الفَصل الثَالِث: وِفَادَةُ عَزْرا إلى أورَشليمَ

القسم الثاني
عَزرا الكاتب الكاهن
ف 7- 10


الفَصل الثَالِث
وِفَادَةُ عَزْرا إلى أورَشليمَ
7: 1- 10: 44

أ- المُقدّمة.
حدّثنا المُؤرّخ عن إعادة بناء الهيكل، فأحسّ أنّه وصل إلى قمّة حديثه. وها هو يتنقل إلى ما عمله عزرا، دون أن يُلْمِحَ إلى ما حصل في هذه الفترة من الزمن، التي امتدّت بين الانتهاء من بناء الهيكل الثاني (516 ق م)، وبين مجيء عزرا سنة 458 او 398 ق م. إنّ عَمَلَ عزرا الذي سنتوقّف عليه، يُعتبر كَخَتْم لإعادة بناء الشعب. وفي هذا القبيل، سيُكرَّم عزرا عند بعض الفئات الدينيّة، ويُعتبر بين الذين أعطوا مع موسى لليهوديّة طابَعها الخاصّ. فإليه تُنْسَبُ الكتب المقدّسة التي تُكِوِّنُ التوراة العِبرانيّة، بمَعناها الحصريّ (تك، خر، لا، عد، تث). إليه يُرجعون استعمال الحرف الآراميّ، وعلى اسمه دُوّنت مجموعة من الآداب المنحُولة. أمّا السامريّون الذين انفصلوا عن أورشليم، فجعلوه موضوع شَجْبٍ ولَعْنة.
من الصعب التأكّد من دور عزرا الحقيقيّ، والزمن الذي عمل فيه: في زمن أرتحششتا الأوّل أو أرتحششتا الثاني؟ ولا نستطيع أن نتصوّر طبيعة رسالته. إنّ التقليد اللاحق، يجعل رسالته دينيّة فقط، وقد يكون لَعِبَ دورًا مُماثلاً لدور نَحَميا، فجعل اليهود يُوالون الفرس، رُغْم مُتاخمتهم لمصر. هكذا يكون عزرا الكاهن، قد عمل على تنقية جماعة أورشليم، وتطهيرها من كلّ نجاسة، وقرأ نصوص الشريعة على الشعب، ليحفظوها ويعملوا بها.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة.
1- عزرا في أورشليم (7: 1- 10)
يروي هذا المقطع بداية نشاط عزرا.
(آ 7: 1- 5)، سلسلة نَسَب عزرا. إنّ سلسلة الأنساب، تُبيّن استمرارية الأحداث في مخطّط الله من أجل شعبه. أمّا هدف سلسلة عزرا، فهو التأكيد على أنّه يرجع إلى هارون، شقيق موسى، وعلى هذا الأساس، يَحِقُّ له أن يجمع أسفار الشريعة، ويقرأها على الشعب.
آباء عزرا كهنة عظام. بهذا نفهم أيّ رجل اختاره الربّ، لعَمَلٍ عظيمٍ جليل.
نِظرة المُؤرّخ للأمور، نِظْرة لاهوتيّة لا نِظرة تاريخيّة. فقد جعل نشاط عزرا الكاهن، يسبق نشاط نَحَميا الذي لم يكن كاهنًا، مع أنّ التاريخ يقول عكس ذلك. ثمّ إنّنا نرى في سِلسلة نَسَب عزرا لائحتين باثني عشر اسمًا. لائحة أولى، من هارون إلى زمن بناء هيكل سُليمان، ولائحة ثانية، من زمن بناء الهيكل الأول، إلى زمن بناء الهيكل الثاني.
(آ 6- 10)، مجيء عزرا إلى أورشليم.
عزرا يعني يهوه يُعين، أو يعني: من يُعينه الربّ. هناك أشخاص آخرون يحملون هذا الاسم (نح 12: 1، 13، 33). عزرا هو كاتب بالنسبة إلى ملك فارس، وموظّف كسائر الموظّفين العاملين في ديوانه. يُحرّر الرسائل، يكتب الأوامر والقرارات المُرسلة إلى الشعوب. ولكنّه كاهن بالنسبة إلى الشعب اليهودي، ينقُل شريعة الله ويكتبُها ويستنسخُها، فيصبُح اختصاصياً فيها، لبُعْد مُمارسته لها، وعُمْقِ معرفته بها. يقول الكتاب: كان عزرا كاتبًا ماهرًا صادقًا.
لكنّ معرفة الشريعة تبقى من دون جدوى، إن بَقِيَت معرفةً نظريّة. ولهذا، فالكاتب الحقيقيّ، يدرس الشريعة ويحفظها ويعمل بها، ويُعلّمها لأبناء شعبه. وهذا ماكان عليه عزرا، فصار مثال اليهوديّ التقيّ، المحافظ على الشريعة. لهذا كان الله معه، فأنجحه في أعماله، وجعله يحصل على كلّ شيء من عند الملك.
2- رسالة الملك أرتحششتا (7: 11- 28)
بعد مُقدّمة في العبرانية، نقرأ في الآرامية، رسالة الملك أرتحششتا التي تأذن لعزرا، بأن يقُوم بمَهّمة خاصّة في أورشليم. أمّا الرسالة فتُشبه إلى حدٍ بعيد رسالة داريوس (6: 1 ي) التي تحتوي معلومات عن نُظُم اليهود (ثلاث فئات: الكهنة، اللاويون، الشعب)، وعاداتهم.
(آ 11- 26)، مُهّمة عزرا هي دينية ومدنية، وإداريّة وقانونية واقتصادية، ويُمكننا أن نلخّصها في النقاط التالية: أولاً: يجمع عزرا اليهود الراغبين في الرجوع، ويقودهم إلى إورشليم (آ 14) ثانيًا: يستعلم في يهوذا وأورشليم، عن مدى مُراعاة الشعب لشريعة إله بني إسرائيل (آ 14).
ثالثًا: يحمل إلى أورشليم كميّة من الذهب والفِضّة، أعطاه إيّاها الملك ومُشيروه، وأبناء بابل، والشعب اليهوديّ وكهنته (آ 15-16).
رابعًا: يشتري ما هو ضروريّ للقيام بشعائر العبادة، كما هو مكتوب في الشريعة (آ 17-18).
خامسًا: يحمل إلى الهيكل الآنية التي اعْطِيَتْ له (آ 19).
سادسًا: يأخذ من خزائن الملك، في مُقاطعة سوريا وفلسطين، ما يحتاج إليه من نَفَقات (آ 20- 23).
سابعًا: يعفي العاملين من دَفْع جِزْية أو ضريبة (آ 24).
ثامنًا: يُقيم قُضاة وحكامًا، يُعلِّمون الشعب اليهوديّ في سوريا وفلسطين، شرائع بلاده (آ 25)، ويُعاقب من لا يُطيع شريعة الربّ، أو شريعة الملك، عِقابًا يُمكن أن يصل إلى الموت (آ 26).
(آ 27- 28)، أُعطي عزرا سُلُطاتٍ واسعة، ولهذا رفع صلاة شُكر إلى الله، الذي منحه ما أراد من جهة الملك. إنّ عطيّة الملك لعزرا، هي من عند الله الذي يُوجّه كلّ الأحداث، والذي يُرسل بركته حتى إلى البلاد الوثنية. أجل، كانت يد الربّ مع عزرا، ليقوم بالمُهّمة التي بعثَهُ فيها الملك والتي هي في الواقع مشيئةُ الله.
3- العائدون مع عزرا من السَبْي (8: 1- 14)
تضمّنت القافلة ما يُقارب 1500 رجل، وفيها: رئيس بيُوت الكهنة، مُمثّل عن بيت داود، إثنا عشررئيسًا يُمثّلون كلّ بني إسائيل (2: 3- 61؛ 10: 25- 44؛ نح 7: 8- 63؛ 10: 15- 28).
عائلة فِنْحَاس الكهنوتية هي عائلة عزرا (7: 5). وأمّا إيثامار بن أبياتار، فقد أُقْصِيَ عن الكهنوت، منذ عهد سُليمان (1 مل 2: 26). الكهنة في سِفْر عزرا، هم بنُو صادوق (1 أخ 24: 4).
يُشدّد النصّ على الرقم 12، لما فيه من معنى يدلّ على كلّ بني إسرائيل، ويذكر الكهنة في مُقدّمة اللائحة، بسبب دورهم الفريد في شعب الله. إنّ قافلة العائدين مع عزرا، يمثّلون الشعب كلّه بكهنتِه ومَلِكِه ورؤساء أسباطه، وهم سيعبُرون الصحراء، فيدخلون من جديد إلى أرض الميعاد. وهكذا يُتمّم الربّ ما قاله بلسان أنبيائه: يفعل من أجل الراجعين من السَبْي، ما فعله من أجل المُخلّصين من عُبوديّة مصر.
4- السفر إلى أورشليم (8: 15- 36)
تهيأ عزرا للسَفر، إنطلق، وصل. هذا ما تقولُه مُذكّرات عزرا باهتماماتها الدينيّة.
(آ 15-23)، إهتمّ عزرا، أولاً، بإيجاد لاويّين، لأنّه سَيُوكلُ إليهم قراءة الشريعة وتفسيرها.
(آ 24- 30)، واهتمّ، ثانيًا، باختيار اثني عشر كاهنًا، يُمثّلون الأسباط الاثني عشر، ويُشكّلون الجماعة الدينية المِثاليّة، التي ستكون نواة كلّ جماعة شعب الله. أمّا دور الكهنة، فَحَمْلُ الآنية والفِضّة المُعدّة للعبادة إلى هيكل الربّ.
واهتمّ، ثالثًا، بتهيئة الجماعة، فأمر بصوم وصلاة، متكلاً على عَوْنِ الربّ، لا على جيش وفُرسان يُرافقون العائدين ويحمُونهم من العدّو الكامن في الطريق.
(آ 31- 36)، وصل العائدون إلى أورشليم، فذبحوا ذبائح شُكْر لله، وسلّموا أوامر الملك إلى الحُكّام.
5- صلاة عزرا بسبب زواج اليهود من غير اليهود (9: 1- 15)
يروي هذا المقطع وما يليه، الإصلاح الذي قام به عزرا، بشأن الزواج بين اليهود وغير اليهود. أحسّ عزرا بالألم، عندما عرف ما فعله الشعب، ولا سيّما رؤساؤه.
وهكذا يكون هدف بِعْثة عزرا، قضيّة "الزواجات المُختلطة" (نح 1: 1 ي). وإذا أردنا أن نفهم هذا الأمر، نقول أولاً: إنّ المُؤرّخ رسم الرجوع من المنفى، كدخول جديد في أرض الميعاد، فحذّر الشعب من الاتصال بسُكّان الأرض المحليين، على غرار ما فعلت أسفار موسى الخمسة. ونقول ثانيًا: إنّ كثيرًا من الناس، إستعدوا للانضمام إلى الجماعة الآتية من المنفى، دون قَيْدٍ أو شرط. فتركوا عادات الأمم الرَجسة، والتمسوا الربّ وعبدُوه (6: 21؛ 2 أخ 30: 11). ونقول ثالثًا: إنّ ما تُورده مُذكَّرات عزرا، صُورة عن حالة الجماعة في وقت من الأوقات، سعت فيه إلى أن تتميّز عن سائر الجماعات، لتُحافظ على هُويّتها وإيمانها.
(آ 9: 1- 5)، عرف عزرا بأنّ الشعب لم ينفصلوا عن الكنعانيين والحثّيين... نتذكّر هنا تنبيه موسى للشعب الآتي معه من مصر: "إذا أدخلك الربّ إلهك الأرض التي أنت صائر إليها... واستأصل من أمامك الحثّيين... لا تقطع معهم عهدًا ولا تُصاهرهم: إبنتك لا تُعْطِها لابنه، وابنتُه لا تأخُذها لابنك" (تث 7: 1- 3)، ونفهم أنّ الشعب لم يرتدع، بل اختلط بهذه الشعوب الوثنيّة، مع ما في ذلك من خَطَرٍ على إيمانه.
سمع عزرا هذا الكلام فمزّق ثيابه: كيف يختلط الشعب الطاهر المُقدّس بسائر الشعوب. نحن هنا على مُستوى العِرْق والإثنية، لا على المستوى الدينيّ. وهذا ما يجعل إصلاح عزرا ناقصاً، بالنسبة إلى مُجْمَل الكتاب المُقدّس، الذي يجعل الإيمان فوق كلّ اعتبار.
(آ 6- 15)، عبّر عزرا عن ألَمِه بصلاة خاشعة، ذكر فيها خيانات شعبه في الماضي وفي الحاضر. بدأ صلاته باسمه الشخصيّ (يا إلهي، أنا أخجل)، ثمّ تضامن مع شعبه، فأصبحت صلاته الفردية صلاة الجماعة كلّها: إنّ ذنوبنا وآثامنا تكاثرت، وارتفعت فوق رؤوسنا، حتّى بلغت أعالي السماء.
ونجد في صلاة عزرا، تَسَلْسُل الأفكار، كما نجده في سائر صلوات التوبة في العهد القديم. يذكر عزرا عِصْيان الشعب في الماضي، "من يوم آبائنا إلى هذا اليوم" (آ 7)، ثمّ غَضَب الربّ الذي عاقب شعبه، ورحمته التي أظهرها عندما أعاد بقيّة مؤثم إلى أورشليم (آ 8). لا شكّ في أنّ حالة الشعب الحاضرة، لا تدلّ على رضى الله الكامل على شعبه (لم نزل عبيدًا)، ولكنّ ملك الفرس ساعَدَنا على بناء الهيكل العظيم، وتنظيم جماعة المؤمنين. ويُورد عزرا الشريعة المُتعلّقة بالزواجات المختلطة، كما وصلت إلى الشعب على يد الأنبياء، أي الرجال المُتكلّمين باسم الله، مثل موسى والكاتب الاشتراعيّ. ويُنهي صلاته بكلام يَحُّث فيه المؤمنين على العمل بوصايا الربّ، وبنداء يرفعُه، فيقول فيه: ها نحنُ نعترفُ لك بآثامنا، ولا يَحِقّ لنا الوقوف بجُرأة أمامك.
6- توبة بني إسرائيل، وتبدّلهم بفضل إصلاح عزرا (10: 1- 44)
بعد الإقرار بالخطايا والصلاة الخاشعة، تقرّر البدء بالإصلاح المُتعلّق بالزواجات المُختلطة. وافَقَ على الاقتراح جمعٌ كبير من الكهنة والشعب، وقالوا: نقطع الآن عهدًا مع إلهنا.
(آ 10: 1-4)، شعر الشعبَ بخطيئته، واقتنع بواجب الرجوع عنها، والعمل بحَسَب شريعة الربّ.
(آ 5-8)، عزم عزرا على دعوة جماعة كلّ الشعب لدَرْس هذا الموضوع: أعطاهم مُهلة ثلاثة أيّام. وهذا يَدُل على أنّ الأماكن التي أتوا منها، كانت قريبة. من يتَخلّف تُحرّم عليه أمواله.
(آ 9-15)، واجتمعت الجماعة. ولكن تبيّن أنّه يستحيل القيام بهذا الإصلاح، بسبب العدد الكبير من الناس، وبسبب غزارة الأمطار. ولهذا الفت لجنة للنظر في هذه الأمور، واعطيت مهلة تطرد فيها النِسوة الغريبات وأولادهنّ.
(آ 16-44)، هل قبل الجميع بهذا الإصلاح الجذريّ؟ يبدو أنّه كان هناك بعض المُعارضين مثل يوناتان بن عسائيل، وغيره من الذين وقفوا بوجه هذا القرار.
ويُورد المُؤرّخ لائحة بأسماء الكهنة وعامّة الشعب، الذين أصابهم إصلاح عزرا، واكتفى برؤساء العائلات دون الباقين الذين كانوا كثيرين.

ج- مُلاحظات حول الفصل الثالث
1- زمن رسالة عزرا، بالنسبة إلى زمن نَحَميا.
أولاً: إذا قرأنا عز 7- 10 وكلّ سِفر نَحَميا، نرى أنّ الأحداث تتتابع على الشكل التالي: وصل عزرا إلى أورشليم في السنة السابعة لعَهْد أرتحششتا (عز 7- 8)، وقام بإصلاحه المُتعلّق بالزواجات المُختلطة (عز 9- 10). ثمّ وصل نَحَميا إلى أورشليم في السنة العشرين لعهد أرتحششتا، فأعاد بناء أسوار أورشليم، رُغْم مُعارضة المُعارضين (نح 1- 7)، ثمّ جمع الشعب لقراءة الشريعة والاحتفال بالفصْح (نح 8- 9)، ولقَطعِْ عَهْدٍ كان نَحَميا أول المُوقّعين عليه (نح 10)، ولاتخاذ إجراءات إدارية، وإصلاحات أخلاقية ودينية، قام بها نَحَميا خلال إقامته الثانية في أورشليم، في السنة 32 او 33 لعَهْدِ أرتحششتا (نح 11- 13).
ثانيًا: نفهم من النصوص الكتابية، أنّ عزرا بدأ نشاطه قبل نَحَميا، وأنّهما عملا في الفترة نفسها. نقرأ في نح 8: 9: ثُمّ إنّ نَحَميا الحاكم وعزرا الكاهن الكاتب. وفي نح 10: 12، يختفي عزرا ويبرُز نَحَميا. وفي 12: 26، نقرأ: وأيّام نحميا الوالي وعزرا الكاتب الكاهن. ولكنّ مُجْمل النصوص تجعل عزرا غائبًا، عندما يقوم نَحَميا بإصلاحه، ونَحَميا غائبًا، عندما يقوم عزرا بإصلاحه، ونتساءل: إذا كان إصلاح عزرا جذريًا، وقد أمر بطرد النساء الغريبات، فما الحاجة بعد إلى إصلاح نَحَميا الذي يكتفي بالوَعْظ والإرشاد؟
ثالثًا: متى قام نَحَميا بنشاطه، وهو الذي وصل إلى أورشليم في السنة العشرين أو21 لعَهْد أرتحششتا؟ إنّ أوراق البَرْديّ المُكتشفة في مصر، ثُحدّثنا عن بجواي حاكم يوذا (2: 2؛ نح 7: 7)، وعن دمار المعبد اليهودي وطلب المُساعدة لإعادة بنائه. أرسل بجواي هذا رسالة إلى يوحانان الكاهن (10: 6)، ولكنّه لم يلق منه جوابًا، كما أرسل رسالة إلى دلايا (2: 60؛ نح 7: 62)، وشلميا (10: 39) وابن سنبلط حاكم السامرة (نح 2: 10). أمّا زَمَن كتابة البَرْديّة، ففي السنة 17 لعهد داريوس الثاني، أي سنة 408/407. وهذا يعني أنّ الرسالة الأولى، بلغت إلى يوحانان سنة 411/410. حاول نَحَميا أن يقف بوجه سنبلط، وهو من يُورد قي مذّكراته أسماء يوحاان وسنبلط ودلايا وشلميا. أمّا يوحانان، فهو حفيد الياشيب، والياشيب هو الكاهن الأعظم في عهد نَحَميا (نح 3: 1؛ 12: 10؛ 13: 4). نستنتج إذاً أنّ الكاهن الأعظم في عهد نَحَميا، هو الياشيب، وأنّ سنبلط، حاكم السامرة، هو ألدّ أعداثه، وأنّ يهود مصر كتبوا إلى ولدي سنبلط، دلايا وشلمايا، سنة 410/408، فيكون نشاط نَحَميا سابقًا لهذا الوقت، في السنة 20/21 لعَهْد أرتحششتا الأوّل سنة 445/444. وبمَا أنّنا نعرف أنّ يوحانان، حفيد الياشيب، هو معاصرٌ لعزرا (10: 6)، فهذا يعني أنّ نشاط نَحَميا سابق لنشاط عزرا.
رابعًا: متى كان نشاط عزرا؟ إذاكان نشاط نَحَميا في عهد أرتحششتا الأوّل، بين السنة 444 والسنة 432، فمتى يكون نشاط عزرا؟ لا شكّ في أنّه لاحق لنشاط نَحَميا. ونُسْنِدُ رأينا إلى سببين. الأوّل: عندما وصل عزرا إلى أورشليم، ليُباشر نشاطه فيها، لم يجد أمامه مدينة مُهدّمة (9: 9)، أمّا نحميا فوجد أنّ السور مهدوم، والأبواب محروقة بالنار (نح 1: 3). الثاني: عندما جمع عزرا الشعب ليقُوم بإصلاحه، إجتمع جمع كبير أمام الرؤساء والكهنة (نح 10: 1- 7). ولكن لم يكن في عَهْد نَحَميا إلاّ بعض السُكان (نح 7: 4)، مّما دفعه إلى أخذ الإجراءات اللازمة، ليُعيد إلى أورشليم بعض سكّانها (نح 11: 1- 2).
خامسًا: ونتساءل إذا كانت الحال هكذا، فماذا جعل المُؤرّخ نشاط عزرا يسبقُ نشاط نَحَميا؟ الجواب: لأنه نظر إلى الأمور من الوجُهة اللاهوتيّة، لا من الوُجهة التاريخيّة. ما يهمّ المُؤرّخ هو الهيكل والعبادة والكهنوت، فكيف يُمكنه أن يجعل نشاط نَحَميا (الذي ليس بكاهن)، يسبِقُ نشاط عزرا الكاهن؟ ولهذا، وبعد أن حدّثنا عن أعادة بناء الهيكل (عز 1- 6)، حدّثنا عن عزرا الذي أوفده الملك، ليقوم بإصلاح في الطُقُوس (7: 13- 26). ولكنّ إعلان الشريعة والاحتفال بعيد الفصح (نح 8- 9)، لاحقان لبناء أسوار أورشليم. لهذا كان لا بدّ من الحديث عن عَمل نَحَميا في هذا الموضع (نح 1- 7)، قبل قراءة الشريعة على الشعب. بعد هذا، نستطيع أن نتحدّث عمّا فعله نَحَميا (نح 10- 13). أجل فَعل المُؤرّخ ما فعل، لأنّه أراد للكاهن الدور الأول، وهمّه ليس إيراد وقائع الماضي، بحَسَب التسلسُل الزمنيّ، بل إعطاء الشهادة عن أمور الإيمان الجوهرية، في هذه الفترة الحاسمة من حياة شعب الله.
2- مسألة الزواجات المُختلطة
إنّ مسألة الزواج قضية مُهّمة في العالم اليهوديّ. في الأيّام القديمة، لم يكن يُمنَعُ الزواج بنساء غريبات عن شعب الله، وقد رأينا إبراهيم يتزوّج قطورة (تك 25: 1)، ويوسف ابنة كاهن مصر (تك 41: 45)، وشمشون فتاة فلسطية (قض 14: 1 ي). ولكن جاء وقت قوي فيه نفوذ الكنعانيين، الذين انتصروا، بمَدنيّتهم وطريقة حياتهم، على من انتصروا عليهم بقُوّة السلاح. حينئذٍ خاف العبرانيون من هذه الزواجات المُختلطة، التي تُشكّل خطرًا على نقاوة الإيمان في شعب الله. ثمّ حذّرت كرازة الأنبياء المؤمنين، من مثل هذه الزواجات، ونبَّهتهم إلى الخطر المُلازم لنساء يحتفِظْنَ بعبادتهنّ وأصنامهنّ ومعتقداتهنّ، ويعلِّمن أولادهنّ أمور الديانة الوثنية. فجاءت ردّة الفعل عنيفة، ضِدّ عادة كفيلة بتفكيك ديانة بني إسرائيل. لهذا شدّد سِفْر التثنية على هذا الأمر، وحذّر: إن فعلتم يشتّد غضب الربّ عليكم، ويُبيدكم سريعًا (7: 4).
ويعود الكاتب المُلهم إلى نصوص قديمة، فيضع لمساته فيها، على ضوء هذا الوضع الجديد، فيُسمعنا صوت إبراهيم، يقول لخادمه اليعازر: "لا تأخذ زوجة لابني من بنات الكنعانيين، الذين أنا مُقيم فيما بينهم" (تك 24: 2)، وصوت إسحق يقول لأبنه، بعد أن يُباركه: "لا تأخذ امرأة من بنات كنعان" (تك 28: 1). ويعتبر التقليد اللاحق، أنّ إسماعيل ابتعد عن الإله الحقيقيّ، حين زوجته أمّه امرأة من أرض مصر (تك 21: 21)، وأنّ عيسو خَسِرَ حقّ البُكورية يوم أخذ له زوجة من بنات كنعان، الشريرات في عيني أبيه، وأنّ يعقوب حصل على البَرَكة، يوم أطاع أباه وأمّه في هذا الأمر (تك 28: 7- 8). لو ابتعد شمشون عن المرأة الفلسطية، لما حَصَلَ له ما حصل من ذُلٍّ وفَشَل، ولو لم يُحِبّ سُليمان نساء غريبات من المُوآبيين والعمّونيين... التي قال الربّ لبني إسرائيل، لا تختلطوا بهم (1 مل 11: 1- 2)، لكان قلبُه أخلص للربّ مثل قلب داود أبيه. ولكن، بسبب هذه النساء، مال بقلبه عن الربّ، واتّبع آلهة غريبة، وعلى مثاله سيفعل آحاب، بتأثير من إيزابيل.
بنات موآب علّمن شعب الله الفُجور، ودعونه إلى ذبائح آلهتهن (عد 25: 1- 2) وحوَّاء بحّيتها (تك 3: 1 ي)، هي مثال بعيد عن هؤلاء الذين يعتبرون (في بابل أو مصر)، أنّ الحيّة هي مصدر الحياة والمعرفة، وهي من جرّ العالم إلى الويلات والمصائب، وانتهت بالإنسان إلى الموت.
في هذا الإطار، يبدو ما فعله عزرا بالنسبة إلى الزواجات المُختلطة، وكأنّه تطبيق لقانون وُضِعَ قديمًا في شعب الله. تهامل الكهنة في تطبيقه، وتهرّب المؤمنون من العمل به، بعد أن رفضوا السماع لوصايا الله، فجاء عزرا يُصلح الخَلَل، ويُعيدُ إلى الشعب نَقَاوَتَهُ

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM