23). كرِّستك، قدّستك. احتفظتُ بك لنفسي (3:2؛ 3:12). جعلتُك جانباً، فرزتُك (لا 26:20؛ مز 105: 15؛ غل 1 :15). هذا ما فعله "قدوس اسرائيل " (50: 29؛ 51: 5) مع إرميا من أجل خدمة خاصة سوف تحدَّد فيما بعد. هذا يتضمّن اتحاداً حميما مع الربّ، ومعرفة مباشرة لفكر الربّ (رج لو 1: 75؛ يو 3:17- 26 ؛ أف 1: 4). يتحدّث النصّ عن مثل هذا التكريس قبل ولادة شمشمون (قض 13: 5) ويوحنا المعمدان (لو 1: 15، 41) وبولس (غل 1 :15). بالنسبة إلى يسوع، رج لو 1: 35: رج أيضاً يو 10: 36. نبياً للامم. بعد اختيار يرتبط بمخطّط الله الأبدي، وتكريس قبل الولادة، نصل إلى تسليم الوظيفة وتحديد الرسالة (رج آ 9- 10).
آ 6- يحتجّ إرميا. فالعمر المطلوب من أجل نشاط مسموح به في الحياة العامة هو 30 سنة (رج لو 23:3؛ 1 مل 7:3؛ أي 32: 4، 6). قال موسى: لا أستطيع أن أتكلّم بسهولة. أما إرميا فقال: لا يحقّ لي أن أتكلّم في الجماعة. مثل هذا الاعتراض لا يقف أمام الله الذي يستطيع أن يعطي الكلام لمن يشاء (خر 4: 11- 12؛ 1 صم 18:3، 20؛ أي 32: 8؛ دا 13: 45).
آ 7- أينما أرسلك. مع الترجمة الإرامية وقمحي. ونقول: لكل ما أرسلك له، مع الشعبية. أو: لكل من أرسلك إليهم، مع راشي (رج آ 8). المعاني الثلاثة ممكنة. يبقى إرميا ثابتاً في كل الأوضاع وأمام جميع الأشخاص، فلا يتزعزع رغم الخوف البشريّ الذي يمكن أن يكون في قلبه (رج 12:26- 15).
آ 8- أنا معك. حين يسلّم الله أحد الأشخاص مهمّة، فهو يؤكّد له حضوره. يكون معه (عمانوئيل). رج تك 26: 24 (اسحاق)؛ 28: 15 (يعقوب)؛ خر 3: 12 (موسى)؛ قض 6: 12 (جدعون)؛ أش 7: 14 ؛ 41: 10؛ مت 19:28- 20؛ روم 8: 31. في نظر إرميا، الله هو سيد الكون القدير، وسيد العناصر كلها (11: 35). هو سيد التاريخ (آ 10؛ 7:18- 10) وسيّد كل انسان من الناس (11: 20؛ 17:39- 18؛ 45: 5). يقول الربّ. في العبرية: ن ا م. ي هـ وهـ. صوت الربّ. قول نبويّ من عند الربّ. هي عبارة تدلّ على أن هذا التعليم الذي يورده النبيّ يأتي من عند الربّ. فلا نأخذ كلامه إلاّ على محمل الجدّ.
آ 9- لمس فمي. فعلة لها معناها. فعلة فاعلة تُنجز ما تدلّ عليه. هي عنصر من عناصر تكليف النبيّ برسالته (رج آ 5: جعلتك نبياً. سوف تتكلّم. لهذا يهيَّأ الفمُ). رج أش 7:6؛ حز 8:2- 3:3؛ دا 10: 16. لقد تهيّأ إرميا منذ الآن (حين دعاه الله حوّله، أعطاه نعمة) لينقل كلمات الله بالذات (5: 14؛ 15: 19 ؛ خر 4: 12، 15؛ تث 18:18؛ أش 51: 16). هو لا يتقبّل دفعة واحدة كل ما سيقوله باسم الله (28: 1ي؛ 7:42. لا يستطيع حمله. لهذا يُعطى له ذلك بشكل تدريجي يترافق مع خبرته ومع الأحداث). بل ينال جدارة خاصة لخدمة كلمة الله يوماً بعد يوم.
آ 10- يهوذا هي أمّة (9:5، 29؛ 28:7؛ 8:9) ومملكة. عاصمتها أورشليم. وإرميا يُرسل إلى يهوذا وأورشليم. كما يرسل إلى سائر أم الأرض وممالكها (25: 15- 38؛ ف 46- 51؛ رج 12: 1ي؛ 27: 1ي؛ 44: 30). فالله ليس فقط إله أمّة واحدة وشعب واحد. تقلع وتهدم... إن الكلمة النبويّة تعلن هذه الأحداث (القلع، الهدم...)، تناديها وتصل إلى تحقيقها. نجد أربعة أفعال تتحدّث عن الدمار، وفعلين عن البناء. فخبرة إرميا هي خبرة دمار (ف 2- 25؛ 46- 51، تعلن عقاب الله). وسوف يتكلّم عن البناء فقط في ف 30-33.

ج- دراسة عامة
يقدّم المطلعُ بشكل قول نبويّ في التقليد، تسليمَ إرميا مهمّته الإلهيّة (آ 1، 11)، ليكون نبيأ للأمم (آ 5، 10). لا تُؤثر المناسبة التي فيها تسلّم النبي كلام الله. وقد جُعل في المطلع كتأكيد على وضع إرميا كنبيّ (ن ب ي ا). في اليونانية (وهي أساس النسخة الأولى)، يتحدّث النصّ عن إرميا كنبيٌ . في العبرية (النسخة الثانية) هو النبي (مع التعريف). نجد آ 4- 10 في النسختين، وهذا يعني عودتها إلى حقبة بدأ يتثبّتُ وضعُ إرميا كنبيّ. أجل إرميا هو نبيّ شرعي وكلامه يُقرأ على أنه كلام الله. إن آ 9 ترينا يهوه وهو يضع كلامه في فم إرميا، ويرسله (ش ل ح)، ويأمره، ويكلّفه، ويكرّسه. نحن في حقبة صراع حول سلطة الأنبياء وشرعيّة دعوتهم (9:23- 40؛ ف 27- 29؛ تك 13: 1 – 5؛ 18: 9- 22؛ زك 13: 2- 6). أجل، إرميا بن حلقيا الذي هو من كهنة عناتوت، هو نبيٌ الربّ.
أرسل إرميا إلى الأمم. هذه الأمم سيطرت على يهوذا. ولكن نبيّ الربّ يتسلّط على هذه القوى الظاهرة. باسم الربّ يحدّد لها مصيرها: يقلعها، يهدمها... مصيرها يرتبط به (رج 7:29 كما ارتبط مصير مصر بموسى، ومن خلاله بالله)، وهي لا تستطيع أن تحاربه وتقهره لأن الربّ معه (آ 8). قدّم لها إرميا كأس غضب الله (25: 15- 17، 27- 29)، أعلن دمارها (ف 46- 51). لقد رُفع النبي بحيث لا يكون فقط ممثّل يهوه، بل هو يفعل كأنه يهوه. ونرى هذا الدورَ الإلهي في 51: 59 حيث يأمر إرميا سرايا بن نيريّا الذي يطيع في شأن دمار بابل (رج خر 4: 16؛ 7: 1). ليس الله هو الذي يقلع، بل إرميا.
نشير هنا إلى أن إرميا نبيّ من بطن أمّه. هذا يعني أنه كرّس وأعدّ لواجب مهمّ. نجد نصاً مصرياً يوازي هذا النصّ. يتوجّه الإله امون إلى الملك بيانخي (السلالة 25، القرن 8 ق. م) فيقول له: "حين كنتَ في بطن أمك قلت لك بأنك ستكون ملك مصر كان ذلك كالبذار. ويوم كنت في البيضة عرفتك، وعرفت أنك ستكون السيّد". ذاك كان الأمر أيضاً بالنسبة إلى عبد يهوه (أش 49: 1، 5). هذا يعني أن البشر لم يجعلوا إرميا نبياً (وحتى لو كان الملك)، بل الله وحده وضع يده عليه.
نجد في آ 7- 9 عناصر نقرأها في خر 7: 2؛ تث 18: 18؛ أش 6: 7. هذا ما يدلّ على تأثير مراجع أخرى في بناء آ 4-10. هناك تقارب بين موسى وإرميا الذي اعتُبر النبي كما في تث 18: 15، 18. ولمسُ الفم يرمز إلى انتقال الكلمة من الله إلى إرميا.

3- الرؤى والإيحاءات (1: 11- 19)
أ- قراءة النص
أولاً: الرؤية الأولى (آ 11- 12)
آ 11- رج آ 4، 13؛ 2: 1؛ 16: 1؛ 24: 4، في ما يتعلّق بتقبّل كلام الربّ. رج 24: 3 (ماذا ترى؟ عا 8:7: 2). غصن لوز. رج تك 30: 37- 41؛ هناك خبر غصن باركه الله في خيمة الاجتماع فحمل لوزاً (عد 16:17- 26).
آ 12- تلعب الكلمة دور اللوز، فتسهر (ش ق د). رج 5: 6؛ 28:31؛ 27:44. أنا ساهر على كلامي كي أنجزه، أتمّه.
ثانياً: الرؤية الثانية (آ 13- 16)
آ 13- ش ن ي ت (ثانية). رج 13: 1؛ 33: 1. هي كلمة تضاف على ما قيل في آ 11؛ رج 24: 3 ؛ عا 7: 8؛ 8: 2 (بالنسبة إلى السؤال). قِدر تغلي. رج أش 34: 13؛ هو 8:2.
آ 14- ت ف ت ح. رج في العربية: فتح. فتحة القدر موجّهة نحو الشمال من حيث تأتي النار المستعرة.
آ 15- عشائرهما لك. غابت لفظة "عشائر" من اليونانية. هذا يعني أنها أضيفت في النسخة الثانية، في العبرية (رج تك 3:12). في 25: 9 نقرأ: كل عشائر الشمال (في اليونانية: عشيرة). ولكن لا نقرأ "ممالك".
آ 16- أتلو حكمي عليهم. فهم مخطئون. رج 39 : 5؛ 9:52. قتَّروا (ق ط رفي العبرية). أحرقوا الذبائح أو أحرقوا البخور. رج 19: 4؛ 44: 3، 8؛ 2 مل 22: 17. نحن هنا في إطار لغة اشتراعيّة.
ثالثاً: إضافات (آ 17- 19)
آ 17- ضمّت اليونانية آ 8 ب إلى نهاية آ 17 (لا تخف من وجوههم، لا تخف من مواجهتهم). رج آ 19 ب.
آ 18- لا نجد في اليونانية: سور (أو: أسوار) من نحاس. رج 15: 20 أ. شعب الأرض قد يقابل شعب المدينة فيدلّ على أهل الريف، كما يدلّ على ممثلّي الشعب في الحكم، أو على مجموعة المواطنين، أو: الذين لا يعرفون أمور الديانة (ع م. هـ. ارص)
آ 19- إن آ 19 أ= 15: 20 ب (يحاربونك ولا يقدرون عليك)؛ 19 ب=8 ب (إني معك لأنقذك).

ب- دراسة التفسير
آ 11- انطق النبيّ ممّا يرى أمامه في الحقل (لوز يزهر)، في البيت أو قرب البيت (قدر تغلي، والريح تنفخ). فأناره الربّ حول حضوره الفاعل على الدوام، حول مقصده. لا شك في أننا أمام رؤية سماويّة تنطلق من الواقع اليوميّ. غصن لوز. فالاسم "ش ق د" (لوز) يعني "الساهر". الربّ هو الساهر على كلمته. إنه ينفّذها (23: 29؛ 44: 29؛ 64:51 ؛ رج يش 14:23؛ 1 صم 19:3؛ اش 55: 10- 11 ؛ حب 3:2؛ مز 130: 5 ؛ طو 4:14 ؛ مت 5: 18؛ 2 بط 9:3).
آ 14- في العبرية: منفتحة. في اليونانية: مشتعلة. فالقدر مع النار التي هي تحتها، تدلّ على الشرّ الذي يأتي من الشمال ويحلّ بيهوذا. رج 20: 4.
آ 16- تركوني وقتّروا لآلهة أخرى. رخو هو 2: 15؛ 13:4؛ 11: 2. يوبّخ إرميا الشعب على هذا العمل الذي يدلّ على عبادة الأوثان. تُذكر العبارة 18 مرة في إر و 8 مرات في ف 44.
آ 17- أشدد حقويك. أي تأهّب للقتال. لا تفزع من وجوههم (من مواجهتهم. م. ف ن ي هـ م). رج 10: 2؛ 30: 10. قوّة النبيّ من قوّة الله. وكذلك شجاعته. فإن هو خاف، هذا يعني أن ثقته بالله ضعيفة (أش 7: 9 ؛ مت 13: 25). أمّا الإيمان المتين فيمنح الثقة بالنفس (أع 13:4؛ 28: 31).
آ 18- نلاحظ هنا الصور التي تدلّ على قوّة العمود: مدينة حصينة، عمود من حديد، أسوار من نحاس. شعب الأرض (أدقّ من كلمة "شعب" وحدها): مواطنون يستطيعون أن يتدخّلوا في حالات خاصة (2 مل 21: 24؛ 23: 30؛ رج 2 مل 14: 21). يُفرض عليهم أن يكونوا جنوداً حين تدعوا الحاجة (52: 25).
آ 19- في خبر الدعوة، قال الله لنبيّه: أنا معك. وفي وقت الشدّة، قال أيضاً: أنا معك. الله يرافق نبيّه دوماً ولا يبدّل موقفه. ولكن الإنسان يحتاج أن يتذكّر هذا الحضور الإلهي في حياته.

ج- دراسة عامة
ليست الرؤى سمة رئيسيّة في تقليد إرميا (عكس زك 1-8؛ عا 7: 1-8؛ 8: 1- 2؛ 9: 1)، ولكنها تظهر في مواضع (1: 11، 13؛ 24: 1- 3) تشرف فيها عناصرُ جعلها الناشر في الكتاب (38: 21- 23). وقد رأى بعض الشرّاح رؤى في 23:4- 26؛ 13: 1- 7؛ 15:25- 29. شكلُ الرؤية الأولى بسيط جداً: سؤال طرحه الله على إرميا انطلاقاً ممّا رآه النبيّ الذي أجاب أنه يرى غصن لوز. ففسرّ الله مدلول ما رأى إرميا. هو ساهر على كلمته التي لم تُوضَّح بعد. ولكننا نعرف أن القلع والهدم والبناء والغرس هي في الافق.
الرؤية الثانية ترتبط بشكل غير مباشر بالرؤية الأولى، وقد تطلّبت شروحاً لتُفهم (آ 15، 16). هي جواب على كلمة الربّ الذي جاء مرّة ثانية ليوضح الرؤية الأولى (رج أش 7: 1). موضوع الرؤية هو قدر تغلي. والريح آتية من الشمال (ص ف و ن هـ)، هي على مثال جيش يهجم على المدينة. إذا قرأنا الرؤيتين معاً، نفهم أن الربّ يسهر على كلمته وأن كلمته هي كارثة آتية من الشمال على هذه الأرض. جاءتا بعد آ 4- 10، فبدتا قول دينونة على الأمم.
إن آ 15- 16 تفسّران الرؤيتين. تتحدّث آ 15 عن عشائر الشمال (بابل) التي تهجم على يهوذا وعلى أورشليم، ويجلس ملوك هذه العشائر على عروشهم على باب أورشليم. هذا ما سوف نراه سنة 588- 587. فقبل أن تفرح يهوذا وأورشليم بخلاص الربّ، ستجتمع الأمم عليهما، ويضربهما الربّ (آ 16). فالعقاب هو نتيجة حكم الله. ولا خلاص لأورشليم إلاّ في سقوط بابل (ف 50- 51).
وينتهي مطلع سفر إرميا في نصّ يلتفت فيه الربّ إلى إرميا ويهيّئه لأن يقول كل ما يأمره به (آ 7 ب). لا نعرف إلى من سوف يتكلّم. ولكن في آ 7- 8: الأمم. وفي آ 18 ب: شعب يهوذا أو بالأحرى رؤسائه. وهكذا حوّل ناشر الكتاب نبيّ الأمم إلى متكلّم يحارب شعبه. أما الصورة في آ 18 (مدينة حصينة) فهي اعتبار كله سخرية ضد أورشليم المحاصرة. رج حز 7:3- 9. سنجد صورة النبيّ (ومن خلاله الشعب) المقاتل في آ 19؛ 15: 20. ومع صورة القتال، ينتهي كلام النبيّ بالخلاص المنتظر فترتبط النهاية (آ 19) بالبداية (آ 8). ففي إطار الأمم، حاملُ الكلمة (النبيّ أو الجماعة) ينعم بحماية الله. فلماذا الخوف مهما كانت الظواهر؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM