الفصل الرابع والثلاثون: المسيح هو الملك المصلوب

الفصل الرابع والثلاثون
المسيح هو الملك المصلوب
23: 33- 43

يبتعد لوقا عن متى ومرقس في خبر الآلام. وهذا ما نكتشفه بشكل خاص في هذه المقطوعة التي تبدو خاصة بالانجيل الثالث لاسيّما في آ 40- 43. نبدأ فندرس بنية النصّ ونقابله بعض الشيء مع مر. ونبدأ مع آ 33- 34 اللتين توردان الخبر حول صلب يسوع مع اللصين.
1- مدخل إلى النصّ
أ- المسيح الملك
نحن في جو "المسيح الملك". إذا عدنا إلى 2 صم 5: 1- 3، نجد أصول انتظار المسيح الملك الذي خرج من بيت داود. وإذا عدنا إلى كو 1: 12- 20 نكون أمام مديح للمسيح الذي هو صورة الله غير المنظور وبكر القائمين من بين الأموات. فيه تمّ "كل شيء". له الأولويّة الشاملة والملك الذي لا يضاهيه ملك. أما الانجيل الذي ندرس فيبيّن كيف أنّ تاريخ الخلاص الذى بدأه الله مع البثر، قد وصل إلى هدفه وغايته مع المسيح. ثم يدلّ على المكانة الأولى التي يحتلّها في هذا التاريخ صليبُ يسوع.
لم يتمّ رجاء إقامة مملكة داود بتنصيب ملك أرضي، لكن بتنصيب المخلّص المصلوب. فالمسيح على الصليب هو الملك الحقيقي. ليس ملكاً قديراً مثل ملوك الأرض، بل رباً متواضعاً وضعيفاً. وقد صار إلى هذه الحالة لأنه أحبّ أخصّاءه حتى الغاية، حتى آخر حدود الحب (يو 13: 1).
وإذا عدنا إلى كو 1: 12- 20، فالنشيد لا يبرّر أبداً نظرة إلى مملكة مسيح تحمل المجد الأرضي. فالمسيح الملك لا يقابل "المسيح الكوني" الذي تتحدّث عنه النصوص الغنوصية. فالنصّ يتكلّم أيضاً عن غفران الخطايا (كو 1: 14). ويعظّم المسيح لا لأنه فقط بكر (كو 1: 15) جميع الخلائق، بل لأنه أيضاً بكر القائمين من بين الاموات (كو 1: 18): لقد أقام السلام بدم صليبه (كو 1: 20).
وهكذا يكون لنصّ لوقا الذي ندرس وظيفة في إعلان المسيح كملك على الكون، لأنه كذلك حين يكون المسيح المصلوب (1 كور 2: 2).
ب- ملاحظات في لو 23: 35- 43
نلاحض أولاً عدداً من التفاصيل تبرز أموراً تشدّد عليها هذه المقطوعة. إن لوقا يورد عدداً من النصوص المسيحانية التي تلفت نظر القارئ بأهميتها وتنوّعها. وهو يتحاشى قدر المستطاع الألقاب السياسية. وإن تحدّث عن "ملك" اليهود، فبسبب الكتابة التي وضعت على الصليب (آ 37) فذكرها الانجيل الثالث.
وإذا جعلنا هذا الأمر جانباً، لا يورد لوقا إلاّ ألقاباً دينية تعبرّ عن إيمان الجماعة المسيحية: مسيح الله. المختار. المسيح. وهو يبعد بهذه الطريقة كل التباس في قراءة خبر الآلام قراءة تحصر نفسها في التاريخ، وتوجِّهنا نحو الفهم الحقيقي لما حصل بين العشاء الأخير ويوم القيامة. نحو الفهم الحقيقي لسّر المسيح (كرستولوجيا) وسّر الخلاص (سوتيريولوجيا).
إن التجاديف الموجّهة إلى يسوع تجعلنا نستشعر الجواب الذي قدّمته الجماعة المسيحية المتأثّرة من هذا الموقف: "حقاً! يسوع هو المسيح"! حقاً إنه خلّص "الآخرين". ويصدر من التعارض بين لقب سياسي (ملك اليهود) والكلمة الواردة في آ 43 (اليوم تكون معي في الفردوس)، المعنى الحقيقي لملكوت المسيح الشامل. فسيادته مؤسّسة على عطاء ذاته للآخرين، على تتميم دعوته التي هي خلاص الآخرين، خلاص كل ما هلك. وهذه السيادة تمارَس حين نتّحد به بالألم وبموت خفيّ نقبله في الإيمان.
ولفظة "الفردوس" قد تحرّك لدى السامعين أفكاراً متنوّعة. مهما يكن من أمر، لسنا أمام "فردوس ضائع" نجده في البدايات البيبلية. ولسنا أمام بلاد عجيب نتخيّله في صور بعيدة عن الواقع. ولسنا أمام تمثّلات جليانية يلعب فيها الطعام والشراب ووفرة اللذّة دوراً كبيراً. الكلمة التقليدية التي استعملها تعني: "معي" في السعادة. الفردوس هو حياة مع المسيح الممجّد، مع إله الأحياء.
2- بنية خبر الصلب (23: 33- 39)
وازى لوقا مر 15: 22، فأشار إلى وصول الموكب إلى الموضع المسمّى جلجلة. ولكنه سمّاه حالاً في ترجمته: "الموضع المسمّى الجمجمة" (آ 33). وفي العبارة نفسها يتحدّث في عبارة موجزة جداً عن صلب يسوع وصلب اللّصين: "صلبوه هناك هو والمجرمين، أحدهما عن يمينه، والاخر عن يساره". وهكذا هيّا الانجيلي منذ الآن المقطع الأخير الذي هو خاص به (آ 40- 43). يتضمّن المشهد منذ البدء، لا صلب يسوع وحسب، بل صلب اللّصين أيضاً (سيذكره مر 15: 27 فيما بعد).
وأورد لوقا إمالة صغيرة فسمّى الاثنين الآخرين اللذين حكم عليهما معه: "كاكورغوس" الشقيّ، الذي عمل شراً. أما مرقس فسمّاهما "اللّصين"، "المجرمين" (15: 27). وهكذا دلّ لوقا لا على أننا أمام أعضاء في حزب الغيورين. هذه الإشارة تدلّ على التعارض مع "البار" (الصدّيق) الذي يتحمّل هذا المصير دون أن يكون اقترف جرما (آ 41). فتتجاوب حياته مع نبوءة يسوع التي أخذها من أش 53: 12: "أحصي مع الخطأة" (22: 37). ثم إننا نجد هنا مرة ثانية وفي ساعات يسوع الأخيرة، الشَّر والخطيئة اللذين أرسل ليغلبهما ويشفينا منهما.
وبعد ذلك تأتي آ 34 أ: كلمة المتشفّع من أجل الذين قاموا بهذا العمل المشين. "قال يسوع: يا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يدرون ما يفعلون". لا نجد هذه العبارة القصيرة إلاّ عند عدد من الشهود. والجدال قائم لنعرف هل هي أصيلة في نصّ لوقا.
يعتبر الشّراح أن النقد الخارجي لا يكفي. فهناك النقد الداخلي: إن خبر موت يسوع يهيّئ خبر موت اسطفانس (أع 7: 60) الذي غفر لراجميه كما غفر يسوع لصالبيه. ثم إن الكرازة الرسولية ارتبطت بكلمة يسوع هذه، فدلّت على أن خطيئة الذين صلبوا يسوع هي معذورة بالجهل. قال بطرس: "إني أعلم أنكم فعلتم ذلك عن جهل" (أع 3: 17). وقال بولس في أنطاكية بسيدية: "لم يعرفه الرؤساء، فأتمّوا، بالقضاء عليه، أقوال الأنبياء" (أع 13: 27). إن هذه العبارة المذكورة في لوقا (آ 34 أ) تتوافق كل الموافقة مع لاهوته (رج 6: 27- 28: أحبّوا أعداءكم. أحسنوا إلى من يبغضكم، باركوا لاعنيكم، صلّوا لأجل الذين يفترون عليكم) ولا سيّما في نظرته إلى خبر الآلام.
قال بعض الشّراح إن هذه العبارة في نصّ مرقس دليل قاطع على صحتها. فما هو الوضع؟
غابت هذه الآية من مخطوطات عديدة صدرت عن مناطق مختلفة. ووُجدت بشكل خاص في التقليد الغربي. فقال بعضهم: هي ردّة فعل معادية لليهود: تخطّئهم وتبرّر الرومان. وقال آخرون: انطلق النسّاخ من كلام اسطفانس في أع 7: 60 فجعلوا هذا الكلام في فم يسوع. ولكن، كما قلنا سابقاً، تبقى هذه الآية صحيحة وهي في محلّها في انجيل لوقا.
وهذا الغفران الذي طلبه يسوع لصالبيه، سوف يمنحه "للصّين" اللذين حوله. وهكذا يتوجّه الخبر كله نحو حوار يسوع مع هذين "الشقيين". في السابق، صوّرت بإيجاز مختلف الأعمال التي ترتبط بالحدث. أما الآن، فها هو الانجيلي يتوسّع مطوّلاً لكي يترك أثره في قلب القارئ الذي يحتاج هو أيضاً إلى غفران الله.
بعد هذا يورد لوقا في ألفاظ أخذها من مرقس اقتسام الثياب بالقرعة. وذلك حسب مز 22: 29 (كما يرد في السبعينية): "ثم اقتسموا ثيابه واقترعوا عليها" (آ 34 ب). غير أن لوقا زاد حاشية صغيرة حول دور الشعب في الصلب، فميَّزه عن دور الرؤساء: "وكان الشعب واقفين هنا ينظرون". لا يستعمل لوقا عادة لفظة "أوخلوس" التي تدلّ على الجمع (القريب من الرعاع والذي لا وجه له). بل لفظة "لاوس" التي تدلّ على الشرف والكرامة، وقد استعملت مراراً للحديث عن "شعب العهد". فالمقابلة مع الرؤساء، والتعارض بين قسمَي الجملة، جعلا نظرة الانجيلي راضية عن الشعب فنحن بعيدون جداً عن نظرة "الفضوليين" (الذين لا يهمّهم الأمر). وهذا التفسير يوافق كل الموافقة 23: 48 حيث تذكر "الجموع" (أوخلوي)، التي جاءت لترى "هذا المشهد" (هذا المنظر الغريب). ومع ذلك قيل عنها بعد موت يسوع أنها عادت وهي تقرع الصدور. أتراها رجعت إلى الرب فصارت نواة شعب الرب؟ دلت على حزنها ووصلت إلى التوبة التي طلبها يسوع للنسوة اللواتي كنّ يبكينه (23: 28). وهذا ما نجده في كل لو: يجعل الانجيلي الشعب بجانب يسوع، ويميّزه عن رؤسائه ووجهائه (رج 3: 21؛ 7: 29؛ 19: 48؛ 20: 1، 26؛ 23: 13- 18).
أما الرؤساء، فأخذوا يهزأون بيسوع. قالوا: "خلّص آخرين، فليخلّص نفسه إن كان هو مسيح الله، المختار" (آ 35 ب). لم يقل لوقا: "المسيح، ملك اسرائيل" مثل مر 15: 32، بل كتب "مسيح الله المختار". وهكذا كيّف النصّ مع قرّائه المسيحيين الآتين من العالم الوثني. أما لقب "مختار" الذي فسّر هنا تفسيراً مسيحانياً، فيعود بنا إلى نشيد عبد يهوه (أش 42: 1) الذي أدخله لوقا أيضاً في مشهد التجلّي (9: 35).
والجنود الرومان (يُذكرون هنا للمرة الأولى) شاركوا في هزء الرؤساء بكلمات مشابهة. اقتربوا منه ليقدّموا له الخل وقالوا: "إن كنت أنت ملك اليهود، فنجِّ نفسك" (آ 36- 37). لقد استعملوا عبارة "ملك اليهود" (آ 38). إن التقارب بين هذه التسمية (ملك اليهود) وهزء الجنود، يعطي الكتابة على الصليب طابع الهزء. هي لا تدلّ في لو على خطيئة يسوع (عكس مر 15: 26: علّة الحكم). من خلال هذه المجموعة نشعر أن لوقا يعدّ للحوار الذي سيبدأ بين يسوع والشقيّين.
على مستوى التأليف، يبدو الرباط وثيقاً مع ما سبق بواسطة "تجديف" أحد الشقيين مع ألفاظ تكاد تكون مماثلة: "أما أنت المسيح؟ فنجِّ نفسك، وإيّانا أيضاً" (آ 39). وهكذا تتعاقب ثلاثة أقوال هزء، يميّزها لوقا من جهة الاسلوب، فيستعمل في كل مرة فعلاً مختلفاً. بدأ الرؤساء (رؤساء اليهود) فتكلّموا. ثم الجنود (الرومان)، وأخيراً أحد الشقيين. إن الأقوال الثلاثة تشتمل على ذات العناصر: (1) كلام إلى المصلوب. مرتين مع لقب ملك من قبل الوثنيين. (2) دعوة هازئة إلى يسوع بأن "يخلّص نفسه". (3) وفي المرة الثالثة مع زيادة "ويخلّصنا نحن أيضاً".
هذا التشابه ليس وليد الاسلوب والتأليف. إنه يعبرّ بشكل لافت عن موضوع الحوار كله: النجاة بواسطة المسيح. خلاص يأتي من الصليب. ما يعلنه الرؤساء هزءاً سينكشف حقيقة وواقعاً: لقد خلّص آخرين ليخلّص نفسه. غير أن هذا الخلاص يتمّ بطريقة تختلف كل الاختلاف عمّا في المعنى الحرفي من فمهم. نحن بعيدون جداً عن "حفظ حياة الجسد". إن الانتقال من الهزء إلى الواقع، ومن التجديف إلى الحقيقة، يتمّ بزيادة بسيطة: "ونحن أيضاً".
إن يسوع لا يستطيع أن "يخلّص" نفسه. فحياته هي في يد الآب. خرجت من الآب وهي ستعود إليه (23: 46: "يا أبت، في يديك استودعك روحي"). لقد رفض يسوع الخلاص لحياته الخاصة منذ بداية مسيرته المسيحانية، وذلك حين قاده المجرّب إلى الخطر (4: 9 ي: ألقِ بنفسك من ههنا إلى أسفل... يوصي ملائكته بك). والآن، ها هو يرفض هذا الخلاص. إن خلاص حياته لا يتحقق بقدرته الخاصة وبمشيئته. حياته قد وضعها في يد الآب وهو يقرّر.
ولكن يسوع يستطيع أن "يخلّص أولئك الذين أخرجهم الآب من العالم وأعطاه إياهم" (يو 17: 6). وهذا هو الموضوع هنا. فما شكّل عمل يسوع كلّه هو أن يطلب ما هلك. أن يعطي الخطاة خلاص الله. أن يشفي الاجساد والنفوس. كل هذا قد تحقّق في الساعة الأخيرة من حياته.
3- الحوار مع الشقيّين (23: 40- 43)
تفرّد لوقا فقال عن الشقيين اللذين صُلبا مع يسوع إنهما كانا "معلّقين" (آ 39). لقد احتفظ بفعل "صلبا ليسوع وحده، إكراماً واحتراماً (عكس مر 15: 32 ب). فحسب نصّ مر، شارك "اللصان" في التجديف الموجّه إلى يسوع (مر 15: 32 ب؛ مت 27: 44). أما عند لوقا، فردّ "اللص الصالح" على تجاديف رفيقه ووبّخه: "أنت لا تخشى الله. أنت تقاسي الحكم نفسه. أما نحن فبعدل نعاقب. أما هو فلم يفعل شيئاً" (40- 41).
ما أراد أن يقوله هذا الشقي: يجب أن يتوقف التجديف واللعن أمام الموت. في هذه الحالة لم يعد من مكان إلا لمخافة الله الذي هو سيّد الحياة والموت (12: 5). نحن معاً، الواحد مع الآخر، في مصير واحد، ولا نستطيع أن نتخلّص من وضعنا المشترك. هذا صحيح بشكل من الأشكال من أجل كل إنسان، ومن أجل كل ميت. ولكن يُزاد على ذلك هنا: نحن نقاسي عقاباً عادلاً. أما ذاك الآخر الذي تتوجّه إليه التجاديف، فهو يقاصي آلامه ظلماً.
لن نتساءل كيف عرف الشقي الثاني هذا الأمر، ولا كيف تكوّنت نظرته إلى يسوع. إنه يعطي طوعاً هذه الشهادة، فيشبه إلى حدّ بعيد إمرأة بيلاطس خلال محاكمة يسوع (مت 27: 19: لا تسىء إلى ذاك الصدّيق). فالاعتبارات السيكولوجية التي بحسبها حصل الشقيّ على هذا اليقين حين لاحظ يسوع في صعوده إلى الجلجلة وخلال الصلب، كل هذا لا يعطينا معلومات إضافية. ولكن يبقى أن يسوع لا يعظ فقط بأقواله وأعماله. حياته هي عظة. وموته أيضاً. رآه "اللص اليمين" وهذا يكفي. فلا حاجة إلى براهين إضافية.
ونسمع من هذا الشقيّ وللمرة الأخيرة في حياة يسوع هذه الملاحظة الموضوعيّة التي عبرّ عنها بيلاطس باحتفال ثلاث مرات خلال المحاكمة: "لا أجد علّة في هذا الرجل" (23: 4، 14- 15، 22). قال اللّص: "لم يفعل شيئاً من السوء" (آ 41). وبعد موت يسوع، سيبرز قائد المئة فيعارض بأقواله التجاديف السابقة. هذا الضابط الروماني سوف يمجّد الله ويقول: "في الحقيقة كان هذا الرجل صدّيقاً" (23: 47). وهكذا، عبر خبر لو كلّه، أدّيت شهادة ليسوع البارّ والصدّيق، يسوع البريء الذي لم يفعل شيئاً من السوء.
تمّ توجّه الشقي بشكل مباشر إلى يسوع في عبارة ثانية. وطلب منه بشفقة كبيرة أن يتذكره. قال: "يا يسوع، أذكرني متى جئت في ملكوتك" (آ 42). هذا "التذكّر" يستلهم لغة الصلاة في العهد القديم: فالمؤمن يلتفت في ضيقه إلى الله، ويسأله أن يتذكَّره ولا ينساه. فإن نسيه الله، كان الموت أمامه. ولكن إن ذكره أبعد الشّر عنه، وأكد له أنّ نداء الايمان قد سُمع. غريب هذا اللّص الذي سمّى يسوع باسمه، وهو يعترف بكرامته كملك مسيحاني.
يقدّم تقليد النصّ اختلافات عديدة. الاختلافة الرئيسية نجدها في النسختين: "في ملكوتك" (مع الوجهة، مسيرة إلى ملكوتك). أو: "مع ملكوتك" (أي معك أيها الملك). نجد الصورة الاولى لدى الشهود الرئيسيين (بردية 45، الفاتيكاني). والذين يأخذون بها يتطلّعون إلى الوقت الذي فيه يصل يسوع إلى ملكوته. هذا يعني في قيامته. بعد أن تألمّ سيدخل في مجده (24: 26). هذا ما قاله للمجلس الأعلى (22: 69). قبل أن نعود إلى الصورة الثانية نرفض الكودكس البازي مع مخطوط من اللاتينية العتيقة: "في يوم مجيئك". نحن أمام تفسير للنصّ وتبسيطه بدون سبب، وربطه بمجيء يسوع الثاني، بنهاية العالم.
أما الصورة الثانية "مع ملكوتك" فتمثّل الصورة الأصعب، وترتبط بالعالم السامي. وهي تعني: إذا كنت ملكاً. أنت كملك. في هذه الحالة نربط "المجيء" بمجيء المسيح الثاني ساعة يقوم ملك يسوع وملك الله: "حين تأتي لكي تدشّن ملكوتك". هذه الصورة تبرز التعارض مع جواب يسوع: إن المجيء الاسكاتولوجي ليسوع "كملك" قد ننظر إليه في مستقبل بعيد وغير محدّد. غير أن يسوع يقول في جوابه: "اليوم" (هناك تشديد، لأن هذه اللفظة وضعت في بداية الجملة).
ماذا نختار؟ المهم أن عاطفة بسيطة من قبل هذا الشقي كانت كافية ليتجاوب يسوع مع طلبه، ويمنحه ما لم يحلم به أبداً: اليوم تكون معي في الفردوس. كم يشبه هذا الشقي الابن الضالّ في ف 15. رغم العواطف التي حرّكت عودته إلى الآب، استقبله الآب استقبالاً جعل أخاه الأكبر ينحسد منه. هذه هي طريقة الله في العطاء. هو يريد أن يعطي مجّاناً، وينتظر إشارة مهما كانت بسيطة.
ويبقى أن النقطة الرئيسية هنا، هي أن صلاة الشقي التي دلّت على ثقة عظيمة، لن تستجاب حالاً كما توقعّ طالبها. بل هي تجاوزت كلَّ تصوّر بشكل لا يحدّ، بشكل لا يتوقّعه انسان. لم تكن استجابة عاديّة على نحو ما طلب يعقوب ويوحنا ابنا زبدى (مر 10: 35- 40)، بل استجابة سماوية وروحية. قالت يسوع: "الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس" (آ 43). حين بدأ يسوع كلمته بعبارة "الحق أقول لك" منحها مهابة ولهجة احتفالية. دلّنا على أننا أمام تعليم سامٍ جداً. لم ينلْ انسان على الأرض من يسوع هذه الكفالة الشخصية المحضة بأن يحيا معه في الفردوس. أما الآن فاللص نال هذه "العطية" ساعة وصل كل عمل يسوع إلى نهايته.
ونتوقّف عند ثلاثة عناصر من هذا الجواب: اليوم، معي، في الفردوس.
* اليوم تكون
إن يسوع لا يقدّم وعداً من أجل مستقبل غير محدّد. بل من أجل الوقت الحاضر: الآن. فيوم موت الشقي يكون أيضاً يوم دخوله إلى الفردوس، إلى موضع السعادة. "اليوم" تنتهي حقبة الرجاء والانتظار. والتتمّة الاسكاتولوجية لا تدلّ فقط على ساعات يسوع الأخيرة. بل هي ترافق كل عمله السابق. لهذا نجد لفظة "اليوم" في مواضع عديدة من لو. في 2: 11 نسمع الملائكة يقولون: "اليوم ولد لكم مخلّص". وفي الناصرة، سيقول يسوع: "اليوم تمّت هذه الكلمة" (4: 21). وبعد شفاء المخلّع، هتفت الجموع: "اليوم رأينا عجائب" (5: 25).
لا شكّ ولا تردّد في اعلان يسوع هذا الذي أعلن بذات اليقين والثقة عن قيامته (9: 22؛ 18: 33). عن اشراك التلاميذ معه في ملكوته (22: 39). عن جلوسه من عن يمين الله (22: 69). اليوم، تمّت الغلبة على الموت. لقد بدأ الله يحقّق هذا الخلاص الذي هزِئ به خصوم يسوع.
** اليوم تكون معي
وهنا أيضاً يدوي وعد سبق فأعطي للرسل. في خطبة الوداع حسب لوقا، كان يسوع قد قال لتلاميذه: "أنتم قد ثبتّم معي في محني" (22: 28). إن الوحدة الدائمة المعاشة في الاتضاع ستتحوّل إلى مجد في الملكوت. "وأنا أعدّ لكم الملكوت كما أعدّه لي أبي، فتأكلون وتشربون إلى مائدتي في ملكوتي، وتجلسون على العرش لتدينوا أسباط اسرائيل الاثني عشر" (22: 29- 30).
وإن لم يكن الوعد ينطبق بهذا الشكل إلا على الاثني عشر، إلا أن الواقع نفسه (نكون مع يسوع في ملكوته) يُعلن هنا في الساعة التي تسبق موت يسوع. وهنا أيضاً نجد الاتحاد في الانحدار، وفي مرارة الموت. فالمحكومان ينضمّان إلى مصير المسيح، لينالا "العقاب عينه" (آ 40). فالذي يضع رجاءه في يسوع، في ذلك الوضع، كما فعل قبله أولئك الذين طلبوا الشفاء والخلاص، يتأكّد من رحمة يسوع. ومن الاتحاد في الموت، يجد نفسه مدعوّاً إلى الاتحاد معه في الحياة.
وهكذا صار هذا "اللصّ" المتكلِّم "الرسمي" باسم الرجاء، ونموذجاً لجميع البشر الذين يواجهون الموت. والصلاة التي يرفعونها إلى الله لئلا ينساهم، بل أن يتذكّرهم، ستستجاب هي أيضاً. والخير الذي يعرضه يسوع هو أعظم عطيّة يمكن أن نتصوّرها: أن "نكون معه". في حياته، في مجده.
*** اليوم تكون معي في الفردوس
الفردوس (جنّة عدن في العالم الراباني، رج 2 كور 12: 4؛ أع 2: 7) يدلّ على مقام الأبرار السماوي. يتميّز هذا الموضع مراراً، في زمن العهد الجديد، عن مثوى الأموات، عن الشيول. لقد تبدّلت الأمور فصار عالم الأموات (الجحيم في العربية) محفوظاً للأشرار. أما الأبرار فيدخلون وحدهم إلى الفردوس ليعيشوا مع الله. أجل، إن عبارة "في الفردوس" تعني مقام الصدّيقين في اتحّاد مع المسيح. أما إذا قلنا عكس ذلك واعتبرنا "الفردوس" فقط مجرّد "مثوى الأموات"، كيف يعطينا هذا الوعد نتيجته المعزية إن اكتفى بأن يحدّثنا عن حياة مع يسوع في الجحيم، في الشيول، في مملكة ظلال الموت؟ كلا. لن يبقى المسيح في عالم الموت. ثم إنّ صلاة هذا الرجل لا تكون قد استجيبت، مع أنه طلب من يسوع أن يذكره. إذن، لا نستطيع أن نشكّ أن يسوع وعده، في هذا اليوم، أن يشركه معه في موطن السعادة كما تدلّ عليه الاسكاتولوجيا اليهودية.
كيف تتوافق هذه الكلمة مع "انحدار المسيح إلى الجحيم"؟ أجل، نزل يسوع إلى عالم الموت، ولكننا نحن هنا أمام وجهة أخرى من وجهات الخلاص لا تمتزج مع هبوطه إلى الجحيم. ويبقى سؤال أهمّ هو المعنى الكرازي الذي يحمله جواب يسوع. نشعر أنه لا يأخذ بعين الاعتبار الحقبة (3 أيام) التي تمتدّ حتى صباح الفصح. إنّ الموت نفسه قد خسر الظلمة التي تحيط به كما خسر طابعه النهائي. فعند مر ومت تغلّفت أحداث الصلب حتى موت يسوع، في ظلمات كثيفة لا يبدّدها اعتراف ساطع أعلنه قائد المئة بعد موت يسوع (مر 15: 39: "في الحقيقة كان هذا الرجل ابن الله"؟ مت 27: 54)، وذلك رغم التلميحات إلى العهد القديم والنور الذي تلقيه على دراما الآلام والموت. أما لوقا فيجعلنا نفكّر في يو وفي طريقته بالتأمل في موت يسوع: الموت والتمجيد موجودان معاً في خط شبيه بما في يو 3: 14- 15: "كما رفع موسى الحية، كذلك ينبغي أن يرفع ابن البشر". يُرفع على الصليب. يُرفع في القيامة والصعود والجلوس عن يمين الآب.
خاتمة
في مجمل لو وفي خبر الآلام والقيامة، يبدو هذا المقطع الذي درسناه "إنجيلاً" في معنى خاص. إنه خبر مفرح عن قدرة موت المسيح المحرّرة. إنه بشرى الرجاء والوعد اللذين يشرفان على موت التلميذ. إن دعوة "المخلّص" ظهرت منذ بداية حياته كمسيح (2: 11). ولقد ظلّ أميناً لها حتى النهاية.
حين يكون نظرنا وأملنا محدّقين إلى المسيح، فالموت هو الخلاص، هو النجاة من الظلمة ومن الموت. والانسان الذي كان أول من حقّق ذلك في ساعة خاصة، صار علامة وعد لجميع الذين يأتون بعده. والموت مع المسيح هو الاتحاد به في حياته. هذا هو تعليم "الانجيل الصغير" الذي هو جزء من انجيل يسوع الذي اختاره الله وأرسله إلى البشر مخلّصاً.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM