كِتاب المكابيّين أو السفْرُ الأول وَالسِّفْر الثَاني للمكّابيّين

كِتاب المكابيّين
أو
السفْرُ الأول وَالسِّفْر الثَاني
للمكّابيّين

أولاً: مدخل عام
1- مُقدّمة:
سِفْران وصلا إلينا في اليونانية، فلم يعتبرهما اليهود ولا البروتستانت بين الكتب القانونية. أمّا إذا جعلنا جانبًا القديس إيرونيموس، فالآباء يعتبرون هذين السِفْرين اعتبارًا كبيرًا، ويُوردون نصوصهم. ظهر سِفْرا المكّابيين في اللوائح القانونيّة، منذ القرن الرابع، ولكن ظلاّ موضع اخْذٍ وَرَدٍّ ، إلى أن جاء المجمع التريد نيتني فحَسَم النِزاع. ولقد تأسّف لُوتِرْ في ذلك العصر، لأنّ 1 مك لم يكن من الكتب القانونيّة.
سِفْران يُعطياننا، وحدهما، المعلومات عن تاريخ شعب الله في الزمن الهلّينيّ، أي الذي يلي حُكْم الإسكندر المقدونيّ (356-323 ق م)، فيتوقّفان عند مجيء يوحنا هركانس (176-134). في ذلك الوقت، كانت بلاد اليهوديّة خاضعة للسلوقيّين، الذين امتدّت مملكتهم (وعاصمتها أنطاكية) من البحر المُتوسّط إلى هِضَاب إيران. ولكنّها بدأت تضعُف تدريجيًا، بفِعْل هَجَمات الرومان من الغرب، والفراتيّين من الشرق، وبسبب التزاحُم داخل العَيْلة المالكة.
سِفْران مُختلفان، ولكنّ موضوعهما واحد: لقد استعاد يهوذا المكّابيّ وإخوته، بفضل العون الإلهيّ، الاستقلال الذاتيّ وحُريّة العبادة، بوَجْه أنطيوخس الرابع أبيفانيوس (175-164). ولكِنْ يستقلّ الخبر عن الآخر، ولا يُغطّي الفترة الزمنية عينها. وإذ كُتِبَ 1 مك في العبرانيّة (أو الآرامية)، ونُقِلَ إلى اليونانيّة، دُوِّن 2 مك مُباشرة في اليونانيّة، فلخّص كتابًا مؤلّفًا من خمسة مُجلّدات.
2- إسم المكّابيين
في الأصل، كان لَقَبُ المكّابيّ محصورًا بيهوذا. ثالثُ أبناء متتيا، ثُمّ أُعِطْي لإخوة يهوذا، ولمُحازبي يهوذا، وبعدها لكلّ الذين قاسوا الاضطهاد في أَيّام أنطيوخس أبيفانيوس. وها نحنُ اليوم، نتكلّم عن 1 مك و2 مك كسِفْرين قانونيّين في الكنيسة الكاثوليكيّة. وإذا فتحنا الباب أمام الآداب المنحُولة، نَجِدُ نفوسنا أمام سِفْر المكّابيين الثالث وسِفْر المكّابيين الرابع.
ما معنى كلمة مكّابي؟ قالوا: المِطْرقة، أكانت صغيرةً أم كبيرةً وتذكّروا كلام الكتاب المقدس. ففي إرميا 23: 29، تُشبّه كلمة الله "بمِطْرقة تُحَطّم الصَخْر"، وفي 50: 23، تُصبح بابل مِطْرقة الأرض التي ستُحطَّم. ولكنّ هذا اللقب، لم يُعْطَ لأبناء متتيا، على أثر أعمالهم المجيدة، بل منذ طفولتهم، ليتميّزوا عن أشخاص عديدين، عاشوا في أيّامهم، وأخذوا اسم يوحنا ويهوذا وسمعان. ووجد الشراح في المشناة، أن "مَقْبن" تعني صاحب الرأس المُستطيل بَشكْل مِطْرقة، فقالوا إنّ اللَقَب أُعِطَي ليهوذا بسبب شكله الخارجيّ. ولكن يبدو أنّ أفضل تفسير لهذه الكلمة، يعود إلى الجذْر "نقب" الذي يعني "سمّى، عيّن". وهكذا يكون المكّابي هو الذي سمّاه الربّ، وعيَّنه من أجل مهمّة جليلة. ويعودون من أجل هذا إلى أش 62: 2، حيث نقرأ: "يا أورشليم، سوف ترى الأمم بِرَّك، وجميع الملوك مجدك، وتُدْعَيْنَ باسمٍ جديد، يُعينّه فَمُ الربّ".
هذا هو الاسم في التقليد المسيحيّ. أمّا اليهود فسمّوا عيلة متتيا، باسم الحشمونيين (هل يعود الاسم إلى حشمون؟ رج يش 15: 27). ولكنّ هذه الكلمة غيرموجودة في السِفْرين اللذين ندرس، ولا سيّما في 1 مك الذي يهتمّ بصورة خاصّة بأمر السُلالة المكّابية.
ونُشير بطريقة عابرة إلى ماكتبه أوريجانس. سمى سِفْري المكّابيين: شربت سبنائيل، فاعتبر بعضُ العُلماء، أنّ هذه العبارة شكل مُشوّه لعبارة أخرى: سِفْر بيت حَشمون. وقال البعض الآخر إنّها تعني: سِفْر بيت سبنائيل (رج عز 9: 33). ويبقى الباب مفتوحًا أمام الافتراضات.
3- أسفار المكّابيين.
هناك أربعة أسفار حملت اسم المكّابيين.
يرسم 1 مك أمامنا، صُورةً عن نشاط أبناء متتيا، يهوذا ويوناتان وسمعان، بوَجْهِ العالم الهلينيّ الوثنيّ، وتمتدّ أحداثه سحابة نِصْفِ قَرْن، من سنة 175 إلى سنة 134.
ويصوّر 2 مك تهديدات سلوقُس الرابع على الهيكل، وتنجيسه بيد أنطيوخس أبيفانيوس، وتطهيره بواسطة يهوذا المكّابي. أمّا أحداث الكتاب، فتمتدُّ من سنة 176 إلى سنة 161.
هذان السِفْران هما وحدهما قانونيّان، وقد ضمّهما أوريجانس إلى اللائحة اليهوديّة، المؤلّفة من 22 كتابًا، وذكرهما كلّ من أكلمنضوس الاسكندرانيّ، وهيبوليتُس وترتُليانس وقبريانس، وأوسابيوس القيصريّ وتيودوريتس القُورشيّ، وأوردوا بعض نصُوصهما.
ونُشير هنا أنّه لولا اهتمام الأوساط المسيحية، لضاعت أسفار المكّابيين. ويعترف اليهود أنفسهم، أنّه لولا هذا الظَرْف لضاع النصّ اليونانيّ، كما ضاع النصّ العبرانيّ الذي وقع عليه إيرونيمُوس وقرأه.
وهناك سِفْران من أسفار المكّابيين غير قانونيين، وُجِدا في المخطوطات التي تتضمّن السبعينية اليونانية، مثل الإسكندرانيّ والفاتيكانيّ.
يتطّرق 3 مك إلى اضطهاد، قاساه اليهود في الإسكندرية، على أيّام بطليمُوس الرابع فيلوباتور (221-203 ق م)، أو بطليمُوس الثامن (145-117). ولكنّ الله نجّاهم بصورة عجيبة، فنظّموا عيدًا يحتفلون فيه بهذا الخلاص. دُوِّن الكتاب في اليونانية، في القرن الأوّل ق م، على يد كاتب إسكندرانيّ.
أمّا 4 مك فيسمّيه أوسابيوس "العقل السامي". دوّنه كاتبه في القرن الأوّل ب م، فتأثّر بالفلسفة الرِواقيّة التي تقوله، إنّ السعادة في الفَضيلة، وإن على الإنسان أن لا يُبالي بكلّ ما يُؤثّر في عواطفه. إنطلق من بعض الأبطال، أمثال أونيا وألعازار والإخوة السبعة، فَبَرهن على أنّ العَقْل الذي تُوجّهه التقوى، يتسلّط على الرغبَات والشهوات تسلطاً تامًا.
وها نحن نَحصُر كلامنا في 1 مك و2 مك.
4- النُصوص والترجمات
أين نجدُ نصّ 1 و2 مك؟
لا نجدهما في الخطوط الفاتيكانيّ الذي يتضمّن قانون أتناسيوس، وبالتالي في الترجمة القُبطيّة. ويا ليتنا وجدناهما، لكنَّا حصلنا على نصّ لم تُصحّحه يد لُوقيانس الأنطاكيّ.
أمّا المخطوط السينائي الذي يعود إلى القرن الرابع، فيتضمّن فقط 1 مك، وهو مليء بالتعابير القريبة من العِبريّة، رُغْمَ ما فعلت فيه يدُ لوقيانس الأنطاكيّ.
ونجد 1 و2 مك في المخطوط الإسكندرانيّ (وسط القرن الخامس)، وهو يتعارض مّرات مع الترجمة اللاتينّية العتيقة. وهناك الكُودكس فينيتيوس الذي يعود إلى القرن الثامن، والذي استُعمل في النسخة الرومانية، التي طُبِعَت سنة 1587، لأنّه يتضمّن 1 و2 مك، فحلّ محلّ المخطوط الفاتيكانيّ.
وهناك الترجمات. فالكُودكس الليونيّ الذي حُفِظَ في ليُون، من أعمال فرنسا، يعود إلى القرن التاسع، ويتضمّن النصّ اللاتينيّ الذي تُرْجِمَ حوالي السنة 200 ب م. وتُرجم 1 و2 مك إلى السريانيّة عن اليونانيّة، فبقيت لنا ثلاثة مخطوطات هامّة. الأوّل طُبع في ألمانيا، عن المتحف البريطانيّ (14446) وهو يعود إلى القرن السابع، والثاني طُبع في ميلانو بإيطاليا (1876-1883)، من مخطوطٍ يعقوبيّ، يعود إلى القرن السادس. وهناك طبعة المُتعدّدة اللُّغات الباريسية، التي أعيد نَشْرُها في المُتعدّدة اللغات اللُندنيّة، المُسَمَّاة بوليغلوتة ولتُن.
أمّا في العربية فهناك نصّان: نصّ بوليغلوتة ولتن، ونصّ مجمع انتشار الإيمان الذي طُبع سنة 1671، مع ترجمةٍ لاتينية.
5- 1 و2 مك والعالم اليهوديّ.
يُعلن يوسيفوس (37-98 ب م)، المُؤرّخ اليهوديّ، أنّه يتطرّق إلى الأحداث التي سبقت حرب الرومان ضِدّ اليهود. ولكنّه يُشدّد على الوقائع التي شهدها بأمّ العين، أو سمع أخبارها. ولهذا يبدأ كتابه بالخلافات التي دفعت أنطيوخس أبيفانيوس إلى التدخّل. فيستقي معلوماته من نقولاوس الدمشقيّ، في كتابه "في الحرب اليهوديّة"، الذي يُوجّهه إلى الرومان واليُونانيين. أمّا في "القديميّات اليهوديّة"، حيث ترتبط النِظرة الدينيّة باتجاه الكاتب، فقد عاد إلى 1 مك، بسبب أسلوبه التاريخيّ. ولكنّه بعد 1 مك 14: 16، سيعود إلى نقولاوس الدمشقيّ.
ونتساءل عن حضور المكّابيين في سائر الكتب اليهوديّة. لا تذكر النصوص المكّابيين، ولا أعمالهم المَجيدة، وهي تُغْفِل اسم يهوذا، وتكاد تُشير إلى متتيا وأبنائه في تفسيرَين اثنين. التفسير الأوّل يُقابل التسلّط اليونانيّ، بالمدار الصيفيّ الذي يجعل الجميع يهربون منه بسبب قُوتّه. "ولكنّ الكاهن متتيا وأبناءه ظلّوا أمناء لله، فتشتّتت أمامهم جيوش أنطيوخس وفَنِيَت. وحين يقول: "لا أرذله" (لا 26: 44)، يتذكّر الشارحُ سمعانَ البارّ، ومتتيا الحشموني وأولاده، الذين دفعهم الله إلى العمل في زَمَن اليُونانيين.
ثُمّ إنّ الروزنامة التي تُورد أيّام الأعياد، قد احتفظت باحتفالات عرفتها أيّام المكّابيين، ومنها "حنوكة" الذي يحتفلون فيه بتطهير الهيكل وتدشينه. ولكنّ هذه الروزنامة لا تُشير من بعيد أو قريب، إلى دَوْر يهوذا وإخوته في هذا العيد. ويُعلن أحد العُلماء أنّ التقليد اليهوديّ، قد طمس الأصول التاريخيّة لهذا العيد، فما ذكر الحشمونيين، وما أراد أن يقرأ المؤمنون مقاطع من سِفْري المكّابيين في عيد حنوكة. هل هناك ردّة فِعْلٍ ضِدّ المسيحيين الذين تعلّقوا بهذين السِفْرين، لما فيهما من أخبار تبعث على التقوى؟
وفي العصور الوسيطة، حاول اليهود أن يسدّوا هذا الفراغ، فكتبوا انطلاقًا من سِفْري المكّابيين "كتاب الحشمونيين" و "درج أنطيوخس"، ولكنّهم شوّهوا الوقائع قَدْرَ ما استطاعوا. أمّا بُغْضُ الفريسيين للحشمونيين، فقد تولّد منذ أيّام يوحنا هركانس، وبلغ أشدّه في أيّام الإسكندر يناي، وهذا ما يُفسّر فقدان الثِقَة بالعائلة التي تملأ سِفْري المكّابيين. فمنذ الحرب الرومانيّة، بدت سياسة يهوذا المكّايى وتحالفه مع الرومان، خِيانةً عُظْمى. فكيف سيلقى سِفْر المكّابيين أيّ اعتبار، وهو الذي يَكِيلُ المديح للرومان، ويُرسِلُ إليهم أثمن الهدايا.
6- الخلفية التاريخيّة في زَمَن المكّابيين
أ- نُقدّم لوحة أولى، الأحداث الرئيسية التي جرت بين السنة 175 والسنة 135:
175: أنطيوخس الرابع أبيفانيوس يعتلي العرش.
169: أنطيوخس يسلُب الهيكل، ويفرض المدنيّة الهلينية على البلاد.
167: بناء القلعة في أورشليم. إكرام وتشييد مذبح وثنيّ (رجاسة الخراب) فوق مذبح المُحرقات، ثورة متتيا في مُودين، وهربه إلى البرية. ألمعارك الأولى، وموت متتيا.
166- 164: إنتصارات يهوذا المكّابي على أبولونيوس ونكانور، وجورجياس (عمّاوس) وليسياس.
164: مات أنطيوخس الرابع، فخلفه أنطيوخس الخامس.
كانون الأوّل 164: تطهير الهيكل وتدشين المذبح.
163: حملات يهوذا المكّابي في البُلدان القريبة من اليهوديّة.
نهاية 163: منحَ أنطيوخسُ الخامس اليهودَ الحريّة الدينية.
161: دسائس ألكيمس: إندحار نكانور أمام يهوذا المكّابي في كفر سلامة. مُعاهدة مع الرومان.
160: إندحار نكانور وموته في أداسة. معركة بئر زيت، حيثُ مات يهوذا المكّابي، فخلفه أخوه يوناتان.
152: الإسكندر بالاس يُعيّن يوناتان رئيس الكهنة.
143: وقع يوناتان في الأسر بين يدي تريفون، فحلّ محلّه سمعان.
141: سقوط جازر واستسلام قلعة أورشليم.
140: تكريم الشعب لسمعان، ككاهن أعظم وقائد حربي، ورئيس لليهود.
135: قُتِلَ حمعان، فحلَّ محلَّه ابنُه يوحنا هركانس.
ب- شجرة العائلة السلوقيّة، منذ أنطيوخس الثالث الكبير، إلى ديمتريوس الثاني:
أنطيوخس الثالث الكبير
سلوقُس الرابع فيلوباتور أنطيوخس الرابع أبيفانيوس كليوباترة الأولى
تزوجت بطليموس الخامس
ديمتريوس الأول سوتر
انطيوخس الخامس الاسكندر بالاس
انطيوخس السادس
أنطيوخس السابع ديمتريوس الثاني


ج- السلوقيّون واللاجيّون (أو البطالسة)
224-187 : أنطيوخس الثالث الكبير 222-204: بطليموس الرابع فيلوباتور
187-175 : سلوقس الرابم فيلوباتور 204- 181: بطليموس الخامس أبيفانيوس (إبنه)
175-164 : أنطيوخس الرابع أبيفانيوس
164-161 : أنطيوخس الخامس أوباتور
161-150 : ديمتريوس الأوّل سوتر
150-145 : الإسكندر بالاس 181- 145 بطليموس السادس فيلومتور (إبنه)
145-138: ديمتريوس الثاني نكانور
في فترة اولى من الحكم. 145: بطليموس السابع فليوباتور (إبنه)
145-142: أنطيوخس السادس
142-138: تريفون
138-129: أنطيوخس السابع سيديتيس
129-125: ديمتريوس الثاني نكانور 145-117: بطليموس الثامن فَسْكون (أخوه)
في فترة ثانية من الحكم.
د- طريقة حساب السنين الواردة في 1 و2 مك:
يُؤرّخ سِفْرا المكّابيين الأحداث، حَسَب الروزنامة القمريّة والشمسيّة التي سار عليها السَلُوقيّون. ولكنّ 1 مك يتبع عادة الحساب الخريفيّ، الذي يُوافق التاريخ المقدونيّ في أنطاكية، والذي يُقابل 7 تشرين الأوّل (الحساب اليوليانيّ) سنة 312 ق م. أمّا 2 مك فيتبع الحساب الربيعيّ، حيث تبدأ السنة في أوّل نيسان (3 نيسان في الحساب اليوليانيّ) سنة 311 ق م. مُورِسَت هذه الروزنامة الأخيرة في بابل، وفي هيكل أورشليم. ونُشير أيضاً إلى أنّه على الحساب الربيعيّ، تسير 1 مك 1: 54؛ 2: 70؛ 4: 52؛ 9: 3، 54؛ 10: 21؛ 13: 41، 51؛ 14: 27؛ 16: 14. وسبب ذلك أنّنا نتحدّث عن الهيكل، أو عن تاريخ اليهود الداخليّ.
أخذ اليهود بالروزنامة السلُوقيّة، ولكنّهم حافظوا على الروزنامة الشرقيّة، التي تجعل السنة تبدأ في الربيع.
ونُشير إلى أنّ مجمع خلقيدونية والتواريخ السريانية، تستعمل هذه الروزنامة، وتربطها بالإسكندر أو زمن اليونان. والواقع هو أنّ سلوقس الأوّل، أسسّ هذه الروزنامة يوم عاد إلى بابل سنة 312 ق م.

ثانيًا: سِفْر المكّابيين الأوّل:
1- متى كُتِبَ وَمَنْ كتبه؟
نجهل جهلاً تامًا اسم من كتب 1 مك. ولكنّنا نرى أنّه دَوَّن كتابه في العبرانية أو الآرامية. عاش في فلسطين، فعرف طبيعة الأرض وموقع الأماكن. يتوقّف التاريخ الذي يسرده عند موت سمعان، في بداية سنة 134 ق م. ثمّ يُحيلنا إلى حَوْليّات رؤساء الكهنة التي دُوّنَتْ فيها أعمال يوحّنا هركانس المجيدة. مات يوحّنا سنة 104، وهذا ما يجعلنا نقول إنَّ كاتب 1 مك دَوَّن كتابه بعد هذه السنة، والأرجح حول السنة 100 ق م، يوم اتخذ الحشمونيون لَقَب مَلِكٍ في إسرائيل.
2- تصميم الكتاب ومضمُونه
بعد مُقدّمة ضخمة (ف 1- 2)، يُورد الكاتب على التوالي نشاط أبناء متتيا الثلاثة: يهوذا (3: 1- 9: 22)، ويوناتان (9: 23- 12: 54)، وسمعان (ف 13- 16).
شيّد الكاتب بناء ليُمجّد أبطاله، ورسم لنا على بابه لوحة "الدينونة الأخيرة"، حيث نجد الأشرار (ف 1) من جهة، والمُؤمنين من جهة ثانية (ف 2).
أصل كلّ الشرور، هو المدنيّة الهلينية التي حملها الإسكندر معه. ومن هذه الشجرة الملعونة، نبت فَرْعٌ كافر اسمه أنطيوخس أبيفانيوس. ويُوجز الكاتب أعماله الشرّيرة في أربع لوحات: سمح لليهود والجاحدين، أن يُدخلوا العوائدَ اليونانيّة إلى المدينة المُقدّسة 1: 11- 15)، سلب الهيكل بعد رجوعه من مصر (1: 16- 28). وبعد ذلك بسنتين، أرسل جيشه فنهب المدينة، وعاث فيها خرابًا، ثمّ بنى القلعة (اكرا) (1: 29- 40) وأمر الشعب (هددهم بالإعدام) أن يتخلّوا عن مُمارسات الشريعة اليهودية، من خِتَانٍ ومُحافظةٍ على السبت واحتفالٍ بالأعياد. وحلّت محلّ الذبائح الشرعيّة ذبائح نَجِسة. وأقيمت رجاسة الخراب في المكان المُقدّس (1: 41- 54). حينئذ امتدّ الخراب والموت على البلاد، وضرب الغضب الإلهيّ شعب إسرائيل (1: 64).
فوقف أبناء لاوي بوجه الهجمة الوثنيّة، كما فعلوا في الماضي (خر 32: 1 ي، عد 25: 1 ي). وبيّن لنا الكاتب في أربع لوحات أيضاً اتّساع عملهم: قام الكاهن متتيا، يُحيط به أبناؤه، ليحتفل بفِعْل العبادة الذي بقي له، بعد أن دُنِّس المعبد، فأنشد رثاء: "ويلٌ لي، هل وُلدت لأرى تحطيم شعبي" (2: 1- 14)؟ ثمّ جدّد ما فعله فنحاس، فَقَتل على مذبح مودين الوثنيّ، اليهوديّ الجاحد، مع الوثني الذي حرّضه. فكان ذلك علامة انفصاله عن الجماعة. هرب، وهرب معه جماعة المؤمنين (2: 15- 28). خاف اليهود أن يتجاوزوا الشريعة، ففضّلوا أن يُقْتلوا يوم السبت، ولم يأتوا بعمل تُحرّمه شريعة السبت. فقرّر متتيا مع أخصائه، أنّ حياة المُحافظين على الشريعة، تَمر قبل مُمارسة الشريعة الحرفيّة. فكان ذلك علامة المُقاومة المُسلّحة (2: 29- 41). وكثر تُبّاع متتيا، ففرض مُمارسة الشريعة بالقوّة (2: 42- 48). وبعد هذا، يستطيع متتيا أن يموت صافي البال: وصل إلى مَجْدٍ لم يَصِلْ إليه الإسكندر، وها هو يقتسم ميراثه بين أبنائه (2: 49- 71).
وبدأت حياة أبنائه، وقد أوجزها الكاتب في ثلاث مراحل، وكلّ مرحلة، تُقابل مَلِكًا من ملوك السَلُوقيين: أنطيوخس الرابع أبيفانيوس، أنطيوخس الخامس أوباتور، د يمتريوس الأوّل.
ويتوسعّ الكاتب في حرب يهوذا ضِدّ أبيفانيوس (3: 10- 6: 16)، وتصاعُدِ نَجْم يهوذا، بفضل نجاحين عسكريين، أثبتا سُمعته، وجعلا جيش الملك يتحرّك (3: 10- 37). وانتصر يهوذا مّرتين، فانفتحت أمامه الطريق إلى أورشليم (3: 38- 4: 35)، حيث قَلَبَ المذبح الوثنيّ، وأعاد شعائر العبادة إلى نقاوتها (4: 36- 61). واستفاد من انتصاره، فخلّص من الضيق أبناء قومه في البُلدان المُجاورة (ف 5). فلم يبق لأنطيوخس إلا أن يموت من الحُزْن، حين علم بانتصار الله الذي جَدّف عليه (6: 1- 16).
وعادت الحرب في عهد أنطيوخس الخامس، بسبب القلعة التي كانت ملجأ الجاحدين، وعُنْصُرَ تهديدٍ للمؤمنين. فجاء الملك مع وصيّه ليسياس إلى أرض اليودية، وأحاطا بالمكان المُقدّس، ولكنّهما أُجْبرا على الرجوع إلى أنطاكية، بسبب الدسائس ضِدّ الملك. وانتهت هذه الحِقْبة بأن أعطى الملك الحريّة الدينية لليهود، فأنهى الاضطهاد (6: 17- 63). ومات أنطيوخس بيد خَصمه ديمتريوس الذي جعل الحرب بين اليهود أنفسهم. وعيَّن الكيمُس، وهو رجل طموح من نَسْل هارون، رئيس كهنة، وأرسله يُمَارس وظيفته، بمُساندة جيش يقوده بكيديس. خاف الشعب وثار يهوذا، وبدأت حرب اتعبت الكيمُس. فجاء جيش آخر من أنطاكية بقيادة نكانور الذي جدّف على الهيكل، فجَلَب على نفسه لعنة الكهنة. ثمّ مات نكانور في كمين أقامه له يهوذا، فكان هذا الانتصار الأخير، يوم عيدٍ، إحتفل به الناس (ف 7).
وبعد أن حدّثنا الكاتب عن نشاط يهوذا الدبلوماسيّ، وعلاقته مع رومة، روى لنا كيف مات في معركة مُتفاوتة مع بكيديس الذي جاء مع الكيمُس، ليثأر لموت نكانور (9: 1- 22).
وخلف يوناتان يهوذا. ورسم الكاتب حياته في ثلاث حِقْبات. دامت الحِقْبة الأولى سبع سنوات، قاوم فيها يوناتان بكيديس (الذي لم يَعُدْ يهتمّ بالحرب مع اليهود، بعد موت الكيمُس)، وكان قاضيًا في بني إسرائيل، فقام بمَهّمته بسلام (9: 23- 73). وفي الحقبة الثانية، لم يَعُد يوناتان قاضيًا بنعمة الله، بل صار بنعمة الملك، رئيسَ كهنة وصديق ملك أرسل إليه أرجوانا وتاجًا من ذهب. لقد استفاد يوناتان من التزاحُم على السلطة، فتحزّب لإسكندر بالاس الذي تغلّب على خصمه (ف 10). وفي الحقبة الثالثة، أزاح ديمتريوس الثاني الإسكندر عن العرش، فالتحق يوناتان بديمتريوس، ثمّ تركه ليسنُد أنطيوخس السادس (إبن الإسكندر) الذي غَمَرَهُ بالعطايا، وعيّن أخاه سمعان قائدًا في الساحل. وهكذا كان يوناتان وأخوه حاكمين من دمشق إلى غزّة، ومن البحر الميّت إلى النهر الكبير، الذي يفصل اليوم بين لبنان وسورية. ولكن مات يُوناتان في خدمة أنطيوخس السادس، بسبب خيانة تريفون.
وخلفه حمعان، واستردّ جثّته ووضعها في قَبْرٍ شيّده (13: 1- 30). وأسرع فتحالف مع ديمتريوس الثاني، الذي سلّطه على الأمّة اليهوديّة. وهكذا أزيل النيرعن عُنُق شعب إسرائيل (13: 33- 42). وأخذ سمعان جَازَر وقلعة أورشليم (13: 43- 53). ولكنّ سمعان سيموت مقتولاً، في وليمة أقامها على شرَفه بطليموس بن أبوبس. فحلّ ابنه يوحنا مكانه (16: 11- 25).
3- الفنّ الأدبيّ
ألفّ كاتبنا 1 مك، حَسَب الأسلوب المعروف في الكتب المُقدّسة، وأوّل عناصره التوازي. هذا ما اكتشفناه في المُقدّمة: الأشرار من جهة، والمؤمنون من جهة ثانية. وهناك عنصر آخر، هو الاحتواء والتضمين. فنحن نقرأ في 1: 10: "وخرج عِرْق أثيم" ونجد لهذا القول جوابًا في 2: 48 "ولم يَدَعوا للخاطئ أيّة قوة". ثمّ إنّ متتيا اقتسم ميراثه، كما فعل الإسكندر الكبير بين قواده (2: 65)، وحرّض أبناءه، وألهب فيهم الحماس (2: 50- 64)، فجعلهم ينسُون المرثاة الأولى (2: 7- 12). ما يهمّ في هذه المُقدّمة، هو تحرّك الفكرة في صُوَرٍ ضيّقة: مُحاولة فرض المدنيّة الهلينية، الاضطهاد، سياسة أنطيوخس... كلّ هذا ينظر إليه الكاتب نِظرةً ضيّقة.
هذا في المُقدّمة، أمّا في جسم الكتاب، فالمُؤلّف يُنَظِّم عناصرخَبَره، بين مديحٍ ليهوذا (3: 3- 9)، ومديح لسمعان (14: 4- 15). أمّا الكتاب، فيبدو توسّعًا في كلمات متتيا. فمديح الأب (2: 50- 64)، يجد صداهُ في مُغامرة الأبناء.
ولقد بيّن الكاتب نواياه: فالديانة والأمّة في خطر، بسبب الانقسامات الداخليّة، وظُلْم مَلِكٍ كافر. وسيزول الخطر بفضل شجاعة وتقوى متتيا وأبنائه. ويُبيّن نواياه أيضاً من خلال الخبر بالخُطَب والصلوات والأناشيد: فالمرثيّات في وقت الضيق (1: 25- 28، 36- 40؛ 2: 7- 12؛ 3: 45، 5- 53؛ 7: 17)، تُقابلها مدائح الانتصار (3: 3- 9؛ 14: 4- 15)، وخُطَب وصلوات يهوذا قبل الحرب، تُشير إلى آننا أمام حرب مُقدّسة (2: 50- 64؛ 3: 18- 22، 58- 59؛ 4: 8- 11، 24، 30- 33؛ 6: 10- 13؛ 7: 37 ي).
إذًا نحن أمام حرب مُقدّسة، وخَبَرٍ يُمجّد سُلالة الحشمونيين. إنّهم في المُقدّمة، وسيمُوتون من أجل الدين والأمّة. إذا وجُدوا رافقهم النصر، وإذا ابتعدوا توقّفت المعارك. وإذا حصل لأحد وأراد أن يقوم بحربٍ ، بمَعزل عنهم، فمصيرُه الفَشَل. هذا ما حدث ليُوسف بن زكريا وعزريا، رئيسَيْ الجيش: أرادا أن يُجاريا أبناء متتيا في المجد، فَهُزِما شرّ هزيمةٍ في عِمّاوس (5: 55- 62).
4- القيمة التاريخيّة
بساطة الخبر، تكفل لنا الواقعيّة. فنحن أمام مقتطفات من الأرشيف المحليّ. يكتفي الكاتب بأن يختارها، فيُعبّر عن معنى الأحداث، في الخُطَب التي يضعها على شِفاه الأبطال، وفي الأناشيد التي تعكس ضيق المُضايقين او حَمِيّة المُقاومين.
ويُورد الكاتب وثائق عديدة: الكتاب الذي أرسله بنو جِلعاد إلى يهوذا وإخوته (5: 10- 13، نحن أمام مُلخّص)، رسالة الرومان إلى يهوذا (8: 22- 32. هي نسخة)، رسالة إسكندر بالاس إلى يوناتان (10: 17- 20، هي مُلخّص)، رسالة ديمتريوس الأولى إلى يوناتان (11: 30- 37: نسخة الكتاب إلى لستانيس)، رسالة ديمتريوس الثاني إلى يوناتان (11: 42- 43، مُلخّص)، رسالة أنطيوخس السادس إلى يوناتان (11: 57، مُلخّص)، رسالة يوناتان إلى أهل إسبرطة (12: 5- 18، نُسخة)، كتاب أرسله اريوس إلى أونيّا (12: 19- 23، نُسخة)، رسالة من ديمتريوس الثاني إلى سمعان (13: 36- 40)، رسالة من أهل إسبرطة إلى سمعان (14: 20- 23)، رسالة من أنطيوخس السابع إلى سمعان (15: 2- 9)، رسالة من القُنصل لوقيوس إلى بموس وغيره (15: 16- 24)، كتابة دُوِّنَتْ تكريمًا لسمعان (14: 27- 49). وهكذا نكون أمام ثلاث عشرة وثيقة.
ما قيمة هذه الوثائق؟ قابلها العُلماء بما اكتشفوا من رسائل هنا وهناك، فأجمعوا على القول إنّ مضمون هذه الرسائل صحيح، ولكنّ الكاتب طبع الأسلوب بطابعه، ثمّ جاء المُترجم فطوّر النصّ أيضاً. فالأمر في 1 مك هو هو في سائر الكتب التاريخيّة، حيث ينطلق الكاتب من جوهر الرسالة أو الخطبة، ويُدوّنها بأسلوبه الشخصيّ.
5- التعليم الدينيّ
تمثَلَ صاحب 1 مك بالمُؤرخين المُلهمين في العهد القديم، فبيّن في تسلسُل الأحداث، تحقيق مُخطّط العناية الإلهيّة: إنّها حروب الله، يقوم بها رجال اختارهم لخدمته. وهذا ما نراه بوضوح في المُقدّمةْ فتجاه قِوى الشرّ، تقفُ القِوى التي تُدافع عن قضيّة الله.
نحن نتكلّم عن الله، أمّا الكاتب فيتحاشى أن يتلفّظ بهذا الاسم، ويُحاول أن يجد له بدائل. فيتكلّم عن "مُخلّص إسرائيل" (4: 30)، عن السماء (3: 18، 19، 60)، عنه (2: 61؛ 3: 22) والضمير يدلّ على الله. ومهما كانت الأسباب التي دفعته إلى التهرّب من التلفّظ باسم الله كرامةً واحترامًا، إلاّ أنّ هذا لا يمنع العلاقات البنويّة مع إلهٍ، نسأله عونًا قَبْل المعركة، ونشكره بَعْدَ النَصْر (4: 24، 33؛ 13: 47، 51). فالإيمان بإله موسى (4: 9) وداود (4: 30) وأشعيا (7: 41) يبقى العُنْصر الفاعل في هذا الكتاب.
والشريعة تحتلّ مكانة واسعة، فيشدّد عليها الكاتب، ليُبيّن مجهود الإنسان في أوّل اهتماماته الدينيّة. والحالة ميئوس منها ولكنّ ممارسة الشريعة ستُعيدها إلى هدوئها. والشريعة تقوم بمماسات طقسيّة، كالخِتَان وحِفْظ السَبْت وإكرام الهيكل. لا شك في أنّ كاتبنا، وهو مُؤرّخ، يتوجّب عليه أن ينحصر في السِماتِ الخارجيّة للديانة. ولكن لا بدّ من القول، إنّ هذه الديانة النبيلة، بالإيمان الذي يَسنُدها، والأمانة البُطوليّة التي تدفعها، يُمكن أن تتحجّر في ديانة الكتاب، حيث يَقِفُ الحرف حاجزًا بين الإله الحيّ والمُؤمنين. ومع أنّ الخطر ظاهر، لم يصل 1 مك بَعْدُ إلى هذا الحدّ. فالصلوات العديدة التي تملأ الكتاب، تدلّ على اتصال حميم بالله. ولكنّنا لم نَعُد في زمن الأنبياء (4: 46؛ 9: 27؛ 14: 41)، الذين يُوصلون إلينا كلمة الله، ولهذا نَستنِدُ من أجل حياتنا، إلى الشريعة المكتوبة والعقل البشريّ. هناك ما يُبرّر هذه الحكمة، ولكنّه لا يُخفي أخطارها: فكتاب الشريعة يُقدّم ليهود، الخدمات عينها التي ينتظرها الوثنيون من أصنامهم، ليعرفوا إرادة إلههم (3: 48). ما دام السؤال ينبع من إيمان حيّ، فقيمته قيمة دينيّة ثابتة (رج سي 33: 3). ولكنّه يقدر أن يقودنا إلى روح مريضة بشريعة مُتحجّرة. ثمّ إن العقل البشريّ وحده، يُمكن أن يَحُلّ محلّ الديانة الحقّة، بعد أن زال وولّى زَمَنُ العجائب.
إنّ كلام الله الحيّ في أنبيائه، وعَمَلَهُ المنظور في عجائبه، كانا يَدلاّن على الطابع السامي لديانة بني إسرائيل، التي ينفحُها رجاءٌ مسيحانيّ. فالديانة تحتاج إلى أبعد من الحاضر، لئلا تنحطّ بل تبقى فوق الإنسان. أمّا في 1 مك، فلا نَجدُ عجائب ولا مسيحانيّة. ويُمكننا أن نتساءل: أما يكون الرجاء المسيحانيّ قد انحَطّ إلى مستوى أرضي؟ أما يعتبره الكاتب تحقّق في الاستقلال الذي حقّقه سمعان؟ فالمديح الذي يَكيلُه لسمعان، يأخذ من الأنبياء سمات السلام والازدهار العجيبة، الخاصّة بالأزمنة المسيحانيّة (14: 4- 5). ثمّ إنّنا لا نجد في كتابنا رجاءً بالآخرة وبالحياة بعد الموت. وهذا الإغفال يُلفت نظرنا عندما نقرأ دا 12 و2 مك 7. هذا النقص يمنع 1 مك من أن يكن عادلاً مع الذين استشهدوا في ف 2: قُتِلوا ولم يُقاوموا فلم يَمْتدحهم. إنّهم مثال لما لا يَجِبُ أن يُعْمل. أمّا الذين يُقتلون بُغضاً بالديانة (1: 56 ي)، فمصيرهم السيء هو علامة على غَضَب الله (1: 64). ومن سيُوقف هذا الغضب؟ سَيْفُ يهوذا المكّابي (3: 8). ولا يستأهل المديح إلا الذين يحملون السلاح، ليُدافعوا عن شعائر العبادة، ويفرضوا بالقوة مُمارسة الشريعة. أما مجدهم بعد موتهم، فينحصر بهذا الذكْر الذي يتركونه كبَرَكة بعدهم (3: 7؛ رج سي 45: 1).
ما يُلفت انتباهنا في 1 مك، هو متانة ديانة تستند إلى إيمان بإله الآباء، وتتجذّر في مزايا وفضائل تدلّ على عَظَمة الإنسان. ولكن تنقصه هذه النفحة التي كانت ترفع الأنبياء فوق الأرض، فوق المُستوى البشريّ البحت، لتُوصلهم إلى ديانة الروح. وتُجاه شريعة تسير نحو التحجير، ومسيحانية ستنحطّ إلى مستوى روح وطنية، سيُنظّم يسوع المسيح ديانة شاملة، ديانة الروح والحقّ.

ثالثًا: سِفْر المكّابيين الثاني:
1- متى كُتِبَ ومَنْ كتبه؟
يبدأ الكتاب برسالة من أورشليم، مُؤرّخة بالسنة 188 للسلُوقيّين، أي سنة 124 ق م. يبدو أنّ هذه الرسالة كانت المُناسبة للكاتب، لكي يُدّوِن كتابه، وهكذا يُمكننا أن نقول إنّ 2 مك، دُوِّن في الربع الأخير من القرن الثاني ق م.
ولكنّ الكاتب لا يُعلن عن اسمه. لقد كتبه في اليونانيّة، مُنطلقًا من تاريخ ياسون القيرينيّ. إذاً اختصر كاتبنا، وهو من يهود الإسكندرية، مُؤلّفا من خمس كتب لياسون الذي نجهل هُويته، والذي دوَّن تاريخه في أواسط القرن الثاني ق م.
2- التصميم والمضمُون:
وضع الكاتب في مُقدّمة كتابه وثيقة من أورشليم، مكتوبة في العِبرانيّة أو الآرامية، فنقلها إلى اليونانيّة. أمّا مضمونها فدعوة إلى الاحتفال بعيد تدشين الهيكل (1: 1- 9)، وتذكير بأصل العيد، وبالطابع العُلويّ لنار مذبح أورشليم (1: 10- 2: 18). وهكذا حدّد الكاتب هدف كتابه.
ثمّ أسند الكاتب دعوته إلى براهين أفضل من السابقة، فقدّم لنا تنبيهًا، يُعرّفنا بمَراجعِهِ وبأسلوبه في العمل (2: 19- 32). وسينهي كتابُه مُودّعًا القارئ، مُتمنيّاً لنفسهَ أن يكون وُفِّقَ في ما عَمِلَ (15: 37- 40).
ويُوسعّ الكاتب براهينه في خمسة أقسام، تُقابل كتبَ ياسون الخمسة.
أ- قداسة الهيكل: لا يمّسها أحد في أيّام أونيّا الكاهن. حاول هليودوروس فدخ الثمن غاليًا (ف 3).
ب- إنّ دسائس ياسون ومنلاوس من أجل رئاسة الكهنوت، دفعت أنطيوخس أبيفانيوس إلى سَلْب الهيكل وتنجيسه. هل غضب الله على شعب إسرائيل، فكفّر الشهداء عن الشعب (ف 4-7)؟!
ج- لقد تحّول غضب الله إلى رحمة: دحَرَ يهوذا الأعداء، فدفع المُنجّس غاليًا، ثَمَنَ ما فعل من مظالم. وطهّر الهيكل واحتفل بعيد التدشين (8: 1- 10: 9).
د- وطهّر يهوذا سائر مُدُن إسرائيل، ومنحها بعض الاستقلال الذي تمتعّ به الهيكل (10: 10- 13: 26).
هـ- عُيّن الكيمُس التعيس رئيس كهنة، ولكنّه مُنِعَ من الاقتراب من المذبح. حاول نكانور أن يَسنُده، فأُجبِرَ على التكفير عن تجاديفه ضِدّ المعبد. أجل، إنّ الربّ يحفظ هيكله نقيًا من كلّ نجاسة (ف 14- 15).
3- الفنّ الأدبيّ
أراد الكاتب أن يدفع بني قومه للاحتفال بعيد تدشين الهيكل، بعد أن تطهّر، فحاول أن يُشركهم في عبادته المُندفعة نحو الهيكل. كلّ ما سيقوله يؤول إلى هذا الهدف، لذلك سيتخذ الكتاب شكلاً خطابيًا. والاقسام الخمسة تُشبه خَمْس خُطَبٍ تُحاول أن تُدْخِلَ هذا اليقين في قلوب المُؤمنين، وتُحرّك عواطفهم. فالخُطبة الأولى، تجعلنا نتذوّق السلام الذي عمّ البلاد في أيّام أونيّا الكاهن القديس، ونُقاسم قلقه وقَلَق شعبه المؤمن، عندما يظهر ما يُهّدد الهيكل، ونُشاركه في انتصاره على هليودوروس الذي اجْبِر على إنشاد أمجاد الله.
الخُطبة الثانية تتجاوب والخُطبة الثالثة: الكُفْر والاضطهاد من جهة، موت المُضطهدين وتطهير الهيكل من جهة ثانية. نما الكُفر من ياسون إلى منلاوس، فأدخل الأوّل إلى المدينة المُقدّسة العوائد اليونانية، وأدخل الثاني أبيفانيوس إلى الهيكل. مع الأوّل سُلِبَت المدينة، ومع الثاني نُهِبَ الهيكل. مع الأوّل قُتِلَ السُكّان، ومع الثاني بدأ الاضطهاد. هذا في الخُطبة الثانية. وفي المقابل، وفي الخطبة الثالثة، إنطلق يهوذا من الضُعْف، فانتصر على جيوش الأعداء المُتكاثرة. واستعرض الكاتب القواد المغلوبين، ليصل إلى أبيفانيوس الذي عذبّه الله نفسه. أُبْعِدَ الكُفّار وُطهّر الهيكل، وراح المؤمنون يُنْشِدون كلّ سنة "ذاك الذي سهّل الأمور من أجل تطهير المكان المُقدّس" (10: 7).
وتدفعنا الخُطبة الرابعة في الخطّ نفسه، فتروي كيف امتدت إلى مُدُن فلسطين حسنات التحرير. ذهب يهوذا على دُفعتين ليُساند المُدن المُضايقة. حاول ليسياس أن يسُدَّ له الطريق فقُهِر واجْبِرَ على التفاوُض. ويذهب يهوذا أبعد من أورشليم، ويُوسعّ إطار حربه مع ليسياس. في ف 11، منَحَ الملك الشعب التمّتع بالهيكل، وهو الآن يُغدق خيراته على المكان المُقدّس. بدأ ليسياس فتعاطف مع اليهود، أما الآن، فهو يُدافع عن قضيتهم في المُدُن اليونانيّة.
أمّا الخُطبة الخامسة، فتُحرّك عاطفتنا إلى أقصى حدّ: الكيمس يُشعل نار العداء ونكانور يَسنُده، ويُهدّد الهيكل. ولكن قبل موت نكانور، سيروي لنا الكاتب ظُهور أونيّا وإرميا وموت رازيس. وهكذا لا يبقى على القارئ، إلا أن يقتنع أنّ الله يحفظ مسكنه من كلّ نجاسة.
في كلّ خُطبة نجد نفوسنا أمام ثلاثة أشخاص: اليهوديّ التقيّ (أونيّا، الشهداء، يهوذا وأصحابه)، اليهود الكافرون (سمعان، رؤساء الكهنة المُتآمرون)، الوثنيّ (هليودورس، أبيفانيوس، أوباطور، نكانور). وعلى كلٍّ من هؤلاء الأشخاص، أن يُعلن، بطريقته، قداسة الهيكل ومَجْدَ الله الساكن فيه. يبدأ الكتاب والحالة هادئة، وينطلق القَلَق مع دسائس وطموحات اليهود الكُفّار، وتَقِفُ بوجه الله كبرياء الوثنيين. حينئذ يرفع الله يده، ويضرب ضربة قويّة، فيعرِّف الناس بجَبروته. وهكذا تنتهي كلّ خطبة نشيدٍ لمجد الله "الذي يسكن في السماء، ويسهرعلى هذا المكان، ويُدافع عنه" (3: 38- 39؛ رج 7: 37؛ 10: 7؛ 13: 23؛ 15: 34).
الفنّ الأدبيّ الذي يستعمله 2 مك، هو الفنّ الخطابيّ الذي فيه يُحاول الكاتب أن يُؤثّر على عاطفة القارئ. لا شكّ أنّه ينطلق من المُعطيات التاريخيّة، ويأخذ براهينه من كتب ياسون الذي اهتمّ بالأمكنة والأزمنة، ولكنّه لجأ إلى الخُطَب الحماسية، والظُهورات الساطعة، والأعداد المُضخّمة، فدعا السامع إلى الدخول في نِظرته إلى الأحداث (3: 16- 21؛ 4: 2، 16، 17، 26، 38، 47- 50؛ 5: 9، 10، 17- 20؛ 6: 12- 17 ألخ).
4- القيمة التاريخيّة
نبّهنا صاحب 2 مك (2: 30، 31)، أنّه لم يلجأ إلى البحث التاريخيّ، بل استند إلى ما يقوله ياسون. يأخذ منه براهينه، لآنه يعتبره صادقًا، ويزيد عليها النبرة العاطفيّة التي تُؤثّر بالقارئ. لهذا، فالوقائع الواردة هي تاريخيّة، وهذا ما يظهر، إذا قابلناها بمَا يُوازيها من أخبار في 1 مك.
وإليك لائحة بمَا نجده في 1 مك و 2 مك: 1 مك 2 مك:
1 مك 2 مك
المدنيّة الهلينيّة في فلسطين 1: 10- 15 4: 7- 17
أنطيوخس يسلُب الهيكل 1: 21- 24 5: 15- 21
شرور الحُكّام 1: 29- 32 5: 22- 26
فرْضُ الهلينيّة على البلاد 1: 41- 63 6: 1- 11
المكّابيون في البريّة 2: 27- 28 5: 27
حِفْظ يوم السبت 2: 29- 38 5: 25- 26؛ 6: 11
ليسياس قائد العَمليّات 3: 32- 33 10: 11
نكانور وجورجياس في اليهودية
معركة عمّاوس 3: 38- 4: 27 8: 8- 29
هزيمة ليسياس 4: 28- 35 11: 1- 2
تطهير الهيكل، تدشين المذبح
الجديد، وتنظيم عيد التدشين 5: 1- 68 12: 1- 45
نهاية أنطيوخس أبيفانيوس التعيسة 6: 1- 16 9: 1- 29؛
1: 13- 17
حملة أنطيوخس الخامس أوباطور 6: 28- 54 13: 1- 22
الملك أنطيوخس يمنح اليهود
الحريّة الدينيّة 6: 55- 63 13: 23- 26
ديمتريوس الأوّل يضع يده على السُلطة 7: 1- 4 14: 1- 2
دسائس رئيس الكهنة الكيمُس 7: 5- 25 14: 3- 14
حملة نكانور 7: 26- 32 14: 15- 30
تهديد نكانور للهيكل 7: 33- 38 14: 31- 36
هزيمة نكانور وموته 7: 39- 49 15: 1- 36

إذا قابلنا بين هذين النصّين، وجدنا قيمةً تاريخيّة لا بأس بها، بالنسبة إلى 2 مك. لا شكّ في أنّ كاتبنا لا يُريد أن يكتب تاريخًا بالمعنى الحَصْريّ، بل نداًء وتحريضاً، ولكنّ المُعطيات التي يُقدّمها لنا، تَدُلّنا على التاريخ، كما قدّمه إليه ياسون.
5- التعليم الدينيّ:
أخذ صاحب 2 مك بأساليب الخِطابة المعروفة في العالم اليونانيّ، ولكنّه استقى عناصر تعليمه الدينيّ، من ينابيع العالم اليهوديّ. فهو يتحدّث، وللمّرة الأولى، عن دين اليهود (2: 21؛ 8: 1؛ 4: 38)، ويُقابل بين اليهوديّة والهلينيّة (4: 13)، ويعتبرهما كليهما مَدنيّة وديانة: هي طريقة حياة وعادات عن الآباء، مزجناها بمُمارسات دينيّة. فالمدنيّة اليونانيّة تُجسّد الهلينيّة، والهيكل هو علامة الالتفاف حول النُظُم والديانة اليهوديّة (4: 7- 17؛ 6: 8، 11: 2- 3).
ما يَبرُز أولاً في هذا العالم اليهوديّ، هو الشريعة التي تفرض مُمارسات خارجيّة، يتمّيز بها اليهوديّ عن سائر البشر، وهي حِفْظُ السبت، والامتناع عن اللُحوم غير المذبوحة حَسَب الشريعة، والخِتَان. إنّنا نجد هنا السمات التي وجدناها في 1 مك. ولكنّنا نُلاحظ اختلافين اثنين: لم تَعُد الشريعة مفروضة بقوة السلاح، لا عُذْرَ يعفينا من راحة السبت، بما فيها الدفاع المشروع، ضِدّ عدوّ يستفيد من الظروف، ليربح الحرب دون تَعَب (5: 25؛ 6: 6؛ 15: 3). كثرت مُتطلّبات الشريعة، فصارت مُمارسة داخلية، وشدّد الكاتب على قداستها (6: 23، 28).
ولقد ربط كاتبنا بين الهيكل الذي يُسمّيه المكان المُقدّس، ومُمارسة الشريعة. هذا هو موضوع اعتباراته. فتقوى أونيّا تُساوي الجيوش في الدفاع عن الهيكل. أمّا ياسون الذي يزدري الشريعة، فيَجْلُب على المعبد كلّ الشرور وكلّ النجاسات. ويُشدّد الكاتب، حين يتحدّث عن النَصْر على نكانور، ذلك المُجدّف على الهيكل، أنّ سَيْفَ الانتقام حلّ عليه من السماء، بفضل صلاة أونيّا. فديانة القداسة والهيكل، تُشبه ما قاله حزقيال، وترتبط بإرميا الذي رآه يهوذا وسمّاه أونيّا: مُحِبّ الإخوة، والمُكثر من الصلوات لأجل الشعب، والمدينة المقدسة، ونبيّ الله (15: 11- 16). وإذا قرأنا 5: 17- 20، نرى تقارُبًا وتناسقًا في كرازة هذين النبيين: فالمكان المُقدّس هو علامة حضور ربّ كلّ قداسة، وسط شعبه المُقدّس (14: 36).
هذه الديانة لا تقوم فقط على مُمارسات خارجية، مُرتبطة بعالم الطقوس والشريعة. هذه الديانة، ديانة الشريعة والهيكل، هي في الواقع، مُركّزة بقوّة على الله. الله هو من ندعوه دومًا، وبكلّ الأداء التي عرفها العهد القديم. فهو الله (ألوهيم)، وهو الربّ (يهوه-كيريوس)، وهو السيّد (أدوناي- دسبوتيس). هو خالق الكون، والقدير الذي لا يحتاج إلى شيء، وقد شاء أن يسكن بيننا. هذا الإله الذي يعيش في السماء، هو أيضاً ملك العالم، وملك الملوك. إنّه يرى كلّ شيء، وهو الديّان العادل، والرحوم وربّ الحياة والنفوس. هو الصانع العجائب، والربّ الأبيفانيوس أي الذي تجلّى (15: 34). لا نجد كتابًا مثل 2 مك، يجمع كلّ هذه التسميات الإلهيّة، إلاّ سِفْر المزامير الذي يستوحي منه صاحب 2 مك، ليتلو صلواته.
واللقب الأخير، كما قلنا، هو الربّ أبيفانيوس (المُتجلّي)، وهذا اللقب الذي اغتصبه أنطيوخس، يَحِقُّ لله وحده. فمنذ البداية (ف 3)، شمعّ مجد الله في الهيكل الطاهر، على أيّام الكاهن أونيّا الذي مارس الشريعة مُمارسة تامّة. ولكنّ هذا المجد، بدا مُتخفيًا أمام الذين ينظرون إلى الأمور نظرة سطحيّة (5: 17- 20)، أقلّه لفترة مُحدّدة. ولما طُهّر الهيكل على يد المُدافعين عن الشريعة، ظَهر ذلك المجد لامعًا من جديد. أجل، لسنا في ديانة الحَرف المُحجّر، بل أمام ديانة يهمّها قبل كلّ شيء مجد الله. وهدف مُمارسة الشرائع المُقدّسة، هو أن يبرُز أمام البشر هذا المجد في شعائر العبادة.
وهذا الإله الكبير يمزج حياته بحياة مُؤمنيه. أمّا الاتصال، فيتمّ بالصلاة التي تُمارس في كل ظَرْف، والتي تَجِدُ جوابًا أكيدًا من قِبَل الله. وهكذا تختفي بعض المّرات، فاعليّة العمل البشريّ، لأنّ الصلاة تجلب حالاً المُعجزة والنَصْر الساطع. ويُمكننا أن نبحث عن عناصر استراتيجيّة حربيّة، ولكنّنا لا نجد شيئًا، لأنّ الفاعل الأوّل والأخير هو الله.
وتبدو تَجليّات الله ساطعة في 2 مك (12: 22)، فيتحدّث الكاتب، وُيطيل حديثه عن هؤلاء المُحاربين الآتين من السماء. ولكنّنا نتساءل عن مدى صِحّة هذه الظُهورات. لا شكّ في أنّ الله يقدر أن يمنح مُؤمنيه رؤىً ليُشجعهم في القتال، ولكنّ الكاتب يُريد أن يدلّ، عَبْرَ أسلوب أدبيّ معروف، على واقعيّة العون الإلهي الذي سمّاه 1 مك (16: 3) "عون السماء" (رج 1 مك 3: 19؛ 4: 10؛ 9: 46؛ 12: 15). فاليهود يُؤمنون كالمسيحيين، أنّ الله يستعمل ملائكته من أجل تدبير العالم. ولقد أنشدت دبُورة في سِفْر القضاة: "من السماء قاتلوا عنا" (5: 20). وأورد دانيال حرب الملائكة ضِدّ حُكّام الأمم. هذا الإيمان أخذ به ياسون وصاحب 2 مك، وجعلاه في أسلوب عرفتُه الخِطابة الهِلّينيّة.
ويُقدّم لنا 2 مك تعليمًا عن الحياة في الآخرة: فالأموات يتشفّعون من أجل الأحياء، كما فعل أونيّا وإرميا (15: 11- 16)، أو هم يستفيدون من صلوات الأحياء: "لقد قدّم يهوذا ذبيحة التكفير عن الأموات، ليُحلّوا من الخطيئة" (12: 39- 45). أمّا الشُهداء فيَحيَوْن في الجَسَد من جديد، ليتنعّموا في الحياة الأبدية، بالجزاء المُعطى لهم عن أتعابهم في هذه الدنيا. هذا ما قاله الإخوة السبعة، قبل أن يذهبوا إلى الموت (7: 1 ي)، وهكذا دعا رازيس ربّ الحياة والروح، أن يَرُدّ إليه "دمه وأمعاءه"، ثمَّ فارق الحياة (14: 46).
هذا الاعتقاد بالقيامة، يُناقض الفكر اليونانيّ، وهو صدى لما نقرأه: "كثيرون من الراقدين في تُراب الأرض يستيقظون، بعضهم للحياة الأبدية، وبعضهم للعار والرَذْل الأبدي" (دا 12: 2). غير أنّ المُشاركة في الصلاة بين الأحياء والأموات، تُحدَّد هنا وللمّرة الأولى. وهذا التعليم هو امتداد لإيمان شعب إسرائيل، الذين ذكّروا الله باستحقاقات داود، لينالوا النعمة لنَسْله: "أذكر. يا ربّ داود وكلّ عنائه" (مز 132: 1). وبمَا أنّ الدينونة سوف تتأخر، فالوقت مُوآتٍ، ليُصلّي الأحياء من أجل الأموات. هذا التضامن في الخلاص الذي نُسمّيه شركة القديسين، كان عُنْصرًا هامًا في إيمان بني إسائيل، وقد طبق في نطاق الصلاة، بعد تطورّ الوحي حول الآخرة.
وهناك تطبيق آخر لعقيدة التضامُن، على القيمة التكفيريّة للالام التي قاساها الشهداء. إنّهم واعون أنّهم يتألمّون من أجل خطايا الشعب، وهم واثقون أنّ ذبيحتهم ستُعيد إلى الأمّة رجوع الرحمة والرضى (7: 32- 38). وهكذا يربط 2 مك في شركة القديسين، إستحقاقات الأعمال والالام بالصلاة المُتشفعّة، فيُبيّن أنّ كلّ نتيجة ننتظرها، تأتينا من نعمة الله.
وهكذا نكتشف بلباس يونانيّ ديانة يهوديّة حقّة، فيكون 2 مك مع سفر الحكمة، أفضل شاهد للتقوى اليهوديّة، عشيّة مجيء المسيح

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM