الفصل الثامن: حروب داود

الفصل الثامن
حروب داود
17: 1- 21: 30

أ- المُقدّمة.
يُورد هذا الفصل، ما ورد من حديث بين داود وناتان، بشأن بناء بيت الله (17: 1- 27)، ثمّ يروي حروب داود، وانتصاراته على الأمم المحيطة ببني إسرائيل (ف 18- 20)، وينتهي بخبر إحصاء داود لشعب الله، وكيف عاقبه الله وشعبه (21: 1- 30). وبعد أن قدّم داود الذبائح والمحرقات رضي الله عنه، فأرسل ناراً من السماء على المذبح، كما فعل مع إيليا النبي، فأحرقت ذبيحته.

ب- الآيات الكتابيّة
1- نبُوءة ناتان (17: 1- 27)
عزم داود على بناء بيت، أي معبدٍ للربّ في أورشليم. ولكن الله أعلمه بلسان ناتان، أن سليمان سيُحقق هذا المشروع. ليس داود من يبني للربّ بيتاً (من حجارة)، بل الربّ يبني لدواد بيتاً، أي يُعطيه نسلاً يملك على عرش بني إسرائيل: أقِرُّ عرشَه إلى الأبد. أكون له إلهاً، ويكون لي ابناً (أي أتبنّاه).
(آ 17: 1- 2)، المُقدّمة.
رأى داود أنّه يقيم في قصر من خَشَب الأرز، بينما يقيم الله في خيمة. فعزم على بناء بيت الله، ووافقه ناتان الرأي.
(آ 3- 15)، قوله نبويّ.
أرسل الربّ إلى داود قولاً نبوياً بلسان ناتان: ليس هو من يبني لي بيتاً، بل واحد من نَسْله.
(آ 16- 27)، صلاة داود.
حينئذ رفع داود إلى الله صلاة شُكْرٍ ومديح، لكُُلّ ما صنعه له، وما وعد به نَسْله: من أنا يا رب، وما بيتي، فمنحتني هذا الذي لا أستحقّه! وقل هذا في عينيك، فغمرت بيتي بمواعيدك.
بعض ملاحظات. الأولى: يقول 2 صم 7: 1، إنَّ داود فكّر ببناء الهيكل، بعد أن أراحه الله من أعدائّه. أمّا المُؤرّخ فجعل داود يُفكّر بالمشروع، حالاً بعد انتقال تابوت العهد إلى أورشليم، أي في بداية مُلكه، وقَبْلَ أن ينطلق لمحاربة أعدائّه.
الثانية: نقرأ صيغة الاستفهام في 2 صم 7: 5 "أأنت تبني لي بيتا لسُكناي"؟ وصيغة النفي في 1 أخ: "لَسْتَ أنت من يبني لي بيتاً لسُكناي". فالمشروع مشروع الله، لا مشروع داود، والله هو من يُحقق هذا المشروع، لا داود، وهو يُحققه ساعة يشاء وَبِيَدِ من يشاء.
الثالثة: يتحدّث 2 صم 7: 12 عن نَسْل داود الذي يخرج من صُلْبِه، فيعني أبناءه العديدين. أمّا 1 أخ، فيعني ابناً واحداً، هو سُليمان الذي سيبني الهيكل، والذي سَيَخْلُفُ داود. ويكون سُليمان صورة عن الملك المَسيحانيّ، في خُضوعه الكامل لربّه. لهذا حذف المؤرّخ ما قرأه في 2 صم 7: 14: "أؤدبّه كما يُؤدبّ الأب ابنه". فالملك المسيح، سيكون بحَسَبِ قلب الربّ، ولا يُمكنه أن يعصيَ أوامره، فلا يحتاج إلى تأديب.
الرابعة: نقرأ في 2 صم 7: 16، أنّ الله يُثبت بيت داود مِلكِه، فيقول: بيتُك، مُلكُك، عرشُك، أمّا 1 أخ 17: 14، فيتكلّم عن الله الملك ومسيحه، فيقول: بيتي، ملكي (أي بيت الله ومُلكه)، عرشُه (أي عرش الملك المسيح). الله يملك دوماً على، أكان الهيكل أم شعبه إسرائيل. أمّا الملك الذي من نَسْلِ داود، فهو ممثّل الله على عرشه في أورشليم. هذا هو الحُكم التيوقراطيّ.
الخامسة: إنَّ قول النبيّ ناتان يعلن سُليمان شخصاً يملك إلى الأبد على عرش داود، فَينعَم بالوعد الذي أعطاه الله لداود. إذاً، نحن أمام صورة داود المرسُومة في المستقبل، صورة الملك الأبديّ عَبْرَ نَسْلِه. وصلاة داود (17: 16- 27) المُتواضعة الشاكرة، تُعلن عظمة الله الذي بارك عبده وبارك بيته. داود هو العبد الذي اختاره الله، وغمره بإنعامه والمجد كلّ المجد لا يعود إلى سُليمان باني الهيكل، بل إلى الله وحده، إله الخلاص والعَهْدِ والبَرَكة.
2- حروب داود وانتصاراته (18: 1- 25: 8)
يتضّمن 2 صم 8- 24، أخبارا عن الملك داود وحياته الخاصّة، وعن الصراع القائم بين المُتزاحمين على خلافته. غير أنّ 1 أخ 18: 1- 20، إختار من هذه الأخبار ما يساعده على توضيح فكرته اللاهوتية، التي لا تتحدّث فقط عن شخص داود الملك، بل عن أورشليم والهيكل والعبادة.
ونُقابل بين 2 صم و 1 أخ. ففي 2 صم 8: 1 ي (رج 1 أخ 18: 1 ي)، نقرأ عن حروب داود مع الشعوب المُجاورة. وفي 2 صم 9: 1 ي (لا نجد له مقابلا في 1 أخ)، نقرأ عن رحمة داود لأحفاد شاول من أجل يوناتان. في 2 صم 10: 1 ي (يُقابله 1 أخ 19: 1 ي)، نقرأ عن حروب داود مع بني عّمون. في 2 صم 11: 1- 12: 25 (لا نجد له مقابلا في 1 أخ الذي تحاشى ذِكْر خطايا داود، وسيتحاشى 2 أخ ذِكْكر خطايا سُليمان)، نقرأ عن خَبَر زنى داود وبتشابع، وتوبيخ ناتان له، وعن موت الولد الذي وُلِدَ لداود من بتشابع. في 2 صم 12: 26- 31 (رج 1 أخ 20: 1- 3)، يُورد الكاتب نهاية الحرب مع بني عمّون. في 2 صم 13: 1- 14: 33 (لا مُقابل له في 1 أخ)، يُحدّثنا الكاتب عن الشر الذي فعله أمنون مع أخته تامار، وفي 2 صم 15: 1- 20: 36 (لا مُقابل له في 1 أخ)، يُحدّثنا عن ثورة أبشالوم على داود، وهرب داود وموت أبشالوم، وعن ثورة شابع على داود. في 2 صم 21: 15- 22 (رج 1 أخ 20: 4- 8)، نقرأ عن حرب داود جمع الفَلسطيين. في 2 صم 22: 1-23: 7 (لا مقابل له في 1 أخ)، يَرِدُ نشيد داود وكلماته الأخيرة. في 2 صم 23: 8- 39 (رج 1 أخ 11: 10- 47)، يذكر النصّ أسماء رجال عاود الأشدّاء. في 2 صم 24: 1 ي، يُحدّثنا الكاتب الاشتراعيّ عن إحصاء الشعب، عن عقاب الله، وعن بناء مذبح على بيدر أرونا. أمّا في 1 أخ 21: 1 ي، فالمُؤرّخ الكهنوتيّ يذكر الإحصاء وعقاب الله، ثُمّ يتحدّث عن الموضع الذي سيُبنى عليه هيكل سُليمان.
أجل، إختار المُؤرّخ الكهنوتيّ من سِفْر صموئيل الثاني، أخبار حروب داود، وكل ما يوصله إلى انتقاء مكانٍ لبناء الهيكل. أمّا ما تبقى، وخاصّة الجوانب التعيسة من مفك داود، فقد تركه جانباً، لأنّه لا يليق بالمَلك المسيحانيّ "وابن الله" (16: 13)، الذي سيدوم مُلْكه إلى الأبد.
ونستنتج من هذه المُقابلة ملاحظة أولى عن مَجْدِ داود: يترك المؤرّخ جانباً، كل ما لا يليقُ بالملك داود، كل ما تحط من كرامته وكل ما يُظهره بمَظهرٍ مشين. مثلاً: الزنى مع بتشابع، المؤآمرات داخل البلاط الملكيّ، زنى أمنون مع أخته تامار وثورة أبشالوم. وعندما يتحدّث المؤرّخ عن انتصارات داود، فهو يُغْفِل الحديث عن أعماله الوحشيّة، ومنها مَقْتَل قسم من الموآبيين (2 صم 8: 2؛ رج 1 أخ 18: 2). داود هو الذي قتل جُليات، أمّا أحد رجاله، فقتل شقيق جليات (1 أخ 20: 5؛ رج 2 صم 17: 1 ي؛ 21: 19)، داود لم يُحِسّ يوماً بالتعب ليُهدِّده أحد الفلسطيين (2 صم 21: 15- 17).
مُلاحظة ثانية: عن مشروع بناء الهيكل. بَعْدَ نَقْلِ تابوت العهد إلى أورشليم (ف 15- 16)، ونبُؤة ناتان (ف 17)، جعل المُؤرّخ كل اهتمامه في الإعداد لبناء الهيكل (ف 22- 29). فعندما يتحدّث عن حروب داود، يذكر أن النحاس الذي أُخِذَ من الآراميين، سيكون للأعمدة وأداوت العِبادة (18: 8).
مُلاحظة ثالثة: هيأ داود كلّ شيء، ولكن لم يغط له أن يبني الهيكل، لأنّ يديه تلطّختا بالدماء (22: 8). أمّا سُليمان، رجل السلام والراحة، فهو من يبني هيكلاً لمجد الله.
3- إحصاء الشعب وعِقابُ الله (21: 1- 30)
أمر داود بإحصاء الشعب، فاقترف خطيئة عظيمة، جرّت على الشَعْبِ قصَاصاً مُؤْلِماً. لا شكّ في أن مسؤولية داود خطيرة. وكاد المُؤرّخ أن يغفل هذا الخبر، لولا أنّه ينتهي باقتناء المكان الذي سيُبنى فيه الهيكل.
(آ 21: 1- 6)، إحصاء الشعب.
يروي الكاتب كيف تمّ إحصاء الشعب: من الجنوب إلى الشمال، من بئر سبع إلى دان.
في آ 1، نقرأ: نهض الشيطان. في 2 صم 24: 1 ي، نقرأ: إنَّ غضبَ الربّ دفع داود. شعب إسرائيل يعني القبائل الاثنتي عشرة 2 صم يقول: يهوذا وإسرائيل.
في آ 2، نقرأ: رؤساء الشعب. في 2 صم 24: 2، نقرأ: يُوآب قائد الجيش، وفي 24: 4، نقرأ: يوآب وقواد الجيش. لا يذكر المُؤرّخ الجيش، لأنّ الإحصاء قضية مدنيّة لا عسكريّة.
في آ 3: سبب إثم لإسرائيل. إحصاء الشعب خطيئة عظيمة، ستكون لها نتائج رهيبة.
في آ 4، نجد مُلخّصاً عن 2 صم 24: 4- 8: كيف تمّ الإحصاء، وأين، وكم استغرق من الوقت؟
في آ 5، نعرف العَدَد: مِليون ومئة ألف رجل (470000 لقبيلة يهوذا). في 2 صم، نقرأ 800000 لإسرائيل، 500000 ليهوذا.
في آ 6: لم تُحْصَ قبيلة لاوي، لأنّها قبيلة كهنوتية، فلا يحمل رجالها سلاحاً (عد 1: 47-79). ولم تخمن قبيلة بنيامين، لأنّها القبيلة التي تقع فيها أورشليم، حيث مَقام تابوت العهد (16: 39).
(آ 7- 13)، النبيّ جاد.
أرسل الرب جاد النبيّ إلى داود، وعرض عليه ثلاث عُقوبات، ليختار واحدة منها: ثلاث سنين من الجوع، ثلاثة أشهر من الحرب، ثلاثة أيّام من الوباء. فاختار داود الوباء.
في 2 صم 24: 2، أقرّ داود بخطيئته، قبل أن يضرب الربّ بني إسرائيل. أمّا في آ 7، فهو يعترف بخطيئته، بعد بداية الضَرْبة.
في آ 9، نتعرّف إلى جاد النبيّ. رج 1 صم 22: 5؛ 2 صم 24: 12.
في 2 صم 24: 13، نقرأ سبع سنين من الجوع، أمّا في 1 أخ 21: 12، فنقرأ ثلاث سنين، ليكون انسجامٌ بين الأرقام: ثلاث سنين، ثلاثة أشهر، ثلاثة أيام.
(آ 14- 17)، ضربة الله وتوبة داود
حلّت الضربة بالشعب، وكادت أورشليم تفرغ من سُكّانها. فقال داود: أنا الذي خطئت.
(آ 15)، وندم الربّ، أي شعر بالحُرْن والتأسّف، وهو يستعدّ للتوقّف عن الضربة، رأفةً وشفقةً (ار 10: 10؛ يون 3: 10؛ تك 6: 6).
أرنان هو أرونا أو أرنيا، المذكور في 2 صم 24: 16- 18، وهو اليَبُّوسيّ الوحيد الذي تذكره التوراة بين سُكّان أورشليم. وسيكون بيدره الكائن على جبل صهيون، الموضع الذي سيُبنى فيه الهيكل.
(آ 16)، لا مُقابل لهذا الآية في 2 صم: نقرأ عن الملائكة الذين يسيرون بين الأرض والسماء.
(آ 18- 27)، بيدر أرونا.
إشترى داود موضع البيدر، بحَسَب كلام النبيّ جاد، وابتنى مذبحاً، وأصعد مُحرقات وذبائح، فارتدّ سيف الوباء عن الشعب.
في آ 18، أمر ملاك الرب. أمّا في 2 صم، فجاد يُكلّم داود بالسم الربّ.
في آ 22: سأل داود عن موضع البيدر، لأنّه سيبني عليه لا المذبح فقط، بل الهيكل...
في آ 25، نقرأ ثمن الموضع: 600 مِثْقال، وهو سعر غالي جداً. ولكن موضع بناء الهيكل يستحق هذا الثمن.
(آ 28- 30)، عزم داود على تكريس هذا الموضع لبناء الهيكل.
إنّ تأسيس معبد (أو مذبح) جديد، لا يُمكن أن يكون إلاّ حيث ظهر الربّ أو ملاكه (تك 28: 17 ى). رضي الربّ عن ذبيحة داود، وأحرقها بالنار وأوقف الضربة. إذاً يستطيع داود أن يبني مذبحاً، بانتظار أن يبني ابنه هيكلاً يسكن فيه الله وسط شعبه.
إذا قابلنا 2 صم 24 و1 أخ 21، يُمكننا أن نسوق المُلاحظات التالية:
الملاحظة الأولى: تتعلّق بعمل الله. رأى 2 صم 24 في قرار داود، أن يُحصي الشعب تحريضاً من الله، فرأى فيه 1 أخ 21، تحريضاً من الشيطان. هل يمكن أن تحرض إرادة الله على الشر، ثُمّ يُعاقب؟ كيف يُعاقب الله داود لأنّه أطاعه، فعَمَلَ بمَا أمره؟ نحن هنا أمام دَرْسٍ لفكرة الشر. يُشدّد المُؤرّخ على عَمَلِ الشيطان، فينقلنا من مرحلة كان الله فيها علّة الخير والشر، إلى مرحلة تُعارض فيها قوى الشرّ الله. هذا الوضع سنقرأ عنه في الأناجيل: الشيطان يُجرّب يسوع. يسوعُ يطرد الشياطين.
الملاحظة الثانية: يُدْخِل المُؤرّخ صورة الشيطان، لأنّه يُريد أن يُحافظ على عدالة الله. وكلمة شيطان تعني العدّو والمُناوئ والمُخاصم (رج 1 مل 11: 14، 23). أمّا استعمالها كاسم عَلَمٍ، فنجده في ثلاثة مقاطع من التوراة. في زك 3: 1، نرى الشيطان قُرْبَ يشوع الكاهن الأعظم، ليُقاومه ويتّهمه، ولكنّ الربّ ينتهره ويأمره بأن يُكرم يشوع. في أي 1: 6- 12؛ 2: 1- 7، نرى الشيطان واقفاً بين أبناء الله يشكو أيّوب، ويتهمه بأنّه يعبد الله باطلاً. ولكنّ الشيطان لا يستطيع أن يفعل شيئاً بأيّوب، من دون إرادة الله الذي يضع له حدوداً، لا يَحِقّ له أن يتعدّاها. وفي 1 أخ 21: 1، يبدو الشيطان عدوّ الله، وهو يُحرضّ داود على عِصْيان الربّ. هذا ما فعله يوم تلبّس باليّئة، وجعل الإنسان الأوّل يعصي ربّه.
الملاحظة الثالثة: الملاك يعمل عمل الله، الذي يرسله لينفذ مخطّطه في معاقبة الشعب. في 2 صم 24: 16- 17، يرد اسم الملاك، ولكن بصورة عابرة. أمّا في 1 أخ 21، فالملاك يبدو صاحب شخصيّة بارزة. فهو يُدمّر تخوم بني إسرائيل (21: 12)، وأورشليم (21: 15). وهو يُمسك بيده سيفاً فيضرب الشعب (21: 16). مَنْظَرُه يُثير الخوف والرهبة عند البشر (21: 20، 30). الملاك يحمل إلى الناس إرادة الله، وقد كلّم جاد النبيّ، وأمره أن ينقل إلى داود أمر الله (21: 18). الملاك هو خادم الربّ والمؤتمر بأمره، يضرب ساعة يأمره الربّ أن يضرب، ويتوقّف ساعة يأمره الربّ أن يتوقّف. هذه النظرة إلى الملاك، خاصّة بأسفار التوراة المتأخرة، التي تعتبر الملاك كائناً سماويا يقف بين السماء والأرض (21: 16). رآه داود (مع أرنان وأولاده)، فأحسّ أنّه ليس أمام صورة بشريّة (ليس الملاك من عالم الأرض فقط، رج دا 9: 21؛ 12: 5- 6)، بل أمام رؤية آتية من السماء. مرّ الملاك فقدّس المكان الذي حل فيه، لهذا بنى داود مذبحاً في هذا المكان، وتمنّى أرنان أن يتنازل عن حقّه في الحقل، لأن المكان يبعث على الرَهْبة والخوف.
الملاحظة الرابعة: تتعلّق بمَوقف داود. لا شكّ في أنّ داود اقترف ذنباً، عندما أمر بإحصاء الشعب. ولكن المؤرّخ الذي اعتاد أن يهمل كل ما يُشوّه سمعة المَلِك العظيم، ذكر هذا الذنب، لأنّه لا يمكنه أن يسكت عن عَمَلٍ، سيُقرّر موضع إقامة الهيكل. داود مُذنب، ولكنّ ذنبه خفيف، إذ لم تكن مسؤوليته كاملة، بعد أن دفعه الشيطان إلى فِعْلِ ما فَعَلَ. وحين يبدأ الربّ ضربته، سينتبه داود إلى خطيئته، كأنيّ به كان سكراناً، وصحا من سُكْرِهِ. حينئذ ندم فقال: قد خطئت جداً (21: 7- 8)، وعبّر عن نَدَمه بعبارات دقيقة. أقرّ بذنبه وطلب أن يُعاقَب هو وبيته، لا الشعب كلّه. "أمّا أولئك الخراف، فماذا فعلوا" (21: 17)؟ وهكذا بقي داود، مع خطيئته العظيمة، خادماً اميناً للربّ، بسبب تواضعه واستعداده لتحمّل مسؤولية خطيئته، وتقبّل عقاب الربّ.
الملاحظة الخامسة: تدور حول الأحصاء. يطول الإحصاء كلّ الشعب، لا يهوذا وإسرائيل (2 صم 24: 1)، لأن ملكيّة داود تشمل الشعب كلّه، الذي هو شعب الله، والذي لا يمكنه أن يمتزج بسائر الشعوب. لا يذهب الرؤساء إلى بلاد صور وصيدا... (مما في 2 صم 24: 5-8)، لأنّهم ليسوا شعب الله. ثمّ إنّ يُوآب أحسّ بفظاعة الخطيئة، فامتنع عن إحصاء قبيلة لاوي الكهنوتية وقبيلة بنيامين، حيث أورشليم وجًبْعون. ولكن لماذا أخطأ داود عندما أحصى الشعب؟ أولاً: هدف الإحصاء جَمْعُ الضرائب (رج خر 30: 11- 13)، وتجنيد الرجال، وكان مناسبة للمسَاس بحريّة الشعب، وظرفاً لجعل الظُلْم يسيطر، حيث يجب أن تكون العدالة. ثانياً: أحصى داود الشعب، فاعتبر أنّ الشعب مُلكه لا مُلْك الله، فتكبّر، ناسياً أنّه وكيل الله في مملكته. ثالثاً: إنّ عطايا الله لا تعدّ ولا تُحصى، فمن أراد عدّها، وضع حداً لبَركته غير المحدودة.
المُلاحظة السادسة: تتعلّق بمَوضع بناء الهيكل. عندما يورد المُؤرّخ حوار داود مع أرنان اليبوسيّ، فهو يشدّد على المنزلة الرفيعة لهذا الموضع. فيه تراءى الملاك لداود، ثمّ لأرنان وبنيه (21: 16- 20)، فيه توقّفت الضربة التي أصابت أرض إسرائيل، وكادت تصيب أورشليم (21: 15- 27)، فيه نزلت نار من عند الله على المُحرقة، كعلامة رضى الله عمّا اقترحه داود (21: 26). لهذا، فقيمة هذا الموضع لا تقدّر، وما دفعه داود من ثَمَنٍ (600 مثقال) هو رَمْزٌ لعظمة هذا المكان، الذي سيُبنى فيه هيكل الربّ، ويحلّ فيه تابوت العهد

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM