الفصل السابع والعشرون: شفاء الأبرص
 

 

الفصل السابع والعشرون
شفاء الأبرص
12:5-16؛ مر 1 :40-45؛ مت 8: 1-4

1- الشفاء: أريد فاطهر (آ 12- 13)
نرى في شفاء الأبرص كيف يعمل يسوع في إحدى المدن التي يزورها خلال كرازته المتنقلة (4: 44). وجد أبرص أمامه في تلك المدينة، مع أن على البرص أن يتجنّبوا المدن. نقرأ في لا 45:13: "فعلى الأبرص الذي أصابه هذا المرض أن يمزّق ثيابه، أن يطلق شعره ولا يربطه، أن يغطّي لحيته ويصرخ: نجس، نجس. ويكون نجسًا ما أقام فيه هذا المرض. ويبقى نجسًا فيعيش منفردًا، وتكون إقامته خارج المخيّم (أو البلدة) ".
قال لوقا: غطّى جسده البرِص. هذه ملاحظة طبيب. والبرص مرض لا يُشفى، فالذي يصاب به يعتبر ميتَا.
في العقلية البيبلية، قدرة الله وحدها تستطيع أن تشفي من البرص. هكذا صرخ موسى حين رأى مريم مصابة بهذه البلوى: "اللّهمّ اشفها" (عد 13:12). وسيكون النبيّ أليشاع الوسيط بين الله ونعمان السوريّ في مرضه. قال ملك إسرائيل: "هل أنا الله لكي أخلّص هذا من برصه " (2 مل 7:5)؟ وانتظر نعمان أن يدعو أليشاع اسم الربّ الهه فينجو من مرضه (2 مل 5: 11). ويبدو الشفاء من هذا المرض علامة مسيحانيّة. حين أرسل يسوع تلاميذه قال لهم: "اشفوا المرضى، اقيموا الموتى، طهّروا البرص واطردوا الشياطين" (مت 10: 8). وحين جاء موفدا يوحنا يسألان عن "هذا الذي يجيء" أعطاهما يسوع علامة عن مجيء المسيح فقال: "العيمان يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون " (مت 11: 5؛ رج لو 7: 22). أما في لو 17: 11- 19، فالبرص العشرة يرمزون إلى شعب المخلَّصين.
أين شفى يسوع هذا الأبرص؟ في مدينة من مدن الجليل. نشير هنا إلى أن الجليل كان أوسع مما نعرفه اليوم. متى شفاه؟ هذا ما لا يقوله الإنجيليّون الازائيّون. يقول مر 1: 39- 40: "كان يبشّر في مجامعهم ويطرد الشياطيَن، وجاءه أبرص". لم يفصل مرقس بين الآيتين، أما متى ولوقا فأوردا مقدمة للقاء يسوع بالأبرص. قال مت 8: 1: "ولما نزل يسوع من الجبل، تبعته جموع كبيرة. وها إن ابرص دنا منه... " حين شفى يسوع هذا الأبرص، إنتصر على نجاسة تنتقل بالعدوى وتُعتبر أكبر عقاب يصيب الإنسان (تث 28: 27، 35). البرص علامة الخطيئة التي تطرد الإِنسان من الجماَعة: أي الجماعة الدينيّة والجماعة المدنيّة. تمنعه بصورة خاصّة من المشاركة في الصلاة. هذا ما حصل لعزيا الذي أراد أن يقرِّب البخور في الهيكل. ولما رأوا البرص في جبهته اسرعوا في إخراجه. وهو أيضًا اضطر أن يخرج لأن الربّ ضربه (2 أخ 16:26- 20). ولكن يسوع ألغى الحدود بين الطاهر والنجس، فأعطى هكذا علامة عن رسالته.
أمّا لوقا فيبدأ خبر شفاء الأبرص على الوجه التالي: "وحصل انه اذ كان في احدى المدن، وها إن رجلاً" (5: 12). هذه ملاحظة غامضة عن المكان. وتقابلها ملاحظة غامضة عن الزمان في 17:5: "وحصل في احد الايام ".
أحسّ هذا الإنسان بشقائه فلم يهتّم بالشريعة، ولا بالفريضة التي تفصله عن سائر البشر، ولا بخبرته المرّة من ان هذا المرض لا يشفى. بالنسبة إليه، قوة يسوع هي فوق الشريعة وفوق الموت.
إرتمى على وجهه إلى الأرض فدلّ على شقائه، وتوسّل طالبًا فدلّ على ثقته. أعلن أنه يؤمن أن قدرة الله نفسه تعمل فيه. قال: اذا حصل وأردت فأنت تقدر أن تطهّرني، ان تشفيني. توسّل الى مراحم يسوع: إن شئت... يسوع هو أمل حياته. فإن اراد، استعاد الأبرص وجوده وحياته مع الله ومع البشر.
عامله يسوع بالرحمة. مدّ يده ولمسه (رج 44:8؛ أع 4: 30). لم يهتمّ يسوع بالشريعة الموسويّة لأنه يمارس الرحمة. وحين لمسه أدخله في جماعته، أعاده إلى جماعة الله وجماعة البشر.
"أريد فاطهر". إستعاد يسوع توسّل الأبرص فصار توسّل الأبرص وكأنّه توسله. أما حمل أوجاعنا وأخذ عاهاتنا؟ هذه هي إرادة يسوع، وهذه الإرادة طهّرته من البرص وردّته إلى الله وإلى شعائر العبادة.
كان يسوع في إحدى المدن، "وفي تلك المدينة طهّر رجلاً مملوءًا بالبرص ". فالمدينة تبدو الموضع الذي تنتشر فيه النجاسة. ولكن يسوع يستطيع أن يعيد الصحة الى ملء البرص هذا، كما ملأ شِباك سمعان بالسمك.
يلاحظ لوقا أن المريض ارتمى أمام يسوع وعبّر عن طلبته. الفعل المستعمل هنا (دايستاي= طلب، توسّل) خاص بلوقا. نجده مرّة واحدة في مت 38:9 ("أطلبوا من ربّ الحصاد") وست مرّات في الرسائل البولسية. ولكننا نجده 15 مرّة عند لوقا (8 في لوقا و7 في أع).
أمّا عند مرقس فارتمى الأبرص على ركبتيه أمام يسوع وتوسّل (باراكالو). يستعمل مرقس هذا الفعل وحده هنا. ويربطه بموقف جسديّ، مثل لوقا. نحن أمام توسّل إلى يسوع الذي له السلطان أن يشفي، بل يشفي من البرص. واختلف مرقس عن متّى ولوقا، فلم يجعل أي لقب ليسوع في فم المريض. قال متّى: "يا ربّ، إن أردت " (2:8). ومثله قال لوقا. أمّا مرقس فقال فقط: "إن أردت ".
بكلمة يسوع طهر الأبرص، بكلمة يسوع أُعلن طاهرًا. فيسوع يمتلك قدرة النبيّ أليشاع الذي شفى نعمان السوريّ، كما يمتلك قدرة الكهنة الذين يعلنون أن فلانًا مصاب البرص أو يعلنون طهارته وشفاءه من بلواه. أمّا يسوع فيتجاوز أليشاع كما يتجاوز الكهنة في إسرائيل. كلمته وحدها تكفي: هي تطهّر وتعلن الأبرص طاهرًا وجديرًا بأن يعود إلى الجماعة.
قال لوقا: مدّ يسوع يده ولمسه. وهكذا دلّ على العطف والشفقة (رج مت 3:8). أمّا مرقس فقال: "اشفق عليه يسوع ومدّ يده ولمسه" (1: 41). ولكن هناك قراءة صعبة نجدها خاصّة في النصّ الغربي: "اغتاظ (غضب) يسوع، ومدّ يده... ". كيف فسّر الشُرّاح غضب يسوع هذا؟ قال القديس إفرام: نقصت ثقته حين قال ليسوع: "إن شئت ". أو: أجبر يسوع على التوقف عن الكلام. أو: هي ردّة فعل المخلّص في صراعه مع قوى المرض والموت، أو في مواجهته للشيطان. وقد يكون انزعج يسوع لأن الأبرص تعدّى الشريعة. وهذا يدلّ على موقف دقيق من المخلّص تجاه الفرائض الموسويّة. ولكن إن كان الأبرص اقترب من يسوع فتجاوز الشريعة، فيسوع أيضا تجاوز الشريعة حين لمس الأبرص. وقد يكون الأبرص عارض ارادة يسوع بأن يعظ متحاشيًا التجمّعات (آ 35- 39، 45)، أو لأنه لا يريد أن يظهر على أنه المسيح وابن الله (آ 34، 43- 44). فنحن نقرأ في آ 43: "انتهره يسوع وصرفه في الحال ". نفهم هذا في اطار الصمت الذي يفرضه يسوع على اعماله. ولكن من يستطيع أن يمنع قدرة الله أن تشع وتنتشر!
في مر 1: 41 زاد الانجيليّ لفظة "له ". "قال له " (قال متّى ولوقا فقط: قال). وفي آ 40 زاد مرقس وحده "له" . سجد وقال له. من الواضح أن مرقس يشدّد على العلاقة بين يسوع والأبرص، كما يُبرز واقع الاتصال وعمقه.
في آ 42، أشار مرقس إلى ذهاب البرص وتطهير الأبرص (زال البرص، طهر). أما لوقا فلم يحتفظ إلاَّ بالقسم الأول: "زال عنه البرص". واحتفظ متى بالقسم الثاني بعد أن حوَّله. البرص هو الذي طهر عند متّى، لا الأبرص كما عند مرقس. عملان متلازمان حيث الأوّل (ذهاب البرص) هو السبب الضروري للثاني (طهارة). سوف نرى لماذا كان مرقس سخيُّا بالكلام.

2- أمر يسوع: لا تخبر أحدًا (آ 14- 16).
إن آ 43 خاصة كلّها بمرقس. فالفعل "انتهر" (كلفه بقساوة) يبدو قاسيًا (رج مر 14: 5: وبّخ الحاضرون المرأة التي سكبت الطيب على رأس يسوع). وفعل "صرف " أو طرد الذي يحتفظ به مرقس للحديث عن طرد الشياطين (34:1، 39؛ 15:3، 22؛ 13:6) مع الظرف "حالاً" يُبرز ما في كلام يسوع من حدّة. وأخيرًا يقول يسوع: لا تخبر "أحدًا".
إن يسوع لا يعمل المعجزات ليمجّد نفسه أو ليؤمّن لنفسه دعاية واسعة في محيطه. قال أع 38:10: "مرَّ وهو يعمل الخير، ويشفي كلّ الذين استولى عليهم الشيطان، لأن الله كان معه ". وقال متّى عن عبد الله ومختاره، عن يسوع: "لا يخاصم ولا يصيح، وفي الشوارع لا يسمع أحد صوته " (مت 19:12). فيسوع بعد أن شفى المرضى أمر بقساوة بأن لا يخبروا عنه، بأن لا يعلنوا هويّته أمام الناس (مت 12: 15- 16).
أمرت الشريعة الأبرص بأن يذهب الى كاهن يُعلن شفاءه، يعلن أنه طهر (لا 13: 49). بعد هذا يقدّم ذبيحة عن طهره (لا 14: 1- 32). لقد أراد يسوع أن تتمّ الشريعة وقد كان هو نفسه خاضعًا للشريعة لمّا قبل الختان وقدّم والداه عنه ما تفرضه الشريعة (لو 2: 21- 24). ولكن، يجب أيضًا أن تصل الشهادة إلى الكهنة فيعرفوا أن زمن الخلاص قد حلّ. وقد أعلن النبي أشعيا أن زمن الخلاص يحمل الشفاء إلى جميع المرضى: "حينئذ تتفتّح عيون العميان وآذان الصمّ، ويطفر الأعرج كالغزال ويترنّم لسان الأبكم " (أش 35: 5- 6). وقال عبد الله في اش 61: 1: "روح السيّد الربّ عليَّ. لأن الربّ مسحني. أرسلني لأبشّر المساكين وأعصب القلوب المنكسرة وأُنادي للأسرى بالحريّة وللمسجونين بإطلاق سراحهم ". إن مواعيد السعادة هذه أثارت لدى المسبيين في إسرائيل أناشيد الحمد لله المخلّص (اش 61: 10- 11)، فما يكون تأثيرها على شعب الله بعد أن تحقّقت.
أجل، ما زالت الأخبار حول عمل يسوع الخلاصي تنتشر. منعهم من أن يتكلّموا، ولكن الخبر يُعلَن في كل مكان. فالنعمة تتضمّن قوة تدفعها إلى أن تنطلق إلى الأمام فلا يقف في وجهها حاجز. وهي تحتجب أمام جموع جديدة ترغب في تقبّل كلام يسوع وقوة خلاصه.
هنا ترد كلمة "شهادة" في الأناجيل الإزائيّة الثلاثة. تدفع هذه الكلمة على شهادة قانونيّة ضد أحد (مر 6: 11) أو أمام أحد (مر 13: 9). في 13: 9 هي شهادة موآتية أو مهمّة، وهذا يتعلّق بالطريقة التي تقبل. إن قبلوا شهادة الرسل، كانت الشهادة معهم، وإلا كانت ضدّهم. ونقول الشيء عينه عن هذا النصّ: سيشهد هذا الشفاء لهم إن هم قبلوه وعلموا أن ملكوت الله جاء. وسيشهد ضدّهم إن لم يقبلوا بالآية. هي شهادة تُحمل إلى الكاهن الذي يكتشف الشفاء، ومن خلاله إلى السلطات اليهوديّة، بل إلى الشعب كلّه.
ونقرأ آ 45 عند مرقس التي غابت عند متّى، وحوّلها لوقا تحويلاً جذريًا. ما إن شُفي الأبرص حتى تعدّى أمر يسوع: "إيّاك أن تخبر أحدًا". خرج وأخذ يذيع بقوة الحدث الذي عاشه. ومع أن يسوع اختفى في أماكن مقفرة، إلا أن الناس الذين تأثّروا بهذا الكلام كانوا يجيئون إليه من كل مكان.
أمره يسوع أمرًا عسكريًّا، دعاه وألحَّ عليه (هذا هو معنى فعل "بارانغالو") بأن يسكت. ولكن لوقا يشير إلى أن الكلمة ما زالت تنتشر بحريّة. كانت تعبر الأماكن وتجتاز الحواجز (هذا معنى الفعل: ديارخستاي). فهذا الفعل اليونانيّ الذي يستعمله لوقا 32 مرّة في إنجيله وفي سفر الأعمال يدلّ على ما يفعله يسوع أو شهوده. أجل، لقد صار هذا الأبرص شاهدًا ليسوع وهو "لا يقدر إلاَّ أن يتحدّث بما رأى وسمع " (أع 4: 20).
نجد في هذا الخبر نقطة أولى ونقطة أخيرة: إن مسيرة الأبرص المحددة بالزمان والمكان، قد ارتدت فاعليةً لا حدود لها حين دخل هذا الرجل من جديد في الجماعة التي طُرد منها. فبالعبور من الصلاة الفرديّة (آ 40) إلى مجيء عدد كبير من الناس (آ 45) نجد ظاهرة انجذاب حول يسوع، هذا الشخص الذي هو اجتذاب كليّ ومستمر.
تحرّر الإنسان من عوائق مرضه الجسديّة والدينيّة، فلم يعد يقدر أن يمتنع عن إعلان ما حدث له بقوّة. وعودته إلى جماعة المؤمنين صارت علامة تدعو هؤلاء الأصحّاء والأحرار ظاهريّا إلى أن يجوعوا ويعطشوا إلى بر الله الحقيقيّ. وهم يستطيعون أن يطلبوا هذا البرّ منذ الآن لدى يسوع اللامنظور. بعد هذا صار خروج الرجل الذي نعم بالمعجزة رسالة. فكما ارسل التلاميذ، كذلك أُعطي الرجل السلطان بأن يعلن الملكوت (مر 15:3؛ 7:6، 12- 13). وهذه الرسالة لن تكون إلا فاعلة (مر 6: 30) لأن دورة العلاقات التي نُسجت بين يسوع والرجل (آ 40: قال له الأبرص... قال له يسوع) أدخلت الرجل في حياة حميمة جدًا وفي غنى لا ينفذ.
إن رسالة ابن المعجزة هي نتيجة طرده بقساوة من قبل يسوع. طريقته تشكّكنا! ولكن الأبرص نجا من مرضه وأُعيد إلى الحياة (آ 42: طهر) بأسلوب مماثل. ردّة الفعل الأولى لدى يسوع تجاه الأبرص هي "الغيظ او الغضب " (آ 41). وحركة الرفض هذه هي جواب يسوع، وهو جواب يهيّئ مباشرة الشفاء. فيسوع لا يتحمّل حضور الأبرص. ولكن الأبرص لا يُطرد في ذلك الوقت. ردّة فعل يسوع هي ضد البرص والأبرص، لا ضد الانسان. وحين جاء هذا "الغضب" من المسيح على البرص الذي هو قوة موت، ألقى بقدرته التي تمنع هذا الإنسان من أن يبقى أبرص بعد: قُهر مرضُه وقُهر معه سببُ المرض.
ولمّا تحرّر الأبرص من كل قيد وعاد "إنسانًا"، لم يعد مكانه قرب يسوع كفرد منعزل. فمرضه الذي فرض عليه هذه العزلة قد زال الآن. ولهذا، يطرده يسوع كفرد منعزل. هذا الواقع لا يُطاق لدى يسوع، لدى رجل ينعم بالعافية، كما لا يًطاق البرص عند مريض. فوضعُ الابرص لدى يسوع هو وضع الإنسان المخلَّص: لقد صار عضوًا في الجماعة، في جماعة المؤمنين، في شعب الله بَطريقة عجائبيّة. إنه نبيّ وعليه أن يعلن عظائم الله. وهذا ما سوف يعمل.
ماذا أعلن هذا الرجل؟ هو لم يعلن شفاءه، وشيوع منعه من ذلك (آ 44 أ): أعلن الحدث الفريد الذي عاشه بحضور آخر، اسمه يسوع ولقبه المسيح؛ أعلن (كرز) بالصوت العالي، نشر الخبر. هذا يدلّ على أمانة الرجل الكاملة التي أثّرت فيه وأدخلته في لقاء فريد أتاح له الحياة. وحين صار نبيًّا أعلن هذه الكلمة.

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM