الفَصل الخَامِس: الضطهَادُ

الفَصل الخَامِس
الضطهَادُ
6: 12- 7: 42

أ- المقدّمة
1- لقد بدأ الاضطهاد بعد القرار القائل: من رفض تطبيق العادات اليونانية يُعاقب بالموت. ماتت امرأتان ختنتا أولادهما، واحرق قوم لجأوا إلى مغاور قريبة. وقبل أن يقدِّم الكاتب خبر ألعازار الذي مات لأجل إيمانه، وخبر استشهاد الأمّ مع أولادها السبعة، يعطينا فكره اللاهوتي عن دور الاضطهاد في تاريخ شعبه.
2- يشكّل ف 6-7 قلب 2 مك. فلقد قوي الاضطهاد ضدَّ الردود وتمّ الكفر في تنجيس الهيكل. في هذين الفصلين نجد قمّة الفساد وقمّة الأمانة: تجاه الجحود نجد الشهادة والاستشهاد. هي ساعة الظلمة، ينمو فيها الشرّ فيدفع المؤمن إلى أمانة تسمو على الموت.
3- نلاحظ أنّ الكاتب لا يعرف كيف يبرِّر الاضطهاد. لماذا يسمح الله بذلك؟ فيجيب النصُّ: أنّه يؤدّبنا منذ الآن وهو لا يتخلّى عن مؤمنيه ويريد أن يصالحهم معه. نحن أمام تفسير بسيط لا يبرّر شيئًا. لآننا نتساءل: والذين ماتوا، والذين أحرقوا أحياء؟ هل ينفع الإستشهاد أولئك الذين ظلّوا على قيد الحياة؟ إنَّ الله لا يريد أن يتخلّى عن شعبه، وهذا صحيح، ولكنَّ الذين شهدوا له دفعوا افن الغالي. فاالذي حصلوا عليه مقابل تضحيتهم؟ في الواقع، ما استطاع العالم اليهودي أن يدرك الشيء الكثير من عمل العناية الإلهيّة في العالم. كيف نرضى أن ينتصر الشر ويُهزم الخير، أن يظهر الخير من خلال هزيمته، والشر من خلال إنتصاره؟ هذه هي حياة العالم أمس واليوم وإلى الأبد. الجواب نجده في الوحي بالحياة الأبدية.
4- أجل، في الاستشهاد يمارس الإنسان الفضائل الإلهيّة في أبهى أشكالها. فن دون الموت لا يحيا الإنسان ملء حياة روحية من الأمانة والمحبة. الموت يدفع الإنسان إلى القمم ويرميه حقًّا في قلب الله. ما دام الإنسان عائشًا على هذه الأرض، فظروف عيشه تنتزعه من حضور الله. والأمانة لله تجعل حياته أجمل وأنقى.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة
1- معنى الاضطهاد (6: 12-17)
(آ 6: 12)، ما يهدف الله إليه ليس إهلاك الشعب بل تأديبه. تلك هي فكرة أساسية في الأسفار الحكمية (أم 3: 11-12؛ أي 5: 17- 18؛ 33: 19- 30؛ مز 119: 67، 71، 75) وعند الأنبياء (عا 4: 6- 11؛ هو 5: 14- 15؛ ار 2: 26- 37؛ رج تث 8: 5؛ عب 12: 5- 6)
(آ 13-14)، الله لا يُمهِل الأشرار بيننا زمنًا طويلاً، بل يعجِّل بعقابهم. هذا في عالم إسرائيل. أمّا في سائر الأمم فهو يُمهل الشعوب بصبره إلى أن تطفح آثامهم (تك 15: 16؛ دا 8: 23؛ 9: 24؛ 1 تس 2: 16؛ مت 23: 31). لا يعاقب الله قبل أن تُقترف الخطيئة إلى النهاية. من أجل هذا يتأخّر الله ليأتي إلى الذين يريد أن يعاقبهم ويؤدّب الذين يريد أن يخلّصهم.
(آ 16)، الله رحوم حنون، وإن أدَّب شعبه بالمصائب فلا يتخلّى عنه.
2- ألعازار يموت لأجل إيمانه (6: 18- 31)
هذا هو أوّل خبر استشهاد رواه الكاتب بأسلوب عاطفي وخطابي، فأعطى القاعدة لأخبار الإستشهاد في العالم اليهودي كما في العالم المسيحي.
(آ 18)، ألعازار أي: الله يعين: هو أيضاً اسم أحد إخوة يهوذا المكّابي، ألعازار أوران (1 مك 2: 5؛ 6: 43). نجد هذا الاسم مرارًا في التوراة (1 مك 8: 17؛ عز 10: 25؛ خر 6: 23، وهو اسم أحد أبناء هارون). نجد الأمم في العهد الجديد (ألعازر): لو 16: 20 ي؛ يو 11: 1 ي. كان ألعازار هذا من كبار علماء الشريعة (رج سي 38: 24- 39: 11). طُلب إليه أن يأكل لحم الخنزير، وهذا ما تحرّمه الشريعة (لا 11: 7؛ تث 14: 8) ويكرهه اليهود (اش 65: 4؛ 66: 3).
(آ 19)، هناك أمجاد غير أمجاد السلاح والعلم والمال. هناك مجد من يموت بكرامة على أن يعيش ملطَّخًا بالدنس. لقد اشهر ألعازار بموته (آ 31) كما اشتهر غيره بحياته (رج 1 مك 2: 51 ح).
(آ 20)، يمتنع: خرفيًا قذف من فه أو بصق. هذا ما يليق به وبأمثاله أن يفعلوا.
(آ 21)، حاول أصحابه معه: كُلْ من طعامك، وتظاهر أنّك تأكل من ذبائح الكفر.
(آ 23)، فكر ألعازار في الأمر ثمّ طلب أن يقتادوه إلى القبر. لماذا المماطلة؟ وهنا يقدّر الكاتب رأيه: ما فعله ألعازار يليق بسنّه وكرامة شيخوخته. ولو فعل غير هذا لجلب على شيخوخته الرجس والعار (آ 25).
(آ 26 ي)، إن نجا ألعازار من يد السفاح فكيف ينجو من يد القدير والدينونة تنتظره؟ أمّا إذا مات بشجاعة تبيّن أنّه استحق هذا العمر الطويل وأبقى للشبّان مثلاً صالحًا. وأسرع ألعازار إلى مكان التعذيب.
(آ 30)، وضُرب ألعازار حتى الموت وأعطى معنى لموته: كنت قادرًا على النجاة ولكنّي أتحمّل كل هذا سرورًا لأجل مخافته.
(آ 31)، مات ألعازار فكان مثلاً للشبان بل لبني شعبه كلّهم.
3- إستشهاد الأمّ وأولادها السبعة (7: 1- 42)
هذا الخبر الذي يستند إلى تقليد تاريخي هو من الفن الخطابي والعاطفي الذي يهدف إلى إثارة شجاعة الشهداء وإلى فضح قساوة الجلادين. أمّا العناصر البارزة فهي: شجاعة لا تلين عند الإخوة السبعة الذين استعدّوا للموت ورفضوا أن يحيدوا عن شريعة آبائهم (آ 2)، تعلّق بشريعة الآباء (آ 2، 11، 23- 24، 30، 37)، تعلّق بلغة الآباء (آ 8، 21: 27) بالشعب (آ 16، 38) بالأمّة (آ 37)، إيمان بالقيامة وبالحياة الأبدية (آ 9، 11، 14، 23، 29، 36). لا يخافون أن يهددوا المضطهدين (آ 16، 17، 19، 31- 35). ويُبرز النص عظمة أمّ الضحايا التي تحمل في كلامها الأنثوي نبضة الرجولة (آ 20- 23، 25- 29)، كما يبرز قساوة الجلاّدين (آ 3- 5، 7- 8، 10، 13، 39). هذا الخبر النبيل بقصده والغنيّ بأفكاره يبتعد بعض المرّات عن الواقعية ويتّسم بالمغالاة والزخرفة وسيكون مثالاً أدبيًا يحتذيه الذين رووا إستشهاد المؤمنين في الحدودية أو في المسيحية.
(آ 7: 1)، ألقى الملك القبض على سبعة إخوة مع أمّهم: أخذ يجبرهم على أكل لحوم الخنزير (لا 11: 7؛ تث 14: 8) ويجلدهم بالسياط.
(آ 2)، الأخ الأوّل يتكلّم: لن ينفعك هذا كلّه. فنحن نموت ولا نحيد عن شريعة آبائنا.
(آ 4- 5)، ويذكر الكاتب العذابات: وسُلخ جلد رأسه، قُطعت أطراف جسده، التي في إحدى الطناجر، وكل هذا أمام عيون إخوته وأمّه.
(آ 6)، والنتيجة: قالوا: الرب الإله يرانا ويرحمنا. الرب يرحم عبيده (تث 32: 36، كما في السبعينية).
(آ 7- 8)، ساقوا الثاني. عذَّبوه، سألوه: هل يأكل؟ أجاب: كلاّ.
(آ 9)، وتلا فعل إيمان: "ملك العالمين سيقيمنا لحياة أبدية (دا 12: 1- 4) إذا متنا في سبيل شريعته". نجد هنا أوّل شهادة على حياة الأجساد في الآخرة بعد القيامة.
(آ 10)، وعذّبوا الأخ الثالث.
(آ 11)، قال: "من ربّ السماء هذه الأعضاء ومن أجل شريعته أضحِّي بها الآن وآمل أن أستردّها فيما بعد". الله الذي خلق هذه الأعضاء يستطيع أن يعيدها إلى المؤمن.
(آ 12)، ويورد الكاتب إعجاب الملك بـ "شجاعة هذا الفتى الذي لم يبالِ بالعذاب".
(آ 13)، وجاء دور الرابع فعذّبوه.
(آ 14)، وبيّن الشهيد الفرق بين الذي يموت من أجل ربه والجلاّد القاتل: الأوّل يقيمه الله من الموت، والثاني لا قيامة له من الموت إلى الحياة.
(آ 15)، جاؤوا بالأخ الخامس وعذّبوه.
(آ 16-17)، حذَّر الأخُ الملك من العقاب الذي ينتظره: سيعذّبك أنت ونسلك.
(آ 18-19)، وبيّن الأخ السادس السبب: خطئنا إلى إلهنا. أمّا أنت يا عدّو الله فلن تنجو من العقاب.
(آ 20-23)، ويتوقّف الكاتب عند الأمّ التي شاهدت بنيها السبعة يموتون، وكانت تشجعّ كل واحد منهم. "لا أعلم كيف نشأتم في أحشائي" (مز 139: 13- 15؛ أي 10: 8- 10؛ حك 7: 2؛ جا 11: 5). الله الذي جبل. الإنسان سيعيد إليكم روح الحيا ة.
(آ 24 ي)، وجاء دور الأخ الأصغر وحاول الملك أن يغريه، ودعا الأمّ أن تقنع ابنها فتنقذه. أمّا الأمّ فقالت: كن شجاعًا كإخوتك ورحِّب بالموت.
(آ 30 ي)، وقدَّم الأصغر نفسه للجلاّدين وجمع في كلمته ما قاله إخوته: نحن نتعذّب لخطايانا. وهدّد الملك: لن تفلت من يد الله القدير الذي يرى كل شيء. وأعلن قيامة الموتى: صبروا على آلام كثيرة لتكون لهم حياة أبدية وهم الآن في عهدة الله. واعترف بالله الواحد.
(آ 39-40)، عذِّب الفتى ومات واثقًا كل الثقة بالرب.
(آ 41)، وفي آخر الأمر لحقت الأمّ بنيها إلى الموت.

ج- ملاحظات
1- عقيدة الخلق
كان العبرانيون يتطلّعون إلى عمل الخلق الإلهيّ في مرحلتين. في مرحلة أولى يخلق الله من البدء (تك 1: 1) فيدعو من العدم إلى الوجود الخلاء والخواء (توه وبوه كما في العبرية). وفي مرحلة ثانية ينظِّم هذه الفوضى الأولى بأفعال يأمر فيها عناصر الخلق فتظهر. قال: ليكن نور، فكان نور (تك 1: 2) وفي هذا قال مز 33: 9: قال فكان كل شيء وتكلّم فحضر كل موجود.
ولكنّ كتَّاب العهد القديم يتوقّفون عادة عند المرحلة الثانية، مرحلة تنظيم الخلائق انطلاقًا من الفوضى التي خُلقت سابقًا. وفي هذا الخطّ يقف سفر الحكمة الذي كتب بعد 2 مك. فهو يقول: "ولم يكن صعبًا على يدك القديرة التي صنعت العالم من مادّة لا صورة لها أن ترسل عليهم..." (حك 11: 17). فهذا الكلام يجعل العالم يتكّون من مادّة لا صورة لها، وهو لا يتكلّم عن الخلق الأوّل، خلق الشواش والسديم. أمّا 2 مك فيخطو خطوة واسعة ويقدِّم فكرة فلسفية فيقول بفم أمّ الشهداء السبعة: "أنظر، يا ولدي، إلى السماء والأرض وكل ما فيهما، واعلم أنّ الله خلق كل شيء من العدم" (آ 28). أجل صنع الله كل شيء من لا شيء. وهكذا يعود 2 مك الى تك 1: 1 فيقدّم تحديدًا لعمل الخلق سيأخذ به العهد الجديد. ففي هذا الإطار نقرأ كو 1: 15-16: يسوع "هو صورة الله الذي لا يرى، وبكر الحلائق كلّها. به خلق الله كل شيء في السماوات وفي الأرض، ما يرى وما لا يرى". ونقرأ في يو 1: 3: "به كان كل شىء، وبغيره ماكان شيء ممّا كان".
2- قيامة الموتى
قبل القرن الثاني ق م لم تتحدّث التوراة عن القيامة الفردية، بل عن قيامة الشعب الذي شبّه بمريض ضربه الرب وهو ينتظر الموت لكي يبتلعه. أمّا إذا تاب فالرب يعيده إلى الحياة. قال هوشع (6: 1-2): "بعد يومين يحيينا وفي اليوم الثالث يقيمنا فنحيا أمامه". لم يكن هذا الكلام تمنيًّا بعيدًا بعد أن جاءت المواعيد النبوية وشهدت أنّ الأمور ستكون هكذا. فقد قال حزقيا (37: 1-14) إنَّه بعد محنة المنفى سيقيم الرب شعبه ويعيد إليه الحياة ولو صار عظامًا يابسة. وقال أشعيا إنَّ الربّ سيوقظ أورشليم ويقيمها من التراب حيث كانت راقدة (اش 51: 17؛ 60: 1). أجل ستحيا الموتى وتقوم الأشلاء ويستيقظ الراقدون في التراب (اش 26: 19). نحن هنا أمام استعارة تُحدّثنا عن انتصار الله على الموت من أجل شعبه، ولكنّها استعارة تجعل النبي يهتف بثقة عميقة: "أين شوكتك يا موت، أين قوّتك يا جحيم" (هو 13: 14)؟
ولكن حين تحلّ الأزمة المكّابية سيخطو الوحي خطوة جديدة. فاضطهاد أنطيوخس واختبار الاستشهاد طرحَا بقوّة مشكلة المجازاة الفردية. ماذا سيكون مصير الذين يموتون من أجل الرب وشريعته؟ هل سيكون مصير الشهداء ومصير أنطيوخس واحدًا في الجحيم (أو الشيول)، في مثوى الأموات؟ قال دانيال: إنتظروا ملكوت الله وانتصار شعب القدّيسين. "فالملك والسلطان وعظمة كل ممالك الأرض ستعطى لشعب قدّيسي العليّ، ويدومُ ملك هذا الشعب إلى الأبد فتخضع له وتطيعه كل سلاطين العالم" (دا 7: 27). ولكن ما يكون مصير القدّيسين الذين ماتوا في سبيل إيمانهم؟ أجاب دانيال (12: 2): "كثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون: بعضهم للحياة الأبدية، وبعضهم للعار والرذل الأبدي". وهكذا يعود بنا دانيال إلى ما قاله حزقيال (ف 37) وأشعيا (ف 26) ويفهمنا أننا كنّا أمام صورة واقعية: إنَّ الله يصعد الموتى من الجحيم ليشاركوا في الملكوت. غير أنّ الحياة الجديدة التي يدخلون فيها لن تكون شبيهة بحياة العالم الحاضر: ستكون حياة يخترقها ضياء الله. هذا هو الرجاء الذي يسند الشهداء وسط محنتهم. يمكن أن يَنزع المضطهد منهم حياة الجسد. فالله الذي يخلق يقيم أيضاً (7: 9، 11، 22؛ 14: 46). أمّا الأشرار فلن تكون لهم قيامة للحياة (7: 14).
بعد هذا الوقت يصبح التعليم عن القيامة اعتقادًا شائعًا في العالم اليهودي. إذا كان الصادوقيون لا يقبلونه (رج أع 23: 8) فالفرّيسيون يعلنونه في إيمانهم. ولهذا حين يأتي العهد الجديد فهو يكتفي بأن يوضح أنّ هذه القيامة لن تكون بطريقة مادّية. أجل، يوم القيامة يكون المؤمنون مثل الملائكة في السماء (مت 22: 30).
3- مقابلة بين 1 مك و 2 مك
بمناسبة حديثنا عن استشهاد العازار والإخوة السبعة نحاول أن نكتشف الاختلاف الأساسيّ بين 1 مك و2 مك. كلاهما يتطرّقان إلى الأحداث عينها. ولكن 2 مك يلقي ضوءاً على أمور لا يشير إليها 1 مك.
ونذكر أوّلاً أونيا الذي يسيطر يحضوره الخفي على كل التاريخ، ومع ذلك لا يشير إليه 1 مك كما لا يشير إلى العازار. إنَّ 1 مك يكتفي بأن يلمِّح إلى الاضطهادات ولا يتوسّع فيها: "غير أنَّ كثيرين في أرض إسرائيل أصرّوا على أن لا يأكلوا طعامًا نجسًا وفضّلوا الموت على ذلك لئلاِّ يدنسّوا العهد المقدّس" (1 مك 1: 62-63). ولكنّه لا يعطي مثلاً واحد. أمّا في 2 مك فتنتصب وجوه الشهداء المضيئة. متى قتل هؤلاء الناس؟ لا نعرف. ما اسم الإخوة السبعة وأمّهم؟ هذا ما نجهله.
وهنا نعود إلى الطابع الخاص بكل من 1 مك و2 مك. 1 مك كتاب تاريخي وهو يورد الأخبار كما تظهر للمراقب من الخارج. أمّا 2 مك فهو كتاب خفّي سرّي، وقد أراد كاتبه أن يرى مخطّط الله عبر الأحداث. يتفوّق 1 مك على 2 مك على مستوى التاريخ ولكنّه لا يجاريه على المستوى الديني.
من هنا أهميّة أونيا الذي يظهر الله من خلاله. هو الكاهن الأعظم الذي يصلّي في البداية من أجل حماية الهيكل، ويصلّي من أجل هليودورس، ويصلّي في نهاية الكتاب من أجل انتصار يهوذا المكّابي.
نحن أمام كاهن آخر، أمام عالم بالشريعة. نلاحظ بطريقة عابرة أنَّه لم يعد من وجود للأنبياء فبقي الشيوخ وعلماء الشريعة (أو الكتبة). الشيوخ ينقلون التقليد، ومعلّمو الشريعة يدرسون التوراة ويشرحونها. أجل بعد زمن الأنبياء جاء زمن الكتبة الذين يحافظون على كلمة الله ويفسّرونها تفسيرًا صحيحًا. وحفظ لنا الكاتب اسم العازار الذي هو من نسل هارون. فالكهنة الذين ينقلون التقليد ويحافظون عليه أهمّ من المحاربين ورجال السياسة. يتكلّم النصّ عن شعره الأبيض علامة حكمته التي حصل عليها في درس شريعة الله والأمانة لها.
4- الإخوة السبعة
روى الكاتب استشهاد الإخوة السبعة فأثار عاطفتنا. إنطلق من حدث تاريخي لا شك فيه (رج 1 مك 1: 62-63) ومن خبر تناقله التقليد الشعبي قبل أن يدخله في كتابه. نشدد على العدد 7 (عدد الكمال، هؤلاء السبعة يمثّلون الشعب كلّه)، وعلى حضور الملك (من المعقول أن يكون الإخوة تحدّثوا إلى الجلاّدين) وعلى قساوة العذابات ووحشيتها. فكأنّي أمام عمل مسرحيّ يراه المؤمنون فيخشعون ويتشجّعون ولا يخافون الموت.
ونتساءل: أين تمّ استشهاد الإخوة؟ لا نجد جوابًا في 1 مك وفي يوسيفوس. ولكن من خلال 2 مك يبدو أنَّ مكان العذاب هو في اليهودية (رج 6: 8- 11). وسيقول سفر المكابيين الرابع (كتاب منحول) بعد قرن ونصف قرن من الزمن أنّ الملك قرَّر أن يكون الاضطهاد في أورشليم. ولكنّ هناك تقليدًا آخر يجعل موضع استشهاد الإخوة في إنطاكية. من أجل هذا أنطلقت الفكرة من استنتاج يعود إلى الكتب المقدسة. لمّا بدأ الاضطهاد كان أنطيوخس في إنطاكية فنقلوا إليه الشهداء ليعذَّبوا هناك.
ظهر هذا التقليد الإنطاكي للمرّة الأولى حوالي سنة 390 حين ألقى يوحنّا فم الذهب موعظة عن هؤلاء الشهداء فأشار إلى وجود رفاتهم في معبد قريب من المدينة. وأشار أغوسطينوس في إحدى عظاته إلى كنيسة المكّابيين القدّيسين التي بناها المسيحيّون في إنطاكية. وفي القرن السادس سيروي يوحنّا ملالا الإنطاكي العصيان الريودي الذي قام به ياسون والذي سحقه أنطيوخس الرابع (رج 2 مك 5: 5 ي)، ثم يزيد: جاء أنطيوخس بالعازار والمكابيين إلى إنطاكية وعذّبهم في موقع قريب من المدينة. ثمّ يروي أنَّ المسمّى يهوذا حصل من الملك ديمتريوس على رفات المكّابيين ودفنهما في إنطاكية، في المكان المسمىّ كيراتيون. وإذا عدنا إلى دليل عربي عن إنطاكية يعود إلى القرن العاشر فالكنيسة التي يذكرها أغوسطينوس كانت مجمعًا حوَّله أهل إنطاكية إلى كنيسة بعد ارتدادهم إلى المسيحية. وكانت هذه الكنيسة معلّقة على منحدر جبل سلفيوس فوق قبو يضمّ مدافن عزرا (أو العازار) والإخوة السبعة وأمّهم القدّيسة شموني (نسبة إلى الحشمونيين). هكذا سمّى التقليد أمّ الإخوة، أمّا الكتاب فلا يذكر اسمها ولا اسم أولادها.
وانتقل التعبّد لهؤلاء الشهداء من إنطاكية إلى الغرب وبنيت على انهم الكنائس وقد رأى فيهم آباء الكنيسة مسيحيين قبل مجيء المسيح

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM