تقديم

تقديم

إرميا الذي يعني اسمه الربّ رفيع هو أكثر الأنبياء الذين يتعلّق بهم الإنسان. وما يلفت النظر عنده، هو إحساسه المرهف، والدور الذي لعبه هذا الاحساس في حياته الداخليّة، في تعليمه، بل في وجوده كله. إرميا هو نبيّ الحوار مع الله كما تقول اعترافاته. وهو الشاهد لديانة شخصيّة لا تتوقّف عند الطقوس الخارجيّة. والقلب الذي هو مركز العاطفة والفكر والوعي يحتل عنده مكانة هامّة. لا بدّ لهذا القلب من الارتداد عن شي. والربّ هو الذي يحوّله تحويلاً جذرياً من خلال عهد جديد يقيمه مع شعبه.
ارميا ابن عناتوت، أقام القسم الأكبر من حياته في أورشليم. هذا الانسان الخجول، الخائف والرقيق الناعم، عاش مأساة أورشليم، العاصمة الدينيّة لشعبه، في نهاية القرن السادس ق. م، بل هو أجبر على الحديث عن دمارها. فلم يوقفه شيء عن حمل كلام الله: لا الهزء ولا الافتراء ولا الضرب ولا التهديد بالموت. لهذا بدا هذا النبيُّ رجل الآلام، الذي انطبعت حياته بالفشل. ومع ذلك، فحضوره وكلامه هما اللذان أتاحا للشعب أن لا يموت بعد كارثة سنة 587 ق. م.
إلى كتاب هذا النبيّ سوف نتعرّف، وقد جاء في ثلاثة أقسام: أقوال على يهوذا وأورشليم (2: 1- 25: 14)، أقوال خلاص لاسرائيل ويهوذا (26: 1- 45: 5)، أقوال على الأمم (46: 1- 63:51). هذا الكتاب الذي جاءت نصوص في العبرّية مختلفة عمّا في اليونانيّة، بعد أن أضاف التلاميذ ما أضافوا، وأوضح الناسخون وتوسّعوا في بعض المقاطع. هذا الكتاب الذي عرف أكثر من نشرة قبل أن يصل إلينا في شكله النهائيّ، هو ملتقى تيارات عديدة، نبويّة واشتراعيّة وحكميّة. كل هذا يدلّ على أن النصوص ليست حرفاً ميتاً، بل كائناً حياً. تقرأها الجماعات المؤمنة وتكيّفها مع الزمن المعاصر هذا ما نسميّه إعادة قراءة النصوص من أجل تأوينها. أجل، ليست الأمانة للكتاب المقدس تحجّراً وتكراراً جامداً، بل انفتاحاً وتجدداً.
الى سفر إرميا سوف نتعرّف، وترد دراستنا لكلّ فصل في أربع محطّات قد تتبعها خلاصة. بعد توطئة، هناك قراءة النصّ ومقابلة بين النسخة العبرية والنسخة اليونانية. وننتقل إلى التفسير الذي يحاول أن يُبرز غنى كلام الله في الإطار الذي كُتب فيه. والدراسة العامّة تستنتج الأفكار الرئيسيّة. وقد نقسم الفصل أكثر من مقطوعة ليسهل درسه.
ففي سفر إرميا ندعو القارئ أن يغوص، في هذا الكتاب الطويل الذي يمتدّ على واحد وخمسين فصلاً. نحتاج إلى الثبات، ونحن سنكتشف قلباً كبيراً هو قلب النجيّ إرميا، وشعباً يعيش أقسى محنة عرفها في تاريخه. ولكن كلام هذا النبي الذي مات في مصر وسط فشل فادح على المستوى البشري، سيكون النورَ الذي يساعد الشعب على الانطلاق فيهيّئ الطريق للذي شبّهه جيل الأناجيل بإرميا، للذي كان رجلَ الأوجاع والشاة التي سيقت إلى الذبح. توقّف النبي هنا. ولكن يسوع راح أبعد من الموت إلى القيامة، وأبعد من الألم إلى المجد، وهكذا كان إرميا، شأنه شأن سائر الأنبياء، صورة بعيدة عن يسوع المسيح

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM