القسم الثالث: رسَالة يسُوع في الجليل الفصل الثامن والعشرون: شفاء المخلع
 

الفصل الثامن والعشرون
شفاء المخلع
17:5- 26؛ مت 9: 1- 8؛ مر 2: 1- 12

إن خبر مخلّع كفرناحوم الذي نال أولاً مغفرة خطاياه ثم الشفاء من مرضه، يرد في الأناجيل الإزائيّة الثلاثة. يتبع لوقا (17:5- 26) نصّ مرقس (2: 1- 12) عن قرب. أَما خبر متى (9: 1- 8) فيتميّز أوّلاً بإشارة سلبيّة: لا يهتمّ بالتفاصيل والصور التي نجدها عند مرقس، وهو مُوجز إلى حدّ الغموض، فنلجأ إلى مرقس ولوقا لنُدخل المشهد في الواقع اليوميّ. إنه يهتمّ أوّلَّ ما يهتمّ بالناحية التعليميّة، ولهذا فهو يهمل كل ما يشتّت انتباه القارئ الذي يعيش النصّ الإِنجيليّ وكأنّه ليتورجيا وصلاة.
ينقسم هذا الحدث الى ثلاث مراحل. أوّلاً: وُضع المخلّع أمام يسوع، فبدأ يمنحه غفران خطاياه. ثانيًا: وإذ أراد أن يبيّن أن له سلطانا على مغفرة الخطايا، شفى المريض البائس. ثالثًا: تورد الخاتمة اعتبارات الشعب الحاضر.

أ- الايمان وغفران الخطايا (5: 17- 20= مت 8: 1- 2= مر 2: 1-5).
يقع المشهد في كفرناحوم، حيث أقام يسوع منذ بداية حياته العلنيّة. صارت هذه البلدة "مدينته " لأنه فيها يدفع الضرائب (مت 17: 24- 27). كفرناحوم مؤلّفة من كلمتين. كفر: ضيعة، قرية. ناحوم: اسم شخص حمله نبيّ في القرن السابع ق. م.
لا يقدّم متى أية إشارة إلى إطار الحدث: كان يسوع في منطقة جدارة (مت 28:8- 34)، جنوبي شرقي بحيرة طبرية. بعد، أن عبر البحيرة (20 كلم تقريبًا) رجع إلى مدينته. أما مرقس فيقدّم تفاصيل عديدة: "ورجع يسوع بعد أيام إلى كفرناحوم؛ فسمع الناس أنه في البيت. فتجمّع منهم عدد كبير ملأ المكان حتى عند الباب. وأخذ يعظهم بالكلمة" (مر 2: 1- 2). يسوع هو "في البيت " (رج مر 3: 20؛ 17:7؛ 28:9). لا شكّ في بيت سمعان واندراوس (مر 1 :29)، حيث يقيم يسوع. وهناك أخذ يعلّم الذين يستمعون إليه ويحاصرون البيت ليصل إليهم كلامه. الوعظ بالكلمة عبارة كرّسها الاستعمال الحديث عن الكرازة بالإِنجيل (أع 4: 29- 31؛ 8: 25).
أمّا عند لوقا، فشفاء المخلّع يبدأ بطريقة احتفاليّة كبيرة: ما سيحدث هنا في وقت محدّد، قد يمتد حتى ملء الأزمنة. سمع الناس بتعليم يسوع وأشفيته التي انتشرت في كلّ فلسطين ووصلت إلى كلّ مدينة وقرية. فقبل أن يسير يسوع على طرق الجليل واليهوديّة وأورشليم، إلى هناك سبقته الكلمة، بل نبّهت أُولئك الذين سيجادلونه ويحكمون عليه بالموت.
تحدّث متّى عن "مدينة" يسوع، وقال مرقس: كفرناحوم. أما لوقا فوسّع جماعة السامعين ليدلّ على أهميّة ما سيُعلنه يسوع من تعليم. لقد جاء السامعون "من جميع قرى الجليل واليهوديّة ومن أورشليم ". وزاد لوقا عبارة: "وكانت قدرة الربّ تشفي المرضى على يده ". الربّ هو الله. والقدرة تُذكر مرارًا في إنجيل لوقا لتدلّ على معجزات العليّ (1: 35) أو معجزات يسوع (4: 36؛ 6: 19؛ 8: 46؛ أع 10: 38) أو معجزات الرسل (9: 1؛ أع 3: 12؛ 4: 7، 33).
ويرسم مرقس لوحة تهيئ ما يلي من الخبر: "وجاء اليه أربعة رجال يحملون كسيحًا، فلمّا عجزوا عن الوصول إليه لكثرة الزحام، نقبوا السقف وكشفوا فوق المكان الذي كان فيه يسوع ودلوا الكسيح وهو على فراشه ".
بيت مؤلف من غرفة واحدة كبيرة كما في الشرق القديم. لا شبابيك فيه بل باب واحد أو بابان. سطحه مؤلَّف من بعض الجسور الخشبيّة وضعت فوقها أغصان شجر وطبقة من التراب. في وسط السقف نجد "القوفعة" وهي فتحة تغلق في الشتاء لتمنع المطر، وتبقى مفتوحة في الصيف فتمرّ عبرها الحبوب المجفّفة، وتصل الشمس حيث يكون ضيف الشرف. إذن، كان يسوع هناك تحت هذه الفتحة حين دلّوا المخلّع قدَّامه.
يقول مرقس: نقبوا السقف وكشفوا فوق المكان الذي كان فيه يسوع. يكفي أن ينزع الرجال الأربعة "الغلقة" حتى ينفتح السقف. أما لوقا فتحدّث عن "القرميد". إنه يكيّف خبره حسب عقليّة القارئ اليونانيّ الذي لا يعرف مثل هذا السقف. ولهذا قال: دلّوا المريض عبر القرميدات. إن يسوع حاضر في كنيسته كالربّ الحيّ الذي تمجّد. ولكن صورته كما كان على الأرض تبقى حاضرة. فكيف نتصوّر يسوع حيّا لدى أبيه؟ كيف نرسم عنه صورة ملموسة؟ نحن لا نستطيع ذلك إلا في الشكل الذي عاش فيه على الأرض وعمل وتكلّم. تصبح صورة يسوع سهلة الفهم علينا إن ظهرت في عالم نفهمه ونعيش فيه. ولهذا جعل لوقا المشهد يتمّ "في بيت يونانيّ ".
يتحدّث لوقا عن سرير (آ 18) كما في مت 2:9، ثمّ يستعمل في آ 19 و 24 تصغيرًا (سرِّير) ليدلّ على أنّنا أمام فراش بسيط. تحاشى لوقا (ومتى مثله) الكلمة التي استعملها مرقس.
لم يحتفظ متّى من كلّ هذا المشهد إلاَّ بالشيء القليل: "جاؤوه بكسيح مُلقى على سرير". أين كان يسوع؟ هذا ما لا يقوله الإِنجيليّ. هل كان في الشارع أم في البيت؟ وما هي الحيلة التي لجأ إليها الحاملون؟ أغفل متّى كل هذا وذهب إلى جوهر الخبر.
وتابع مرقس: "فلمّا رأى يسوع إيمانهم قال للمقعد: يا ابني، مغفورة لك خطاياك " (آ 5). هنا لا يوجز متىّ النصّ، بل يزيد كلمة: "تشجّع يا ابني، مغفورة لك خطاياك ". من الواضح أن الإِنجيليّ يركز انتباهه كله على كلمة يسوع. أما الباقي فجانبيّ. وإذ أراد أن يشدّد عِلى إعلان يسوع ويبرزه، زاد الكلمة الصغيرة: "تشجّع ". هذه الكلمة سيقولها أيضَا للنازفة: "تشجّعي يا ابنتي، إيمانك خلّصك " (مت 9: 22).
أما لوقا فقال: "يا رجل، مغفورة لك خطاياك ". نجد هذه التسمية في 14:12؛ (يا رجل، من أقامني عليكما قاضيًا؟) وفي 58:22. 60 (في فم بطرس ليدافع عن نفسه). نجد تسمية "يا ابني " في حوار عائليّ (48:2؛ 15: 31؛ 25:16). وقد يستعمل تسمية "صديقي " (11: 5؛ 14: 10). فإن هو استعمل هنا كلمة "يا رجل " فقد أراد أن يبرز المسافة بين يسوع والمخلّع.
إحتفظ متّى بكلمة يسوع وأبرزها، كما احتفظ بالإشارة التي تشرحها وتبرّرها: رأى يسوع إيمانهم. ولكنه لم يذكر "الحاملين " فأخذ الكلمة "إيمانهم " عن مرقس كما هي. ثمّ نتساءل: كيف عرف إيمان هؤلاء الرجال؟ يظهر هذا الإِيمان في الحيلة التي رواها مرقس ولوقا، وقد احتفظ به متّى لأنه اعتبره جوهريُّا من أَجل فهم إعلان يسوع: "مغفورة... ".
يتحدّث الإِنجيل مرارًا عن الإِيمان كشرط لشفاء عجائبيّ. ذكرنا كلمة يسوع للنازفة: "تشجّعي يا ابنتي، إيمانَك خلّصك " (مت 22:9؛ مر 5: 34؛ لو 48:8). وأعلن يسوع لضابط كفرناحوم: "ليكن لك حسب إيمانك " (مت 13:8؛ لا يتحدّث لو 7: 10 عن الإِيمان في نصّه الموازي). وقال للكنعانيّة: "يا امرأة، عظيم إيمانك! فليكن لك ما تريدين " (مت 28:15؛ رج الآية الموازية في مر 7: 29 وهي لا تمتدح إيمان هذه المرأة). وقال يسوع للأعميَين اللذين آمنا أن ليسوع السلطان بأن يشفيهما: "فليكن لكما حسب إيمانكما" (مت 28:9- 29؛ رج مر 10: 52؛ لو 42:18). إنه يطلب الإِيمان من الذين يطلبون شفاء، وبما أن أهل الناصرة لم يؤمنوا، رفض يسوع أن يصنع في بلدته ما صنعه في كفرناحوم (مر 6: 1- 6).
ولكن يسوع لم يأتِ فقط ليشفي الاجسام المريضة. إنه يُشبّه نفسه بطبيب، غير أن مرضاه هم الخطأة الذين جاء يحمل إليهم الخلاص: "ليس الأصحاء هم الذين يحتاجون إلى طبيب بل المرضى... ما جئت لأدعو الصدّيقين بل الخطأة ثم (مت 9: 12- 13؛ لو 5: 31- 32). وقال: "إن ابن الانسان جاء يطلب ويخلّص ما قد هلك " (لو 19: 10).
وهذا الخلاص الروحي يخضع للايمان، شأنه شأن الأشفية العجائبيّة. وهذا ما نكتشفه في المكان الانجيلي الوحيد الذي فيه يمنح يسوع غفران الخطايا كما فعل مع مخلّع كفرناحوم. إلى الخاطئة التي اظهر لها حبّه أَعلن: "مغفورة لك خطاياك ". ولم يهتم لتعجّب الحضور فزاد: "إيمانك خلّصك، إذهبي بسلام " (لو 48:7- 50؛ يو 3:8- 1). ولكن يسوع يخلّص هذه المرأة من عقاب جسدي استحقّه زناها.
والعلاقة عينها تظهر مراراً بين الايمان وغفران الخطايا في الكرازة الرسوليّة. أعلن بطرس في خطبة قيصرية: "كل من يؤمن به نال باسمه غفران خطاياه " (أع 43:10). وبولس في خطبة إنطاكية بسيدية: "به نبشركم بغفران الخطايا. من امن به يتبرّر من كل ما عجزت شريعة موسى أن تبرّره منه " (أع 38:13- 39). وأعلن بولس في خطبته أمام الملك أغريبا أن المسيح أرسله إلى الوثنيّين "ليفتح عيونهم فيعودوا من الظلمة إلى النور، ومن سلطان الشيطان إلى الله فينالوا بالايمان به غفران خطاياهم وميراثا مع المقدسين (أو القدّيسين) " (أع 26: 18). نشير هنا إلى أنّه يفرض مع الايمان التوبة والارتداد.
هذا الموضوع يلقي النّور على فكر متّى. فبعد أن الغى الحاملين وحيلتهم ليصلوا إلى يسوع، ذكر الايمان الذي بموجبه منح يسوع المريض غفران خطاياه. إذا كان الايمان ضروريًا للحصول على شفاء عجائبي فهو لا يقل ضرورة للخاطئ الذي يمنحه يسوع شفاءً روحيًّا فيحلّه من خطاياه.
نحن لا نتوقّف عند المرحلة السابقة لتكوين النص، ولكننا نقول إن المقطوعة تألَّفت أساساً من مقطعين مختلفين: خبر شفاء ثمّ مناقشة حول غفران الخطايا. وقد تمّ الجمع بينهما في مرحلة لاحقة.

ب- سلطان ابن الانسان (لو 5: 21- 28: مت 3:9- 7؛ مر 2: 6 – 11).
لا تبدّل في طريقة الاخبار: إنتقل متّى بسرعة إلى ردّة الفعل لدى الكتبة، احتفظ بكل اهتمامه بكلمات يسوع. أما مرقس فلم يكتفِ بأن يورد اعتبارات الكتبة: صوّرهم أولاً ثم اوضح ما شككهم في اعلان يسوع: "وكان بين الحضور بعض الكتبة جالسون، فقالوا في أنفسهم: كيف يتكلّم هذا الرّجل هكذا؟ إنّه يجدِّف. من يقدر أن يغفر الخطايا إلاَّ الله وحده " (مر 6:2- 7)؛ لا يفسّر متّىٍ حضور الكتبة ولا يحتفظ بما قالوه إلاَّ اتّهامهم يسوع بالكفر والتجديف معتبرا تفسيرهم باطلاً: الله وحده يقدر أن يغفر الخطايا.
أمّا لوقا فقد اهتمّ بترتيب خبره. فأشار منذ البداية إلى حضور خصوم يسوع: "وكان في أحد الأيام يعلّم، وبين الحضور بعض الفرّيسين ومعلّمي الشريعة جاؤوا من جميع قرى الجليل واليهوديّة ومن أورشليم " (17:5). وتختلف اعتباراتهم في لوقا عما في متّى ومرقس. قال متّى: "هذا الرجل يجدّف " وقال مرقس: "كيف يتكلّم هذا الرّجل هكذا؟ إنّه يجدف " أمّا لوقا فجعل الحاضرين يطرحون السؤال: "من هو هذا الذي ينطق بالتجديف " (5: 21)؟ يتعلّق السؤال مباشرة بهويّة يسوع. وسيعود في الألفاظ عينها في 49:7: "من هو هذا الذي تصل به الأمور حتّى غفران الخطايا"؟ فبالطريقة التي يطرح السؤال، يهيّئ الجواب الذي فيه سيماثل يسوع بينه وبين الانسان (يسوع هو ابن الانسان). ونجد طريقة مماثلة في 22:10: "لا أحد يعرف من هو الابن إلاَّ الآب ولا من هو الآب إلاّ الابن ". النص الموازي في متّى لا يستعمل اسم الموصول "من " فيقول: "لا يعرف أحد الابن إلاَّ الآب ولا يعرف الآب إلاّ الابن " (مت 11: 27).
نحن نفهم بسهولة اعتراض الكتبة: كل خطيئة هي ذنب ضد الله (الانسان في علاقته الجذرية مع الله. لسنا على مستوى علم النفس او الاجتماع...). والله وحده هو من يغفر لمن أغاظه. فحين منح يسوع الغفران للخاطئ فهو قد حلّ محل الله. مثل هذا الموقف غير معقول لدى محاوري يسوع. صُدموا هنا كما صُدموا حين قال للمرأة الخاطئة إن خطاياها غفرت. بدأ الحضور يتساءلون في نفوسهم: " من هو هذا الذي يغفر الخطايا" (لو 48:7- 49)؟ وسببت اعلانات اخرى من يسوع نتيجة مماثلة. فالطريقة التي بها قدّم نفسه على أنّه ابن الله اتّهمته بالتجديف: "كيف تقولون لي أنا الذي قدّسه الآب وأرسله الى العالم: أنت تجدف (تكفر)، لأني قلت: أنا ابن الله " (يو 10: 36).
ونقابل هذا النص خصوصًا بالمشهد الذي يشكّل ذروة محاكمة يسوع أمام السنهدرين. إستحلف عظيم الكهنة يسوع أن يقول له إن كان المسيح. لم يكتفِ يسوع بأن يجيب على السؤال بل زاد:" وأنا أقول لكم: سترون بعد اليوم ابن الانسان جالسًا عن يمين القدرة (الله القدير) وآتيًا على سحاب السماء" (مت 26: 64). تماثل يسوع مع الكائن السماوي الذي أعطاه دانيال اسم "ابن الانسان " (دا 13:7) ومع "الرب " الذي قال عنه داود إنه يجلس عن يمين الله (مز 110: 1). وكانت ردّة الفعل فوريّة: "حينئذ شق رئيس الكهنة ثيابه وقال: "إنّه يجدف (يكفر). أنحتاح بعدُ إلى شهود" (آ 65)! التقارب يفرض نفسه، لأن يسوع في حدث المخلع يطالب بسلطان غفران الخطايا كونه ابن الانسان. اتهموه بالكفر بسبب الفكرة التي كونها عن دوره كإبن الانسان.
عرف يسوع أفكار الكتبة أو حسب اختلافة "رآهم ". هكذا يقول متى. امّا مرقس فهو يتوسّع: "وحالاً عرف يسوع في فكره كل المعرفة ما يجول في أفكارهم، فقال لهم: ما هذه الأفكار في قلوبكم " (8:2)؟ إهتم متّى بأن لا يطيل، ولكن هذا لم يمنعه من أن يصف افكار الحضور وصفًا اخلاقيًا: هي "أفكار شرّيرة" أو "سيئة". هم لم يحاولوا أن يفهموا. حكموا بسرعة واستسلموا لاستعداداتهم السيئة. أمَّا لوقا فلا يعطى حكمًا على أفكار الكتبة، بل يكتفي بالقول: "ما هذه الأفكار" (22:5)؟ لم ينعتها بالسيئة ولم يربط اتهامهم بالكفر. هنا يبتعد لوقا عن متّى في نظرته الى الكتبة والفرّيسيّين.
وإذ أراد يسوع أن يُبرهن أن له الحق في غفران الخطايا، أتم المعجزة، أعاد الصحة إلى المُقعد. ولكنه شرح في الوقت عينه أصل هذا السلطان وطبيعته. إنّه يملكه لأنه "ابن الانسان ". إن يسوع يجترح المعجزة ليعرف محاوروه أن "ابن الانسان له سلطان بأن يغفر الخطايا". فالشفاء العجائبي هو علامة، وهو يشهد أن ليسوع سلطانًا أسمى من سلطان شفاء مريض، سلطانًا يخص "ابن الانسان ".
ولن يصبح تفسيره واضحًا إلاَّ إذا رجعنا إلى دا 13:7- 14: "فإذا بمثل ابن الانسان آتيًا على سحاب السماء فبلغ الى القديم الايام (الله الازلي) وقرب إلى أمامه. وأُوتي سلطانًا ومجدًا وملكًا. فجميع الشعوب والامم والالسنة يبعدونه وسلطانه سلطان أبدي لا يزول وملكه لا يقوَّض ".
هذا القول يؤسس سلسلة من النصوص الانجيلية التي تتعلّق بابن الانسان. تُحدِّثنا عن إعلان يسوع أمام السنهدرين (مت 26: 64) وفيه يماثل يسوع نفسه مع ابن الانسان الذي يصوّره دانيال آتيًا على سحاب السماء. وفي الخطبة الاسكاتولوجية يشير يسوع إلى "ابن الانسان الآتي على سحاب السماء في كل عزّة وجلال " (مت 24: 30) ويشدّد على الطابع المفاجئ والغير المنتظر لهذا الحدث (آ 27، 37، 39، 44). ونقرأ في مقدّمة مثل الدينونة الأخيرة: "حين يأتي ابن الانسان في مجده وجميع ملائكته معه (رج زك 14: 5؛ 1 تس 13:3) يجلس على عرش مجده وتجتمع امامه كل الأمم " (مت 25: 31- 32؛ رج 13: 41: "يرسل ابن الانسان ملائكته فيجعلون خارج ملكوته كل المفسدين والأشرار"). وفي مت 16: 27 نقرأ: "سيأتي ابن الانسان في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازي كلَّ واحد حسب أعماله ". رج مت 28:19: "متى جلس ابن الانسان على عرش مجده في تجديد كل شيء". وهناك قول يعلن فيه يسوع أن "ابن الانسان هو ربّ السبت " (مت 12: 8؛ مر 28:2؛ لو 6: 5). وهناك مقاطع يحل فيها إبن الانسان محلَّ عبد الله وينطبق على يسوع الذي يُتمّ نبوءة أش 53 (مت 17: 22؛ 20: 18؛ 26: 2، 24، 45 وز). وأخيرًا هناك الإعلان الأخير بدون تسمية ابن الانسان: "كل سلطان اعطي لي في السماء وعلى الارض " (مت 18:28).
على ضوء هذه القرائن يتحدَّد "سلطان ابن الانسان " كسلطان أُعطي للديان السامي، كسلطان يمتدّ إلى كل أمم الارض ليتمّ الدينونة العامة. وبفضل هذا السلطان المحدَّد يطالب يسوع بحق غفران الخطايا.
هنا نرى تدرّجًا في كلمات يسوع إلى المخلّع (آ 2) ثمّ إلى الكتبة (آ 6). حين قال: "مغفورة لك خطاياك "، إستعمل صيغة المجهول التي تفهم في اللغة اليهودية تهربًا من ذكر اسم الله. فالمعنى الحقيقي هو: "خطاياك مغفورة من قبل الله " او "الله غفر لك خطاياك ". هذه الطريقة الكلامية تقابل طريقة النبي ناتان. اعترف داود: "اخطأت الى الربّ ". فقال النبي للملك: "الربّ غفر خطيئتك. لن تموت " (2 صم 13:12). وهكذا نرى أن اعتراض الكتبة لم يكن له أساس. لم يقل يسوع: "أنا اغفر لك خطاياك ". بل اكتفى باعلان غفران منحه الربّ.
ومع ذلك، إنطلق يسوع من هذا الإِعتراض وخطا خطوة اخرى: طالب لابن الانسان (اي لنفسه) بحق وسلطان منح الغفران. ويقول النص "على الارض ". هذا ما يميِّز الوضع الحالي لابن الانسان مقابل مجده المقابل حين يأتي على سحاب السماء. هنا نفكر بالمقابلة بين السماء والارض في مت 6: 10، 19؛ 18: 19؛ 23: 9؛ 28: 18 وبالاخص 16: 19؛ 18: 18.
منذ الآن يمتلك يسوع السلطان السامي الذي يتيح له أن يجلس على عرشه من أجل الدينونة الأخيرة. إذن، يحقّ له أن يستعمل هذا السلطان. وهكذا يستبق الحكم الذي سيعلنه في نهاية الأزمنة. فإن أراد أن يقدّم ساعة الدينونة (والحساب)، فليس هدفه أن يعاقب الخطيئة بل أن يغفر ويسامح. لم يأت وقت الحساب بعد، بل يسبقه زمن نعمة ورحمة. ولا ننسَ أن غفران الخطايا هو إحدى العلامات المميّزة في الاقوال النبوية التي تصوِّر خيرات العهد المسيحاني. رج مثلا أش 33: 24؛ ار 31: 34؛ 33: 8؛ حز 16: 36؛ 36: 25- 33.
معجزات يسوع هي علامات. والمعجزة المادية هي علامة خارجية عن معجزة المجيء المسيحاني الذي سيحرّر البشر من قبضة سلطان الشر وينجّيهم من الخطيئة. هذه هي معجزة المعجزات أي المعجزة الحاسمة، معجزة الخلاص المسيحاني الذي يتم بقدرة الله الحي والعامل عبر المسيح. ومعجزات الانجيل هي علامات تشهد على حضور المسيح وسط العالم اليهودي.
المعجزات تدلنا على سرّ شخص يسوع. فحين أرسل يوحنا وفدًا يسأله ان كان هو الآتي، أجاب يسوع بكل بساطة: "إذهبا وأعلما يوحنا بما سمعتما ورأيتما: العميان يبصرون... " (مت 3:11- 5 وز). ولشفاء الممسوسين بُعد خاص أيضا. قال يسوع: "إن كنت بروح الله أطرد الشياطين، فهذا يعني أن ملكوت الله جاء إليكم " (مت 28:12؛ لو 11 :20).
شهد شفاء مخلع كفرناحوم على سلطان يسوع بانه يغفر الخطايا فكان له بُعدٌ عميق جدًا: كشف أن يسوع هو إبن الانسان الذي يتحدث عنه سفر دانيال. وهو يمتلك سلطانًا يعطيه الله للديان السامي الذي يُتم الدينونة في نهاية الأزمنة. وحين غفر يسوع الخطايا، فهو قد استبق الأمور فمارس على الأرض الوظائف التي يمارسها حين يجيء على سحاب السماء تحيط به الملائكة القديسون.

ج- سلطان أعطي للبشر (لو 5: 25- 26؛ مت 8:9؛ مر 2: 12)
ويختتم مرقس ولوقا ومتّى الحدث فيشيرون إلى تأثّر الجمع بما حدث. نقرأ مر 2: 12ب: "تعجبوا كلهم ومجّدوا الله وقالوا: ما رأينا مثل هذا في حياتنا". وعند لو 5: 26: "فاستولت الحيرة عليهم كلّهم فمجّدوا الله. وملأهم الخوف فقالوا: اليوم رأينا عجائب ". السمة المسيطرة في هاتين الخاتمتين هي التعجّب والحيرة: لقد . دهش الناس.
أما متّى فلا يشير إلى ردّة الفعل هذه التي تبدو بشريّة محضة، وتدل على الذين لا يدركون المعنى العميق للحدث. حين لا نفهم نندهش. عند متّى، الناس فهموا وهو سيقول لنا ماذا فهموا. ولهذا فهو لا يقول شيئًا عن تعجّبهم. ونجد هذا الاسلوب عينه في نهاية حدث السير على المياه. عند مرقس، كان التلاميذ في حيرة لانهم لم يفهموا: "فتحيّروا كثيرًا وتعجّبوا، لان معجزة الأرغفة فاتهم معناها: كانت قلوبهم عمياء". أمّا متّى فلا يتحدّث لا عن الحيرة ولا عن العمى. فالتلاميذ فهموا مليّا هذا الحدث، ولهذا أعلنوا إيمانهم: "فسجد له الذين كانوا في القارب وقالوا: بالحقيقة أنت ابن الله (مت 33:14. لا نص موازيًا لهذا النص في لوقا).
حين قدّم متّى الامور بطريقته الخاصة فكّر بقرائه. أراد أن يساعدهم على استخراج العبرة من الحدث. هل فهم معاصرو يسوع أم لم يفهموا؟ المهم هو ما يفهمه المسيحيّون اليوم. يهتمّ متى بأن يعلَم ولهذا يحاول أن يستخلص العبرة من الأحداث. مثلاً مقطوعة الخمير (مت 16: 5- 12؛ ق مر 8: 14- 21)، والقول عن رجوع ايليا (مت 17: 10- 13؛ ق مر 9: 11- 13).
ويرافق فهم الحدث عاطفة خوف: الخوف الذي يحسّ به الأنسان. أمام ظهور إلهي (مت 6:17- 7؛ 27: 54؛ 5:28، 10). خوف مقدس نترجمه مدائح نرفعها إلى الله. يجتمع المديح والخوف على الطريقة التقليدية في رؤ 14: 7؛ 15: 4؛ 19: 5.
لماذا تعجّب الجمع عند مرقس؟ "ما رأينا مثل هذا في حياتنا". وعند لوقا؟ "رأينا اليوم أمورًا غريبة، عجيبة". تولدت الدهشة مما رأوا أي من الشفاء الذي شاهدوه. هذا ما لفت انتباههم، لا الكلمات التي بها أعطى يسوع المعجزة معناها السامي. ولكن الوضع يختلف عند متّى: ما يثير الخوف هو السلطان الذي أعطاه الله للبشر. وقد أختار متى لفظة "سلطان " عمدًا. في آ 6 أكّد يسوع أن لابن الانسان السلطان بأن يغفر الخطايا. فهذا السلطان في حدِّ ذاته يخصّ الله وحده. ولكن حين شفى يسوع المخلّع برهن على أنّه يقدر أن يمارس هذا السلطان الإلهي، سلطان غفران الخطايا. التعارض هو هنا: سلطان يعود إلى الله وحده وقد أعطي للبشر (آ 8): هناك أناس مارسوا سلطان صنع المعجزات. ولكن ما يبدو جديدًا، وما لم يسمع به أحد هو أن ليسوع السلطان بأن يغفر الخطايا: حتّى الآن لم يُعطِ الله مثل هذا السلطان لأحد.
لاشك في أن لوقا تبع مرقس. ولكننا نكتشف على ضوء نصوص لوقاوية أخرى أنّه ينقل خبره في نظرة تختلف عما في النموذج الذي أخذ منه. هناك تقارب أول مع شفاءين أوردهما سفر الأعمال. الأول، كسيح الباب الجميل في الهيكل. قال له بطرس: "باسم يسوع المسيح الناصري قم وامشِ " (أع 3: 6). ارتبطت قدرة يسوع التي تحدث عنها لوقا (5: 17) باسم يسوع، هذا الاسم الذي به وحده نخلص (أع 4: 13). والثاني اينياس. قال له بطرس: "يا اينياس، شفاك يسوع المسيح. فقم ورتّب فراشك بيدك " (أع 9: 34). دل هذان الشفاءان علِى عمل الخلاص يقوم به القائم من الموت بواسطة شهوده، في أورشليم أوّلاَ، ثم على الساحل الفلسطيني، في لدة.
ونقرأ خبر المخلّع على ضوء الغفران الذي منحه يسوع على الصليب. قال اللص ليسوع: "اذكرني يا ربّ، متى جئت في ملكوتك ". أجابه يسوع: "الحق أقول لك: اليوم ستكون معي في الفردوس " (42:23- 43). أجل، من على صليبه بدأ الدينونة، ولكنّها دينونة رحمة لا دينونة عقاب. فهو ما جاء ليهلك العالم بل ليخلّص العالم.
وهكذا نكتشف موضوعًا لوقاوًّيا خاصًّا هو موضوع مصالحة الله مع الانسان، يعبِّر عنه النص حتى في الجسد بواسطة العودة الى الصحة. هذه هي فاعليّة كلمة يسوع وسلطانه: إن الرجل الذي يؤمن قد حمله إيمان اخوته، فقام واقفًا أمام الجميع (آ 20؛ رج أع 16:3: "فالايمان بيسوع هو الذي جعله في كمال الصحة"). بعد أن شفي ذهب إلى بيته وهو يمجَد الله يرافقه شهود دهشوا من شفائه (آ 25- 26؛ رج أع 4: 21: "كان الناس كلّهم يمجّدون الله ").
حين يقرأ يهودي هذا الخبر الانجيلي، تبدو العلاقة واضحة بين الخطيئة والمرض. ويبرز سؤال ساعة يعتبر الانسان انه يغفر الخطايا. هذه النقطة هي أساس الجدال عند مرقس. أمّا لوقا فعرف ما يؤثر كل التأثير في عقل القارئ اليوناني: إن سلطان ابن الانسان على باطن المخلع (غفران الخطايا) له تأثير على. جسده. لهذا ختم الخبر على الشكل التالي: "رأينا اليوم عجائب ". فالنظر إلى هذا الانسان المعافى (رج أع 4: 10) يُتيح للجميع بأن يقرّوا بآنيّة الخلاص (اليوم، الآن، الرب يخلّص) الذي ظهر في ميلاد يسوع (2: 11: "مخلص هو المسيح الربّ " وأعلن في الناصرة (4: 21). ان بركة الله تظهر حقُّا بصورة ملموسة وسط شعبه عبر قوة الذي أرسله في ملء الروح القدس ليشفي المرضى ويغفر الخطايا.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM