القسم الثالث: رسَالة يسُوع في الجليل الفصل السادس والأربعون: في بلاد الجراسيّين
 

الفصل السادس والأربعون
في بلاد الجراسيّين
8: 26- 39؛ مت 8: 28- 34؛ مر 5: 1: 20

حدث غريب: على الشياطين أن يتوقّفوا عن تعذيب فريستهم البشريّة. بل سمح لهم يسوع فدخلوا في الخنازير وغرقوا في البحر مع ضحاياهم الجديدة. حين نقرأ هذه العناصر الخارقة والشعبيّة نتحيّر ولا نحتفظ من الخبر إلاّ بأربعة أو خمسة مشاكل نتجادل فيها ولا ننتهي: هل التقى يسوع ممسوسًا أم ممسوسين؟ ما معنى إمتلاك الشيطان للإِنسان؟ ما هو المرض العقلي الذي أصاب هذا الممسوس؟ كيف نبرّر تدمير هذا القطيع من الخنازير، وهل ما عمله يسوع شرعي ؟ أين يقع هذا المكان الشاهق الذي منه إندفع القطيع إلى البحيرة وغرق؟ ما هي القيمة التاريخيّة لهذا الخبر؟
لا ننكر قيمة هذه المشاكل، ولكنّنا نودّ أن نوجّه دراستنا في اتِّجاه آخر. ننطلق من واقع وهو أن خبر مرقس شعبيّ ومليء بالصور المشوقة. قد يتشكك بعض الناس من هذا "الراوي ". أمّا نحن فنعجب أمام هذا المزيج الذي قدّمه في "روايته ": بعد أن نشارك في حرب يسوع على الشياطين، بعد أن نضحك ملء قلوبنا عمّا عمل لهم، ننتقل الى الإِستعدادات المطلوبة لكي نفهم جديًّا أن المسيح خلّصنا من خطر الموت، أن إبن الله الذي جاء من أجل خلاصنا قد طرده البشر.
نتوقّف عند الإِزائيّين الثلاثة ونكتشف المعنى الذي جعله كلّ منهم في هذا الخبر. عند مرقس: إنتصر يسوع "بالحيلة" على القوى الشيطانيّة. ولكن إبن الله بدا ضعيفًا ومن دون سلاح أمام نيّة البشر السيئة: طُرد، وغُلب ظاهرًا، فابتعد عن تخوم "العالم الوثنيّ ". ولكنّه ترك في تلك الأرض شاهدًا "أخذ ينادي في المدن العشر بما عمل يسوع له ". وأبرز لوقا هذا الإِنسان الذي هو ضحية الشيطان، ودلّ على الخلاص الذي حمله إليه يسوع القدير. ورأى متى في هذا المشهد صورة مسبّقة عن الآلام: "طلبوا إليه أن يرحل عن ديارهم ".

أ- خبر مرقس (5: 1- 20).
يبدو خبر مرقس للوهلة الأولى معقّدًا تتلاحق فيه التكرارات. هو يحاول أن يصوّر نزول يسوع من القارب، وصول المتشيطن وقدرته الخارقة. في الواقع، مرقس هو صاحب حدس، وهو يفكّر من خلال الصورة والحركة. فتأليف كلّ متتالياته تتضمّن لاهوتًا مهمًا. ففي بضعة أسطر ترد ثلاث مرّات لفظة "ألمقبرة ". نحن هنا أمام صورة مسيطرة تحمل معنى لاهوتيًّا: فهذه المقابر الموجودة في خلفية الخبر تدلّ بوضوح على أنّ الشياطين يرتبطون بالموت. فالإِنسان الذي يمتلكه الشياطين لا ينتمي بعد الآن إلى عالم الأحياء. وعبر هذا الإِِِِنسان المهدِّد والمُزبِدِ، نرى قدرة الشياطين والموت تظهر بصورة تفوق الطبيعة. ويصوّره لنا مر 3:5- 4 بتكرار الجملَ مشدّدًا على السلاسل والقيود التي يقطعها ويكسرها.
تظهر كلمة مقبرة مرتين، وكلّ مرة في شكل مختلف. كانت المقابر محفورة في الصخور، أو كانوا يستعملون المغاور الطبيعيّة فتشكّل ملجأ يحتمي فيه هذا الرجل. ألمقابر هي موطن النجاسة. نقرأ في أش 65: 4: "يجلسون في القبور ويبيتون (يقضون الليل) في المغاور (أو: المدافن. أو: الأماكن المحفوظة) يأكلون لحم الخنزير وفي أطباقهم طعام نجس ".
نقرأ هنا "أرض الجراسيّينَ " حسب مرقس أو "أرض الجرجسيّين " (حسب لوقا) أو "أرض الجداريّين " (حسب متّى). جدارة هي مدينة هلنستيّة في شرقي الأردن. تبعد 10 كلم إلى الجنوب الشرقي من بحيرة جنسارت. تقع في ديكابوليس أي المدن العشر. إذا انطلقنا من مت 28:8، نفهم أنّ أرض هذه المدينة إمتدّت حتّى بحيرة جناسرت. ولكن لم يتفق الشرّاح بعد. هناك إختلافات في نصّ مر 5: 1. بعضها يضع "الجداريّين" كما في مت 28:8 أو "الجرجسيّين " حسب فرضيّة من اوريجانس وعلى مثال ما في لوقا. يتحدّث مرقس عن جراسة، ولكن هذه المدينة بعيدة عن البحيرة لتوافق المكان المذكور في آ 14 (نشروا الخبر في المدينة). قد تدلّ بلاد الجراسيّين في نظر مرقس على المنطقة التي تقع شرقي البحيرة، على منطقة وثنيّة سيكون ليسوع سلطانٌ على الشياطين فيها. ولكنّنا لا نفهم لماذا نجد "أرض الجرجسيّين " في لوقا. فهناك إختلافات تسمّيها أرض الجداريّين أو أرض الجراسيّين كما في متّى ومرقس. مهما يكن من أمر، فنحن في منطقة وثنية تقع شرقي بحيرة جنيسارت. هذا ما قلناه عن مرقس.
سيتحدّث مرقس في 5: 20 عن المدن العشر (ديكابوليس). وقعت شرقي الأردن ونعمت منذ أيام بومبيوس الرومانيّ ببعض الإِِِستقلال السياسيّ. كان أكثر سكّانها من الوثنيّين. هناك أخذ الرجل الذي طُرد منه الشيطان ينادي فاتحًا الطريق للمبشّرين بالإِنجيل (مر 1: 38). أمّا لوقا فيتحدّث عن مدينة (27:8 ،34 ،39) قد تكون قرية كبيرة هي بالنسبة إلى لوقا باكورة العالم الوثنيّ الذي لن تبدأ الكرازة فيه قبل الفصح.
في نصّ مرقس تتردّد كلمة "مقابر" مرتين (آ 2 أ، 5 أ) وكلمة "سلسلة" ثلاث مرّات، و"قيود" و"ربط " و"أحد" مرتين. ويتكرّر فعل "قطع " و"حطم ". كلّ هذا يجعلنا في إطار عبوديّة يعيش فيه هذا الممسوس.
حين شاهد هذا المسوسُ يسوع عن بعد، كانت أول ردّة فعل عنده أن "يسرع ويسجد له ". هل نحن أمام حيلة من عدو يتظاهر بالإِحترام وروح المسالمة؟ أم أن الممسوس أُجبر رغمًا عنه أن يخضع لإِجتذاب يسوع السرّيّ؟ لن نحتار لأننا لن نعرف يومًا الباعث العميق الذي دفع هذا الإِِِِنسان البائس نحو المسيح. ليست السيكولوجيّا هي التي تعلّمنا، بل نتيجة العملَ الذي قام به المسيح.
غير أن اولى الكلمات التي تلفّظ بها هذا الرجل تدلّ على مزيج من الخوف والحيلة: "ما الذي بيني وبينك (ما لي ولك) يا يسوع، إبن الله العليّ؟ أستحلفك بالله، لا تعذّبني "! شيطان خبيث يستحلف يسوع باسم الله! هذا الماكر يلجأ إلى التجديف! ولكن إذ بينّ يسوع أنه يعرف إسمه وصفته، جعل نفسه في موضع القوّة وبدأ بكلام التهديد.
عبر كلّ ما هو هزء وتهديد ونية سيئة، بجعلنا مرقس نكتشف حقيقة الأحداث والأشخاص. فالذين يهزأون من يسوع ويسمّونه "النبيّ " (14: 65)، والجنود الذين يضعون على رأسه إكليلاً من شوك (17:15- 18، التاج)، والعابرون الذين يطلبون منه أن يعيد بناء الهيكل في ثلاثة أيام (29:15)، كلّ هؤلاء يقولون الحقيقة عينها: إنه النبيّ والملك والقائم من الموت الذي يعيد بناء جسده الذي هو الهيكل الحقيقيّ. وقد يكون الأمر هو هو في هذا النصّ. فلا يقوله الشيطان تملقًا أو تهديدًا هو إعتراف بسرّ يسوع وإعلان له. فوقت العماد والتجلّي أعلن صوت من السماء بنوة يسوع الإِلهية (1: 11؛ 7:9). فأقرّ بها الشياطين على طريقتهم (3: 11؛ 7:5). ولكن يجب أن ننتظر موت يسوع وارتداد الضابط الوثنيّ (15: 39) لكي تشارك السماء والأرض في إعلان يسوع ربّا على الكون (رج فل 2: 10).
إلى من ننسب هذا الكلام (ما لي ولك)؟ إلى الممسوس أم إلى الشيطان؟ لا يميّز مرقس بين الواحد والآخر. إنه يصوّر ما يرى وما يسمع. ولكن في الواقع، الشيطان هو الذي يجعل الممسوس يتكلّم. شيطان يقيم في بيته وهو في أرض وثنيّة. فالعالم مقسوم قسمين: القسم العلويّ أي السماء يخصّ الله العليّ . والجحيم أي الهاوية والمياه السفلى هي موطن الشياطين. والأرض موزّعة أيضًا بين قوتين: إسرائيل لله والأمم للشياطين. حينئذٍ نفهم ردّة الفعل لدى الشيطان: "ما الذي بيني وبينك "؟ هل هناك من عداوة؟ قوّتان مميزتان ومِنطقتان منفصلتان. فلماذا يأتي إبن العليّ إلى منطقة لا تخصّه؟ ان يصنع معجزات ويطرد الشياطين في أرض إسرائيل، فهذا أمر طبيعيّ والأرض أرضه. ولكن كيف يأتي إلى ارض وثنيّة ليعذّب الشياطين في عقر دارهم؟
العذاب الذي ينتظر الشياطين هو الذي يصوّره سفر الرؤيا (20: 10): "والقي إبليس في بحيرة (مستنقع) النار والكبريت، فانضمَّ هناك إلى الوحش والنبيّ الكذاب، ليتعذّبوا كلّهم نهارًا وليلاً إلى أبد الدهور". نلاحظ هنا كلمة "بحيرة". وفي النصّ الإِنجيليّ سيغرق الناس في البحيرة!
يحصل هذا المشهد في أرض وثنيّة والأمر واضح بالنسبة إلى الإِنجيليّ وإلى القارئ. أوّلاً: نحن في الجهة المقابلة من البحيرة في أرض الجراسيّين (5: 1). ثانيًا: لن يقبل إسرائيلي أن يقيم في القبور ولو كان مجنونًا أو ممسوسًا (3:5).
ثالثًا: إعتاد الوثنيّون أن يسمِّوا إله إسرائيل "العليّ ". رابعًا: طلب الشياطين أن لا يُطرَدوا من هذه الأرض لأنها أرض وثنيّة. إنّهم في دارهم (5: 10). خامسًا وأخيرًا: وجود قطيع من الخنازير يدلّ على أنّنا لسنا في أرض إسرائيل، والخنزير حيوان نجس (5: 11).
وإذا أردنا أن نتوقّف عند رنّة الكلمات الخفية نستطيع أن نتساءل: حين صوّر مرقس الممسوس "يرى يسوع عن بعد فيسرع إليه " (6:5)، أما لمَّح بطريقة رمزية إلى وضع الوثنيّين الذين هم بعيدون؟ نجد هذه العبارة في الخبر الثاني لتكثير الأرغفة الذي يهتم بصورة خاصة بالأمم الوثنيّة. "ومنهم من جاء من مكان بعيد" (3:8) أي من العالم الوثنيّ. وصوَّر بولس المسيحيّين الآتين من العالم الوثنيّ فقال: "كنتم فيما مضى بعيدين " (أف 13:2).
ومهما يكن من هذه التقاربات الدقيقة، يبدو من الواضح أن مرقس يصوّر عمل يسوع الخلاصي من أجل إنسان وثنيّ. وبعد هذا سيورد خبر طرد الشيطان من إبنة السورية الفينيقيّة (24:7- 30) ثم شفاء الأصمّ الأخرس في قلب منطقة المدن العشر (7: 31- 37) ثم تكثير الخبز من أجل الوثنيّين (8: 1-10). نحن هنا أمام تدرّج صاعد يصل بنا إلى العالم كلّه. فالعدد 4 (8: 9) يدلّ على الكون بأقطاره الأربعة، وحين يقول مرقس: 4000، فهو يعني المسكونة كلّها ولا سيّما العالم الوثنيّ.
إلاّ أن يسوع بدأ الهجوم منذ البداية: "أُخرجْ من هذا الرجل، أيها الروح النجس ". نلاحظ أن أمر يسوع للشيطان يرد في صيغة الماضي غير الكامل (وكان يقول) مع إن سائر الأفعال ترد في الحاضر التاريخي (7: 9- 19). هذا الماضي يدلّ على أعمال تستمر وتتكرّر. يُستعمل هنا ليدلّ على أن هذا العمل لم يصل إلى هدفه حالاً وسريعًا. لهذا نحن نتطلّع إلى الفشل أو أقلّه إلى حرب طويلة. إذن، يستطيع يسوع أن يكرِّر أمره دائمًا على هذه الصورة، وسينتظر لينفّذ أمرُه. هذا ليس بغريب. فنحن في أرض وثنيّة. ثم إذا عدنا إلى عقلية العصر، نعرف أنه من الضروريّ أن نعرف إسم المحاور لتكون لنا سلطة عليه. وهنا، يعرف الشيطان إسم يسوع، أمّا يسوع فيجهل إسم الشيطان. ورغم الأمر المكرّر، رفض الروح النجس أن يخرج وهو واثق بقوّته. لم تسر الأمور على ما يرام!
فعلى يسوع أولاً أن "يحتال " على الخصم أي أن يجبره على كشف إسمه. ويستعمل مرقس هنا أيضًا الماضي غير الكامل ليدلّ على مقاومة العدو. ولكن يسوع يلح وفي النهاية ينتصر. غير أنه إنتصار قصير لأن القوّة الشيطانيّة التي تكشف نفسها تبدو قويّة وعنيدة: "إسمي لجيون لأننا كثيرون ". هنا يمتزج المفرد مع الجمع. هل يدلّ المفرد على الممسوس؟ بل يدلّ بالأحرى على الكائن الشيطانيّ. أما الأسم "لجيون " فقد يشير إلى قوّة التقسيم والتفكيك التي تعمل في هذا الرجل التعيس. ويدلّ بصورة خاصة على أن الكائن الشيطانيّ هو قوّة هائلة ومنظّمة (رج مت 53:26: 12 فيلقان من الملائكة، أي قوّة منظّمة). فمن يقدر أن يغلب "لجيون " هذا؟ كيف تجرأ يسوع أن يهاجمه؟
غير أن لجيون يتوسل إلى يسوع. إنتظرنا حربًا عنيفةً، فإذا العدو يُقر حالاً بقدرة الذي أجبره على كشف إسمه. وهكذا يبدو يسوع، كما يصوّره مرقس، ذلك الذي يملك قوّة لا تُعاند، وفي الوقت عينه ذلك الذي يلجأ إلى كلّ فهمه و"حيلته " الروحيّة ليستعمل قدرته في الوقت المناسب.
حين عرف يسوع إسم الشياطين تفوّق عليهم. فلجأوا إلى التوسل: كرّروا توسلهم واستمرّوا يطلبون بإلحاح (الماضي غير الكامل) بأن لا يُطرَدوا من المنطقة. ولكن يسوع لا يتراجع. وتأتي توسلة جديدة في آ 12 للمساومة حول مسكن جديد. والغريب هو أن يسوع قبل إقتراحهم. هل خلط بين الرحمة والضعف؟ أما غشه الشياطين؟ في هذا الهجوم المكوّن من الحيلة والفخاخ، يبدو يسوع من جديد في وضع سيء، وقد ينجو الشياطين: إنتقلوا إلى الخنازير.
نشير هنا إلى أن "لجيون " (أي جوقة، فيلق) الرومانيّ يضمّ ستة آلاف رجل. أمّا عدد الشياطين الكبير فيدلّ على خطورة الوضع لدى الممسوس. هذا ما نراه في مت 45:12 حيث حلّ محل الشيطان الواحد سبعة شياطين (7= علامة الكمال) (رج لو 26:11). ونقرأ في لو 2:8 أن مريم المجدلية خرج منها سبعة شياطين، فدلّت هذه الآية على قوّة قبضة الشيطان.
طلب الشياطين أن ينتقلوا إلى الخنازير. هناك إعتقاد شعبيّ يقول إن الشيطان المطرود يطلب ملجأ آخر (مت 43:12 وز). أما غرق الخنازير فيدلّ على نهاية سلطان الشيطان على المنطقة وتحرّرها من النجاسة.
وكانت حركة لا تقاوم. دخل الشياطين في الخنازير، فاندفعوا كلّهم إلى البحر. لا لم يفلت العدو من قبضة يسوع. والإِذن للشياطين بأن يدخلوا في الخنازير كان فخًّا. ظنّوا أنّهم يفلتون. فإذا هم يهلكون ويعودون إلى البحر الذي هو في العقليّة الساميّة القديم موضع القوى الشريرة.
يسمّي مرقس بحيرة الجليل "البحر". ففي اللغة العبرية كل كمية ماء هي بحر. والبحر يرتبط بالغمر العظيم والتّنانين. وهكذا نفهم معنى حدث العاصفة التي هدأت: فالمسيح كشف بفعلته قدرته الخلاّقة (تك 1 :6- 10) وسلطته على القوى الشريرة التي تريد أن تعود بالعالم إلى العدم. ونفهم قساوة سفر الرؤيا على البحر الذي سيزول لتحلّ محلّه الخليقة الجديدة (رؤ 13:20- 21: 1). وحين ينحدر إلى البحر الشياطين مع الخنازير، هذه الحيوانات النجسة (13:5)، فهذا يعني أن الأمور عادت إلى النظام الأوّل بفعل المسيح: حاولت قوى الشر والنجاسة أن تجتاح أرض البشر، ولكنّها عادت إلى مكانها الأصلي، إلى البحر. طُرحت في الغمر العظيم ولن تخرج منه. من هذه التصورات نستطيع أن نستخرج أقلّه تعليمين. الأوّل: ليس مكان الشر في الإِِِِنسان. الثاني: الشر قوّة تدمير. حين دخل في الرجل جعله يهشّم نفسه. وحين دخل في الخنازير قادها إلى الهلاك.
فالأرواح النجسة عذبّت في إطار موتٍ ، الممسوسَ ودفعته إلى أن يجرح جسده بالحجارة. وأخيرًا قادت إلى الموت ضحاياها الجديدة. أمّا المسيح الذي هدّأ العاصفة وتغلّب على قوى العدو الشيطانيّة، فقد أزاح هذه القوى القاتلة من مكانها. طردها من الممسوس التعيس، طردها من هذه الأرض الوثنيّة وأنزلها إلى أعماق البحر.
يشدّد مرقس أيضًا على الرباط بين الشيطان والموت في خبر الولد الذي يقع في داء الصرع: "رماه الروح النجس مرارًا في النار لكي يهلكه " (22:9). وقبل أن يترك الشيطان الولد هزّه بعنف فبدا الولد وكأنه ميت فقال كثير من الناس: "إنه مات " (9: 26).
إذن، إنتهى القسم الأوّل من الخبر بانتصار المسيح على الشياطين. فهل يكون له النجاح نفسه لدى البشر الذين جاء يخلّصهم؟
وتصوّر لنا آ 14 (جاء الناس ليروا) وآ 15 (جاؤوا، شاهدوا، إستولى عليهم الخوف) تحرّك الجموع التي جاءت تتحرّى الأمر. ويصوّر لنا مرقس المشهد بعين الجمع: فالمتشيطن الذي ما زال في نظرهم ذلك الذي يمتلكه الشيطان، ها هو جالس، لابس، سليم العقل. ولكنّهم متأكدون أنه هو الذي كان في قبضة لجيون، في قبضة جيش من الشياطين. فمن التعارض بين ما يعرفون عنه وما يرون الآن فيه، يتفجّر خوف مليء بالإِحترام. ولكن بدأت هذه العاصفة تتبدّل حين عرفوا بأمر الخنازير. قال مرقس: "أخبرهم الشهود بما جرى للرجل... وبما أصاب الخنازير". كانت ردّة الفعل سريعة. طلبوا من يسوع أن يرحل عن ديارهم.
هذا الذي تغلّب على جوق الشياطين، تغلّبت عليه إرادة البشر السيئة. في الحرب السابقة، إستعمل يسوع خطة حكيمة فانتصر. وهو يستعمل هنا أيضًا خطّة تدلّ على حكمته الإلهية. فطاعته للأمر الواقع ترتبط بفهم عميق لرسالته المسيحانيّة، طرده الناس فاختفى في الظاهر. ولكنّه لم يقل كلمته الأخيرة وعلى مضطهديه أن يأخذوا حذرهم من "حيلة" إله يسلِّم نفسه مقيّدًا بيديه ورجليه.
في الوقت الحاضر وحسب الظواهر، الفشل تام. ولكن الممسوس الذي شُفي، يطلب من يسوع في صلاة بسيطة وعميقة "أن يكون معه . لم يُستجب طلبه، ولكنّه تسلَّم رسالة في بلده. لماذا رفض يسوع أن يرافقه هذا التلميذ الجديد؟ لا شك في أن ساعة الوثنيّين لم تأت بعد. فلا بدّ من تهيئة الطريق الآن. ومن خلال هذا السبب المباشر نفهم أن المسيح الذي طرده البشر قد ترك رغم كل شيء شخصًا يشهد له أمامهم.
هذا الشاهد الذي تسلّم مهمة إعلان ما صنعه الربّ، أعلن ما فعله يسوع. فالموازاة بين يسوع والربّ قد أرادها مرقس ليدلّ على دور يسوع الخلاصي وعلى إتّحاده بالله الآب. وها هي الكرازة تحمل ثمارها والخبر ينتهي بهذه الكلمات: "وكان جميع الناس يتعجّبون ".
قابلنا هذا النصّ مع أش 65: 1- 5. في الحالتين يقترب الله من أناس متمرّدين وهو يتوسل إليهم. رفضوا حضوره وطردوه. ولكن تختلف نهاية المقطوعتين. في أشعيا نجد غضب الله. في مرقس يتعجّب الناس الذين سمعوا " ألمنادي ".
هذه النهاية الرسوليّة والكرازيّة والكنسيّة تعطي الخبر إتجاهه الرئيسي. لا ننسَ أن الجزء المرقسي (8:3- 6:6) الذي يقع فيه هذا النص (5: 1- 20) يتركّز على تربية التلاميذ.
يصوّر لنا مرقس يسوع بوجه القوى الشيطانيّة وبوجه البشر. تغلّب على الشياطين رغم قوّتهم ولكن البشر غلبوه بحريتهم وجشعهم. هذا ما سيحدث في الآلام. ولكن وراء هذا الفشل الظاهر نكتشف وجه إله ساطع يسلّم ذاته في الضعف إلى البشر. فكيف لا يتعجبون حين يسمعون شهادة مرسلي المسيح ويكتشفون رحمة الله العجيبة؟ هذا ما يكون عليه زمن الكنيسة.

ب- خبر لوقا (26:8- 39).
يبدو خبر لوقا في قراءة أولى قريبًا جدًا من خبر مرقس. في الواقع تكفي بعض التعديلات الطفيفة، لتعطي الحدث إتّجاهًا مختلفًا. أشرف على خبر مرقس التوازي بين حرب يسوع ضد الشياطين وفشله أمام البشر. أمّا عند لوقا فكل شيء مركّز على الإِِِِنسان الذي حرّرته قدرة يسوع من الشيطان وقدّمت له الخلاص.
يشدّد لوقا في بداية الخبر (26:8) على أنّنا تجاه الجليل. إذًا نحن أمام وثنيّ في أرض وثنيّة سينعم بقدرة يسوع. وهذا التقسيم (طرد الشياطين) يرمز مسبقًا إلى الخلاص الذي سيُحمل إلى كلّ الأمم. وتصوير الممسوس (27:8) يهتمّ لا بإظهار شراسة الشياطين، بل حالة هذا الكائن التعيس الذي لم يعد بشرًا: إنفصل عن أخصّائه، إبتعد عن عالم البشر، عاش بدون ثياب (العري علامة الفقر وخسران الشخصيّة، رج تك 7:3؛ حز 7:16؛ هو 2: 11- 12)، فلم يبق له مسكن إلاّ مسكن الموت (القبر).
لا يحتفظ لوقا هنا إلاّ بالسمات التي تنطبق مباشرة على الرجل الذي يمتلكه الشياطين. وهكذا يجتذب إليه الشفقة والإِِنتباه. أمّا ما تبّقى من تصوير نجده عند مرقس، فقد نُقل إلى مكان ستبُرز فيه قدرة الشياطين غير العادية قدرةَ يسوع الإلهيّة (8: 29- 30). في الوقت الحاضر وصل إلينا القسم الأوّل من الحوار بين يسوع والممسوس (8: 28- 29 أ).
إقترب نصّ لوقا من نصّ مرقس، ولكنّه تجنّب هذه الدعابة القريبة من التجديف التي وجدناها في النصّ المرقسي. فرفض الطاعة الذي يتضمّنه الفعل في 8: 29 أ (الماضي غير الكامل) يُفسَّر بتصوير قوّة الروح الشرير التي لا تقهر (29:8 ب). ولكن لوقا يهتمّ ثلاث مرّات في هذه الآية بأن يزيل كلّ إلتباس بين الروح الشرير وضحيته البشريّة؛ ففي قلب هذه الآية عينها، يوضح أن الروح إستولى على هذا الرجل. وأخيرًا في نهاية الآية، هو الشيطان الذي يجرّ الممسوس ويسوقه إلى البراري.
أخيرًا، خضع الشياطين لقدرة يسوع فأجبروا على الكشف عن اسمهم. وها هم يتوسّلون إلى يسوع بأن "لا يأمرهم أن يذهبوا إلى الهاوية". كلمة "هاوية خاصّة بلوقا وهي مع فعل "خلص " في آ 36 إحدى الوسائل التي تفهمنا الخبر. كتب لوقا إلى قارئين يونانيين في معظمهم، فتحاشى أن يحصر نفسه في عالم من التصوّرات السامية: فموضوع البحر مع كل رنّاته البيبلية، كما نجده عند مرقس، قد تبدّل. فعالم المياه الذي هو إطار الخبر، لم يعد "البحر" بل بكل بساطة: بحيرة (33:8). ولكن الفكرة الأساسيّة التي تتكلّم عن موضع للقوى الشيطانيّة فقد استعيدت في مفردة "الهاوية" الغنيّة جدًا في أذن اليونانيّين. وهذا ما يشهد عليه رؤ 20: 1- 3: "ثم رأيت ملاكًا نازلاً من السماء يحمل بيده مفتاح الهاوية وسلسلة عظيمة. فأمسك التنين تلك الحيّة القديمة، أي إبليس أو الشيطان. وقيّده لألف سنة ورماه في الهاوية وأقفلها عليه وختمها! (رج رؤ 9: 1، 2، 11؛ 7:11؛ 8:17). تعني الهاوية البحر، مثلا خر 15: 5؛ أش 44: 27؛ 51: 10؛ 13:63؛ يون 2: 9؛ كما تعني الأرواح الشريرة مرورًا بمثوى الأموات (مز 71: 20؛ روم 10: 7).
إذن يبدو أن الهاوية تمثّل المكان الذي تملك فيه أرواح الشرّ. منها خرجوا ليفسدوا الأرض وينجّسوها. ولكن المسيح سينتصر عليهم ويجبرهم على الرجوع إلى عالمهم. وهكذا بكلمة بسيطة انفتح أمامنا منظار على الصراع الأساسي الذي يجعل يسوع في وجه قوى الشرّ. ونحن الذين نعرف أن يسوع تابع مسيرته بعد هذه المبارزة الخفيفة ليرمي القوى الشريرة في الهاوية ويخلّص البشر. نفهم مع لوقا أن هذا الخبر يقدّم نظرة إجماليّة إلى الفداء المسيحيّ ويلقي عليه نورًا جديدًا.
وبانتظار الساعة الحاسمة، إنتصر يسوع على أعدائه. ولكن لوقا يفترق هنا عن مرقس الذي أبرز صراع يسوع ضدّ الشياطين. أما لوقا فحين صوَّر هزيمتهم واختفاءهم في البحيرة شدّد على تمرّد الإِِِِنسان: "خرجوا من هذا الرجل " (8: 33).
هذا الانتباه إلى مصير الإِِِِنسان نجده في التصوير اللاحق (8: 34- 36). لا يشركنا الخبر هنا، كما في مرقس، في دهشة الناس الذين وصلوا، بل يجعلنا مباشرة في حضرة الواقع: أمام انسان تحرَّر الآن من شياطينه وتزيّن من جديد بكل صفاته البشريّة، وجلس عند قدمي يسوع جلسة التلميذ مع معلّمه (35:8؛ رج 39:10: جلست مريم عند قدمي الربّ يسوع تستمع إلى كلامه).
ونقرأ كلمة يضعها لوقا في فمّ الشهود فتلقي النور على الخبر كلّه: "أُخبروا كيف خُلّص الذي كان فيه الشيطان من قبل " (36:8). لسنا فقط أمام شفاء، بل أمام خلاص يحمله ابن الله. لا شكّ في أن هذا الخلاص ما زال محصورًا في الوقت الحاضر، ولكنه بعد قليل سيمتدّ إلى جميع البشر الذين سينجون من قبضة الشرّ ويعودون إلى عقلهم ويتقبّلون التعليم من المسيح.
أمام هذا الحدث النبويّ الذي يعلن للحاضرين خلاصهم، ما هي ردة الفعل عندهم؟ ما نلاحظه عند لوقا هو أن الشهود الذين يوردون الخبر لا يلمّحون إلى الخنازير أي تلميح (اذن، نحن أمام قضية ثانويّة، فالمهمّ هو انتصار يسوع على الشياطين. رج مت 33:8). كلّ شيء ركِّز حصرًا على الإِِِِنسان
المخلص (8: 36؛ ق مر 5: 16؛ مت 33:8). وإذا كان أهل الناحية قد طلبوا من يسوع أن يترك ديارهم فلأنهم "كانوا في خوف شديد" (37:8). وإن هذا الخوف لا يرتبط في الخبر اللوقاويّ أي ارتباط بأية خسارة ماديّة تتعلّق بالخنازير، بل هو صدى لخوف إكرامي استولى على الجمع حين شاهد المتشيطن القديم بعد أن تحوّل وشُفي ونال الخلاص (8: 35).
ونستطيع أن نستنتج ممّا أغفله لوقا أو لمّح إليه: أراد أن يفهمنا أن الجراسيّين لم يطردوا يسوع بسبب مسائل ماديّة. بل طلبوا إليه بتواضع عميق أن يبتعد عنهم، تدفعهم إلى ذلك مخافة مقدّسة (اما هكذا تصرّف بطرس بعد صيد السمك؟ "ابتعد عنّي يا ربّ، أنا رجل خاطئ" رج 8:5). وهكذا كانت فعلة الجراسيّين كما قدّمها لوقا مشرّفة لهم. فإذا أراد لوقا ورفاقه أن يردوا هؤلاء الناس وكل الأمم الوثنيّة، فعليهم أن يصوّروهم في مثل هذا الوجه المشرق.
والحدث الأخير في الخبر (38:8- 39) يشبه ما في مرقس (5: 18- 20). أراد الممسوس القديم أن يتبع يسوع. ولكن يسوع أوكله بمهمّة لدى أهل بيته. نشير هنا إلى اهتمام لوقا بأن يتكلّم لا عن المتشيطن القديم (رج مر 18:5) بل عن "الرجل الذي خرج منه الشياطين " (38:8). والفرق مهمّ بين طريقتي الكلام. أخيرًا إن لوقا لم يتحدّث عن عاطفة الإِعجاب التي ينسبها مر 5: 20 إلى الجموع بعد خبر المتشيطن القديم. فقد أشار مرّتين إلى الخوف لدى السكان، واعتبره عاطفة إعجاب متواضعة، فلماذا يعود إلى هذا الموقف. وهكذا أتاح له هذا الاغفال أن ينتهي بفكرة كرستولوجيّة. كان مرقس قد قدّم موازاة بين الربّ ويسوع: "اخبرهم كل ما صنعه الربّ لك وكيف رحمك. فذهب وأخذ ينادي في المدن العشر بما عمل يسوع له " (مر 19:5- 20). أما لوقا فقدّم موازاة أخرى: "كل ما صنعه الله لك ". فرجع ينادي "بكل ما صنعه يسوع له " (8: 39). هذا ما يشدّد بصورة أوضح على العلاقة الموجودة بين الله ويسوع. إن المسيح يعيد كل شيء إلى أبيه، ولكن الخلاص يصل إلينا بيسوع. ونحن نجد في هذه الموازاة اللوقاويّة وحدة العمل بين الآب والابن.
إذن نستطيع أن نلخّص خبر لوقا بثلاث كلمات رئيسيّة: الهاوية، خلَّص، مخافة. اختلف لوقا عن مرقس الذي وازى بين انتصار المسيح على الشياطين وهزيمته الظاهرة أمام البشر. أمّا لوقا فقدّم لنا انسانًا تعيسًا تستعبده القوى الشيطانيّة. فنجَّاه يسوع وخلَّصه. وهكذا يعلن الخبر مسبقًا عمل المسيح الفدائي الذي يتّسم بقدرة عظيمة: رمى أرواح الشرّ في الهاوية، خلَّص البشر بمن فيهم الوثنيّون، وحرّك لدى الجميع مخافة ستقودهم إلى عبادة الله.

ج- خبر متى (28:8- 34)
إن نظرة سريعة إلى الإِزائية تكفي لتبينّ لنا أن خبر متى أقصر من خبر مرقس وخبر لوقا. فمقطوعة متى لا تصل إلى نصف مقطوعة مرقس. ثمّ إن نصف القراءات التي يستعملها متى موجودة عند مرقس. في هذه الحالة نتساءل: أية علاقة أدبيّة بين الإنجيلين؟ كان قد لاحظ الأب لاغرانج منذ سنة 1923 (إنجيل متى) وبرهن أنَ متى لا يمكن أن يرتبط مباشرة بمرقس. فإذا أخذنا بعين الاعتبار نظرية المرجعين نستطيع أن نرى في نصّ متى هذا مثالاً نموذجيًّا عن مقطوعة تنتمي إلى مرجع ثانٍ غير مرقسي، إلى انجيل متى الآراميّ. كان لهذا الإِنجيل الآرامي وللتقليد المرقسي أصل مشترك يتجذّر في الكرازة الأولى، وهذا ما يفسّر التشابهات بين مت 28:8- 34 ومر 5: 1- 20.
غير أننا لن نتوقّف عند هذه النظرة السطحية. فلوقا الذي بدا قريبًا جدًا من التقليد المرقسيّ، أعطى خبرَه إتجاهًا مختلفًا عن خبر مرقس. أما متى الذي هو بعيد ماديًّا عن التقليد المرقسيّ، فهو قريب من اهتمامات مرقس الكبرى. لا شكّ في أنّ متى يتألّم من موقف الرفض الذي أظهره البشر، وبالأخصّ بنو قومه حيال آلام يسوع والذي يظهرونه اليوم تجاه الكرازة الإِنجيليّة. فيلاحظ هنا ان اقناع البشر أصعب من افحام الشياطين.
لا يورد متى الطلب الذي قدّمه إلى يسوع الممسوسُ القديم الراغب بأن يبقى معه. تبسّط الخبر فقُسم إلى قمسين واضحين: يسوع والشياطين، يسوع والبشر.

1- يسوع والشياطين (8: 28- 32)
منذ البداية يبرز اختلاف واضح بين متى والتقليد الذي اتبعه مرقس ولوقا. انهما لا يعرفان الا ممسوسًا واحدًا، بينما يقدّم لنا متى ممسوسين اثنين وقد نتساءل: كيف يستطيع أن يعيشا معًا وهما شخصان متوحّشان إلى هذا الحدّ؟! من السهل أن نلاحظ أن متى يقدّم شخصين (الاعميان قرب اريحا، 20: 30) أو حيوانين (حين الدخول إلى أورشليمِ، 21: 2، 7: الآتان والجحش) حيث لا يقدّم الإِنجيليّان الآخران إلا شخصًا واحدًا وحيوانًا واحدًا. هل نحن أمام انزلاق غير متعمّد في التقليد، أم أمام اهتمام لاهوتي؟ لا شكّ أمام اهتمام لاهوتي. وسنوجّه ابحاثنا في هذا الاتجاه. فالرقم 2 يجعلنا نفكّر بعد الشهود الذي تطلبه الشريعة ليثبت أمر من الأمور. ويجعلنا نفكّر أيضًا وبصورة خاصّة بالشعبين اللذين جاء يسوع يخلّصهما وينيرهما وهما اليهود والوثنيّون. هذا هو تفسير اغوسطينس حول اعميي أريحا (مت 20: 30). أمّا اوريجانس فرأى في اعميي اريحا اليهود في قسميهما: مملكة يهوذا ومملكة اسرائيل. أمّا هيلاريون وامبروسيوس فرأيا في هذين الأعميين آلام الوثنيّة في فرعيها: ابناء حام (تك 10: 6 ي: مصر، الحبشة، ليبيا، قبائل الشمال في الجزيرة العربيّة)، وابناء يافت (تك 10: 2 ي: آسية الصغرى، شعوب ايونية المتاخمون للبحر الأسود، قبرس، ر ودس، اسبانيا).
ترتبط القوى الشيطانية بالقبور اي بالموت، عند متى كما عند مرقس ولوقا. وهي تمنع الناس من المرور في الطريق. إن موضوع الطريق متجذِّر في العقلية السامية التي تصوّر علاقة الإِِِِنسان بالله في صورة طريق نقطعها (مت 17:20 ي واهميّة طريق يسوع إلى أورشليم، أي الطريق نحو الآلام والقيامة. ولوقا أبرز أيضًا المعنى اللاهوتي لهذا الصعود إلى أورشليم). فالخلاص يُعتبر خروجًا جديدًا. والمسيح يقدِّم نفسه على أنه الطريق (يو 14: 6). والمسيحيّون الأوّلون هم تباع الطريق (أع 9: 2؛ 18: 25- 26، أي طريقة حياة، مذهب). إذا أخذنا بعين الاعتبار هذه العقلية وهذه الطرق التعبيريّة، وإذا لاحظنا أننا نجد هذه الصور في كرازة يسوع وفي إنجيل متى (13:7). واذا اعطينا اسم الإِشارة (تلك) قيمة التضخيم التي له في اليونانيّة، نعطي لتصوير متى معنى رمزيُّا وروحيُّا: إن القوى الشيطانيّة في قوى الموت تصدّ الطريق بوجه البشرية. انها تمنعنا من ان ننتقل إلى الله ونشاركه في حياته السعيدة.
والسؤال الذي يطرحه الشياطين على يسوع هو هو في متى كما في مرقس ولوقا: "ما لنا ولك يا ابن الله؛ أجئت إلى هنا لتعذّّبنا قبل "الأوان" ؟ ولكن عبارة " قبل الأوان " تعطي الجملة والتقسيم كلّه علامة مميّزة: بهذا التلميح يبدو عمل المسيح استباقًا للصراع الاسكاتولوجيّ ولانتصار نهاية الأزمنة. لا شكّ في أن رجوع ابن الإِِِِنسان المجيد وحده، يضع حدًا نهائيّا لعمل القوى الشريرة. ولكن انتصار الفصحَ هو اسكاتولوجيّ منذ الآن في نظر متى وفي نظر كل مسيحيّ. فحين دشّن المسيح الأزمنة الجديدة بموته وقيامته، إنتصر على قوى الشرّ. وإن يسوع قد واجه الشياطين وانتصر عليهم حتى قبل هذه "الساعة" الحاسمة ورغم اتضاعه في امحائه (كينوسيس)، لأنه سرّ هذا الملكوت الجديد في شخصه وحياته. وهكذا نجد تواصلاً عجيبًا بين عمل يسوع على الأرض، وعمل المسيح القائم من الموت، وعمل الربّ في نهاية الأزمنة.
إذا أردنا أن نفهم معنى هذه العبارة "قبل الأوان " نتذكّر نهاية خبر التجربة عند لوقا: وابتعد عنه الشيطان إلى "الأوان" (المحدّد) (لو 4: 13). ونستطيع أن نقرّب أيضا هذا النصّ من مت 3:16 الذي يتحدّْث عن "علامات الأزمنة"، وبالأخصّ من مت 18:26 حيث يعلن المسيح: "زماني قريب ". (أي جاءت ساعتي، ساعة الموت والقيامة). رج أيضًا مر 1: 15: "تمّ الزمان (الذي حدّده الله ليتمّ مواعيده) واقترب ملكوت الله ". وفي يو 7: 6- 8، قال يسوع: "ما جاء وقتي (أواني) بعد". ما جاء الوقت المؤاتي للعمل الحاسم الذي يسمّيه يسوع ساعته.
إن لفظة "هنا" وعبارة "قبل الأوان " خاصتان بمتى في هذا الخبر. وهما تشيران إلى زمن الدينونة الأخيرة حيث يخسر كلّ الشياطين قوّتهم. أما تقسيم يسوع فيستبق هذه الشفاءات الأخيرة. ولفظة "هنا" تشدّد على أن يسوع يعمل في منطقة وثنيّة، وهكذا يكون عمله استباقًا لخلاص كل الأمم الوثنيّة. وقد تعنيان أخيرًا المسيحيّين الذين من أصل وثنيّ ودخولهم إلى الكنيسة. هل حلَّ زمان دخولهم، أم لا بدّ من الانتظار؟ نحن نقرأ في مت 10: 5: "لا تقصدوا ارضًا وثنية (أو لا تسيروا في طريق وثنيّة) ولا تدخلوا مدينة سامريّة. بل إذهبوا إلى الخراف الضالة من بني إسرائيل ". وحين طلبت الكنعانيّة من يسوع أن يشفي ابنتها، أجاب: "لم أرسل إلا إلى الخراف الضالة من بني إسرائيل" (15: 24). لم تأتِ ساعة الوثنيّين بعد. وستأتي بموت المسيح وقيامته. رج مت 5-13؛ 33:21- 44.
طرد يسوع الشياطين بدون أية صعوبة ظاهرة، حسب متى الذي يصوّر لنا منذ الآن المسيح الممجّد عبر أخبار حياته على الأرض. ونلاحظ أيضًا تشديد الكاتب على سقوط الخنازير في البحر وهلاكهم في المياه. قد نرى في هذا التشديد تلميحًا إلى مياه العماد التي تبتلع في الموت قوة الإِِِِنسان الشريرة.

2- يسوع والبشر (8: 33- 34)
كان انتصار يسوع على القوى الشيطانية سهلاً نسبيُّا، ولكن ماذا يستطيع أن يفعل أمام إرادة البشر الشريرة؟ ذهب رعاة القطيع إلى المدينة واخبروا كل شيء (كل ما حدث) وقضية (ما جرى) الممسوسين. هنا نفهم ما يشير إليه متى: ما هو "كلّ " شيء في نظرهم يتميّز تمييزًا واضحًا عن "قضية الممسوسين" . إذن، ما يهمّهم حصرًا هو مصير قطيعهم. انهم متعلّقون بخيراتهم وهم يصوّرون مسبقا كل الاغنياء الذين تمتلكهم ممتلكاتهم. حينئذ طلبوا من يسوع "أن يعبر خارج ديارهم ".
إن اللفظة المستعملة لترحيل يسوع قد تبدو باهتة. ولكنها تبدو مع عبارة قبل الأوان من الكلمات المهمّة في الخبر. فنحن نجد هذا الفعل عينه في سياق الساعة الاسكاتولوجيّة، في بداية الآلام حسب القديس يوحنا. "قبل عيد الفصح، عرف يسوع أن ساعته جاءت لينتقل (ليعبر) من هذا العالم إلى الآب" (يو 13: 1). قد يعني ذكر الفصح في بداية هذه الآية اليوحنّاوية أن الانجيل الرابع يرى في هذا "العبور" تحقيق الفصح الحقيقيّ (رج خر 27:12). وقد يكون متى أراد أن يلمّح إلى أن ترحيل يسوع، هذا "العبور" قبل الأوان، يدلّ على "عبوره " من هذا العالم إلى الآب ويصوِّر مسبقًا الفصح الحقيقيّ.
أَبعد متى مجمل تفاصيل الخبر وتجاهل الحدث الأخير الذي أورده تقليد مرقس ولوقا، فأبرز الوجه المأساويّ لترحيل المخلّص، وشدَّد على التعارض بين انتصار يسوع على الشياطين وهزيمته أمام البشر الأحرار. إن طريق الوصول إلى الله مفتوحة، ولكن البشر لا يريدون أن يسيروا فيها. لا شكّ في أن متى حين أورد هذا الخبر فكّر بخبر آلام المسيح، وحاول أن يُفهم سامعيه ما في رفض المخلّص القدير من عقوق وبلاهة. وأفضل تفسير لهذا الحدث المتّاوي نجده في المطلع الإِنجيليّ ليوحنّا (1: 10- 11): "كان في العالم، وبه كان العالم، والعالم لم يعرفه. جاء الى بيته فما قبله أهل بيته".

خاتمة
لقد فهمنا من خلال قراءتنا لمرقس أن المسيح حين سمح بأن يُطرد من عند البشر كَشف عن ضعف الله العجيب الذي أسلم ذاته في حب جنونيّ، فلم يبقَ له شيء يدافع به عن نفسه. برنامج خطِر وصل به إلى المأساة. ولكن في النهاية سيتعرّف البشر بدهشة إلى كلّ هذا الحبّ.
وأرانا لوقا رجلاً لم يعد فيه شيء من البشر. فمارس يسوع نحو هذه الضحيّة التعيسة عمل تحرير وخلاص. وهذا ما سيفعله لجميع الأمم الوثنية.
وقرأنا مع متى حياة المسيح وملكوته: تجاه انتصار سهل على قوى الشر، نجد هزيمة مأساويّة أمام الناس الأحرار. فيتفجّر النداء الملحّ للقارئ: وانت، هل ستطرد ذلك الذي يحرّرك من الشرّ ويبلغك إلى حيث يقيم الله؟

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM