الفصَل الأول: مجَيءُ نَحَمْيا الأوّل إلى أووَشَليم

الفصَل الأول
مجَيءُ نَحَمْيا الأوّل إلى أووَشَليم
1: 1- 7: 73

أ- المُقدّمة
1- يُخبرنا القِسْم الأوّل عن مجيء نَحَميا إلى أورشليم حوالي السنة 445 ق م. وصلت أخبار سيئة عن بلاد يهوذا، فصلّى إلى الربّ، ثمّ التمس من الملك أمرًا بالسَفَر، فأعطي له، فجاء إلى أورشليم. وما إن وصل إلى المدينة المقدّسة، حتّى دار على أسوارها، وعزم على ترميمها. فرمّم الأسوار والأبواب، وما زال على العمل رُغْم مُعارضة المُعارضين، حتّى انتهى من العمل. وبعد أن اتخذ إجراءات في سبيل الفقراء، نَظَّم السكن في المدينة، ورتّب الحراسة، ليعيش أهل أورشليم في أمان.
2- مرّت مئة سنة على نداء كورش، ولم يكن الشعب اليهوديّ قد تنظّم بعد، في جماعة لها وزنها السياسيّ. لا شك في أنَّ الآلاف رجعوا من بلاد بابل إلى أورشليم، ولكن بقي عدد كبير في بلاد المنفى: أَثْروا فتخلّصوا من وضعهم كأسرى، وفضّلوا أن يعيشوا غُرباء في مجتمعهم الجديد، على الرجوع إلى بلادٍ لم يهدأ فيها الوَضْع بعد. عاشوا كأبناء البلد الذي أقاموا فيه، فا عاد شيء يُميّزهم عنهم.
3- بعد نداء كورش، عادت قوافل صغيرة من المنفيين إلى أورشليم، وأخذوا يعملون في إعادة بناء الهيكل. ولكنّ الوضع الاقتصاديّ سيء، والحالة الأخلاقية لا تدعو إلى الاعتزاز. فكيف يسير العمل في هذه الحال، سيَّمَا وأنّ شعب الأرض يُناصِبُ الآتين العداء، وحكّام البلاد يتدخّلون، فيُوقفون العمل في أسوار المدينة وهيكلها؟ وهكذا مرّت جماعة الراجعين في فتؤمن الذُلّ والعار، يُحيط بهم دمار واسع، لا يستطيعون إزالته. سمّاهم الأنبياء البقيّة الباقية، وجعلوا أملهم فيهم، ولكنّ حظّ هذه البقية ليس بعظيم فتُحْسَد عليه.
4- لم ينقطع الاتصال بين الذين رجعوا من المنفى، وبين الذين لبثوا في أرض بابل، فالطريق آمنة بين بلد وبلد في ظلّ الحُكْم الفارسيّ. وما نقرأه في قِصة الآباء عن إبراهيم يُوفِد عبده، ليأتي بزوجة لابنه (تك 24: 1 ى)، وعن إسحق يرسل ابنه يعقوب إلى بيت خاله لابان (تك 28: 1 ي)، ما نقرأه عن طوبيا وغيره، يجعلنا نفهم كيف أنّ الباقين في المنفى، كانوا مُطّلعين على ما يحدُث في أرض يهوذا، ومدينة أورشليم.
5- نتعرّف هنا على نَحَميا. كان رئيس السُقاة عند الملك، يذوق شراب الملك، قبل أن يُقدّمه إليه، لعلّ المُتآمرين جعلوا فيه سُمّاً. ولكنّ هذا الموظف بقي على إيمانه اليهوديّ قَلْبًا وقالبًا. أحبّ أرضه وشعبه، وبدا هذا الحُبّ من خلال الحُزْن والكآبة، اللذين أحسّ بهما حين جاءته من أورشليم أخبار غير سارّة: بلاده تتخبّط في الشقاء، وإخوته يعيشون في العار. هم لم يستطيعوا بعد، أن يُعيدوا بناء المدينة التي يقوم الهيكل فيها، فكيف يُمجدّون الله.
6- نقرأ هنا صلاة نَحَميا (1: 1- 11)، الذي أرسله الملك الفارسيّ إلى أورشليم (2: 1-20)، فبدأ حالاً ببناء سور أورشليم (3: 1- 32). ولمّا عارضه المُعارضون، لم يتوقّف عن العمل، بل جعل حُراسًا يُؤمّنون الحماية للعُمّال (3: 33؛ 4: 17). وإذ رأى فوارق اجتماعية بارزة، وظُلمْا يَلْحَقُ ببعض فئات الشعب، عمل على إصلاحه (5: 1- 19). تآمر عليه الخُصوم فما خاف، بل تابع العمل في الأسوار حتى أنهاه (6: 1- 19). وإذ اكتشف أنّ سُكّان المدينة قليلون، قام بإحصاء الآتين من المنفى، وطلب إليهم أن يسكنوا أورشليم ويدافعوا عنها، ثمّ بدأ بجَمعِْ التبرّعات من أجل بناء الهيكل (7: 1- 72).

ب- تفسير الآيات الكتابيّة
1- صلاة نَحَميا من أجل أورشليم (1: 1- 11)
(آ 1: 1- 3)، الشعب في ضيق، والمدينة مُهدّمة ولا أبواب لها.
بداية سفر نَحَميا، كبداية أسفار الأنبياء (رج ار 1: 1)، وهي تروي ما يتحمّل النبيّ من أجل شعبه. هو يبكي ضِيقَ شعبه وآلامه، يبكي وينُوح باسمه (ار 1: 6).
نَحَميا بن حكليا... هذا هو اسم كاتب الكتاب، وهو أمر لا نجده في أيّ من الكتب التاريخية. سلسلة نَسَب نَحَميا ليست طويلة، مثل سلسلة نَسَب عزرا. إذًا لا حاجة إلى الرجوع إلى زمن هارون. فنَحَميا ليس بكاهن، بل من عامّة الشعب.
نَحَميا أي الربّ يُعزّي. ثلاثة أشخاص دعوا بهذا الاسم: واحد مُعاصر لزَرُبّابل (7: 7؛ عز 2: 2). وآخر ابن عزبوق (3: 16)، وصاحبُنا ابن حكليا (1: 1، 10: 2؛ 12: 26). ومعنى حكليا، الرجاء بالربّ (اش 8: 17؛ 33: 20).
يبدأ سِفْر نَحَميا بكلمة "دبرت" أي كلمات وأعمال نَحَميا. وهو يروي ما قام به نَحَميا من أعمال، يوم جاء إلى أورشليم.
شهر كسلو هو الشهر التاسع الذي ذكره عزرا (عز 10: 9)، وهو يُقابل تشرين الثاني. بعد القرن السادس ق م، شرع العِبرانيّون يبدأون سنتهم بالربيع، لا بالخريف، وأخذوا يُسمّون الأشهر على الطريقة البابلية.
شوشن، هي العاصمة الشتويّة لمَلِكِ فارس، وهي تقع على شاطئ الخليج الفارسيّ (عز 4: 9). حناني هو شقيق نَحَميا.
سور أورشليم مهدوم، وأبوابها محروقة، لا بسبب كارثة 587-586، بل بسبب أحداث قريبة، يُلْمِحُ إليها عز 4: 6- 23.
(آ 4- 11)، صلاة نَحَميا.
يذكر نَحَميا يهوه وبني إسرائيل، ويعود إلى تث 30: 1- 5، فيُورد بعض آياته في كلمات نقرأها في عز 9: 1 ي، نح 9: 1 ي. صلاة نَحَميا صلاة ليتورجيّة، تفَّوه بها في الجماعة، أو كتبها فعبّر فيها عن حياة اليهود الدينية، وعن إيمان الشعب بربّ يستجيب لابنائه، حتّى في طَلَبٍ صغير، كنجاح نَحَميا عند الملك أرتحششتا.
نقرأ في هذه الصلاة: يهوه إله إسرائيل هو إله السماء (كما يقول الفُرس)، هو الإله العظيم المَهيب، الذي يرحم مُحبّيه والعاملين بوصاياه. هو فوق الإنسان، ولكنّه قريب من الإنسان، يستمع إليه كما يستمع الصديق إلى صديقه. هو إله العهد الذي أعطى لموسى شريعة، وأعلن مواعيده لشعبه. هو يُعاقب الخائنين الذين يُهملون وصاياه، ويرحم المُؤمنين، فيجمعهم في أرض الميعاد، حيث يُسمَّى اله، وفي أورشليم، في المكان الذي اختاره موَضِعًا لهيكله. هو إله الخلاص والفداء في الماضي وفي الحاضر. أمام هذا الإله، لا يبقى للمُؤمن إلا أن يتذلّل، فيُقِرّ بخطاياه، ويلتمس نعمة الغُفران.
صلاة نَحَميا فردية وجماعية، تتعاقبُ فيها صيغة المُفرد (أنا) وصيغة الجمع (نحنُ)، فتُعبّر عن تضامُن المُصلّي مع شعبه. بنو إسرائيل خطئوا، أنا وبيت أبي خَطِئنا. تكمُن الخطيئة في نِسيان الله، ويرتبط الرجاء بتذكّر رحمة الله ومواعيده. فيبقى على المُؤمن أن يعيش نجوف الله الذي هو رفيق العبادة الحقّة.
ينطلق نَحَميا من الحاضر، فيعود إلى الماضي، ويتطلعّ إلى المُستقبل، حيث يتحقّق وَعْدُ الله، حين يَرُدّ شعبه من كلّ أقطار الأرض إلى أورشليم. هذا ما قاله الأنبياء الذين رأوا بداية المُلك المسيحانيّ، في إعادة تنظيم الشعب في المدينة المُقدّسة. قال إرميا: "أجمع بقيّة غنَمي.. أقيم عليها رُعاة... أقيم لشعي مَلِكًا حكيمًا يُجري الحُكْمَ والعَدْلَ" (23: 3- 8؛ رج حز 37: 21- 28).
2- مجيء نَحَميا إلى أورشليم، وبداية الأشغال (2: 1- 20)
يروي لنا هذا المقطع، إنطلاق نَحَميا ووصوله إلى أورشليم، والشروع في أعمال البناء. كان نَحَميا ساقي الملك، وهذا يدلّ على سُمُوّ منزلته، وعلى الثقة التي يتمتعّ بها عند الملك أرتحششتا، فيمنحه ما يشاء.
(آ 2: 1- 8)، طلب نَحَميا إلى الملك، رسائل تسمح له بالذهاب إلى أورشليم، لإعادة بناء بيت الله، والإهتمام بأمور مدينته، وترميم بيته الذي سيُقيم فيه.
ما يكون جواب الملك الذي منع المسؤولين اليهود، من مُتابعة العمل في الهيكل (عز 4: 21)؟ خاف نَحَميا، ولكنّه سلّم أمره إلى الربّ، ورد إلى الله صلاة قصيرة، قبل أن يُقدّم طلبه إلى الملك. لم يكن في طلبه أمر سياسيّ أو دينيّ أو وطنيّ، بل عرض حاجة عائليّة خاصة: يُريد أن يُعيد بناء بيت في مدينة أبائه، وهذا أمر لا يرفضه أيّ ملك في العصور القديمة.
وطلب نَحَميا أيضاً "رسائل عبور" في المناطق الخاضعة للحُكّام الفُرْس، وترخيصاً لقَطعْ الخَشَب، وإذنَا لحُرّاس يُرافقونه.
(آ 9- 10)، سافر نَحَميا في الطريق المعروفة آنذاك، وهي تمرّ في دمشق والسامرة، فتصل إلى أورشليم من جهة الشمال. إستاء سنبلط، حاكم السامرة، ممّا نواه نَحَميا.
(آ 11- 15)، قام نَحَميا بدورة ليلّية، يُفتش على أسوار المدينة. أراد أن يرى الأمور بعَيْنَيْه، وأراد أن لا يراه أحد، فاحتاط للأمر، وقام بدورته ليلاً (3: 5).
(آ 16- 18)، ونتيجة هذه الدورة: جمع كلّ من يهمّهم أمر إعادة بناء المدينة، فحثّهم على العمل، وقرّر الشروع فيه بلا تأخّر. واستند نَحَميا في قراره هذا، إلى أمر الملك الذي حصل عليه ببرَكة الله.
(آ 19- 20)، ظهر خُصوم نَحَميا على الساحة. سنبلط المُوآبي (من حورنائيم)، وطوبيا العبد العمّوني، وجاشم العربيّ: إنّ نَحَميا يُعارض أمر الملك السابق (سبب سياسيّ). ستُبنى أسوار أورشليم، فتَنْغَلِقُ على الحركة التجاريّة (سبب اقتصاديّ)، ولا يعود الهيكل مفتوحًا، إلا لأبناء أورشليم وجوارها (سبب دينيّ). وصل نَحَميا حاملاً أمر الملك مُتخطّياً سلطتهم، فأحسّوا ببعض القَهْر (سبب شخصيّ). وقد تأجّجت هذه العداوة بين نَحَميا وخصومه، بسبب طَبعْ نَحَميا القاسي العنيد، فهدّدوا، ولكنّهم لم يصلوا إلى نتيجة (4: 7- 14).
3- ترميم أسوار أورشليم (3: 1- 32)
يُورد لنا هذا المقطع، لائحة بالذين عملوا في ترميم أسوار أورشليم. لا شكّ في أنّ نَحَميا وجد هذه اللائحة بين وثائق الهيكل، فأقحمها في كتابه، على ما فيها من نَقْص في الأسماء.
تَنظَّم العمل بحكمة، وتوزَّع بإشراف رئيس الكهنة ألياشيب الذي دشّن العمل. كلّ السُكّان شاركوا في أعمال البناء: الأفراد والبيوت، الصُنّاع وأصحاب المِهَن، أبناء المدينة والريف، الكهنة وعامّة الشعب. كان الحماس كبيرًا، والمُشاركة شاملة. ولكنّ هذا لا ينفي وجود المُخاصمين والمُعارضين. غير أنّ نَحَميا أقنع رئيس الكهنة، فبدأ بالعمل، وجرّ وراءه الرؤساء والشعب. قُسِمَ السور 42 حِصّة، وكان لكلّ جماعة حِصة يُرمّمونها، أو يُعيدون بناءها.
(آ 3: 1)، قدّسوه (كذا في العبرانيّة) أو رمّموه. يقع باب الغَنَم شماليّ الهيكل، قُرْبَ الزاوية الشماليّة الشرقيّة، وفيه كانوا يُجيزون قُطعان الغَنَم، لتُذبح في الهيكل. بُرج المئة، عُلوّه مئة ذراع، أو يحرسه مئة رجل، وبرج حننثيل (ار 31: 38؛ زك 14: 15)، يقعان غربيّ باب الغَنَم، وهما جُزء لا يتجزّأ من سُور الهيكل.
(آ 3)، باب السَمَك: يقع إلى الغرب، وفيه كان سُوق السَمَك الآتى من صور (صف 1: 10؛ 2 أخ 33: 14). سيكون لنَحَميا صُعوبات مع أهل صور (13: 16). تقوع مدينة تقع جنوبيّ بَيْتَ لَحْم.
(آ 6)، الباب العتيق (أو باب هيشنة): يقود إلى قرية قريبة من أورشليم (2 أخ 13: 19).
(آ 7)، المِصفاة: مدينة من مُدُن بنيامين (تَرِدُ أيضاً في آ 15، 19). يقترح بعض الشُراح أن نقرأ "ميرونوت" أي مدينة يارون، القريبة من جبعون إحدى مُدُن بنيامين.
(آ 8)، السّور العريض: بناه الملك عُزيّا، ليَصُدّ هَجَمات يوآش ملك السامرة، في القرن الثامن ق م.
(آ 11)، بُرْجُ الأفران: هو برج الزاوية الشماليّة القريبة للمدينة، وقد بناه الملك عُزيّا (2 أخ 26: 9).
(آ 13)، زانوح: مدينة تقع على بعد 20 ميلاً إلى الجنوب الغربيّ من أورشليم. باب الزبل (حيث يرمون الأوساخ)، يبعد عن الوادي قرابة ألفي ذراع.
(آ 14)، بيت الكرم (ار 6: 1): قد يكون قرب أورشليم.
(آ 15)، بْرِكَة سِلوام أو بْرِكة الرسول: تقع إلى الجنوب. حديقة الملك والدَرَج، يقعان في الجزء الجنوبيّ من تَلّة صهيون، بين تيرونيون وقَدْرون.
(آ 16)، بيت صور: مدينة تقع على بضعة أميال شماليّ حَبْرون.
(آ 17)، قعيلة: مدينة تقع إلى الجنوب الغربيّ من أورشليم، وتَبْعُدُ ثمانية أميال عن حَبْرون.
(آ 25)، ساحة السجن: معروفة في نصوص مثل ار 33: 1؛ 37: 21.
(آ 26)، باب الماء: هو باب من أبواب القصر الملكيّ.
(آ 27)، عوفل: هو الجُزء الجنوبيّ لتلّة بُنيَ عليها الهيكل وقصر الملك، وكان يُحيط به سُور خاص
(آ 28)، باب الخيل: باب من أبواب القصر الملكيّ، يتّصل بالهيكل (ار 31: 40).
(آ 31)، باب الحراسة: باب من أبواب الهيكل.
نتعرّف من خلاله هذا المقطع، إلى أورشليم بأسوارها التي تبدأ بباب الغَنَم إلى الشمال، فتسير إلى الغرب، مع بُرْج المئة وبرج حننئيل إلى باب السَمَك والباب العتيق. ثمّ نصل إلى السّور الغربيّ، عندما نَصِلُ إلى بُرج الأفران، وإلى باب الوادي، فندور إلى الشرق بمُحاذاة السّور الجنوبيّ، الذي يمرّ عند باب الِزْبل، ويصل إلى باب العَيْن. ونذهب صُعُدًا إلى الشمال الشرقيّ، فنمرّ قرب حديقة الملك، والدرج النازل من مدينة داود، فنسير بمُحاذاة تلّة عوفل إلى زاوية القصر الملكيّ والهيكل. ثمّ نتّجه إلى الشمال، بمُحاذاة السّور الشرقيّ الذي يَحُدّ وادي قدرون، عند الزاوية الشماليّة الشرقيّة للمدينة، مُرورًا بباب المياه، وباب الخَيْل، وباب الحراسة. وأخيرًا ندور إلى الغَرْب، فنصل إلى باب الغَنَم في السّور الشماليّ.
ونتعرّف أيضاً إلى حدود منطقة يهوذا. يذكر النصّ أريحا، وتقوع، وجَبْعون، وزانوح، وبيت صور، وقعيلة، والمِصفاة. كلّ هذه الأماكن، تُشكّل منطقة تُحيط بأورشليم، على مسافة عشرين ميلاً تقريبًا، ما عدا إلى جهة الشمال. هكذا نفهم أنّ العِبرانيين تجمّعوا حول الهيكل والمدينة المُقدّسة، ولكن سيأتي وقت (في عهد المَكّابيين والحسمونيين) ينتشرون فيه، ويمتدّون على امتداد مملكة داود القديمة.
4- الاحتياطات اللازمة بوجه المُعارضة (3: 33- 4: 17)
نقرأ هنا ما فعله نَحَميا ليَصِلَ إلى أهدافه: خُصومه كثيرون وفاعلون، وقد بدأوا يَسْخَرون من "اليهود المساكين"، الذين يُريدون أن يُعيدوا بناء أسوار، بتلّة من الغُبار، وكَمْشَةٍ من الرُكام. سيسقط عملهم لنَسْمةٍ، أو لثعلب يَقْفِزُ عليه. ولكنّ نَحَميا لبث ثابتًا لا يتزحزح. كبر العداء، وحاك الخُصوم مُوآمرة يقتلون بمُوجبها العاملين مع نَحَميا. غير أنّ العمل يتقدّم، والسّور يرتفع. علم الحدود بالمُوآمرة في الوقت المناسب، فطلبوا عَوْن الربّ بإيمانٍ عنيد، واحتاطوا للأمر، ووزّعوا السلاح على العُمّال. شجّعوهم فلا يخافون، ذكّروهم أنّهم يُحاربون من أجل عيالهم وبيُوتهم، نظّموهم فِرَقَ حراسةٍ وفرَقَ عَمَلٍ، أعطوهم تعليمات يتجمّعون بمُوجبها، عندما ينفخ البوق مُنْذرًا بالخطر. مَنعَ نَحَميا أهل الريف من الرجوع إلى بيوتهم في الليل، وطَلَب تأمين الحراسة ليلاً ونهارًا، فتضاعف التَعَب على الشعب.
هذا من الخارج، أمّا من الداخل، فجاءت الصعوبات من بعض الفئات المُعارضة (زعماء تقوع) أو من الذين خافوا تهديد المُهدّدين. ولكنّ شجاعة العُمّال، والعناد الذي أثاره فيأثم نَحَميا، تغلّب على كلّ الصعوبات.
أولاً: نُلاحظ هنا فَرْقًا في الترقيم بين النصّ الماسوريّ العبرانيّ، وبين النصّ السبعينيّ اليونانيّ. آ 3: 33 في العِبرانية، تُقابل 4: 1 في اليونانيّة، وآية 4: 1 في العِبرانيّة، تُقابل 4: 7 في اليونانيّة.
ثانيًا: نتعرّف إلى شخصية نَحَميا: حماس وغَيْرة، ذكاء وفَطنة، أسلوب في العمل والحراسة، إيمان بربّ يصلي إليه في كلّ وقت. سُلطة تفرض نفسها على المُوالين والمُعارضين، روح وطنية أثارها هُزء الأعداء، فانقلبت تعصّبًا نقرأه من خلال صلاته: رُدّ تَعْبيرهم على رؤوسهم، إجعلهم غنيمةً في أرض السَبْي، لا تستُر ذنوبهم، لا تَمحُ خطاياهم.
ثالثًا: يتضامن نَحَميا والشعب مع الله، بحيث إنّ كلّ هُزء مُوّجه إلى الشعب، يعتبره مُوجهًا إلى الله. ولهذا فهو يطلب من الله أن يُعاقب ولا يغفر. فالحرب حرب مقدّسة، والدفاع دفاع عن شعب الله الذي يُتمّم بعمله وصيَّة العليّ. ولهذا، فعلى الشعب (بغياب الملك والجيش المُنظّم) أن يحمل السلاح، وينتظر نداء الربّ، مُتيقنًا أنّ الله معه، وهو يُحارب عنه.
5- الظُلم اللاحق بالشعب (5: 1- 19)
من الصعوبات الداخلية، نتعرّف أيضاً إلى المشاكل الاجتماعية داخل الجماعة. بصددها اتخذ نَحَميا إجراءات جَذْرية، ليُعيد التوازن الذي يُعرِّض المُجتمع للخراب، وأبان عن حكمة وعَزْم، كما فعل خلال بناء أسوار المدينة: الفقراء يقترضون بفوائد باهظة، وإذ لا يستطيعون أن يدفعوا، يضع الأغنياء أيديهم على حقولهم وكرومهم وبيُوتهم، ويستعبدون بنيهم وبناتهم. فأين المُساواة التي عرفها الشعب في البريّة مع موسى؟ وهل نسي الأغنياء أنّهم والفقراء نَسْلٌ واحد؟
(آ 5: 1- 5)، مِمَّ يتشكّى الشعب؟ يُريد الفقراء أن يأكلوا مثل الأغنياء، فلا يُموتون من الجوع. يُجبَر الفقراء على المُقايضة بأرضهم وأولادهم، ليحصلوا على الحِنْطة، يقترضون المال ليدفعوا الضرائب. ومّما يجعل هذا التشكّي عنيفًا، هو أنّ ظُلاّم الفقراء إخوة لهم.
(آ 6- 13)، حلُّ المُشكلة. وبّخ نَحَميا الأغنياء، ودعا إلى اجتماع طلب فيه إعادة كلّ مُرْتَهن بسبب الدَين. ثمّ فرض عليهم أن يحلفوا أمام الكهنة، ولا يُخلِفوا بوَعْدهم. قال الشعب: آمين. ونفض نَحَميا ثيابه ليقول إنّ الله ينفض كلّ من لا يقوم بالتزامه، فيُحرم من بيته، ومن تعب يديه، ويكون جيبُه منفوضاً فارغًا.
إجراء جذريّ ينطلق من عاطفة إنسانية، وعاطفة دينيّة تفرضها مخافة الله. وكان عَمل الناس لا فَرْضاً قَسرًا بل عملاً طوعياً، قام به كلّ إنسان، أمانةً لربّه، ومحبّة لقريبه.
(آ 14- 19)، نزاهة نَحَميا.
يمتدح المُؤرّخ نَحَميا الذي أبان عن تجرّد ونزاهة عظيمين: لم يأخذ أي أجْرٍ، لم يفرض ضريبة، صرف الأموال الطائلة في سبيل الخير العام.
نتذكّر في هذا المجال القديس بولس، يتحدّث إلى أهل كورنتوس، فيقول لهم: "إذا كنّا زرعنا فيكم الخيرات الروحية، فهل يكون كثيرًا علينا، أن نحصد من خيراتكم الماديّة؟ وإذا كان لغيرنا حقّ، أن يأخذ نصيبه منها، أفما نحن أولى بها؟ ولكنّنا ما استعملنا هذا الحقّ، بل احتملنا كلّ شيء، لئلا نضع عَقَبةً في طريق البِشارة بالمسيح" (1 كور 9: 11- 12).
6- الإنتهاء من أول البناء (6: 1- 19)
يَرِدُ الحديث عن الانتهاء من أعمال البناء، في آيتين قصيرتين، والباقي يروي مُحاولات خُصُوم نَحَميا لتخويفه وترهيبه... يُريدون أن يضربوا الرأس، أي الرئيس والمسؤُول، فإن نجحوا في إبعاده عن العمل، أو إفقاده كلّ اعتبار لدى شعبه، يتعرّض مشروعه للخطر. أمّا الوسائل التي لجأوا اليها فهي:
- دعوته إلى لقاء في مكان بعيد عن أورشليم، وكانوا يُضمرون له السؤ (آ 1- 4).
- إرسال كتاب إلى ملك الفُرْس، يتّهمون فيه نَحَميا باقرّد عليه (آ 5- 9).
- مُحاولة ترهيب بفم أحد الأنبياء (آ 10).
- دعوة إلى الاختباء في الهيكل، والتعدّي على الوصيّة التي تمنع غير الكهنة من دخول الهيكل (آ 11- 13).
- تبادُل رسائل مع أشراف، هم في الواغ جواسيس يُرافقون تحرّكات نَحَميا، وينقلونها إلى طوبيا (آ 17- 19).
غير أنّ كلّ هذه المُحاولات باءت بالفَشَل، بسبب حكمة نَحَميا وفطنته، وعَزْمه وإيمانه. لم يرهب أحدًا، بل تاج عمله بحماس واندفاع، وما كان شيء ليُحوّله عن عمله، أو يجعله يهرب من أعداء خادعين، يُريدون أن يدفعوه إلى أن يتجاوز الشريعة، أو يميل أذنيه إلى نبيّ كاذب، أو يتأثّر باتهاماتهم له. كان صادقًا مع ربّه وجمع ملكه، أمينًا لرسالته.
نتعلّم من هذا المقطع، أنّ النبؤة لم تَزُل تمامًا من أورشليم في ذلك الوقت. فأعداء نَحَميا يتّهمونه، أنّه أقام أنبياء، ليُنادوا به ملكًا على يهوذا. ونَحَميا نفسه ذهب يسأل أحد الأنبياء، فعرف أنّه نبيّ كاذب (يتحدّث النصّ أيضاً عن نبية). ثُمّ إن القول النبويّ لا يُعتَبر دومًا وكأنّه أمر من الله: فإن فرض النبيّ القيام بعمل يتجاوز شريعة الله، فهو في ضلال، وشريعة الله تبقى هي هي (تث 18: 20).
ونتعلّم أيضاً أنّ نَحَميا تصادم ورؤساء شعبه، بمُناسبة إعادة بناء الأسوار (3: 5)، وبمُناسبة مُعالجة الظُلْم الاجتماعيّ (5: 7). إنّ رؤساء اليهود لم يخضعوا طوعًا لسُلطة نَحَميا، وقد حاولوا أن يُوقفوا مسيرة عمله، لاجئين إلى مُقاومة خفيّة وخادعة. ولكنّ ثقة نَحَميا بربّه، قادته إلى إتمام العمل الذي بدأ به، وأعطته ثباتًا دفع الآخرين إلى الإعجاب به، أو الخوف منه، لا سيّما حين رأوا أنّه قد أتمّ بناء الأسوار. وفي الواقع، انجِزَ ترميمُ الأسوار في 52 يومًا، وما بقي إلا حفلة التدشين التي يُحدّثنا عنها نح 12: 1 ي.
7- تنظيم مدينة أورشليم (7: 1- 73)
بعد أن أنهى نَحَميا ترميم الأسوار ووضع الأبواب، نظّم الحياة داخل أورشليم: بدأ بإجراءات تتعلّق بالأمن والنظام، فسمّى رؤساء على المدينة، وأمر أن لا تُفتح الأبواب في الليل، لئلا يُفاجأ الشعب بأيّ عمل عدائي. وكما شارك الجميعُ في عَمَل البناء، كذلك سيُشارك الجميعُ في أمر الحراسة.
ثُمّ لاحظ أنّ المدينة واسعة، وسُكّانها قليلون. فهناك بيوت عديدة بقيت مُقْفرة. فدعا إلى اجتماع، وبدأ بإحصاء المُقيمين بأورشليم. وجد لائحة تعود إلى زَرُبّابل ويشوع (تعود إلى 75 سنة)، فانطلق ليقوم بإحصاء، يُسَلْسِلُ فيه كلّ سُكّان المدينة.
وهنا نجد لائحة قرأناها في عز 2: 1 ي، وقد تحدّثنا عنها سابقًا.

ج- مُلاحظات على الفصل الأوّل
1- أهميّة أورشليم
أولاً: أورشليم، مدينة القدس، معروفة منذ الزمان القديم. هي بحسب التقليد، مدينة ملكيصادق، مُعاصر إبراهيم (تك 14: 18 ي)، وموضع جبل مُوريّه، حيث قدّم إبراهيم إسحق ابنه ذبيحة لله (2 أخ 3: 1). كانت في زمن القُضاة حاضرةً وثنية (قض 19: 11 ي). حاول بنو إسائيل احتلالها ففشلوا (قض 1: 21). ثمّ أخذها داود من اليبّوسيين (2 صم 5: 6 ي)، وسمّاها "مدينة داود". حصّنها وجعلها عاصمة مملكته، ونقل إليها تابوت العهد، وجعل فيها معبد القبائل الذي كان قائمًا في شيلو. رضي الربّ عن إقامته في أورشليم (2 صم 7: 1 ي)، ولمّا بنى سُليمان الهيكل، طُبِعَت المدينة نهائيًا بطابَعٍ قُدْسيّ.
ثانيًا: تحتلّ أورشليم مكانةً فريدة في الأرض المُقدّسة، وهي مُلك خاص لسُلالة داود، لم تُمسح مع أرض قبائل إسرائيل. هي العاصمة السياسيّة التي تُمثِّلُ وحدة شعب الله بطريقة ملمُوسة. وهي العاصمة الدّينيّة، والمركز الروحيّ لشعب الله، لأنّ الربّ يُقيم فيها على الجبل الذي اختاره ليحلّ فيه (مز 78: 68 ي).
ثالثًا: بعد موت سُليمان وانقسام العِبرانيين مملكتين، صارت أورشليم عاصمة بيت يهوذا وموضع الهيكل. ولكنّ يَرَبعام سيبني مدينة تُزاحمها، هي السامرة، وسَيْبني أبناء الشمال هيكلاً يُغنيهم عن هيكل المدينة المُقدّسة. حاول حزقيا ثمّ يُوشيا أن يجمعا قبائل الشمال حول أورشليم، ولكن دون جدوى. فالربّ لم يَنثنِ عن غَضبه العظيم الذي غضبه على يهوذا... قال: "أخذل هذه المدينة أورشليم التي اخترتها، والبيت الذي قلت عنه: يكون اسمي هناك" (2 مل 23: 26 ي). أورشليم مدينة خائنة لربّها في مَلِكها وكهنتها وشعبها. كانت مدينة أمينة، فصارت زانية (اش 1: 21) وسُتدمَّر على يد نبوكد نصّر، فيُبان حُكْمُ الله عليها.
رابعًا: ولكنّ الأنبياء يتطلّعون إلى أورشليم جديدة، تكون مُغايرةً للتي عرفوها. ستُصبح مدينة العدل والأمانة، وستجتمع فيها الجماعة من جديد ليعبدوا ربّهم (أش 1: 26؛ ار 31: 6- 12). المدينة الجديدة ستُبنى حول الهيكل، وسط فردوس تعيش فيه القبائل الاثنا عشرة، وتُسىّ "الربّ هناك" (حز 47: 1- 48: 35). حينثذ تلبس من جديد ثياب العيد، فتكون من جديد عروس الربّ، ويكون لها الأولاد العديدون (أش 49: 14 ي).
خامسًا: بعد نداء كُورش، أعِيدَ تنظيم الشعب وبناء الهيكل، فَحَسب الأنبياء أنّ ما وعد الله به، صار قريب التحقيق، فأنشدوا مجد المدينة بهيكلها، وهي ستُصبح المركز الدينيّ للكون كلّه (حج 2: 6- 9). ولكنّ الواقع كان بعيدًا عن الخيال، والضيق ما زال يُحيط بمدينة الله. أسوارها ركام، ولولا هِّمة نَحَميا، لَمَا اعِيدَ بناؤها، ومملكتها مُقاطعة صغيرة لا دور سياسيًا لها البتة. لهذا ستنعزل على نفسها، وتُصبح قلعة الشريعة الموسوية. فلا تسمح أن يكون داخل أسوارها غريب، ولا تقبل لأحدٍ أن يُنجّس الشريعة فيها.
سادسًا: ولكنّ ما خسرته أورشليم على المُستوى السياسيّ، ستربحُه على المُستوى الدينيّ.
فاليهود يأتون إليها من كلّ مكان (دا 6: 11)، ويقومون فيها بفريضة الحجّ، ويُعبِّرون عن فرحتهم بالأقامة فيها أيّام الأعياد. "فرحتُ بالقائلين لي: إلى بيت الربّ ننطلق. وقفتْ أقدامُنا في أبوابك يا أورشليم" (مز 122: 1- 2). يشتاق المُؤمن إلى ديار الربّ، فيلتمس له مأوى في زاوية من زوايا الهيكل... ينطلق إلى أورشليم، يقطع التلال والوديان، ويهتف فرحًا عندما يتجلّى له إله الالهة في صهيون (مز 84: 1 ي). أورشليم مدينة السلام، والربّ يسكن في وسطها، أورشليم مدينة حُكْم الله وقضائه، يُطلق صوته، فتتزلزل السماوات والأرض (يؤ 4: 16). أورشليم مركز وليمة الفرح لكلّ الشعوب، يأتي إليها الربّ، فيُبيد الموت على الدوام، ويمسح الدموع عن جميع الوجوه، ويُزيل العار الذي لحق بشعبه، فيهتفون في ذلك اليوم: هوذا إلهنا الذي انتظرناه، هوذا الربّ الذي انتظرناه، فلنبتهج ونفرح بخلاصه (اش 25: 6 ي). في هذا الإطار، نفهم صرخة المؤمنين على أنهار بابل، يرفضون إن يُنشدوا نشيدًا، وهم بعيدون عن صهيون، فيقولون: "إنْ نسيتُك يا أورشليم، فلتنسني يميني، ليَلْتَصق لساني بَحنَكي إن لم أذكرك، إن لم اعلِ أورشليم على ذُروة فرحي" (مز 137: 5- 6).
2- أهمّية الهكيل
أولاً: الهيكل موضع مقدّس يحضر فيه الإله، فيتقبّل من البشر عبادتهم، ويُشركهم في نِعَمِهِ وبركاته. كانت أورشليم مركز حضور الله، بسبب وجود الهيكل فيها.
ثانيًا: لم يكن لبني إسرائيل هيكل في زَمَن الآباء، بل أمكنة مقدّسة يدعُون فيها باسم الربّ (تك 12: 8). وكان لهم في زمن العيش في البريّة، معبد يحملونه، فيدلّون به على حضور الربّ وسطهم. هذا المعبد سُمّي تابوت العهد، وكان بشكل صُندوق يحتوي لَوْحَي الوصايا. رافق العبرانيين يوم دخلوا أرض الميعاد، وفي زمن القُضاة، وقد نقله داود إلى أورشليم، وجعله في خيمة خاصّة به، بانتظار أن يبنَي له هيكلاً فَخْمًا.
ثالثًا: تحقَّق مشروع داود على يد سُليمان، الذي بنى هيكلاً جعل فيه تابوت العهد (1 مل 8: 1- 9)، وأقام فيه شعائر عبادة، على مِثال تلك التي اقيمت في زَمَن البرّبة. أظهر الله مجدَه عَبْرَ السحاب في الهيكل، فدلّ على رضاه بأن يُقيم في هذا المكان، وهو الذي لا تَسعُه "السماوات وسماوات السماوات" (1 مل 8: 27). لقد سمح الله أن يُبنى له هيكل ليلتقي فيه بشعبه، وقال: إسمي يكونُ فيه.
رابعًا: بعد هذا سيطر معبد أورشليم على سائر المعابد، فصار محور العبادة لشعب الله، يأتونه من كلّ مكان، يحضرون أمام الربّ، يرون وجهه (مز 42: 3). يُعبّرون عن حبّهم له، واشتياقهم إلى السَكَن في حضرته (مز 84: 1- 2). هم يعرفون أنّ الربّ يسكنُ السماوات (مز 2: 4)، حيث أقرّ عرشه (مز 103: 19)، ولكنّهم يعرفون أيضاً، أنّ هيكل أورشليم صورة مصغّرة عن هيكل السماء (خر 25: 40)، حيثُ يُقيم الله (مز 115: 3).
خامسًا: ولكنّ عبادة المؤمنين أهمّ من علامة خارجيّة، ربط بها الله حضوره لوقت من الأوقات. فبنو إسرائيل اتّكلوا على هيكلهم، كما يتّكل الساحر على سِحْره، واعتبروا أنّ الله سيُدافع عن هيكله، حتّى وإن كان الشعب الأتي إليه، لا يُمارس شريعة الربّ. لهذا سيسلخ الربّ شعبه عن الهيكل، ويُعلن عن دماره، عِقابًا على الخطايا التي ارتُكبت فيه وفي أورشليم. وعندما يذهب بنو يهوذا إلى السَبْي، سيُرافقهم الربّ إلى بابل، ليكون حيثُ يكون شعبُه (حز 10: 4، 18).
سادسًا: ويدَّمر الهيكل مع المدينة على يد الكِلدانيين، ويبقى كذلك طَوال مُدّة منفى أبناء أورشليم. ولمّا عادوا اهتموا أوّل ما اهتموا ببناء الهيكل الثاني، الذي صار مِحورَ حياة الشعب اليهوديّ، ومركز حضور الربّ وسط البشر، وموضعًا يَحُجّون إليه، ويُشاركون في احتفالاته الفخمة (سي 50: 5- 21). نجَّسه أنطيوخس. فثار اليهود، فدافعوا عن الهيكل وطهّروه، واحتفلوا فيه من جديد بمراسمهم الدينيّة. فهذا البناء من الحَجَر، يُمثّل أكثر من بناء، إنْ هو إلاّ رمز لحضور الربّ، بل تجسيد لهذا الحُضور.
3- دور الأنبياء في التاريخ الكهنوتيّ
أولاً: ذكر الكاتب الاشتراعيّ (خاصّة 1 و2 صم؛ 1 و2 مل) الأنبياء ناتان وجاد وشمعيا وياهو بن حناني بأسمائهم. سيذكرهم المُؤرّخ الكهنوتيّ، ويرجع إلى "أعمالهم"، ويُورد أداء لم ترد عند الكاتب الاشتراعيّ: زكريا بن يُوياداع الكاهن تنّبأ للشعب، وقال لهم الحقيقة فرجمُوه (2 أخ 24: 20 ي). يحزيئيل كلّم الملك يُوشافاط والشعب كلّه، فشجّعهم ودعاهم إلى الثقة بالربّ (2 أخ 20: 14- 17). هيمان (1 أن 25: 3- 5)، وآساف (1 أخ 25: 2، 2 أخ 29: 30)، ويدوتون (2 أخ 35: 15) تركوا للشعب كلامًا، سيردّده ويُسبّحُ به الربّ.
ثانيًا: حمل الأنبياء كلام الربّ، فرفعوا الصوت بنفُوذ وسُلطان. جاءت كلمة الربّ إلى ناتان (1 أخ 17: 3)، فحملها إلى داود، وإلى شمعيا فحمل رسالة إلى رحَبَعام، وثنَاهُ عن عزمه على مُقاتلة يَرَبعام (2 أخ 11: 2). أراد الربّ أن يدين أورشليم لأجل خطاياها، فحملّ كلمته شمعيا، الذي أعلن أنّ شيشاق ملك مصر يزحف عليها (2 أخ 12: 7). وكلّف الربّ إرميا فحمل كلمته، وتحدّث عن الزمن الذي يمتدّ فيه الجلاء (2 أخ 36: 21- 22؛ عز 1: 1). ولقد اعتبر المُؤرّخ أنّ أقوال الأنبياء أوامر من عند الربّ، يجبُ على المؤمنين أن يعملوا بها (2 أخ 29: 25؛ عز 9: 11).
ثالثًا: إذا تفحّصنا أقوال الأنبياء المُسجّلة في أخبار الأيّام، لرأينا أنّها تختلف بعض الشيء عمّا نقرأ في أسفار صموئيل والملوك. نجد قولين عن العلاقة بين مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل. في قول أوّل، يُنبّه شمعيا رَحَبعام أن لا يحمل السلاح على يَرَبعام، لأنّ هؤلاء الثائرين هم أهله وأقرباؤه (2 أخ 11: 4). وفي قول ثانٍ ، يُنبّه عوديد (في عهد آحاز) شعب أفرائيم، أن لا يحملوا الدمار إلى إخوتهم في يهوذا (2 أخ 28: 9- 11). بالنسبة إلى المُؤرّخ، كلّ إسرائيل هو شعب الله، أكان من الشمَال أم من الجَنُوب.
رابعًا: يُورد المُؤرّخ أقوال الأنبياء، فيجعلها تطبيقًا لمبدأ المثل. قال شمعيا لرَحَبعام بلسان الربّ: أنتم تركتموني، وأنا أترككم في يد شيشاق (2 أخ 12: 5). وعندما تواضع الملك نَدِم الربّ. وقال عزريا لآسا أنّ الربّ بقي معه ما بقي أمينًا: "إذا رجعوا عند ضيقهم إلى الربّ وطلبوه، فإنّهم يجدونه" (2 أخ 15: 2- 7). ولقد وبخ حناني آسا لأنّه دعا الآراميين ليُساعدوه على بعشا: "ساعدك الربّ على الأحباش، لأنّك التمستَ وجهه، ووثقْتَ به. ولكنّك طلبت معونة السيف الأجنبيّ، فستكون لك الحرب" (2 أخ 16: 7- 9). وقال زكريا ليوآش: "تركت الربّ في قضايا العبادة، لهذا سيتركك الربّ" (2 أخ 24: 20؛ رج 25: 15 ي وما حصل لأمصيا الذي عبد الالهة الغريبة، فهزمه يُوآش ملك إسرائيل).
خامسًا: أوصل يحزيئيل إلى يوشافاط كلام الربّ يَعِدُه بالنصر (2 أخ 20: 15- 17)، لأنّه كان ملكًا صالحًا. ولكنّ حناني وبّخه، لأنّه تنجّس بالأكرار، فاشترك مع آحاب في حملة على راموت جلعاد (2 أخ 19: 2- 3؛ رج 2 أخ 25: 7- 9)، ومنع الأفرائيميين من الذهاب إلى مُوآب.
وهكذا كان الأنبياء أوّل من يتحرّك: ندّدوا بالأضاليل، وأعادوا المَلِكَ إلى خطّ شريعة الله. ثمّ أعلنوا حُكْم الله على مملكة يهوذا، وأعلنوا أيضاً رجوع الشعب إلى أرضه، وأنعشوا الأمل ببدايةٍ جديدةٍ لشعب الله.
4- بنو إسرائيل شعب الله
أولاً: إنّ انقسام بني إسرائيل مملكتين، ثمّ ذهاب إسرائيل ويهوذا إلى المنفى، تحدّ صارخ لنظرة المُؤرّخ الأساسيّة، القائلة إنّ بني إسرائيل شعب الله. أجل، بنو إسرائيل هم أكثر من أمّة كسائر الأمم، ونسل يعقوب عائلة يرتبط أعضاؤها برباط الدم، وبرباط الدين أيضاً. هناك اختبار حياتيّ عاشه الاباء، وحاول الأبناء أن يُبْقوه حيًا في قلوبهم، ألا وهو أنّهم يُشكلّون شعب الله. إنفصلت السامرة، ولكنّ مُحاولات الجَمعْ بين العاصمتين ظلّت حاضرة. ولكنْ لمّا سقطت السامرة بيد الأشوريين، سقط معها كلّ أمل في المُعالجة بين المملكتين، وإعادة بناء الشعب الواحد.
ثانيًا: حاول كلّ من حزقيا (2 أخ 31: 1 ي)، ويُوشيا (2 أخ 34: 33)، أن يُعيد بناء الديانة القديمة، وأن "يشترع" لكلّ إسرائيل. ذاك كان أمل الشعب وحُلُمُ ملوكه. أراد يُوشيا أن يكون داود الجديد، الذي يجعل شعب الله كما كان في أيّام داود، ولكنّه مات شابًا، وماتت معه أحلامه.
ثالثًا: نظر المُؤرّخ إلى إسرائيل كشعب مُوحّد، كما كان في عهد داود، فحدّثنا عن المُحاولات المَبذولة لإعادة المملكة المُنفصلة، وذكّرنا دومًا بإسرائيل الواحد، المُؤلّف من كلّ القبائل (2 أخ 11: 16)، والخاضع لمَلِكٍ واحد. أورد الكاتب الأشتراعيّ عبارة "كلّ إسرائيل" ست مّرات، وكلّمنا عن "كلّ قبائل إسرائيل"، "كلّ الشعب"، "كلّ بيت إسرائيل"، "كلّ الأرض"، "كلّ بني إسرائيل". أمّا المُؤرّخ الكهنوتيّ فأورد عبارة "كلّ إسرائيل" 41 مّرة في 1 أخ و2 أخ، وثماني مّرات في عزرا ونَحَميا.
رابعًا: هناك عبارة ثانية، تدلّ على وحدة الشعب: كلّ جماعة إسرائيل. تَرِدُ هذه العبارة 32 مّرة في 1 أخ، 2 أخ، عز، نح، بينما لا نَجِدُها إلا أربع مّرات في 1 مل، 2 مل. فاهتمام المُؤرّخ الكهنوتيّ ينصبّ على كلّ إسرائيل، المُمثّل بمملكة داود، المُستمرّة في أورشليم، قبل الجلاء وبعد الجلاء (ما عدا فترة الجلاء بالذات)، وهو يدعو بني الشمال للمجيء إلى أورشليم. لقد أوفد داود رُسُلاً إلى الإخوة الباقين في أرض إسرائيل كلّها (1 أخ 13: 2)، ليجتمعوا مع إخوتهم في أورشليم، ويشاركوهم في احتفال نَقْل تابوت العهد إلى المدينة المُقدّسة. وعند انفصال المملكتين، يروي المُؤرّخ أنّ الكهنة واللاويين الذين في كلّ إسرائيل، تركوا منازلهم وأملاكهم، وأتوا إلى أورشليم (2 أخ 11: 13 ي). قال أبيَّا: إنّ العادة الحقّة هي تلك التي تُمارس شعائرُها في مملكة يهوذا (2 أخ 13: 9 ي).
خامسًا: لما دعا حزقيا شعبه إلى الاحتفال بالفصح، دعا أبناء الشمال لمُشاركتهم في العيد، وقد تجاوب بعضهم معه (2 أخ 30: 10- 12)، واهتمّ يُوشيّا بكلّ إسرائيل، وأدخل إصلاحه إلى منسّى وأفرائيم (2 أخ 35: 9)، وشارك لاوّيون من بيت يهوذا وإسرائيل في الاحتفال بعيد الفصح الذي دعا إليه الملك (2 أخ 35: 18).
شعب الله جماعة مُوحّدة، وهم يُعبّرون عن وحدتهم بالعبادة في أورشليم. شعب الله أمّة يجتمع أفرادها في معبد أورشليم، المعبد الوحيد في أرض إسرائيل، والموضع الذي اختاره الله لسُكناه، في أرض كلّ قبائل إسرائيل

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM