الفصل الثالث: كتاب إرميا

الفصل الثالث
كتاب إرميا

نستطيع أن نقسم إر إلى ثلاث مجموعات كبيرة: مجموعة أقوال وأخبار نبويّة (ف 1 -24). مجموعة أخبار سيرويّة (26- 45). مجموعة أقوال على الأمم (46- 51). يبدأ القسم الأول بخبر إرسال (1: 4- 1) تتبعه رؤيتان (آ 11- 15)، وينتهي في ف 24 برؤية سلّتي الفاكهة. نحن هنا أمام تضمين حيث خبر الرؤية يرد في البداية وفي النهاية. أما ف 25 فيبدو في جزئه الأول خاتمة القسم الأول، وفي جزئه الثاني مقدّمة الأقوال على الأمم. إلاّ أن 13:25 ب- 38 هو مفصول في النص الماسوري (لا في نص السبعينية) عن الاقوال على الأمم.
ويتضمّن القسم الثاني أخباراً سيرويّة لم تنظّم بشكل كرونولوجي (مثلاً، ف 35 وف 36) هذا يعني أن هناك مبدأ ترتيب آخر نستطيع على أثره أن نسمي هذا القسم "طريق صليب" النبيّ. ثم إن ف 30- 33 تقطع مسيرة الأخبار السيروئة بأقوال خلاص تشكّل كتاب التعزية أو كتاب الرجاء. هذه الفصول الثلاثة هي قلب الكتاب اللاهوتي، لأنها تدلّ على وجود النور وسط ضيق اسرائيل وحصار أورشليم وألم النبي، وتعلن أن خلاص الله حاضر دوماً.
أما الأقوال على الأمم (ف 46- 51) فتشكل مجموعة تشبه ما عند سائر الأنبياء. كما تنبّأ حزقيال في بابل، تنبّأ إرميا في مصر فصار لا نبيّ يهوذا واسرائيل فقط، بل نبيّ الأمم (1: 5).
هذا هو كتاب إرميا في وضعه الحاليّ. ولكنه يطرح عدداً من الأسئلة حول تأليفه، حول النصّ اليوناني والنصّ الماسوري.

1- تأليف الكتاب
في بداية القرن العشرين، ميّز الباحث دوم ثلاثة مصادر في كتاب إرميا، وأكّد أن الأقوال الشعرية في ف 1- 25 (أي ما يقابل 280 آية) هي وحدها من إرميا. وجاء من يستعيد هذه النظرة الحدسيّة، فميّز خمسة مصادر. (أ) المصدر الأول يضمّ أقوال النبيّ الشعرية كما نقرأها في القسم الأول (ف 1- 24). (ب) المصدر الثاني يتكوّن من قطع سيرويّة نثريّة تروي أحداثاً من حياة النبي. (ج) المصدر الثالث يجمع خطباً نثريّة في أسلوب اشتراعيّ جُعلت في ف 1- 45. (د) المصدر الرابع يشكل كتاب التعزية أو كتاب الرجاء. (هـ) والمصدر الخامس هو مجموعة الأقوال على الأمم (46- 51).
إن أ هي أول مجموعة دُوّنت. وتبعها ب، ج، د. غير أن كل مصدر من هذه المصادر يطرح عدداً من الأسئلة. ففي ف 1- 25 التي تشكّل جوهر المصدر الأول (أ)، أما نستطيع أن تكتشف تدويناً اشتراعياً يرتبط بالمصدر الثالث (ج)؟ والأقوال على الأمم (هـ) أما هي أيضاً أقوال إرميا كما في أ؟ وهل المصدر الثاني (ب) هو حقاً من تأليف باروك؟ أما يتضمّن المصدر الرابع (د) أقوالاً من الحقبة الأولى وُجِّهت إلى اسرائيل، إلى مملكة الشمال بعاصمتها السامرة؟ والجدال الكبير هو في المصدر الثالث (ج). ولا ننسى أن هناك مواضيع نجدها في المصادر الخمسة.
انقسم الشرّاح المعاصرون إلى مدرستين في النظرة إلى المصدر الثالث. منهم من رأى خطباً اشتراعيّة لا ترتبط بإرميا، بل هي من تأليف تلاميذه. وقسم آخر رأى أن إرميا هو صاحب هذا المصدر وإن كانت اللهجة اشتراعيّة. فالنبيّ عايش الاصلاح الاشتراعي الذي أطلقه يوشيا سنة 622. ورأى نيكولسون أن الأقسام النثريّة في الكتاب هي اشتراعية ولا تصحّ نسبتها إلى إرميا. لا شكّ في أن هذه الخطب النثريّة تضمّ نواة ارميائية، وتد يكون باروك لعب دوراً في نقل ذكريات النبيّ، ولكن إرميا لم يؤلف المقاطع النثرية التي لعب باروك فيها دوراً ثانوياً، هذا إذا كان قد فعل. واعتبر تيّار أن الخطب النثرّية هي تدوينيّة (أي دوّنها تلاميذ إرميا)، وشدّد على خصائصها الاسلوبيّة واللغويّة التي تميّزها عن سفر التثنية.
وصفةُ "اشتراعي" التي تشرف على المصدر الثالث (ج)، لا يُجمع عليها الشرّاح. فقد رُفضت منذ سنة 1941؟ "ما يُسمّى أسلوب اشتراعيّ هو شكل تبناه النثر البلاغيّ العبريّ في نهاية القرن السابع وبداية السادس، وقد يكون إرميا أخذ به". غير أن تفسير موفنكل ظل المرجع الأساسي لعقود من السنين. ولكن جاء من يزعزع نظرته سنة 1973. بعد أن درس وايبارت أربع خطب ارميائية (7: 1- 15؛ 8: 1- 12: 1- 12 ؛ 12: 1- 7؛ 8:34- 22)، استنتج صحّة هذه الخطب النثرّية في جوهرها. قال: "لماذا ننكر على إرميا استنباط أو استعمال شكل جديد من الخطبة النبويّة، هي النثر الشعري أو الشعر النثريّ؟ وهو فمن سوف يستعمله حزقيال فيما بعد. والقول بأن الأقوال الشعريّة هي من تأليف إرميا والنثر من تأليف تلاميذه، فكرة مسبقة. أما استطاع إرميا أن يكتب نثراً؟ ثم إن بنية خطب إرميا النثريّة ليست باشتراعيّة. ففي ف 7 يأتي تدوين الخطبة (ج) قبل السيرة (ف 26 ب). ثم إذا درسنا ""النصوص الاشتراعيّة"" في إرميا، نجد أنها في بعض الأقوال خاصة بسفر إرميا (مثلاً السيف والجوع والوباء)، وأن التدوين الاشتراعي يرتبط بإرميا لا العكس". فإن كنا لا ننكر عمل المدوّنين، إلاّ اننا نعتبر أن جوهر الخطب يعود إلى إرميا. وهكذا سار في خطّ وايبارت عددٌ من الشرّاح بعد أن تركوا مواقفهم السابقة.
2- تكوين الكتاب
على ضوء هذه الأبحاث نستطيع أن نتمثّل تاريخ تكوين الكتاب كما يلي:
* إذا انطلقنا من ف 36، نعرف أن باروك نسخ على درج، كلَّ الأقوال "التي تتعلّق بأورشليم ويهوذا كل الأمم"، والتي وجّهها الله إلى إرميا منذ اليوم الذي دعاه فيه إلى شتاء سنة 605 (آ 6). وهكذا نكون هنا أمام النسخة الأولى لسفر إرميا، وقد تضمّنت أقوالاً على اسرائيل (ف 2- 6)، على يهوذا وأورشليم، على الأمم (ف 46- 49). هل نزيد عليها بعض ما ورد في ف 7- 20؟ يبقى الباب مفتوحاً.
* وكان الدرج الثاني بعد سنوات. ربّما سنة 600. أحرف الملك الدرج الأول (36: 23)، فأُمر إرميا بأن يأخذ درجاً آخر. كتب باروك ما أملاه إرميا عليه: "كتب فيه عن لسان إرميا كل ما احتواه الكتاب الذي أحرقه يوياقيم بالنار" (آ 32). وتضيف الآية: "وزيد عليه كلام كثير مثله". من زاد هذا الكلام؟ باروك أم غيره من تلاميذ النبيّ؟ ويُطرح سؤال آخر: ما هو المضمون الدقيق لهذا الدرج الثاني؟ نشير هنا إلى أن لهجة هذه النسخة الثانية قد تأثّرت بالصعوبات الشخصيّة التي قاساها إرميا، وبالجوّ المعتم الذي تعيشه مملكة يهوذا. إذن، أعيدت قراءة الدرج الأول في منظور أكثر تشاؤماً. ويقول كازيل إن هذه النسخة الثانية انتهت في 13:20 الذي يشكّل تضميناً مع 1: 8 بشكل اعتراف للربّ الذي "يخلّص نفس الفقير من أيدي الأشرار".
وقد ضمّت هذه النسخة الثانية مع مضمون درج سنة 605، هجوماً على القضاء والإدارة في عهد يوياقيم، واعترافات وأخبارًا سيرويّة تعود إلى ما قبل سنة 597، ورؤى عن دمار سنة 600، والكتاب على الملوك (21: 11- 8:33)، والكتاب على الأنبياء (9:23- 24).
* وأدخل التلاميذ في نسخة ثالثة عناصر سيرويّة تغطّي ربع الكتاب تقريباً: 19: 1 – 20: 6؛ ف 27-29 ؛ 34: 1-7؛ ف 36؛ ف 37- 44؛ ف 45 ؛ 51: 59 - 64. هذه الأخبار التي تنقصها التواريخ المحدّدة، تتورع في الكتاب الحالي بدون ترتيب أزماني (كرونولوجي). هي ترينا إرميا كالنبيّ الحقيقيّ والحامل الصادق لكلمة الله تجاه خصوم يضطهدونه. كما تشدّد على أن إرميا لم يُظهر العداء لبابل، بل كرز بالخضوع لها. كل هذا "دوِّن" في فلسطين وفي زمن الحكم البابلي.
* وجاءت النسخة الاشتراعية الموالية لبابل والمعادية لصدقيا، وذلك خلال المنفى. أعاد التلاميذ قراءة الأحداث قراءة دينيّة، وقدّموا النبيّ على أنه أداة كلمة الله، والنبيّ الشبيه بموسى، الذي يجب أن نسمع تعليمه لتجاوز أزمة لم نستطع تجاوزها سنة 587. أما أنبأ إرميا بدمار أورشليم؟ أما حذر صدقيا منِ سياسة معادية لبابل؟ نجد في هذه النسخة عدداً من الإضافات داخل ف 1- 25. مثلاً، خطبة الهيكل (7: 1- 15) قد أضيف إليها موجز كرازة النبيّ عن العبادة (7: 16- 8: 3). والقول حول الخزّاف وعمله في 18: 1- 12 تحوّل إلى قول يحكم على الشعب. وأضيف إلى "كتاب الملوك" حكماً على صدقيا في 21: 1-10.
* أما النسخة الخامسة فجاءت معادية لبابل، وقد "دُوِّنت" بعد المنفى. فبعد سقوط بابل وقرار كورش سنة 539، ظهرت الحاجة إلى نسخة جديدة لإعلان العودة ووحدة اسرائيل ويهوذا الراجعين من المنفى. تأثّر التلاميذ بحزقيال وبأشعيا الثاني، فتخلّوا عن صدقيا (المقيم في فلسطين) وانضمّوا إلى يوياكين (العائش في المنفى، من حيث ينهض الشعب). أما اسم "يهوه صدقنا، برّنا" (رج ص د ق ي ا) فصار اسم المدينة ولم يعد اسم الملك (33: 16). وارتدى تقديس السبت أهميّة كبرى (17: 19- 27). كما دخلت الأمم في نظرة النبيّ فلم يعد الخلاص وقفاً على اسرائيل.
3- بين السبعينية والنص الماسوري
نبدأ فنقدّم ملاحظتين. الأولى، نص السبعينية أقصر من النص الماسوري. هناك سِبع (3097 كلمة) النصّ الماسوري لا نجده في السبعينية. والملاحظة الثانية: يختلف ترتيب النص الماسوري عن ترتيب السبعينية. فالنص الماسوري يجعل الأقوال على الأمم في نهاية الكتاب، فيفصلها عن مقدّمتها التي نقرأها في 25: 15- 38. أما السبعينيّة، فتجعل الأقوال على الأمم في وسط الكتاب بعد 25: 13. وهكذا يصبح 25: 13- 38 (في النص الماسوري) خاتمة هذه السلسلة من الأقوال. ثم إن الأقوال على الأمم جاءت في ترتيب يختلف بين العبري وبين اليونانيّ. في السبعينية: عيلام، مصر، بابل، فلسطية، ادوم، عمون، قيدار، دمشق، موآب. في النص الماسوري: مصر، فلسطية، موآب، عمون، ادوم، دمشق، قيدار، عيلام. أما نحن فقد تبعنا الترتيب الماسوري وأشرنا إلى ما يقابل ذلك في نصّ السبعينيّة. كيف نفسّر هذه الاختلافات؟
هناك أربعة مواقف. (1) أوجزت السبعينية النصّ الماسورة. هذا يعني أن النص الأولاني هو هو في الأصل. ذاك هو موقف القدماء منذ ايرونيموس. (2) هناك في الاصل نصّان لكتاب إرميا. فأخذت السبعينيّة بنصّ والماسوري بنصّ آخر. (3) النصّ الذي أخذت به السبعينية هو الأقدم. انطلق منه الماسوري فتوسّع وأضاف. (4) الموقف الوسط الذي يأخذ به معظم الشرّاح المعاصرين ويعتبرون أننا لا نستطيع أن نعمّم، بل يجب أن يُدرس كل نصّ بمفرده. غير أن اكتشافات قران أضعفت الموقف الأخير، لأنهما رأت أن شكلي نصّ إرميا وُجدا هناك. وهذا يعني أننا أمام نصّين قديمين. إن ما وُجد في المغارة الثانية وما وُجد في المغارة الرابعة (200 ق. م. تقريباً) لا يختلفان عن النصّ الماسوري إلاّ على مستوى الاملاء. وتعكس البسيطة والترجوم والشعبيّة النص الماسوريّ. ولكن وُجد مخطوط آخر في المغارة الرابعة يبدو قريباً من السبعينيّة.
إذن، هناك نصّ قصير ونصّ طويل. والنصّ الذي أخذت منه السبعينيّة أقرب إلى الأصل، وقد يكون وصل إلى مصرفا أضيف إليه إلاّ الشيء القليل. نستطيع أن نسمّيها "النشرة" (أو= الطبعة) الأولى. أما النص الماسوري فيشكّل نشرة ثانية توسّعَ فيها الكاتبُ في فلسطين. اعتبر بعضهم أن الأولى كانت حوالي سنة 450 والثانية حوالي سنة 350 ق. م.
ما هي الأمور التي أضافها الماسوري إلى "النصّ الأقدم" والأقرب إلى الأصل؟ (1) على مستوى الاسلوب، أضيف مثلاً اسم الاشارة في 7: 10؛ 3:13. أو توسّع الكاتب في اسماء العلم: ربّ الصباؤوت إلهنا. نبوخذ نصر ملك بابل (21: 2). يكنيا ابن يوياقيم ملك يهوذا وملك بابل (28: 4). أجاب النبي إرميا إلى النبي حننيا (28: 15). دعا إرميا باروك بن نيريا فكتب باروك (36: 4). حافظ باروك بن نيريا على الترتيب الذي أعطاه النبيّ إرميا (36: 8). أو كانت تكرارات: صحراء لا بشر فيها ولا حيوان (33: 10). وعبارات مقولبة: هكذا قال الربّ، يقول الربّ. (2) وكانت إضافات مأخوذة من إر، إمّا من السياق المباشر، وإمّا من نصوص مشابهة (3: 9- 11). (3) إضافات جوهريّة قام بها الناشر: مقدّمات (2: 1- 7 ؛ 7: 1- 2). تكرار قطعة (30: 10- 11؛ 27:46- 28). عناصر تعود إلى النبيّ نفسه (2: 2: في البرية، في أرض لا زرع فيها؛ 26: 22 ب؛ 30: 15). (4) توسعات تُنسب إلى الكاتب الاشتراعي (7: 13؛ 11: 7 - 8 ؛ 13:27- 21).
4- بعض ميزات النص الماسوري
أ- دور باروك
ما يميّز السبعينية هو الدور الذي أعطته لباروك. أما النصّ الماسوري فشدّد على دور إرميا. في سب، نجد في نهاية الكتاب (51: 31- 35 سب) الوعد لباروك بالنجاة. فذكرُ باروك هنا يشبه توقيع شاهد للكلمة. أما في مس، فالوعد لباروك (45: 1- 5 مس) يخسر مكانته المميّزة بعد أن نُقلت الأقوال على الأمم.
تبدأ مس بعبارة "كلمات إرميا". أما في سب فنجد العنوان التالي: "كلمة الله التي كانت على إرميا". ويقابل 1: 1 ما في 51: 64 (مس): "حتّى هنا كلمات إرميا". إذن، مجمل الكتاب هو "كلمات إرميا". وف 36- 45 التي تبيّن الدور الهام الذي لعبه باروك، صارت بعد الآن بين مجموعتين (1- 26 و 46- 51) لا تذكر فيهما مس سوى كاتب واحد هو إرميا.
ونتوقّف عند "الدرج" (36 مس= 43 سب). يُسمّى باروك "س ف ر" (كاتب) في مس (آ 26، 32). لا تعطيه سب لقباً خاصاً. حين أدخلت مس هذا اللقب، قابلت بين باروك وموظّفي الملك في هذا السياق. وشدّدت على دوره ككافل للنصّ. إرميا وحده هو النبيّ. أما باروك فعليه أن يسهر على نقل التعليم بسلطته ككاتب لا غير.
وإن مس جعلت باروك خاضعاً لإرميا (آ 6، 17، 18). هو يكتب ما يمليه عليه إرميا (م ف ي و: من فمه، من فم إرميا)، ونستطيع أن نقابل آ 43 (سب) حيث نقرأ: "وأخذ باروك درجاً آخر فكتب فيه من فم إرميا كل كلمات الكتاب الذي أحرقه يوياقيم". وآ 36 (مس): "وأخذ إرميا درجاً آخر وأعطاه لباروك بين نيريا الكاتب، فكتب فيه كل كلمات الكتاب الذي أحرقه بالنار يوياقيم ملك يهوذا". حسب مس، جاءت مبادرة كتابة الدرج بشكل مباشر من إرميا، لا من باروك. وهكذا كان تطوّر من نصّ إلى آخر. في سب، نحن أمام مجموعة أقوال إرميا حسب باروك الذي عيّنه المدوّن شاهداً مميَّزاً للنبوءة ولتمامها. وهكذا صوّر الكتاب بشكل مجموعة أقوال نبوية ودفاع عن إرميا كنبيّ حقيقيّ. في مس، لم تعد حاجة للتمييز بين النبي (بروفيتيس) والنبيّ المزعوم (بسودوبروفيتيس). فالنظرة إلى دور باروك قد تبدّلت لأنه لم يعد هناك اعتراض على سلطة إرميا كنبيّ. فالأحداث التي حصلت سنة 597 وسنة 587 أظهرت أنه كان على حقّ. فاسم إرميا هو الذي يعطي الكتابَ السلطةَ التي تتمتعّ بها كلمة الله. وهكذا كان تطوّر من نبيّ هو موضوع اعتراض إلى ني دخلت كلمته في قانون الكتاب المقدس.
ب- مواضيع أخرى
الموضوع الأولى هو مُلك يهوه الشامل. حين نقابل 15: 1- 16 في النسختين، نرى أن مس تتضمّن إضافات بشكل مجدلة (آ 6، 8، 10) تشدّد على الطابع الكوني والشامل لملك الربّ. فلا يكفي القول بأن آلهة الأمم عاجزة، بل يجب القول بأن الله (يهوه) هو ملك الأمم. ففي مملكة بابل نفسها، يهوه وحده هو ملك. لن يخاف أحدٌ الآلهة. ولكن على كل إنسان أن يخاف يهوه. صار منظور مس منظوراً مسكونياً: هناك علاقة بين الأمم وإله اسرائيل.
وهناك نصوص أخرى تحمل اللهجة عينها. يُدعى نبوخذ نصر "عبدي" مثل كورش (25: 9 ؛ 27: 6 ؛ 43: 10). والإنباءان في 25: 14؛ 7:27 يفترضان أن يهوه هو سيّد التاريخ بلا منازع. "كل الأمم تخضع له (لنبوخذ نصر) إلى أن يأتي أخيراً وقت أرضِه (أي الوقت الذي فيه يجتاح العدوُّ أرضه). عندئذ تستعبده أم قوية وملوك عظماء" (7:27).
والموضوع الثاني هو الاتجاه الكهنوتي. فأهمية الكهنوت المتعاظمة بعد المنفى نجدها مطبوعة في النصوص البيبليّة. فالإضافة التي نقرأها في 33: 14- 26، تتوخّى أن تربط بالكهنوت، العهدَ الذي كان التاريخ يربطه فقط بنسل داود. تتضمّن هذه الإضافة استعادة للقول النبوي حول السلالة الملكية كما في 23: 5- 6 (ألغيت لفظة "ملك"، وصارت اسرائيل اورشليم، ويهوه برُّنا صار اسم المدينة لا اسم الملك) الذي حوّر بعض الشيء في النصّ، وضمّ إليه وعدًا يتوجّه إلى الكهنة اللاويين. "إن امكن أن تنقضوا عهدي مع النهار... يمكن أن تنقضوا عهدي مع داود عبدي حتّى لا يكون له من نسله من يملك على عرشه، ومع الكهنة اللاويين خدّامي. وكما أن نجوم السماء لا تُحصى، كذلك أكثر ذريّةَ داود عبدي واللاويين خدّامي " (33: 19- 22). لا شكّ في أن عبارتي "الكهنة اللاويين" و"اللاويين خدّامي" قد أضيفت فيما بعد على نسل داود، بانتظار أن يحلّ الكهنوت محلّ الملك. هذا ما نجده أيضاً في آ 17- 18 من مقابلة بين الملك والكهنة الذين جُعلوا في النسخة الثانية مع الملك. "لا ينقطع لداود رجل من نسله يجلس على عرش بيت اسرائيل، ولا ينقطع للكهنة اللاويين رجل يُصعد الحرقات أمامي ويقدّم قرابين الحنطة ويذبح الذبائح إلى الأبد".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM