مقدّمات - الفصل الأول: أرميا النبيّ والإنسان المتألّم

مقدّمات

الفصل الأول
أرميا النبيّ والإنسان المتألّم

في ساعة من ساعات الضيق، هتف إرميا: "دعت كلامك فوعيته، فكان لي كلامك سروراً وفرحاً في قلبي. فأنا دُعيت باسمك أيها الربّ الاله القدير" (15: 16). هذا الانسان الذي عرف العزلة (آ 17)، وغدر به إخوته وأهل بيته (12: 6)، واشتكى عليه أصحابه (20: 15)، نودّ أن نتعرّف إلى سيرته، إلى دعوته كنبيّ، إلى حياة الألم التي نلج فيها من خلال اعترافاته.

1-إرميا
نجد الأمور الكثيرة عن إرميا في سفر ارميا، وقد وضعها تلاميذه كمقدّمة لأقواله. غير أن الأخبار عن هذا النبي لم ترد في تسلسل زمنيّ، بل جاءت حسب الظروف. فإن أردنا أن نجد بعض الترتيب، نصطدم بقيمة هذه المعلومات التي جُعلت خلال تدوين فصول الكتاب على أكثر من مرحلة. نبدأ بسيرة إرميا، ونواصل في مراحل كرازته.

أ- سيرة إرميا
أولاً: ابن عناتوت
وُلد إرميا بين سنة 650 و 645. هذا يعني أنه كان ابن عشرين سنة تقريباً حين تلقى النداء من أجل الخدمة النبويّة. فالنداء وصل إلى النبيّ في السنة الثالثة عشرة لحكم يوشيا، ملك يهوذا (640- 609)، أي سنة 627- 626 (1: 2). ويؤكّد خبر الارسال (1: 6) أن إرميا كان بعدُ فتى أو شاباً في بداية شبابه حين سمع الله يدعوه. غير أن بعض الشّراح القلائل يقرأون ما في 1: 2 على أنه يرتبط بولادة النبيّ. وهكذا يكون النبيّ في نظرهم قد وُلد سنة 627 ودُعي إلى المهمّة النبويّة سنة 659، فلا يكون لعب أي دور في الإصلاح الذي قام به يوشيا. وما يُسند هذه الكرونولوجيا هو أن النداء إلى العزوبيّة (16: 1- 9: لا تأخذ لك امرأة) الذي يدلّ على أن لا رجوع عن دينونة الله لشعبه، لا يمكن أن يكون قبل سنة 604. فإذا كان إرميا قد وُلد سنة 645، فهذا النداء قد وصل إليه ساعة كان ابن اربعين سنة ونيّف، وهذا يعني تاريخاً متأخّراً، ولا سممّا إذا فكرّنا بأهميّة الزواج المبكر في مجتمع ارميا (ماذا تعني هذه العزوبيّة لرجل يُعتبر شيخاً في ذلك الزمان). ماذا نردّ على هذا القول؟ إن إر 16 يُعطى معنى العزوبيّة في إطار خدمة إرميا النبويّة، ولا يتوقّف عند وضع إرميا قبل سنة 604 بسنوات عديدة. ثم إذا جعلنا ولادة ارميا سنة 627، فهذا ما يجعلنا نرفض كل كرازة للنبيّ في أيام يوشيا، وهذا ما يشكّل صعوبة لا يمكن تجاوزها.
انتمى إرميا إلى عائلة أقامت في عناتوت، وهي قرية صغيرة تبعد 6 كلم إلى الشمال الشرقي من أورشليم. إذن، أقام النبيّ في أرض بنيامين (رج يش 21: 17- 18)، وهي قبيلة اعتبرت أنها ترتبط بمملكة اسرائيل في الشمال. من أجل هذا، تكرّرت نداءات إرميا إلى مملكة الشمال. غير أن عناتوت ارتبطت في زمن إرميا بالادارة الملكيّة في أورشليم. وفي أي حال، تجذّر ارميا تجذّرًا عميقاً بأرض بنيامين قبل أن يأتي إلى أورشليم. واهتمّ كنبيّ بمستقبل مملكة اسرائيل التي قال فيها أولى كرازته، في خطّ هوشع ذلك النبي الذي أثّر تأثيراً كبيراً في مملكة الشمال التي ارتبطت بعبادة البعل الآتية من العالم الفينيقي.

ثانياً: ابن عائلة كهنوتية
وكانت فرضيّة تقول إن عائلة إرميا تعود إلى الكاهن ابياتر الذي فرض عليه سليمان الإقامة الجبرية في عناتوت لأنه ساند حزب ادونيا أخيه ومزاحمه على العرش (1 مل 2: 26- 27؛ رج 1 :7). إن بداية إرميا (1: 1) تدلّ بوضوح على ارتباط إرميا بعالم الكهنوت، فتُحدّثنا عن إرميا "بن حلقيا من عائلة كهنوتيّة تعيش في عناتوت، في أرض بنيامين". ولكن هل تعود هذه العائلة إلى أبياتر؟ الأمر ممكن، لاسيّمَا وأن عناتوت هي مدينة لاوية حسب يش 18:21. ومع أن الوالد كان كاهناً، إلاّ أن لا شيء يشير إلى أن إرميا خلف أباه في الوظيفة الكهنوتيّة. فالإصلاح الديني الذي قام به الملك يوشيا سنة 622، قد بلبل حياة الكهنة في قرية عناتوت الصغيرة. ما عادوا يقدرون أن يخدموا في القرية، ولم يكن لهم مكان في هيكل أورشليم. فحين يأتي إرميا إلى المدينة المقدّسة، سيشهد رفضاً من كهنة الهيكل تجاه خدّام المعابد المحلّية.
وفي أي حال، سيصطدم إرميا بعداء الكهنة المتحدّرين من الكاهن صادوق (ف 20)، الذين سيطلبون محاكمته (7:26 ي). في الحقيقة، قال إرميا خطة قاسية على الهيكل (ف 7) الذي رأى فيه اليهوذ اويون عربون خلاص دون الحاجة إلى توبة حقيقيّة. وجرأة مثل هذا الكلام تبيّن بما فيه الكفاية أن إرميا لم يكن مرتبطاً بهيكل أورشليم، وهذا ما يميّزه عن حزقيال النبيّ الذي كان كاهناً. نستطيع القول إن إرميا دخل حقاً في الإصلاح الاشتراعي، وترك الخدمة في معبد عناتوت. كما أنه أراد أن يتحرّر من نظُم تقيّده ليكون بكلّيته لكلام الربّ. لهذا، كان نبيّ الله وحسب، وحامل كلمته.

ثالثاً: إبن الريف لا إبن المدينة
نستخلص من هذه الملاحظات الأولى إشارات طبعت بطابعها حياة النبيّ الذي ظلّ متعلّقاً حتّى العظام بقريته الصغيرة. فما هو إبن المدينة، شأنه شأن أشعيا، رغم إقامته في أورشليم في نهاية عهد يوشيا. فرميا لا ينسى أبداً أنه ينتمي إلى عناتوت. وهو في عزّ حصار أورشليم سيشتري حقلاً من ابن عفه المقيم في عناتوت (32: 1- 15؛ رج 37: 11- 12)، وهذا العمل يدلّ على ارتباطه بعائلته وبقريته، كما يدلّ على الرجاء الذي يعمر قلبه بمستقبل زاهر من أجل الشعب.
قضى إرميا صباه في الريف، لا في المدينة. فراقب الأشخاص والأشياء. وتأثّرت كرازته بهذا الاتصال اليوميّ بحياة قرية صغيرة يعيش أهلها من الأرض. لهذا اهتمّ النبيّ بتشابيه مأخوذة من الطبيعة ومسيرة الفصول. راقب شجرة اللوز التي تبدو "كالساهر"، التي تسبق سائر الاشجار فتزهر معلنة الربيع (1: 11). وعرف عادات الدور، من الحجل (17: 11) إلى اللقلق واليمامة والسنونو والخطّاف (7:8). كما عرف أهميّة الماء بالنسبة إلى الناس والحيوان والأرض (14: 3- 6)، والعناية التي تتطلّبها البئر لكي تحتفظ بالماء (3:2). رأى الفلاّح يزرع الكرمة، والأمل الذي يضعه هذا الفلاّح بما ينتظر من ثمار (2: 21). كل هذا يدلّ على شخص بتأمّل ويشاهد. فأبسط الأشياء تكلّمه عن الله وعن عمله. وهذا الشخص المليء بالاحساس والرهافة هو الذي يدعوه الله إلى المهمّة النبويّة.
نادى الربّ إرميا. فاكتشف النبيّ شيئاً فشيئاً أن كلمة الله التي كُلّف بنقلها، هي موضوع هزء لدى الكثيرين (6: 10)، بحيث صارت له حملاً ثقيلاً. ونظنّ أن النبيّ أحسّ بالقنوط، فتطلّع إلى وقت يتخلّى فيه عن هذه المهمة، بحيث إن الشرّاح تحدّثوا عن أزمة في دعوته (15: 15- 21) في عهد يوياقيم. فالنداءات إلى التوبة لن تسمع. وسيكون ارميا شاهداً بأم العين لأحداث تنتهي بسقوط أورشليم سنة 587 دون أن يقدر أن يفعل شيئاً. عندئذ اختبر النبيّ أن عليه أن يشهد بحياته وآلامه على قوّة كلام ذاك الذي كلّفه بهذه المهمّة، بالخدمة النبويّة.

ب- مراحل كرازة النبيّ
أولاً: في عهد يوشيا
تمتدّ هذه المرحلة من سنة 627 حتى سنة 609، وذلك في عهد الملك يوشيا (640- 609) الذي توفّي حين أراد أن يصدّ هجوم الفرعون نكو الثاني في مجدو.
أطلق النبيّ نداء إلى التوبة (ف 2- 6). وجّهه إلى مملكة الشمال، إلى اسرائيل التي كانت عاصمتها السامرة قبل أن تدمّر على يد الاشوريين سنة 722- 721 وتصبح مقاطعة أشوريّة (ف 30- 31). أما النداء فهو نداء الرجاء إلى أولئك المقيمين هناك. قد يكون انطلق النبيّ من الوضع السياسيّ المؤاتي بسبب غياب مصر وأشورية عن الساحة، ومحاولة يوشيا إعادة مملكة داود إلى ما كانت عليه.
هذه المرحلة هي أسعد المراحل في حياة النبيّ. هي مرحلة البدايات مع إصلاح الملك يوشيا حسب روح الكتاب (سفر التثنية) الذي اكتُشف في الهيكل سنة 622. عرف إرميا هذا الإصلاح، وقد يكون شارك فيه. أو أقلّه شارك في الآمال التي حرّكها هذا الإصلاح لدى الكثيرين.
متى جاء إرميا إلى أورشليم؟ هذا ما لا نستطيع أن نقوله بالتحديد. ولكن ما نلاحظ هو أن النبيّ لقي مساندة من قبل بعض موظّفي الملك، وهذا ما يدلّ أنه عرفهم وعرفوه ورافقوه بعض الوقت. نذكر منهم شافان الذي سيتدخّل أولادُه من أجل إرميا في الأوقات الحرجة (26: 24 ؛ 36: 12؛ رج 2 مل 22: 38- 41). إذن، يبدو أن إرميا عرف هؤلاء الموظّفين أقله في نهاية عهد يوشيا.

ثانياً: في أيام يوياقيم وصدقيا
كان يوياقيم ملكاً بعد موت أبيه يوشيا، سنة 659. وتوفّي قبل بدء الحصار على أورشليم ببضعة اشهر، سنة 598. نب ذلك الوقت، كان إرميا نب أورشليم، فاصطدم بعداء الملك يوياقيم الذي أدار ظهره لسياسة والده يوشيا: ترك بابل وتعلّق بمصر أما جوهر الكرازة النبوية في ذاك الوقت فنجده في ف 7-20. وطبع حدثان طابعهما على تلك الحقبة: الخطبة على الهيكل (ف 7) التي حرّكت عداوة الكهنة (ف 26)، وحدثُ الدرج الذي أحرقه الملك سنة 604.
وجاء صدقيا سنة 597 ملكاً بإرادة البابليين الذين أخذوا يوياكين إلى المنفى بعد هجوم أول على أورشليم. هنا اصطدم إرميا بالموظّفين الكبار الذين يقدّمون النصح إلى الملك. أوصى النبيّ بسياسة خضوع لبابل منعاً لسفك الدماء والدمار والمنفى. ولكن الملك صدقيا كان أضعف من أن يتّخذ قراراً بنفسه، فخضع لسلطة موظّفيه الذين طالبوا بسياسة موالية لمصر، وكانت النتيجة ما كانت. نجد في هذه الحقبة عدّة أخبار تروي سيرة النبيّ (ف 27- 29؛ 34- 35؛ 37- 39).

ثالثاً: بعد سقوط أورشليم
حاصر البابليون المدينة حصاراً دام سنة ونصف السنة، وسقطت أورشليم سنة 587، وصارت يهوذا خاضعة لبابل. وعيّن البابليون حاكماً على البلاد من قبلهم في شخص جدليا. ترينا معطيات الكتاب إرميا مكرهاً على الذهاب إلى مصر بعد مقتل جدليا (ف 40 - 43). ولكن لا نصّ يلقي الضوء على موت النبيّ، الذي نعتبر أنه مات في مصر وكأن "اللعنة" حلّت عليه.
غير أن تأثير النبيّ سيكون كبيراً بعد موته. جُمعت أقواله. وأعاد تلاميذه قراءتها، وأضافوا عليها ما أضافوا لتكون درساً للجماعة العائدة من المنفى. وهكذا كان لنا سفر إرميا كما نقرأه اليوم.

2- إرميا النبيّ
نتوقّف هنا عند "النداء الاول" (1: 4- 19)، ثم عند "النداء الثاني" (15: 10 -21).
أ- قبل أن أصوّرك في البطن (1: 4- 19)
يقدّم لنا هذا النصّ الانطلاقة الدينية الأساسيّة في حياة النبيّ، ولو كان التلاميذ قد حدّدوا فيما بعد كيف فهم إرميا رسالته.
أولاً: بنية النصّ
يبدأ النصّ بعبارة مقدّمة: "كانت إلي كلمة الربّ قائلة" (آ 4). هذه العبارة نجدها أيضاً في آ 11 و آ 13. وهكذا نقسم النصّ ثلاثة أقسام، حيث يبدأ كل نصّ بالشكل عينه ويتركّز على كلمة الله. هذا مع العلم أن هناك توضيحات. ففي آ 13، تأتي بعد عبارة المقدمة "مرة ثانية". وهذا ما يعود بنا إلى الرؤية الأولى في آ 11- 12. ثم إن آ 11- 12 و آ 13 ي تبدو كخبر رؤية مع فمن أدبيّ محدّد. وأخيراً، بعد آ 17، يتوخه الكلام إلى النبيّ في صيغة الخاطب، فيشكّل انقطاعاً مع القسم الثالث الذي يبدأ في آ 13. إذن، نظنّ ان 1: 4- 19 يتكوّن من نصوص كانت مستقلّة في الاصل وضُمّت بعضها إلى بعض من وجهة لاهوتيّة: إرميا هو نبيّ تغذّت حياته غذاء من كلام الله.
ثانياً: خبر الدعوة (آ 4- 10)
تبدأ آ 4- 10 بمقدمة تعلن حدثاً بشكل كلام: شكلُ النصّ هو شكل حوار بين الله وإرميا. والخبرة التي نجدها هنا هي خبرة سماع بالدرجة الأولى قبل أن تصبح خبرة نظر رغم ما نقرأ في آ 9. لا يعود هذا الحوار إلى مكان وزمان محدَّدين، ولا إلى ظرف خاصّ. وهكذا يتميّز هذا النصّ عن سائر الأخبار النبويّة المشابهة (أش 6، حز 1- 3). في هذه الأخبار حول دعوة النبيّ، يبدو عنصرُ الرؤية مركزياً. أما عنصر سماع الكلمة فيأتي في المقام الثاني. أما في إر 1: 9 فعنصر الرؤية بسيط، كلمة الله (آ 9- 10) تعود فتثبّت ما قيل في آ 5. وهكذا نعتبر أن آ 9 قد أضيفت. وما يُسند ذلك هو أن هذه الآية التي فيها يقول الله لإرميا "ها أنا أضع كلامي في فمك"، تذكّرنا بما قيل في تث 18:18 عن النبيّ الشبيه بموسى الذي يعلن له الله: "سأضع أقوالي في فمك". فهذه العودة الواضحة إلى تث 18:18 تفسِّر عنصرًا نقرأه في آ 7: "كلّ ما آمرك به تقوله". هذا التحديد يقطع الرباط بين آ 7 أ وآ 8 حيث يرسل الربّ النبيّ إلى سامعين، ويعده بأن يحفظه في هذه المهمّة الصعبة. أما آ 7 ب فتشدّد على مجمل التعليم الإلهيّ الذي يجب أن يُعلن. تتضمّن هذه العودةُ إلى تث 18:18 أن التلاميذ رأوا في إرميا النبيّ الشبيه بموسى. إذن، لا يبدو معقولاً أن إرميا ربط دعوته بهذا الاعلان. وهكذا نرى هنا تحديداً جاء به مدوِّن تأثّر بسفر التثنيّة، فاعتبر أن تعليم إرميا يشكّل وحدة متكاملة. وكان ذلك بعد موت النبيّ. وهكذا نكتشف في آ 4- 10 مستويين في القراءة.
يتضمّن خبرُ الدعوة آ 4- 8 مع عدا آ 7 ب. في هذا الحوار يبدأ الله فيتكلّم: يؤكّد أنه يعرف إرميا منذ زمن بعيد، منذ الحبل به في البطن. وهذه المعرفة تحدّد اختياراً. سبق لله وعرف ما سوف يعمل. أما الإنسان فلا يستطيع بعد أن يُدرك النداء. هذه التهيئة المسبقة أمر نعرفه في العهد القديم (مز 139: 13- 16) وفي العهد الجديد (روم 8: 29). وهكذا نفهِم أن هذا التأمّل في عمل الله تجاه الانسان، يفترض خبرة النبيّ. إذن، ليس الحوار نقلاً حرفياً تمَّ ساعة النداء، بل هو يلتقط ثمرة خبرة داخليّة طويلة عبّر عنها الكاتب بشكل حوار.
واختيار الله يتوخّى بلاغاً يصل إلى النبيّ ويدعوه لكي يكون نبيّ الأمم. ما معنى لفظة "أمم" مع أنها تضمّ شعب الله وسائر الشعوب؟ بلغّ إرميا كلامه في حقبة وجب فيها على شعب يهوذا بأن يواجه وضعاً سياسياً صعباً، يتدخّل فيه المصريون والأشوريون والبابليون والموآبيّون... تتدخّل فيه أم تحيط بيهوذا وأورشليم. وحين تكلّم إرميا كنبيّ دلّ على عمل سياسيّ، مع أن تعليمه يتركّز على التوبة وله بُعد ديني في الدرجة الأولى.
نادى الله إرميا، فأجاب معترضاً: هو لا يُحسن الكلام. أي هو لم يمارس بعدُ خدمة الكلمة التي هي وظيفة النبيّ الأولى. لا يرتبط اعتراض إرميا بكونه صبياً بعد. فهو شاب. ولفظة "ن ع ر" تدلِّ على شخص عمره بين عشرين سنة وثلاثين. إذن، ما يشدّد عليه إرميا هو عدم خبرته. فردّ الربّ على النبيّ مزيلاً اعتراضه، ومثبتاً إرساله سانداً هذا الارسال إلى وعد يقول: "أنا معك" (آ 7 أ، 8).
عبر هذا الحوار الذي يعبّر عن خبرة شخصيّة، اكتشف إرميا ذاك المرسَل (آ 7)، ذاك الذي اختاره الله ليحمل كلمته، ذاك الذي يُطلب منه القبول رغم كل التردّدات.
أعيدت قراءة هذه الآيات الحاسمة (آ 4- 8، ما عدا آ 7 ب)، وأضيف إليها آ 7 ب، 9- 10، فجعلت من إرميا النبيّ الشبيه بموسى. نحن هنا أمام تفسير لمهمّة إرميا على ضوء مجمل تعليمه النبويّ. وأضاف مدوّن على حوار مركّز على سماع كلام الله، عنصر نظر في آ 9 أ، فذكّرنا بما في أش 8:6. وهكذا تمّ الرباط بين خبر الدعوة وسائر آيات النصّ المركّزة على النظر. إن الكلمة التي وُضعت في فم الله في آ 10، توسّعُ مهمّة النبيّ إلى "الأمم والممالك" مع تشديد على الدينونة التي تنتظر هذه الأمم. وهكذا صار إرميا وجهاً فريداً في تاريخ الشعب بحيث صار موازياً لموسى: كان موسى أول الأنبياء في اسرائيل. وسيكون إرميا الأخير، ذاك الذي تُسمع أقواله في الأزمنة الصعبة. إن تعليم إرميا يمثّل الفرصة الأخيرة لاسرائيل ليُفلت من الدينونة بالتوبة، فيُقرأ ساعة سقوط أورشليم (587)، بل بعد سقوط أورشليم ووجود اسرائيل بين الأمم. في هذا الإطار، وجب على المدوّن المتأثّر بتثنية الاشتراع، أن يعطي تعليم النبيّ بُعداً مسكونياً شاملاً (آ 10).
ثالثاً: رؤيتان (آ 11- 16)
تبدو الرؤية الأولى (آ 11- 12) بسيطة، وتتبع بنية وجدناها في عا 7: 1- 9؛ 8: 1- 3؛ 9: 1- 4. وهي تلعب على لفظة "سهر". إذن، أرادت هذه الرؤية أن تذكّر الذين لا يتذكّرون، أن الله يسهر على كلمته لكي ينفّذها. فعبارة المقدّمة تتحدّث عن هذه الكلمة. والرؤية كلها تشير إلى هذه الكلمة. إن كلمة الله التي سلّمت إلى النبيّ هي كلمة فاعلة، لأن الله يسهر لكي يجعلها تتمّ.
والرؤية الثانية (آ 13- 16) هي رؤية القِدر التي تغلي فتعلن الدينونة التي تصيب الشعب. سيأتي الشرّ من الشمال، من حيث تأتي الحملات العسكريّة التي تهدّد وجود يهوذا وأورشليم. وتحدّد آ 16 في أسلوب اشتراعي أسباب هذا الانقلاب: إن عبادة الأصنام لدى الشعب تبرّر العقاب القريب.
بعد آ 17، نجد قطعاً من الوجهة الأدبية، لأن الله يتوخه بشكل مباشر إلى إرميا. وهكذا نكاد ننسى الرؤية في آ 13- 16. فهل نفصل آ 17- 19 عن سائر ف 1؟ كلا. فإن آ 17- 19 تشكل تضميناً مع القسم الأول، مع خبر الدعوة. من هذا القبيل نلاحظ التوازي بين آ 19 وآ 8 ب (فأنا معك لاخلّصك، يقول الربّ). ثم إننا نجد في آ 17- 19 رغبة في تجديد نداء الله إلى المهمّة النبويّة في خط "اعترافات" إرميا. إن آ 17 تذكّرنا بما في ف 17- 18 وهي صلاة يطلب فيها النبيّ من الله ليعاقب مضطهديه الذين يشكون بتحقيق كلمة الله، وهذا موضوع رئيسيّ في ف 1. إن آ 18 تستعيد 15: 20 الذي يرتبط بـ "الاعترافات " ويدلّ على أزمة في دعوة النبيّ، وتتوسّع في العبارات المماثلة. أما بداية آ 19 فهي استعادة نصوصيّة كما في 15: 20. وهكذا نعود إلى بداية النص: تجاه المهمّة التي كلّف بها النبيّ، على إرميا أن يبقى ثابتاً رغم المحن. هذا ما قالته آ 8: "لا تخف من مواجهتهم، فإني معك لأنقذك، يقول الربّ".
ب- ويل لي يا أمي (15: 10- 21)
أترى شك النبيّ بدعوته فاحتاج إلى صوت الربّ ليشجّعه على متابعة الجهاد. هذا ما نستشفّه من نصّ يجعله الشرّاح بين "الاعترافات". يشتكي النبيّ فنحقق بالعنف عبر كلمات شكواه. ما عاد إرميا يتحفّظ في كلامه، فقلبُه مليء بالمرارة والشك بحيث يلوم الله نفسه بسبب الحالة التي فيها يعيش.
"ويل لي، يا أمي، لأنك ولدتني" (آ 10). تبدأ الصلاة بالصراخ، وهل يصرخ إلاّ ذاك الذي يتألّم. وأخذ النبيّ يلعن اليوم الذي خُلق فيه كما سيفعل أيوب من بعده (أي 3: 3- 26). وحين هاجم النبيّ أمّه، أراد أن يهاجم الله الذي اختاره وهو في البطن (1: 5). هذا التقارب بين ف 1 وف 15 يدلّ على خطورة الأزمة ومرماها، وعلى مواصلة المهمّة النبويّة مهما كانت المقاومات عنيفة. وفي الواقع، توجّه الله إلى النبيّ بشكل مباشر: سيعودون هم إليك، وأنت لا تعود إليهم. فإرميا ربط مصيره بمصير الله. فإن هو تراجع، كان وكأن الله يتراجع.
ما يتألّم منه إرميا هو أن الجميع رذلوه، بعد أن اعتبروه رجل خصام ونزاع. ومع ذلك فقد خدم الله من أجل الخير، وتشفعّ لديه من أجل الشعب في وقت الشرّ والضيق. وهكذا نجد في آ 15 نداء سمعناه في 3:12، نداء يدعو الله إلى عمل سريع بعد أن كثُر مضطهدو النبيّ.
ونعود إلى الهدوء في آ 16. عاد النبيّ إلى الماضي، وأعطى ذاته كلها للربّ (آ 17؛ رج 16: 1- 9). فرغم الماضي، لا يرى إرميا منذ اليوم سوى النتائج السلبيّة لرسالته في حياته الخاصة: العزلة والوحدة، الاضطهاد والمضايقات. وإن هو تذكّر أصل هذه الرسالة، فليجعلها في الماضي وكأنه يريد أن يقطع كل علاقة بها. ذاك الذي أعلن أن الله هو ينبوع المياه الحيّة (2: 3)، يتهم الله الآن بأنه "نهر كاذب ومياه تخيّب الأمال لأنها لا تدوم" (آ 18). وهكذا صار إرميا في عمق أزمة لن يستطيع وحده أن يخرج منها.
وجاء جواب الله نداء إلى التوبة (آ 19). سأل النبيّ فما جاءه جواب. وسيسأل أيوب مثله ولن يجد جواباً، فينهي كلامه "نادماً في التراب والرماد" (أي 42: 6). تلك هي المفارقة في علاقة الانسان بالله. فالنبيّ يُدعى للتوبة، للعودة إلى الله، وهو الذي كانت مهمّته دعوة الناس إلى التوبة. أهكذا يعامل النبيّ؟ أما كان يجب على الله أن يحرّك الشعب للعودة إليه. "فالنبيّ لا يحتاج إلى العودة والله معه "! كلا، بل هو يحتاج إلى أن يدخل في مخطّط الله، ويفهم أنه ليس أفضل من الله. فهل سمع الشعب من الله لكي يسمع من النبيّ؟ فماذا يدهش إرميا ومتى كان المرسل أعظم من الذي يرسله؟
هل يتراجع الله أمام الصعوبات التي تواجه نبئه؟ كلا. بل هو يجدّد نداءه ويدعو إرميا إلى جواب الثقة: "سأجعلك تجاه هذا الشعب سوراً من نحاس حصيناً، فيحاربونك ولا يقدرون عليك، لأني معك لأخلّصك وأنقذك، يقول الربّ " (آ 20). وهكذا يطلب الله من نبيّه وحامل كلمته أن يتنقّى من كل ضعف وتخاذل. ويُفهمه أن ما يفعله الله هو أن يقويّ مرسله، لا أن ينتقم من مضطهديه. وهكذا جدّد الربّ الوعد الذي جعله لنبيّه حين دعاه وأرسله (8:1). وهكذا نستطيع أن نتحدّث عن تجديد حقيقيّ للدعوة النبويّة (17:1- 19). لا يُلغي الله الصليب الذي يُثقل كتفي النبيّ، بل يكشف له بشكل تدريجيّ أن الصليب جزء من المهمّة النبوية. فعلى النبيّ أن لا يتراجع مهما كانت الصعاب. فإن هو تراجع تراجع الله (آ 19) "وتركه ". وإن هو ثبت ثبّته الله في رسالته.
3- إرميا الإنسان المتألّم
بعد أن ذكرنا الصراع الداخليّ (15: 15- 21) الذي عاشه النبيّ أمام الأزمة، نفهم كلاماً قيل عن إرميا بأنه كان رجل الآلام. هذا ما نكتشفه في ما سميّت "اعترافات إرميا"، التي شك بعضهم في صحتها (اعتبروا مدوّنها أحد تلاميذ النبيّ)، وهي قريبة من مزامير التشكيّ. أما نحن فنكتشف في هذه "الاعترافات" خبرة النبيّ الذي عبّر عن ايمانه في أوان الشدة بلغة استقاها من المزامير أو استقت منها المزامير ولا سيمّا مز 22.
أ- لماذا ينجح الاشرار (12: 1- 5)
بدأ النبيّ فطب الأمان مذكّراً بعدل الله. ولكنه يريد أن يتكلّم. هو لا يستطع بعدُ أن يسكت حين يرى نجاح الأشرار وسعادتهم. نجد مثل هذا الاحتجاج في مز 49؛ 73... كرّس إرميا نفسه للرب، وهو لا يلقى سوى الفشل. فهدّده حتى أهلُ قبيلته. فماذا ينتظر الربّ لكي يفعل؟ من أجل هذا أرسل النبيّ شكواه.
تتسجّل شكوى النبيّ هذه في سياق اضطهاد إرميا على يد العائلة الموسّعة (11: 18 - 23 ؛ 12: 6). ووُلدت الصلاة من تعارض بين تأكيد إيمانيّ يقول إن الله عادل، وخبرة متكرّرة ترى نجاح الأشرار. هنا نتذكر أن كل جزاء يتمّ على هذه الأرض، وشعبُ اسرائيل لم يعرف بعدُ الحياة في الآخرة. لهاذ ينتظر الربّ لكي يجازي نبئه بالخير والنجاح ويُفني الخصوم. من أجل هذا تتفجر"لماذا" من فم النبيّ على مثال ما في مز 12 مع عبارة "إلى متى، إلى متى"؟ فالأشرار ينعمون في الظاهر ببركة الله، ولكن نجاحهم لا يريد أن يعرف أن الله هو ينبوع هذه البركة. لا مكان حقيقياً لله في حياتهم. لهذا يهتم النبيّ: "أنت قريب من أفواههم وبعيد عن كلاهم"، أي عن عواطفهم العميقة (آ 2). يبقى الله على باب حياتهم ولا يدخل إلى حميميّتها. إما إرميا فيطلب من الله أن ينظر إلى قلبه ويشهد، لأنه متيقن أنه يخدم الربّ. إذا كان الله عادلاً، وهو كذلك، فعليه أن يتدخل ليضع حداً لتعارض يراه النبيّ ولا يجد له جواباً.
إذا تركنا جانباً آ 4 أ التي تلمّح إلى وضع الجفاف والقحط، فإن آ 4 ب تنقل جواب الأشرار: "الله لا يرى مستقبلنا وما نصير إليه". حين أورد إرميا هذا القول بدا مدافعاً عن الله، لأن الله هو بالنسبة إليه ذاك الذي يعطي الإنسان مستقبلاً، يعطيه أملاً (29: 11).
وجاء جواب الله محيِّرًا (آ 5). طرح النبيّ سؤالاً، فردّ الله عليه بأسئلة أخرى: أفهمه أن المحن لم تنتهِ بعد، وأن المستقبل سيكون أقسى من الحاضر إذا كانت محنة صغيرة أوقفتك، فماذا ستفعل أمام محنة كبيرة؟ تعبت مع إنسان يسير راجلاً، فماذا تفعل مع الخيل؟ أنت هنا في أرض آمنة وتشتكي، فماذا سيكون في غور الاردن حيث الحيوان المفترس؟ أجل، لم يأتِ بعد ما هو أسوأ. فبدلاً من العودة إلى الوراء والتشكيّ، يجب على النبيّ أن ينظر إلى الأمام ويستعدّ لمحن آتية.
وهكذا بدا التعارض حاداً بين جواب الله وسؤال إرميا الذي لا يخلو من العنف. ولكن أن بكون النبيّ نقل جواب الله، فهذا يدلّ على أنه يقبل في داخله بما أوحي إليه. وإلا لما كان ذكره بعد تأمّل عميق. عندئذ نكتشف عمق الايمان عند هذا النبيّ الذي طلب منه الله أن يقبل الألم الذي تسبّبُه له مهمّتُه النبويّة.
ب- إشفني فأشفى (17: 14- 18)
"إشفني يا رب فأشفى، خلِّصني فأخلًص". هي صلاةُ توسّل يُطلقها النبيّ وكأنه مريض صار قريباً من الموت. فالنصّ ينتظم حول اعتراض أساسيّ أرسله خصوم النبيّ: "أين كلمة الربّ؟ لتتمّ (فنرى) " (آ 5). أترى الله وعد وأخلف بوعده؟ أتراه لا يقدر أن يفعل فصار شبيهاً بالأصنام؟ أتراه ينسى المساكين ولا يهتمّ بالبشر من عليائه؟
بدت صلاة النبيّ هادئة، فكأنه قد قبل أن يدخل في صبر الله وأناته، تجاه الذين يرفضون أن يسمعوا الكلمة. غير أنّ آ 18 تشدّد على مجيء "يوم الشرّ" الذي يحطمهم. وهكذا يخزى الخصوم. لقد تأكّد النبيّ من أن عقاب الله آتٍ .
وطلب إرميا من الربّ أن يكون شاهدًا بأنّه لم يرغب يومًا في أن بعلن "يوم الشر". فإن أعلنه فطاعة لمهمّة كُلّف بها. لاشكّ في أن مجيء ذاك اليوم أمر لا مهرب منه. لهذا يطلب النبيّ أن يكون مصيره غير مصير مضطهديه. وإن كانت آ 18 قد شدّدت على عقابهم، فإن العقاب يجب أن يحصل لكي يُتمّ كلمة الله (رج 1: 11- 12). بعد ذلك لن يستطيع الخصوم أن يسألوا عن كلمة الربّ التي لم تتمّ بعد.
ونجد اللهجة عينها في صلاة أخرى تفوّه بها إرميا (19:18- 23): "أصغ أنت يا ربّ، واسمع صوت خصومي" (آ 18). لقد تألّم النبيّ من التعارض بين دور لعبه هو، وموقف وقفوه هم. هو تشفعّ أمام الله من أجل الشعب، وقف أمام الله وتكلّم من أجلهم طالبًا الخير لهم. أما هم فصاروا خصومًا له: سلّمْ بنيهم إلى الجوع، إدفعهم إلى السيف، لتكن نساؤهم ثكالى وأرامل. ندهش من هذا النداء إلى الانتقام الذي بوجّهه النبيّ إلى الربّ، فنفهم الألم العميق الذي يحزّ في نفسه، ونتذكّر بعض المزامير التي تحمل عنفًا مماثلاً (مز 35: 4- 6؛ 83: 14- 16). حين نسمع مثل هذا الصراخ، نتشكّك نحن الذين علّمنا الربّ أن نغفر وأن نردّ على الشرّ بالخير. ولكن يجب أن لا ننسى أن إرميا لا يطلب انتقامًا شخصيًا، بل هو يريد الدفاع عن الله كلمته. وإن كان النبيّ يتألّم ويُطلق شكواه، فلكي يدافع عن "شرفه" وعن "شرف" الله في الوقت ذاته، والواحد لا ينفصل عن الآخر.
ج- خدعتني يا ربّ فانخدعت (7:20- 18)
لا يُشكّل هذا "الاعتراف" الأخير من "الاعترافات" صلاة في شكل وحدة تامّة، بل نجد فيه قطعتين متميّزتين. تبدو آ 12- 13 إضافة أخذت من 11: 20 بالنسبة إلى آ 12. أمّا آ 13 فهي شعر يحطّم المجموعة، وقد جعله "الناشر" هنا ليخفف من عنف صلاة النبيّ.
"خدعتني يا رب فانخدعت " (آ 7)0 اتّهم إرميا النبيّ الله لأنّه استفاد من شبابه وعدم خبرته فخدعه كما يخدع شابّ فتاة، ووعده وعودًا بانت "كاذبة". أجل، كان الله عنيفًا بالنسبة إلى النبيّ، فبان إرميا وكأنه في القيود والسلاسل. ولكن لغة العنف هذه هي في الوقت عينه لغة الحبّ الذي خاب أمله. ساعة تلقى إرميا النداء، لم يكن يعرف النتائج التي ترتّبُها هذه المهمّةُ التي كُلّف بها، على حياته. مع الوقت، صار إرميا موضوع هزء للجميع. لا يومًا واحدًا، بل كلّ أيّام رسالته. وما سبّب هذا الوضع المؤلم هو كلمة الله التي يحملها (آ 8) والتي تتضمّن التنديد بخطيئة الشعب. عاد النبيّ إلى عمله السابق، فرأى النتيجة سلبيّة. لهذا، أراد أن يُفلت من هذه المهمّة الإلهيّة: لن أذكر كلام الربّ، ولن أقول كلمة باصم الربّ. ولكنّه لم يقدر أن يتهرّب من إرادة الله فيه، فأحسّ بها نارًا محرقة حُبست في عظامه. فلا بدّ من التخلّص منها (رج 14:5؛ 29:23). وهكذا نشهد صراعًا باطنيًّا حقيقيًّا بين النبيّ والله.
وتسمعنا آ 10 أقوال خصوم النبيّ من جهة، وأقوال أصدقائه: من جهة التهديد والرعب كانت صرخة: اشتكوا عليه. فجاء الجواب: سنشتكي. ومن جهة ثانية، انتظر "الذين تهمّهم سلامتي" أن يسقط، فيصلوا إلى أهدافهم وينتقموا منه. إذن، يأتي إليه "الشر" من هنا ومن هناك. فما يكون تصرّف النبيّ؟ أيلعن هؤلاء وأولئك كما فعل في الماضي؟ بل تكون صرخته صرخة الثقة بالله الذي هو أمل النبيّ الوحيد. "لكن الربّ معي كمقاتل رهيب" (آ 11).
وتستعيد آ 14 موضوع لعنة يوم الولادة (15: 10). قد ندهش من ضيق النبيّ الذي لا يلعن فقط يوم ولادته (رج 1 :7)، بل الإنسان الذي أعلن النبأ لوالده. لقد لاحظ إرميا فشل رسالته على المستوى البشريّ، واعتبر أنّ الموت أفضل من كل ما قاساه من آلام. وينتهي هذا "الاعتراف" الأخير على هذه الصرخة، صرخة الضيق، ولا يأتي جواب من الله يعيد الثقة إلى قلب النبيّ.
هناك الكلام. وهناك الحياة. فإرميا سوف يبقى خاضعًا لله، حاملاً كلمته. سيواصل النبيّ الرسالة التي أوكله بها الله، مهما كلّفه ذلك من ثمن. ولولا نعمة الله، لما استطاع أن يعمل. وهكذا نلتقي بشخص آخر تألّم ورفع شكواه إلى الربّ، وسأله أن ينجّيه، فجاءه الجواب الذي يكفي المؤمن في صراع إيمانه: تكفيك نعمتي (2 كور 12: 9). وتابع بولس الرسالة، وقبله فعل إرميا وسائر الأنبياء

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM