الفصل الثالث والثلاثون: درب الصليب

الفصل الثالث والثلاثون
درب الصليب
23: 26- 32

إن لو 23: 26- 49 يشُكّل مجموعة متعدّدة العناصر تتضمّن إرثاً من مر أعيد صياغته بعد أن بدّل مكانه، وعناصر عديدة خاصة بلوقا. هذا ما نكتشفه حين نقابل بين الإنجيلين.
مرقس لوقا
سمعان القيريني سمعان القبريني
"بنات أورشليم "
اللصان
الجلجلة الجلجلة
رفض يسوع الشراب
الصلب الصلب
مع لصين
يا أبت اغفر لهم
تفاسم الثياب
الساعة الثالثة
الكتابة: ملك اليهود
اللصان المصلوبان مع يسوع
الشعب ينظر
هزء المارين بمدمِّر الهيكل
هزء عظماء الكهنة والكتبة الرؤساء يهزأون بالمسيح المختار
بالمسيح ملك إسرائيل
هزء الجنود
الخلّ
الكتابة: هذا هو ملك اليهود
اللصان يجدّفان على يسوع
اللصى الأول يهزأ من يسوع
الثاني يرتدّ
ظلمة من الساعة السادسة ظلمة من الساعة السادسة
إلى الساعة التاسعة إلى الساعة التاسعة
كسوف الشمس
إنشقاق حجاب الهيكل
صلاة يسوع: مز 22
إيليا... الخلّ
صلاة يسوع: مز 31
موت يسوع موت يسوع
إنشقاق حجاب الهيكل
قائد المئة يعترف بابن الله قائد المئة يعترف بيسوع أنه صدّيق
توبة الجموع
النسوة أصدقاء يسوع والنسوة
لائحة النسوة

وحدة 23: 26- 49 هي على مستوى المكان: كل شيء يتمّ باتجاه الجلجلة أو على الجلجلة. وهذه الوحدة تنقسم إلى ثلاثة مقاطع. الأول (آ 26- 32) يصوّر انتقال يسوع من مجلس قضاء بيلاطس إلى موضع تنفيذ الحكم. الثاني (آ 33- 43) يبدأ بالوصول إلى الجلجلة ويتضمّن ذكر الصلب وسلسلة من الأقوال والمشاهد التي تليه وتجد ذروتها في وعد يسوع للصّ اليمين: "اليوم تكون معي في الفردوس". والمقطع الثالث (آ 44- 49) ينفصل عمّا سبقه بتحديد للساعة، تحديد احتفالي ووحيد. إن هذا المقطع يتركّز على موت يسوع ويجذب الإنتباه بشكل خاص إلى ما يهيّئ هذا الموت كما إلى نتائجه المباشرة.
ونتوقّف عند المقطع الأول الذي عنوناه: درب الصليب.
1- صالبو يسوع
إن الحركة التي تميّز هذا الحدث (هناك فعل ذهب، رجع، تبع) يقطعها كلام يسوع إلى النسوة اللواتي يتبعنه. وهو كلام يشكّل العنصر الأساسي، وذلك بسبب موقعه وطبيعته.
ألغى لوقا كلياً أقوال الجنود الهازئة التي تلي في مرقس (15: 16- 20) ومتّى (27: 27- 31) مشهد المحاكمة أمام بيلاطس (غير أنه سيذكره في 23: 36- 37). وكما فعل في مكان آخر من خبر الآلام (مثلاً في بستان الزيتون)، أراد أن يحافظ على كرامة يسوع. فنتج عن ذلك أن يسوع اقتيد إلى الجلجلة بيد الذين جاؤوا يطالبون بموته، والذين "أسلم" بيلاطس يسوع إلى "مشيئتهم" أي "عظماء الكهنة ورؤساء الشعب" (31: 13، 18، 21، 23- 25). وإذا واصلنا القراءة رأينا، أقله ظاهراً، أن ذات الأشخاص الذين يقودون اللصين إلى موضع العذاب (آ 32) يلقون القرعة حول ثياب يسوع (آ 34 ب) ثم يصلبونه مع رفيقيه (آ 33).
يرى بعضهم ضعفاً في الاداء نتج عن إلغاء مشهد الهزء. في الواقع، نحن أمام كاتب من الدرجة الرفيعة. وقال آخرون: ترك لوقا عن قصد فاعل الأفعال غامضاً ليتجنّب أن ينسب إلى الرومان صلب يسوع. ولكن حين نعرف موقف بيلاطس في نهاية المحكمة، نشكّ أن يكون الإنجيلي أراد أن يوفّر جلاّدي يسوع الحقيقيّين. فإذا أردنا أن نعرف الواقع التاريخي والتقليد، نعود إلى أع حيث نكتشف فكر لوقا في أعماقه.
فمنذ الفصول الأولى من أع، ساعة يكلّم الرسل يهود أورشليم، يُنسب موتُ يسوع وصلبه إلى السامعين (أع 2: 23، 26؛ 3: 14؛ 4: 10؛ 5: 20؛ 7: 53)، دون استبعاد عمل الوثنيين. وبعد ذلك، حين يوجّه بولس كلامه إلى الجماعة الملتئمة في مجمع أنطاكية بسيدية، ينسب الموت والصلب إلى "سكان أورشليم ورؤسائهم" (أع 13: 27- 28). ونجد التحديد المكاني عينه في أع 10: 39 (في أورشليم، وهو الذي صلبوه) ومسؤولية الرؤساء وحدهم في لو 24: 20 (أسلمه رؤساء كهنتنا وزعماؤنا).
إذن، نحن أمام لوحة متماسكة جداً. ففي كل النصوص يبدو صلب يسوع بشكل اتهام لا ضدّ اليهود بشكل عام، بل ضدّ أهل أورشليم ورؤسائهم. هذا ما نجده في المقطع الذي ندرس. فلوقا يعرف كل المعرفة الواقع التاريخي. والبرهان هو أننا سوف نجد "الجنود" بعد ذلك يهزأون من يسوع (آ 36- 37). فإن أراد أن يخفي بعض الشيء دورهم في موت يسوع، فلأنه أراد أن ينقل هذا الدور إلى يهود أورشليم ورؤسائهم. هذا مع العلم أن شيئاً ما جاء ليخفف الإتهام ويسهّل التوبة: كل شيء قد صُنع لكي يكون شعب الوعد أول الداخلين إلى الخلاص.
2- حمل الصليب
إن الذين اقتادوا يسوع إلى موضع العذاب خرجوا من محكمة بيلاطس، وتصرفوا بطريقة جعلت يسوع لا يحمل صليبه. إذا قابلنا هذه الحاشية (آ 26) العائدة من مر 15: 20 ب، نرى اختلافات لا بأس بها. تبدّلت صيغة الفعل. بل أخذ لوقا فعلاً من مر 15: 16، من مشهد الهزء الذي ألغاه (هذا يعني أنه عرفه). يتحدّث عن نقل يسوع ثلاث مرات. الأول: حالاً بعد توقيفه أخذ الحرس يسوع وأدخلوه إلى بيت عظيم الكهنة (22: 54). الثاني: في الصباح، اقتاد أهل المجلس الأعلى يسوع أمام المحكمة (22: 66). الثالث: حين اقتاد أهل المجلس أيضاً يسوع إلى بيلاطس (23: 1). في كل هذه المرات نجد الفعل عينه أو ما يتفرعّ منه. وهكذا نكون أمام أربعة انتقالات ليسوع ترسم المراحل الكبرى في المحاكمة التي تنتهي به على الجلجلة.
وهناك اختلاف آخر بين لوقا من جهة ومتى ومرقس من جهة ثانية. ترك لوقا كلمة "سخّر"، فلم يستعمل فعلاً يونانياً من أصل فارسي كما فعل متى ومرقس (أغارواين). أحل محلّه فعل "أبيلمبنستاي" (وضع يده على، أمسك) الذي يستعمله مراراً: 5 مرات في لو، 7 في أع. مرة واحدة عند مت. مرة واحدة عند مر. 5 مرات في سائر العهد الجديد. وقد أدخل لوقا هذا الفعل على نصّ مرقسى. 10: 20؛ ق مر 12: 13؛ لو 20: 26؛ ق مر 12: 17؛ وهنا ق مر 15: 21. ونفهم أيضاً أن يكون لوقا (مثل متّى) اعتبر أنه ليس من المفيد أن يقول لقرّائه إن سمعان القيريني هو والد "اسكندر وروفس" (كانا معروفين في كنيسة مرقس، لا في كنيسة لوقا ومتى).
والإختلافة الأخيرة هي مهمّة. حسب مرقس ومتّى، سخّر الرجل لكي يحمل صليب يسوع. أما لوقا فكتب: "جعلوا عليه الصليب ليحمله وراء (خلف) يسوع". يرى الشّراح في هذه الجملة تعليماً موجّهاً إلى القارئ المسيحي، يدعوه لكي يرى في سمعان صورة عن التلميذ كما رسمها يسوع في 9: 23- 24 (من أراد أن يتبعني يحمل صليبه..). أجل، حمل سمعان الصليب "خلف يسوع". وهذا ما سيفعله الشهداء في تاريخ الكنيسة الأولى.
3- في الطريق إلى الجلجلة
إذا قابلنا لوحة لوقا مع لوحة سائر الإنجيليين الذين يشدّدون على عزلة يسوع المأساوية في طريقه إلى الجلجلة، نجد فيها الكثير من العزاء والتشجيع. إنه يرينا يسوع برفقة "جمهور كبير من الشعب": "بلاتوس تو لاوو"- خاصة بلوقا: 1: 10؛ 6: 17؛ 23: 27؛ أع 21: 36؛ رج "بولي بلاتوس" (أو العكس). ما عدا مر 3: 7، 8، لا نجد هذه العبارة في كل العهد الجديد إلا في لو 5: 6؛ 6: 17؛ 23: 27؛ أع 14: 1؛ 17: 4.
ونجد فعل "تبع" الذي لا يمكن أن يكون حيادياً. فإن لم يدلّ بشكل خاص على موقف التلميذ، إلاّ أنه يحتفظ برنّة إيجابية. رج 7: 9؛ 8: 11؛ 18: 43؛ 22: 10، 39، 54؛ أع 12: 2، 9؛ 13: 43؛ 21: 36 (معنى حيادي)؛ ق لو 5: 11، 27، 28؛ 9: 23، 49، 57، 59، 61؛ 18: 22، 28، 43. كان الشعب متآمراً مع رؤساء اليهود خلال المحاكمة. وها هو ينفصل عنهم، وسيظلّ في الخطّ عينه حتى نهاية الآلام (23: 35، 48).
هذا "الشعب" الذي يكتفي بأن "يتبع"، يجد بقربه "نساء" يبكين، ينتحبن. نجد فعلين (كوبتاين، تريناين) يدلاّن على الندب أمام الميت: رج لو 8: 52 (كوبتاين مع فعل كلاياين: رج 23: 28)؛ 7: 32 (تريناين)؛ مت 11: 17 (كوبتاين، تريناين). إن لوقا يميّز تمييزاً واضحاً بين الشعب والنسوة. فالنسوة هن تلميذات كأولئك اللواتي سنلتقي بهنّ في 23: 49، 55، ساعة موت يسوع ودفنه. لماذا نجدهن حاضرات هنا؟ دلّ لوقا بواسطتهن على تعلّق الشعب بيسوع. ثم إنه بحاجة إلى سامعين من أجل النبوءة التي تقدّم فيها النسوة البرهان الجوهري. إذا أراد يسوع أن يتكلّم في لوقا، فهو يلتفت إلى (سترافايس). يسوع يتوجّه إلى. كأننا أمام حركة الوجه. رج 7: 9، 44؛ 9: 55؛ 10: 23؛ 14: 25؛ 22: 61؛ 23: 28. هذا هو الفعل المجرّد (سترافاين). والفعل المزيد (أبيسترافاين) يدلّ على ارتداد التلاميذ (22: 32).
إن المنادى "بنات أورشليم" في صيغة الجمع، نقرأه فقط في نش 1: 5؛ 2: 7؛ 3: 5؛ 5: 8، 16؛ 8: 14 (في صيغة المنادى، يا بنات أورشليم)؛ 3: 10 (في صيغة المضاف إليه/ صُنع بنات أورشليم). إن هذه العبارة القريبة من "بنات صهيون" (أش 3: 16- 17)، لا تملك في التوراة البعد الرمزي الذي تحمله صيغة المفرد فتدلّ على المدينة وسكّانها. أش 37: 22 (ابنة صهيون)؛ صف 3: 14 (مرتين)؛ زك 9: 9 (المنادى)؛ مي 4: 8. في نصّ لو، يتوجّه يسوع إلى أشخاص محدّدين في الموكب. وقد جاءت بداية قول يسوع بشكل تصالب (خياسما) يليه ملحق: "لا تبكين عليّ، بل على نفوسكنّ ابكين، وعلى أولادكنّ". نشير إلى أن "بلان" (بل) ترد 15 مرة في لو، 5 مرات في مت، لا شيء في مرقس، 6 مرات في سائر العهد الجديد.
إن العبارة الأولى (لا تبكي) تذكّرنا بمقطعين في لو: كلام يسوع إلى أرملة نائين (7: 13)، ثم ذاك الذي وجّهه إلى الجمع الذي يتزاحم عند مدخل بيت يائيرس (8: 52: لا تبكوا). كلام تعزية قاله يسوع في هاتين المناسبتين، وهو يختلف عمّا نقرأ هنا. لقد مال يسوع بهذا العرض للحزن على شخصه، إلى البكَّاءات وإلى أولادهنّ، بسبب الشقاء الذي سوف يحلّ بهنّ. هناك حزن مع بعض الشفقة. فيسوع يقول تقريباً: لماذا تتعبون فتحيطوني ببكائكم. فكّروا بما سوف يحصل لكم. حينئذ سوف تبكون، ولكن خارج أي إطار طقسي!
من هم هؤلاء "الأولاد" (تكنا) الذين يتنبأ لهم يسوع بشقاء مريع؟ قد يعني النسل المباشر لهذه النسوة. كما يعني الأجيال المقبلة بدون أي تحديد (تك 31: 16؛ خر 17: 3؛ عد 16: 27؛ تث 29: 9، 11؛ دا 6: 25؛ 1 مك 2: 28؛ 3: 20؛ 5: 23، 45؛ مت 2: 18؛ أع 2: 39؛ 13: 33). إذا توقّفنا عند مؤلّف لوقا، نجد أنه يستعمل اللفظة أيضاً في أع 2: 39، 13: 33. وفي كلا الحالين، الأولاد هم النسل بشكل عام. هل هذا هو المعنى هنا؟ كلا. فلوقا يعرف أن القول النبويّ تحقّق مع كارثة أورشليم سنة 70، وبعد أربعين سنة على موت يسوع.
وهذا يعني أن الأولاد هم النسل المباشر لهؤلاء النسوة، وربّما بعض النسوة اللواتي قد تكون طالت بهنّ السنون. وهكذا تصبح العبارة شاملة: إبكين على نفوسكنّ وعلى أولادكنّ.
4- نبوءة تتحقّق
وها نحن نصل إلى النبوءة (آ 29- 30) التي ترتبط بالكتاب المقدّس أسلوباً وألفاظاً. قال لوقا: "ها ستأتي أيام". تذكّر إر 7: 32؛ 16: 14 (حسب السبعينية) بشكل شبه حرفي، كما استلهم إر 38 (31 في العبرية): 31 (الذي لا نجد فيه "ايدو"). يستعمل لوقا مثل هذه العبارات (5: 35؛ ق مر 2: 20؛ لو 17: 32؛ 19: 43؛ 21: 6؛ ق مر 13: 2) حيث يُعلَن الطابع الاسكاتولوجي للأحداث التي تُروى (أع 2: 17 الذي يورد يوء 3: 1). حينئذ "يقال" (رج هو 10: 8 حسب السبعينية، بعد أن حوّله لوقا في آ 30). أي: يقول أولئك الذي سيعيشون الكارثة: "طوبى للعواقر (ما حبلن). طوبى للبطون التي لم تلد والأثداء التي لم ترضع". هذه الفكرة تعبّر عنها ألفاظ معاكسة في خطبة لوقا الثانية عن نهاية العالم: "الويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام" (21: 23؛ مر 13: 17). فالتلميح واضح أيضاً إلى حصار أورشليم على أيدي الرومان. نجد في خلفيّة هذا الكلام عبارات بيبلية (حك 3: 13؛ أش 54: 10) جاءت في موضوع عرفه الأدب اليوناني الكلاسيكي. إن المستقبل سيكون طيباً للنساء اللواتي لا أولاد لهنّ: لن يرونهم يموتون في الحرب والحصار القاتل. هذا ما تكون عليه نساء أورشليم.
وتتتابع النبوءة. يبدو أن لوقا أضاف آ 29- 30 على العنصر الأصلي المؤلف من آ 27- 28، ليطبّق كلام يسوع على دمار أورشليم. وهكذا يكون له ثلاثة إنباءات عن هذا الحدث: 19: 39- 44؛ 21: 5- 36 (وخصوصاً آ 20- 24)؛ 23: 29- 30. تتتابع النبوءة مرتبطة بالتوراة السبعينية. إذا كانت الكلمتان الأوليان من الإنجيلي نفسه، فالباقي قد جاء من هو 10: 8 (حسب السبعينية)، وإليك مقابلة بين نصّ هوشع ونصق لوقا.
هو 10: 8 لو 23: 30
ويقال للجبال حينئذ يبدوان يقولون للجبال
غطّينا إسقطي علينا
وللتلال وللتلال
إسقطي علينا غطّينا
هناك قلب في الجملة، يعود إلى أن الكاتب يورد من الذاكرة لا من الكتاب. في السياق الأصلي، لفظت هذه الجملة في فم أهل السامرة ساعة الغضب الإلهي الذي ينصبّ عليهم. نقرأ في هو 10: 7، 8: "السامرة زالت، وملكها كالقشّ على وجه المياه. تُدمّر مرتفعات آون حيث يخطأ إسرائيل. ويعلو الشوك والعوسج مذابح آلهتها. يقولون للجبال: غطّينا. وللتلال: إسقطي علينا".
يُستعمل القول نفسه في رؤ 6: 16، ساعة يُفتح الختم السادس. يحلّ الرعب بجميع البشر من دون تمييز عند اقتراب العقاب فيذهبون ليختبئوا "في المغاور وصخور الجبال" وهم يقولون: "إسقطي علينا واخفينا من وجه الجالس على العرش ومن غضب الحمل".
إن إيراد هوشع في لو 23: 30 لا يشير إلى السامرة ولا إلى البشرية، بل إلى أورشليم وشعبها. وقارئ هذا الإنجيل يعرف سابقاً ما ينتظرهما. وقد كانت الوقائع ثابتة حين ألّف لوقا إنجيله. لقد قرأ قوله يسوع بقرب المدينة في 19: 43- 44 وفي الخطبة على نهاية الأزمنة (21: 20- 24)، فرأى فيها تذكّراً مسبقاً لحصار أورشليم وسقوطها سنة 70. وهناك أيضاً النبوءة على دمار الهيكل (21: 6؛ رج 13: 35). يشدّد بعض الشّراح على ارتباط 19: 43- 44 مع المقطع الذي ندرس. في 23: 28، ترك يسوع المدينة وكأنه يندبها. في الواقع، لا يخرج يسوع من أورشليم (ق يو 19: 17، 20؛ عب 13: 12) في لو 23: 26. ثم إن كلماته للباكيات لا تدلّ على الشفقة أو التأسّف كما في 19: 42، بل تعلن فقط الكارثة التي ستحلّ بالمدينة، ويدعو النساء للبكاء مسبقاً.
ويعرف الإنجيلي أيضاً سبب هذا الشقاء. في 19: 42، 44 ب، دلّ عليه يسوع وهو يبكي: كانت أورشليم لامبالية، بل تمرّدت على حامل سلام الله (19: 38 ب). لقد خسرت الفرصة المؤاتية، الفرصة الأخيرة لتتوب. هنا تكلّم يسوع كنبيّ، لأن ليس من شيء نهائي بعد. وسيُوضع ختم الرفض ساعة يموت يسوع على الجلجلة، في أورشليم، بطلب صريح من عظماء الكهنة والرؤساء والشعب (23: 13، 18، 21، 23).
ويعبّر لوقا عن ذات التبرير للعقاب الوطني في آ 31، بشكل مصوّر، بشكل مثَل مع برهان يبدأ "بالأحرى": "إن كانوا هكذا يفعلون بالغصن الأخضر، فكيف تكون حال الغصن اليابس" (قد يكون هناك تلميح بعيد إلى الصليب!). قد تأتي مواد هذا القول المأثور من حز 17: 24 حيث نقرأ حسب السبعينية: "أنا الرب الذي يحطّ الشجرة العالية ويرفع الشجرة الوضيعة، الذي ييبس الشجرة الخضراء (الغصن الأخضر) ويجعل الشجرة اليابسة تزهر". نحن هنا في نظرة مغايرة لنظرة لوقا، نظرة تتحدّث عن قيام الشعب.
أما الفكرة العامّة في هذا القول اللوقاوي، فنجدها في أم 11: 31: "إذا كان البار يجازى على الأرض، فكم بالأحرى الشرير والخاطئ"! أو حسب السبعينية (يرد في 1 بط 4: 18): "إذا كان البار يخلص بعد جهد، فما هو مصير الكافر والخاطئ"!
في لو 23: 31، قابل يسوع نفسه بـ "العود الأخضر". و"العود اليابس" هو صورة عن الذين سيقاسون الكارثة التي أعلن عنها. يجري التعارض انطلاقاً من فرضية تقول إن هذه العيدان هى معدّة للحرق. والنار صورة تقليدية عن العقاب الإلهي (عا 2: 5؛ هو 8: 14؛ إر 11: 16؛ 17: 27؛ 21: 14: 22: 7؛ حز 15: 7؛ 16: 41؛ 24: 9. عقاب يصيب إسرائيل).
"العود الأخضر" الرطب، هو البار الذي يفلت من نار العقاب. ومع ذلك، فهو يتحمّل الآن أقسى الآلام. "العود اليابس" يدلّ على يهود أورشليم الذين قتلوا "البار" (أع 3: 14- 15؛ 7: 52) الذي أرسله الله إليهم: لهذا صاروا مهيّأين للحرق. فإن كان الله قد ارتضى بأن يرسم ليسوع درب الآلام الذي يسير إليه في هذا الوقت (لو 9: 32؛ 17: 25؛ 18: 31- 33؛ 22: 22؛ 24: 25- 27، 32، 44- 47)، وهو الذي لم يقترف جرماً، فكم تكون قساوته تجاه الذين صاروا مسؤولين، فجمّعوا هكذا تمرّدهم الذي دام أجيالاً وأجيالاً (11: 47- 51؛ 13: 34؛ أع 7: 52).
تلفظ يسوع هنا بآخر نبوءاته، لا ليدعو الشعب إلى التوبة (هذا سيأتي فيما بعد، 24: 47؛ أع 2: 38- 39؛ 3: 19؛ 5: 31). بل ليفسّر الكارثة الهائلة التي حلّت سنة 70، على أنها عقاب لرفض إسرائيل يجد ذروته في حاش يسوع وآلامه. الوجهة اسكاتولوجية ولكن بشكل جزئي. لأنه إن رأى لوقا في فيض الروح علامة الأزمنة الجديدة (أع 2: 17- 21)، فهو يجعل مسافة كبيرة بين مأساة إسرائيل الوطنيّة وعودة المسيح (21: 24). يبقى الأفق هنا على مستوى التاريخ.
فيسوع أمام "جيله" هو هو كما كان في مثوله أمام السنهدرين: إنه يشرف على الوضع ويعبرِّ عن ذاته كسيّد واعٍ لامتيازاته.
خاتمة
وتنتهي المقطوعة بشكل مدهش بعض الشيء. فبعد القول الاحتفالي الذي سمعناه، يشير الإنجيلي إلى الشقيّين، إلى اللصّين اللذين يرافقان يسوع ليُعدما هما أيضاً. إن وضع الجملة اليونانية لا يتضمّن أن يكون يسوع قد "دُعي" لصاً بين اللصين! أما الفعل "انايراين" فنجده هنا، ثم في 22: 2. و3 مرات في أع 2: 23؛ 10: 39؛ 13: 20. في كل هذا، يدلّ على تنفيذ الحكم في يسوع. أما سائر الإستعمالات، فتعود إلى اضطهاد التلاميذ على يد اليهود.
هذه الحاشية (آ 32) الخاصة بلوقا، تشكّل انتقالة إلى المقطوعة التالية. أما عن رفيقَي يسوع إلى العذاب، فقد استعمل مرقس ومتّى لفظة "ليستيس" (لصّ). كان لوقا قد احتفظ في 22: 52 بجملة مر 14: 18 (كأنما على لصّ خرجتم بسيوف وعصي، مع ليستيس). فتحدّث بالأحرى هنا (23: 32، 33، 39) عن "كاكورغوس" شقيّ، فاعل سوء (رج 2 تم 2: 9؛ في السبعينية: أس 8: 13؛ أم 21: 15؛ سي 11: 33؛ 30: 35؛ 33: 26). ليس الفرق بكبير بين اللفظتين، وإن دلّ "كاكورغوس" على الإساءة إلى الأشخاص. المهمّ هو أن تتمّ النبوءة (أش 53: 12) التي طبّقها يسوع على نفسه في العشاء الأخير: "أحصي مع العصاة" (انومون، بدون ناموس، 22: 17). ذاك الذي لم يكتشف فيه بيلاطس جرماً (سوءاً، كاكون، 23: 22) صار الآن مع "الأشقياء" (كاكورغوي). لقد ذكر "الأشقياء" ثلاث مرات (آ 32، 33، 39). وهذا ما يقودنا خطوة بعد خطوة إلى مشهد "لصّ اليمين" (23: 39- 43) الذي يشكّل ذروة في المتتالية الثانية (23: 26- 49).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM