الفصَل السَادس: المَلِكُ يوُشَافاط (873- 849)

الفصَل السَادس
المَلِكُ يوُشَافاط (873- 849)
17: 1- 20: 37

أ- المُقدّمة.
1- إذا قرأنا 1 مل، لأطلَّ علينا وجهُ يُوشافاط كشخصٍ شبه عاديّ، سيُغطي عليه شخص آحاب، ملك إسرائيل، لا ذلك الشخص القويّ الإرادة، الواسع الأفق. يُشير 1 مل 15: 24 إلى اعتلائه العرش، ثُمّ ينقطع إلى الحديث عن ملوك إسرائيل، ولا سيّما آحاب (1 مل 15: 25-16: 34)، ويتوقّف على ما فعله إيليا من أعمال (1 مل 17- 22)، ثمّ يعود إلى الحديث عن حملة عسكرية، قام بها ملك إسرائيل وملك يهوذا، فانتهت بالهزيمة: قُتل ملك إسرائيل، وأَفلت يُوشافاط بسهولة من موت محتّم. وينهي 1 مل 22: 41- 51 كلامه عن يوشافاط بلُمحة وجيزة: متى ملك، كم سنة ملك، ما اسم أمّه، هل سار في طريق الربّ، أم لا؟ وهكذا تكون معلوماتنا ضئيلةً، عن مَلِكٍ حكم مملكة يهوذا، وجلس على عرش أورشليم سحابة 25 سنة.
2- ولكن إذا قرأنا 2 أخ (ف 17- 20)، لاستضاء أمامنا وجه يُوشافاط بنور جديد. فهناك أخبار تروي حروبه، ومقاطع تُورد الاصلاحات التي قام بها في بلاده. وجاء نجاحه أو فشله، مُرتبطاً بأمانته أو خيانته للربّ. أما خيانته العُظمى، فمُعاهدته مع ملوك إسرائيل: تحالف معهم فأصابه قصاص الله. وعندما قام بإصلاح داخليّ، بحَسَبِ روح شريعة الله، حلّت عليه البركة، ورافقته في كلّ مشاريعه.
3- يُمكننا أن نرسُم صورةُ مُلْكِ يوشافاط على الوجه التالي: أولاً: كان أمينًا لربّه، حافظاً لشريعة إلهه، فحلّت عليه البركة، وخافه جميع ممالك الأرض، فلم يُحاربوه (17: 1- 19). ثانياً: عقد عهداً مع آحاب ملك إسرائيل، وسارا كلاهما إلى الحرب ولكنّ هذه المُعاهدة قادته إلى الهزيمة (18: 1- 33). لأجل ذلك وبّخه ياهو بن حناني الرائي (19: 1- 3). ثالثاً: قام بإصلاح إداريّ على ضوء شريعة الربّ ووصاياه (19: 4- 11). رابعاً: بعد ذلك حارب بني موآب وبني عمّون وبني أدوم، فانتصر عليهم واستراحت مملكتُه من الحرب (20: 1- 30). ثمّ عاهد أحزيا، ملك إسرائيل، وشاركه في بناء أسطول تجاريّ، فانكسرت السفن وفَشِلَ المشروع، بحسب نبؤة اليعازر بن دوداوا من مريشة (20: 31- 37).
4- إستطاع المُؤرّخ أن يُورد لنا هذا الخبر الطويل، إنطلاقاً من سِفُر الملوك ومراجع أخرى أعاد صياغتها، فأبان لنا شخصية ملكٍ، كان أميناً للربّ، فباركه الربّ، ولكن أصابته المِحَن، لمّا ترك الخطّ الواجب اتّباعه.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة.
1- يُوشافاط ملك يهوذا (17: 1- 22)
(آ 17: 1- 6)، كان عهد آسا مزيجاً من الأمانة والعِصيان للربّ، وهكذا سيكون عهد يُوشافاط. كانت البداية موسومة بالأمانة لله، فأقام المُدُن وجعل فيها الحاميات. سلك طريق أبيه، خاضعاً لله لا للبَعْل، فحصل على الغِنى الكثير، بسبب الهدايا التي أُرسِلت إليه كما إلى سُليمان.
(آ 7- 9)، أرسل يُوشافاط اللاويين والكهنة، ليُعلّموا شعب يهوذا شريعة الربّ، على مثال ما سيفعل حزقيا ويُوشيا، فاستحقّ المديح.
(آ 10- 13)، جاءت الهدايا إلى يوشافاط من الممالك المُجاورة: خافه جيرانُه، وما تجاسروا على مُحاربته.
(آ 14- 19)، عدد جيشه 1160000، وهو عدد هائل. أجل، رُغْمَ صِغَر مملكته، كان عدد شعبها كبيراً، لأنّ الله باركهم وأنماهم.
2- عهد يُوشافاط وآحاب (18: 1- 19: 3)
تعاهد يُوشافاط مع ملك إسرائيل، مع عدّو الله، مع الملك الخائن والمملكة المتمّردة، فما سيكون عِقابُه؟
(آ 18: 1- 3)، صاهر يُوشافاط آحاب، فاتخذ ابنته عثليا زوجة له (21: 6؛ 22: 2). وتعاهد الملكان، فذبح آحاب على شرف حليفه، الكثير من الغَنَم والبقر، وعزما على الانطلاق إلى الحرب معاً.
(آ 4- 27)، والتمس الملكان كلام الربّ. تكلّم أولاً الأنبياء الكَذَبة، ثمّ تكلّم ميخا بن يملة، وبيّن أنّ النبيّ الحقيقيّ، هو من يقف بحضرة الله، ويسمع كلامه ويقبل روحه. يتكلّم النبيّ الحقيقيّ، فيُحقّق الله ما تنّبأ به نبيّه.
(آ 28- 34)، تنّبأ ميخا بهزيمة يُوشافاط وآحاب، وهكذا كان. مات ملك إسرائيل، وأفلت يُوشافاط من قبضة الأعداء وهرب، وفشلت الحملة العسكريّة.
خلال الحرب صرخ يُوشافاط (آ 31)، فعرف العدّو أنّه ليس ملك إسرائيل فانثنوا عنه (1 مل 22: 32 ي)، ولكنّ المُؤرّخ رأى في هذه الصرخة، نداء إلى الربّ، فأغاثه الربّ: جعل الأعداء يبتعدون عنه، وهكذا سَلِمَت حياته.
(آ 19: 1- 3)، أتى ياهو الرائي فوبّخ الملك، بسبب معاهدته لاَحاب، وأعلن له أنّ الله لم يرذله، بسبب ما وجد فيه من أمور صالحة. فإن أراد أن يُكفّر عن ذنبه، ويقوم بعمل إصلاحيّ، يغفر الله له ويُباركه. فعزم الملك على ذلك.
3- إصلاح يُوشافاط (19: 4- 11)
إسم يُوشافاط معناه: الله يحكم، الله يقضي. وبمَا أنّ يُوشافاط ملك صالح، فلا بدّ أن يكون قد حكم باسم الربّ، وقضى في شعبه بالعدل.
ويُحدّثنا المُؤرّخ عن مُخطط إصلاح يُوافق الزمن الذي عاش فيه (أي القرن الثالث ق م)، فنرى تشابُهاً بين هذا الإصلاح وشرائع سِفْر التثنية (16: 18- 20؛ 17: 8- 13).
(آ 19: 4)، إصلاح دينيّ أساسه رجوع الشعب إلى الله.
(آ 5- 7)، القضاة في مدن يهوذا: يقضُون بمَخافة الربّ: لا رشوة، لا مُحاباة للوجوه.
(آ 8- 11)، قُضاة أورشليم هم جماعة الكهنة واللاويين: يقضُون بأمانة وتقوى الربّ وقلبٍ سليم. أمّا القضاء الحقيقيّ الوحيد، فهو قضاء الله الذي لا يترك الأشرار من دون عِقاب (آ 10).
4- حروب يُوشافاط (20: 1- 30)
ويُبيّن لنا هذا النصّ (لا نجد له مُقابلاً في 1 مل)، أنّ موقف الإيمان يجلُب على الإنسان بركة الله، ويُبرز لنا خطيئة يُوشافاط، على ضوء كلام اللاويين في المؤمنين بمُناسبة الأعياد، ويُلْمِحُ إلى كلام الله الذي يُلقي ضوءا على حالة الشعب الحاضرة، فيجعل المُؤمنين يقرأون من خلاله إرادة الله.
(آ 20: 1)، حرب بني موآب وبني عمّون وبني معين (كما يقول النصّ اليونانيّ) على يُوشافاط.
يبدو أنّ بني معين، أقاموا جنوبيّ شرقيّ يهوذا، قُرْبَ البَتْراء.
(آ 2- 4)، جمع يُوشافاط يهوذا: بدأوا صوماً، وأخذوا يرفعون الصلوات إلى الله. حُصون تامار مكان غير معروف. عين جدي مكان قُرْبَ البحر الميت، لاَحَقَ فيه شاولُ داودَ (1 صم 24: 1).
(آ 5- 12)، تُشبه صلاة يُوشافاط، إلى حدٍّ بعيد، كلام موسى إلى الشعب (تث 14: 1 ي)، وفيها ذِكْر للشرور التي تُضيّق على الشعب... وتنتهى صلاة يُوشافاط، فيهتف (رد مز 44: 1 ي): "لا نعلم ماذا نفعل، إلا أن نرفع عيوننا اليك طالبين عَوْنَك".
(آ 13- 17)، قام أحد اللاويين، واسمه يحزيئيل، فخطب فيهم، قال: الحرب ليست لكم، ليست بين أيديكم، بل بين يَدَي الله. تذكّروا كلام داود لجُليات (1 صم 17: 47) وكلام موسى للشعب عند عُبُور البحر الأحمر (خر 14: 13 ي). قِفُوا واثبُتوا، وانظروا خلاص الربّ من أجلكم. بهذه الطريقة في الَسْرد، يُبيِّن المُؤرّخ الاستمرارية بين الشعب في سابق الأيام، والشعب في عصره: ما فعله الله في القديم، يفعلُه اليوم أيضاً.
(آ 18- 19)، ثمّ يعود الملك إلى الصلاة والتذلّل مع شعبه، ويبدأ اللاويّون يُسبّحون الربّ.
(آ 20- 28)، إنتصر شعب يهوذا بفضل قُدرة الله. لهذا جاء الشعب إلى أورشليم، ليشكروا لله ما عمله لأجلهم.
(آ 19- 30)، بعد هذا الانتصار، عرف شعب يهوذا الراحة، لأنّ مَلِكه كان أميناً لربّه.
5- يُوشافاط يترك الربّ. (20: 31- 37)
ما نقرأه في هذه الآيات، إستقاه المُؤرّخ من 1 مل 22: 41- 51، إلاّ أنّه نَظّمه بحسب نِظرته إلى الأمور. فكما أنّ الملك الشرير، يُمكنه أن يتوب، فينال الغُفران، كذلك الملك الصالح، يُمكنه أن يخطأ، فيُصيبه عِقاب الربّ.
(آ 20: 31- 34)، نقرأ هنا أموراً تتعلّق بحياة الملك وموته. مَلَكَ 25 سنة. كانت أمّه عزوبة... أمّا سائر أخباره، فكتوبة في كلام ياهو بن حناني.
(آ 35- 37)، تعاهد يُوشافاط مع ملك إسرائيل، لا اتكل على الربّ بل على البشر. اتفق الملكان على بناء أسطول تجاريّ، ولكنّ النبيّ اليعازر، أبان أنّ مُعاهدات البشر لا جدوى منها، وأنّ عهد الشعب مع الربّ، هو الخلاص والراحة والسعادة. ومات يُوشافاط ودُفِن مع آبائه (21: 1).

ج- مُلاحظات.
نتساءل! هنا: هل كانت حربٌ بين يهوذا من جهة، وبين بني موآب وبني عمّون وبني معين من جهة ثانية؟ فإن كان الأمر صحيحاً، فالمعركة غريبة، وانتصار الله على أعداء شعبه يبدو عجيباً، بحيث أنّنا نقترب من الأسطُورة، ونبتعد عن التاريخ. لهذا رأى بعض الشرّاح في هذا النصّ توسيعاً مُبالغاً، في ما ورد في 2 مل 3: 1 ي، حيث نرى يُورام، ملك إسرائيل، يستعينُ بيُوشافاط، ملك يهوذا، للوقُوف بوجه موآب الزاحف على أرض إسرائيل. على هذا نقول:
أولاً: إنّ المُعطيات الجُغرافية الواردة في هذا النصّ، لا تسمح لنا بأن نعتبر الخَبَر قِصّة تقويّة، أو أسطورة من نسيج الخيال.
ثانياً: إنّ الحرب تلي إصلاح يُوشافاط الذي نتيجته بركة الله لملكه الأمين لشريعته: أجل، الله هو من يُقاتل وينتصر ويَمْحَقُ الأعداء، ويُنجّي شعبه بطريقة عجيبة. إذًا نحن أمام حرب مقدّسة كتلك التي قادها الربّ يوم احتلال أرض كنعان.
ثالثاً: نجَّى الربّ شعبه، وأنقذ مدينته المُقدّسة وهيكله. لهذا، وبعد النَصْر ورجوع الجيش بقيادة الملك، إنطلق الشعب في طَواف فوصل إلى أورشليم (أو الهيكل)، التي نجت من أعداء الله. هل من المعقول أن تُصبح الأرض التي أعطاها الله لشعبه، والتي صارت مركز إصلاح دينيّ، تحت رحمة الأمم المُجاورة، تجتاحها ساعةَ تشاء؟
رابعاً: إنّ الحياة السياسية والعسكرية (عند الملك والشعب)، لا تنفصل عن الحياة الدينيّة، والحرب لا تنتهي بانتصار الله، إلاّ إذا شهد الشعب لإيمانه، وأبان عبادته الحقة.
2- أمّا خبر هذه الحرب، فيعرضه المُؤرّخ بشكل احتفال ليتورجيّ، يبدو على الشكل التالي:
أولاً: تذكر صلاةُ يوشافاط (20: 5- 12) أحداث الماضي: إله الآباء، عطاء الأرض لإبراهيم، بناء الهيكل، موقف بني إسرائيل من بني عمّون وموآب في الزمن القديم.
ثانياً: وجود جماعة الشعب من رجال ونساء وأطفال (20: 13).
ثالثاً: خُطبة نبيٍّ من بني لاوي ألهمه الربّ، فذكّرتنا كلماته النبويّة بكلمات موسى إلى الشعب، قَبْلَ عُبور البحر الأحمر (20: 14- 17؛ رج خر 14: 13).
خامساً: كلمات الملك يَحُثّ فيها الشعب قبل الانطلاق إلى الحرب، فيذكّرهم بكلام الأنبياء (20: 20؛ رج اش 7: 9): "آمنوا بالربّ إلهكم فتأمنوا، آمنو بأنبيائه فتنجحُوا".
سادساً: هُتفات الفرح وأناشيد التسبيح، ومسيرة اللاويين اللابسين الحُلَل المُقدّسة أمام الجيش، وهم يُردّدون الصلوات الليتورجيّة (20: 21- 22): احمدوا الربّ لأن إلى الأبد رحمته.
سابعاً: الطواف الأخير إلى أورشليم، على نغم آلات الموسيقى. نقرأ عنه، فنتذكّر احتلال يشوع بن نون لمدينة أريحا، حيثُ الطواف الليتورجيّ يَحل محلّ العمل العسكريّ سقطت أريحا بيد الشعب، لأنّهم اتكلوا على الربّ، وسقط الأعداء في يد يُوشافاط، لأنّه اتكل على الربّ، فحارب الربّ عنه وعن شعبه، فعرفوا، بعد هذا الانتصار العظيم، السلام والراحة.
وهكذا نكون أمام احتفال ليتورجيّ، لا أمام رُؤية لمعركة عسكريّة. لا شكّ في أنّ الكاتب انطلق من واقع حيّ، ولكنّه ضخّم الأمور وعظّمها، لتبدو يدُ الله فاعلةً من أجل شعبه، مهما كان عدد الأعداء عظيماً.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM