الفصل السادس: الخطب في إنجيل متّى

الفصل السادس
الخطب في إنجيل متّى
الأب يوحنّا الخوندّ

مقدّمة
يتفرّد إنجيل متّى الحالي بميزات أدبية لاهوتية، أهمّها جمعُ أحداث حياة يسوع في مجموعات كبرى، وجمعُ أقواله وخُطَبه في مجموعات كبرى أخرى، أهمّها خُطَب خمس، تَظهَر للقارئ المتأَمّل المدقّق كالعمود الفِقَري لجسم الإنجيل كلّه.
الخطبة الأولى، خطبة الجبل (5- 7).
الخطبة الثانية، خطبة الرسالة (10).
الخطبة الثالثة، خطبة الأمثال (13).
الخطبة الرابعة، خطبة الكنيسة (18).
الخطبة الخامسة، خطبة النهايات (24- 25).
نتوقّف عند هذه الخطب الخمس الكبرى المُميِّزة لإنجيل متّى الحالي، لنرى فيها أيضاً ميزاتٍ أربع كبرى:
الميزة الأولى: كلّ خطبة هي مجموعة خُطَب.
الميزة الثانية: كلّ خطبة تتناول موضوع "ملكوت الله".
الميزة الثالثة: كلّ خطبة تسبقها مجموعة أحداث كبرى تمهّد لها.
الميزة الرابعة: كلّ خطبة تُختَم بعبارة واحدة.

الميزة الأولى: كلّ خطبة هي مجموعة خُطَب:
قالها يسوع في أمكنة وأزمنة وظروف عدّة ومختلفة، ووجّهها إلى فئات وجماعات من الناس عديدة ومختلفة، وعالج فيها مواضيع المقدّس وأموراً عدّة ومختلفة.
1) الخطبة الأولى: تقع في ثلاثة فصول (5، 6،7)، تذكر مقدَّمتُها (5/ 1- 2) أنها موجَّهة إلى التلاميذ، وتذكر خاتمِتُها (7/28-29) أنهّا موجَّهة إلى الجموع. أمّا نصّ الخطبة فهو مجموعة من 23 مقطعاً، يؤلِّفُ كل منها وَحدةً أدبية مستقلّة كاملة، تتوالى كلّها بانتظام كلّي دون أيّ فاصل، ويخطب فيها يسوع منتقلاً بعفوية تامّة من مقطع إلى آخر، ولا أحد من السامعين يقاطع.
إذا قارئا متّى (5- 7) بمرقس ولوقا، وجدنا من أصل 111 آية، 77 آية، في لوقا، أي الثُّلثَين، و 16 آية في مرقس أي السِبع. وإذا أمعنّا أكثر وجدنا أن مقاطع الخطبة لا تَرِدُ في مرقس ولوقا في الترتيب عينه، بل نراها متفرّقة موزَّعة في ظروف وأمكنة وأزمنة مختلفة وموجّهة إلى أشخاص عديدين مختلفين: متّى 5، نجد مقاطعه موزّعة في ستّة فصول من مرقس، وفق هذا الترتيب 9/ 4/13/ 11/9/ 10، وموزّعة في تسعة فصول من لوقا، وفق هذا الترتيب 6/ 14/ 8/ 11/ 21/ 16/ 12/16/6؛ ومتى 6، نجد مقاطعه موزّعة في خمسة فصول من لوقا، وفق هذا الترتيب 11/12/11/16/12 ولا نجد منها في مرقس سوى آية واحدة (11/ 25)؛ ومتى 7، نجد مقاطعه موزّعة في سبعة فصول من لوقا، وفق هذا الترتيب 6/11/6/13/6/13/6، ولا نجد منها في مرقس سوى آيتين (4/ 24؛ 1/ 22).
نستنتج من المقارنة أن مقاطع الخطبة موزّعة في مرقس ولوقا بدون أيّ علاقة البتّة، في ظروف وأمكنة عدة من حياة يسوع التبشرية، وقد قال يسوع بعضها لتلاميذه، وبعضها للجموع والبعض الآخر للجميع على حدّ سواء. تلك المقاطع جمعها كاتب إنجيل متّى الحالي، بأسلوبه الشخصي، ووفق تصميمه الخاصّ، في خطبة واحدة، ضمنّها أهم ما علّم يسوع، وأهمّ مقوّمات الدعوة المسيحية، وفضائل أبناء الملكوت الجديد.
2) الخطبة الثانية: تقع في فصل واحد (10). تذكر مقدِّمتها (10/ 1- 5)، وخاتمتُها (11/ 1) أن يسوع وجّهها إلى الرسل الإثني عشر، وهي وصيّته لهم، يوم دعاهم وآتاهم سلطانه وأرسلهم. أمّا نصّ الخطبة فهو مجموعة من سبعة مقاطع، يؤلّف كلّ منها وحدة أدبية كاملة مستقلّة، يخاطب فيها يسوع تلاميذه، منتقلاً بعفويّة تامّة من مقطع إلى آخر، دون أيّ فاصل ودون أن يقاطعه أحد من تلاميذه.
إذا قارنّا متّى (10) بمرقس ولوقا، وجدنا من أصل 43 آية، 39 آية في لوقا، وفق هذا الترتيب 9/6/9/ 10/ 21/ 12/8/ 21/ 9/ 12/ 14/ 9/ 17/ 9، وفي مرقس 20 آية وفق هذا الترتيب 6/ 3/ 6/ 13/ 4/ 8/ 9 .
نستنتج من المقارنة أن كاتب إنجيل متّى الحالي قد جمع في خطبة واحدة، كلّ تلك النصوص المفرقّة والموزّعة في مرقس ولوقا، بأسلوبه الشخصي، وفق تصميمه الخاص، وجعلها وصيّة يسوع لرسله، وبرنامج رسالتهم في متابعة رسالة ملكوته الجديد.
3) الخطبة الثالثة: تقع في فصل واحد (13)، وهو مجموعة من 14 مقطعاً، يؤلف كلّ منها وحدة أدبية كاملة مستقلّة، يخاطب فيها يسوع تلاميذه تارة، وتارة الجموع. ويقاطعه مرّة تلاميذه بسؤال، ويسبق يسوع مرّة أخرى التلاميذ بجواب، ويقاطعه الإنجيلي مرّات بمثل هذه العبارة "وضرب لهم مثلاً آخر قال".
إذا قارّنا متّى (13) بمرقس ولوقا، نجد من أصل 53 آية 18 آية في لوقا، موزّعة في أربعة فصول، وفق هذا الترتيب 8/ 10/8/13، و25 آية في مرقس وفق ترتيب الفصل الرابع، ولكن بعضها في سياق متواصل وبعضها متقطّع.
نستنتج من المقارنة أن كاتب إنجيل متّى الحالي قد جمع هنا أيضاً في خطبة واحدة، مجموعة خطب من أمثال قالها يسوع في مناسبات عدّة مختلفة، جمعها الإنجيلي، وفق أسلوبه الشخصي المميّز، وتصميمه الخاص، لتكون خطبة توضح مفهوم سرّ ملكوت يسوع الجديد.
4) الخطبة الرابعة: تقع في فصل واحد (18)، من سبعة مقاطع. تذكر المقدّمة (18/ 1) سؤالاً من التلاميذ عن الأعظم في ملكوت السماوات، ثم يروح يسوع في جوابه يتابع الحديث حتّى يقاطعه بطرس في 18/ 21- 22، ليسأله عن الغفران.
إذا قارنّا متّى (18) بمرقس ولوقا، نجد من أصل 35 آية، 11 آية في مرقس، وفق هذا الترتيب 9/ 10/9، وفي لوقا 16 آية وفق هذا الترتيب 9/ 18/ 14/ 17/ 15/ 17.
نستنتج من المقارنة، أسلوبَ متىِ نفسَهُ، الذي يجمع في خطبة واحدة مقاطع عدّة، كانت أقوالاً وخُطباً ليسوع متفرّقة، أدخلها في تصميمه الخاص، لتكون خطبة تحدّد مسيرة التلاميذ، أبناء الملكوت الجديد.
5) الخطبة الخامسة: تقع في فصلين (24- 25). تذكر مقدِّمتُها (24/ 1- 3) أن تلاميذ يسوع خلَوا به وسألوه عن الهيكل وعن مجيئه ونهاية العالم. وتذكر خاتمِتُها (26/ 1) أن يسوع خاطب تلاميذه وحدهم. أمّا نصُّ الخطبة فهو مجموعة من 14 مقطعاً، يؤلّف كلّ واحد منها وحدة أدبية كاملة مستقلّة، تتوالى كلّها على لسان يسوع بانتظام كلّي دون أيّ فاصل ولا أيّ تقاطع.
إذا قارّنا متّى (24- 25) بمرقس ولوقا، نجد من أصل 51 آية في الفصل 24، في مرقس 33 آية، كلّها في الفصل 13 وفق الترتيب عينه، وفي لوقا 43 آية موزّعة بين الفصول 21/17/12؛ ونجد من أصل 46 آية في الفصل 25، في مرقس آيتين فقط، وفي لوقا 12 آية في الفصلين 13 و 19.
وهذا أيضاً دليل آخر واضح على أسلوب كاتب إنجيل متّى الحالي، الذي جمع في خطبة واحدة، هنا أيضاً، كلام يسوع عن حدثَين هامَّين، دمار أورشليم سنة 70، ونهاية العالم لدى مجيء يسوع دياناً، جمعها ليعلن حلولا ملكوت يسوع الجديد الروحي محلَّ الملكوت القديم الزمني.

الميزة الثانية: كل خطبة تتناول موضوع "ملكوت الله" الآتي في يسوع:
تتناوله من ناحية معيّنة، وفي صورة تصاعدية متكاملة، الفكرة العامّة في الخطب الخمس هي أن يسوع قد أسّس ملكوت السماوات الحقّ الجديد على الأرض:
1) الخطبة الأولى (5- 7)، خطبة الجبل، في تصميم الإنجيلي، هي شرعة ملكوت يسوع الجديد. على جبل سيناء، أعطى الله موسى الوصايا العشر، فاتحةَ الشريعة القديمة، وخُلاصَتَها. وعلى جبل علّم يسوع التطويباتِ فاتحةَ تعليمِهِ وخُلاصَتَهُ.
لقد اعتنى متّى في تأليف الخطبة الأولى كل العناية، فجعل الطوبيات (5/ 3- 12) فاتحتَها، ومَثَلَ الباني العاقل والباني الأحمق (7/ 24- 27) خاتمتَها. الطوبيات الثماني الأولى (5/ 3- 10)، فاتحة خطبة الجبل، تؤلّف وحدة أدبية لاهوتية متماسكة، تبدأ وتنتهي بالعبارة "فإن لهم ملكوت السماوات". ومَثَلُ الباني العاقل والأحمق (7/ 24- 27) خاتمة الخطبة، تعليم حكمي، يقتضي من أبناء الملكوت التصّرف بحكمة في بناء صرح إيمانهم على تعاليم يسوع الراسخة.
أمّا نص الخطبة فرتّبه متّى في. ثلاث مجموعات، وفي كلّ مجموعة نظّم سبعة مقاطع كما يلي:


المجموعة الأولى (متّى 5)
5/13-16 الملح والنور في هذه المجموعة يكمّل يسوع التوراة
5/17- 20 يسوع يكمّل التوراة القديمة مُلزماً تلاميذه ببرٍّ يربو علي برّ
5/21-26 في القتل والمصالحة الكتبة والفرّيسيين (5/ 20)، وبتصرف
5/27- 32 في الزنى والزلل والطلاق يخالف تصرف الوثنيّين (5/47)، لدخول
5/33-37 في القَسَم ملكوت الله. "ومن أبطل إحدى الوصايا
5/43-48 في حبّ الأعداء الصغرى... يدعى الأصغر في ملكوت الله،
أمّا الذي يعمل ويعلّم فكبيراً يدعى في
ملكوت الله" (5/19).
المجموعة الثانية (متّى 6) في هذه المجموعة يُلزم يسوع تلاميذه
6/1-4 في الصدقة بممارسات جوهربة، واتّخاذ مواقف جذرية
6/5-15 في الصلاة من كلّ ما يشتهي الإنسان، ليسعى أولاً
6/ 16-18 في الصوم لملكوت الله وبرّه (6/33)، ويحقّق في
6/19- 21 الكنز الحق حياته ملكوت الله الجديد (6/10).
6/ 22- 23 سراج الجسد العين
6/ 24- الله والمال
6/ 25- 34- لا تهتمّوا باللباس والطعام
المجموعة الثالثة (متّى 7)
7/1 -5 لا تدينوا في هذه المجموعة يُخرِجُ يسوعُ المؤمنَ به من
7/6- اللآلئ والخنازير عزلة "أَنا" هُ، ويُدخلَه في ثنائية وجوده
7/7- 11 سلوا تعطوا مع الله والقريب، قَولاً وعملاً، لدخول
7/12- إفعلوا للنّاس ملكوت السماوات الجديد (7/21).
7/13- 14 بابان وطريقان
7/ 15- 20 الشجر والثمر
7/ 21- 23 قولوا واعملوا
فخطبة الجبل (متّى 5-7) هي مختصر التعليم المسيحي في الجماعة المسيحية الأولى، والمثال الأعلى للحياة المسيحية. لا ذِكْرَ فيها للثالوث والصليب والافخارستيا والكنيسة والروح القدس... لكنّها تحوي أهمّ ما علّم يسوع، أَهمَّ مقوّمات الدعوة المسيحية، وفضائلَ أبناء الملكوت: إنَّها حقاً شرعة الملكوت الجديد.
2) الخطبة الثانية (10)، في تصميم الإنجيلي، هي خطبة الرسالة. بعد أن أعلن يسوع، في الخطبة الأولى، برنامجَ رسالته، شرعةَ ملكوته الجديد، إختار إثني عشر رسولاً، عليهم تقوم كنيسة العهد الجديد قيامَ جماعةِ العهد القديم على أولاد يعقوب الإثني عشر (متّى 19/28)، وأشركهم في رسالة ملكوته، وآتاهم سلطاناً على كلّ روح نجس وكلّ مرض ووهن، ووصّاهم ثمّ أرسلهم ينادون: "ملكوت الله أقبل" (10/ 7)، كما نادى هو (4/ 17)، ونادى المعمدان مهيّئاً لمجيئه (3/2).
إعتنى الإنجيلي في تأليف هذه الخطبة، فرتّبها في مجموعة مقاطع سبعة، كما يلي:
10/ 1- 4 إختيار الرسل
10/5- 15 بعثة الرسل
10/ 16- 25 نعاج بين ذئاب
10/ 26- 33 لا تخافوا
10/ 34- 36 السيف لا السلم
10/ 37- 39 حبّ يسوع أوّل
10/ 40-42 من يقبلكم يقبلني
يساوي يسوع رسُلَهُ بنفسه، لأن الرسول مساوٍ لمُرسلِه، كما هو مساوٍ للآب مُرسلِه، في رسالة الملكوت الواحدة.
3) الخطبة الثالثة (13)، في تصميم الإنجيلي، هي خطبة الأمثال، يمثل فيها يسوع سَّر ملكوته الجديد. تبدأ الخطبة بالتشديد على الأمثال، وهي طريقة تعليم حيّة تصويرية، وَارِدَةٌ في الأدب الحكمي التوراتي القديم، اتّخذها يسوع أيضاً، ليقرّب بها من الأفهام سّر ملكوته الجديد. وتنتهي بمَثَلِ الكاتب اليهودي العالم بالتوراة (13/ 51- 52) إذا ما دخل ملكوتَ يسوع، يجمع في رؤية إيمانية موحّدة، جديد المسيحية وقديم اليهودية.
بعد أن أعلن شرعة ملكوته، وأشرك في رسالته رسُلَه، يبيّن يسوع في أمثال سبعة، سَّر هذا الملكوت:
المثل الأول، مثل الباذر (3/13- 9)، يُظهِر يسوع متفائلاً بتحقيق ملكوته، كالباذر الواثق من غلّة أرضه، رغم كلّ الأخطار، وهكذا ستنتصر بُشرى الملكوت في النهاية رغم كلّ العقبات.
المثل الثاني، مثل الزّؤان (13/ 14- 30) يُظهرُ الفرقَ بين رسالة يسوع ورسالة المعمدان الذي بشّر بيسوع يضع الفأسَ على أصل الشجر، وينقّي البيدر من التبن ليحرقه؛ أمّا يسوع فأتى رفيقاً صبوراً، لا يحمل فأساً، ولا يحُرق شرّيراً، بل يؤاكل الجباة والخطأة، ويرى أن يعايش المؤمنُ غيرَ المؤمن، ويبقى صالحاً مؤمناً حتّى اليوم الآخر.
المثل الثالث، مثل حبّة الخردل (13/ 31- 32)، يُظهِر ملكوت يسوع وهو ينمو كحبّة خردل؛ يبدأ صغيراً حقيراً ثمّ يتخذ حجمَ الكون.
المثل الرابع، مثل الخميرة (33/13)، يكشف سّر الملكوت كالخميرة، يبدأ صغيراً لا يُرى ولا يشعر به أحد، ثم يَظهر قوّةً إِلهيةً تخمّر الإنسانية بأسرها.
المثلانٍ الخامس والسادس، مثلاَ الكنز واللؤلؤة، يُظهِران ملكوت يسوع قيمةً فريدة، خفية، ولكن إذا اكتُشِفَتْ تحُدِثُ فرحاً فائقاً، فيضحّي الإنسان في سبيل الحصول عليها بأغلى ما يملك.
والمثل السابع، مثل الشبكة (47/13- 50)، يكشف سرّ الملكوت، كما مثل القمح والزّؤان، فإنه يضّم الصالح والشّرير، ولا يتم الفصل إلاّ في اليوم الآخر.
للأمثال السبعة مغزى واحد: سرّ ملكوت يسوع الجديد. إنه روحي داخلي لا ملكوت خارجي زمني سياسي، على ما كان يتوقّعه اليهود معاصروه.
4) الخطبة الرابعة (18)، في تصميم الإنجيلي، هي خطبة الكنيسة. تبدأ بسؤال التلاميذ عن الأعظم في ملكوت السماوات (18/ 1)، وتنتهي بمثل العبد القاسي (18/23- 35) عن الغفران الكامل في ملكوت يسوع الجديد، الذي يتحقّق في الجماعة المؤمنة.
رتّب الإنجيلي سبعة مقاطع جعلها خطبة واحدة، كما يلي:
18/ 1- 5 مَن الأعظم
18/ 6- 11 مُسبِّبو الزلاّت
18/ 12- 14 النعجة الضالّة
18/ 15-18 كيف تُصلح أخاك
18/ 19- 20 صَلُّوا معاً
18/ 21- 22 إغفروا دون حساب
18/ 23- 35 مَثَل الغفران الكامل
جمع الإِنجيلي هذه المقاطع خطبة واحدة، يخاطب بها يسوع تلاميذه، نواة كنيسته، ويحدّد فيها مسيرة أبناء الملكوت.
5) الخطبة الخامسة (24- 25)، في تصميم الإنجيلي، هي خطبة النهايات. في المقدّمة (24/ 1- 3) ذِكرٌ لدمار هيكل أورشليم، عاصمة الملك اليهودي، وهو علامة لمجيء الرب يسوع منتصراً، وحلولِ مُلكهِ الروحي النهائي محلَّ الملك الزمني. وفي المقطع الأخير (25/ 31- 46) وَصفٌ ليوم الدين، فيه يأتي المسيح يسوع مَلِكاً ممجَّداً ليدين، ويورثَ الصالحين، مُباركي أبيه، الملكوتَ المعدَّ لهم منذ إِرساء العالم (25/ 34).
رتّب الإنجيلي الخطبة في مجموعتين، وكلّ مجموعة في سبعة مقاطع، كما يلي:
المجموعة الأولى:
24/ 4- 8 فاتحة المخاض
24/ 9- 14 إضطهاد المبشّرين بالإنجيل
24/ 15- 22 المحنة الكبرى
24/ 23- 25 المسحاء الكذّابون
24/ 16- 28 مجيء إبن الإنسان كالبرق
24/ 29- 31 مجيء إبن الإنسان في المجد
24/ 32-33 مَثَلُ التينة
المجموعة الثانية
24/ 34- 36 تحقيق قريب أكيد ومفاجئ
24/ 37- 41 مِثْلَ أيّام الطوفان
24/ 42- 44 مَثَلُ ربّ البيت الساهر
24/ 45- 51 مَثَلُ القيمّ الأمين
25/ 1- 13 مَثَلُ العذارى
25/ 14- 30 مَثَلُ الوزنات
25/ 31- 46 يومُ الدين
كلّ هذه المقاطع تشدّد على "المجيء"، والكلمة في الأصل اليوناني تعني الحضور. كان العالم اليوناني الروماني يستعملها ليعبرّ بها عن مجيء الملوك ودخولِهم الإحتفالي إلى عاصمة ملكهم، مع ما يرافق ذلك من ولائم وخُطَب وهدايا ووعود ومشاريع. وكان يُعبرَّ بها أيضاً عن مجيء الآلهة في ظهورات خاصّة، ومواكب فخمة. فقد استعمل المسيحيون الأولون الكلمة كتعبير تِقْنِيّ عن مجيء المسيح الممجَّد (متّى 24/27، 37، 39؛ 1 تس 9/ 12؛ 1 قور 15/23)، عن مجيئه الأخير، وعن أيّ مجيء، لأنه حاضر أبداً في كنيسته، مقيمٌ فيها ملكوتَه الجديد، على أنقاض ملكوت الأرض.
أمّا دمار الهيكل وظهور المسحاء الكذابين وحدوث الحروب والمجاعات والزلازل، وزعزعة عناصر الكون كالشمس والقمر والكواكب، فهي صور مألوفة في الأدب الرؤيوي، ولكن الإنجيلي متّى يرفض أن يرى فيها علامات مباشرة لنهاية العالم، أو وصفاً واقعيا دقيقاً لمجيء الرب الأخير، بل هي آلام مخاض تسبق ولادة عالم جديد، وتعبير نبويّ عن خطورة عمل الله الخلاصي، وكأنّه يُعيد الكونَ إلى العدم ليخلُقَه من جديد.
الميزة الثالثة: كلّ خطبة تسبقها مجموعة أحداث كبرى، تمهّد لها، في صورة مباشرة.
يتفرّد متّى بجمع أحداث حياة يسوع العلنية قي خمسة مجموعات كبرى، تمهّد للخطب الخمس، موضوعها شخصية يسوعَ الملكِ الجديد.


1) خطبة الجبل:
تمهّد لها مجموعة أحداث في الفصلين (3- 4). تصف شخصية يسوع وجوهر رسالته من خلال شهادة المعمدان (3/ 1- 12)، وشهادةِ السماء (3/ 13- 17)، وقهر يسوع لِوَساوِس إِبليس كلِّها (4/ 1 - 11)، وتجوالِهِ مبشرّاً بالملَكوت حول البحَيرة، وشافياً كل مرض (4/ 12- 17)، ودعوتِهِ للتلاميذ الأربعة الأوائل (4/ 18 - 22)، وتهافُتِ الجموع عليه من كلّ صوب (4/ 23- 24).
تلك شخصية يسوع الفريدة ترسمها مجموعة الأحداث (3- 4)، فتمهد مباشرةً لسماع تعاليمه السامية في خطبة الجبل، حيث أعلن شرعة ملكوته الجديد.

2) خطبة الرسالة:
تمهّد لها مجموعة أحداث في الفصلين (8- 9)، حيث يتفرّد متّى بجمع عشر آيات أَتاها يسوع، فأظهر فيها سلطانه على الكون، وعلى الأمراض جميعها، وعلى الموت، وعلى الشيطان، وبينّ أنّ ملكوت الله حاضر حالّ في شخصه، وهذا بدء إنتصار روح الله القدّوس الحالّ فيه على قوّات الشرّ والخطيئة في الناس، وذلك كمقدّمة لانتصاره الأخير بقيامته من بين الأموات. في الفصلين (8-9) يهيّئ يسوع تلاميذه الذين اختارهم وأوصاهم بما يعملون، وأرسلهم في الفصل 10، خطبة الرسالة.

3) خطبة الأمثال:
تمهّد لها مجموعة أحداث في الفصلين (11- 12)، تعبرّ عن الطابع الروحي لرسالةِ يسوع، رسالةٍ لم يفهمها مَن كانوا ينتظرون مسيحاً زمنياً، أمثالُ المعمدان (11/ 2- 19)، وسكّانِ مدن البحيرة (11/ 20 - 24)، والفريسيّين والرؤساء (12/ 1- 45)، حتّى سمّوه بعل زبول (12/ 23- 32)، وهم يدّعون أنهم حكماء. لكنَّ سَّر ملكوتِ يسوع، ربِّ الرِفقِ وتواضعِ القلب (11/ 28- 30)، وعبدِ الله الحليم الحنون الذي يصل بالحُكم إلى النصر (12/15- 21)، قد كشفه الله للأطفال البسطاء تلاميذه (11/25- 27)، وللسامعين كلمتَهُ العاملين بمشيئة الله (12/46- 50).

4) خطبة الكنيسة:
تمهّد لها مجموعة أحداث في الفصول (14- 17)، وهي مرحلة جديدة حاسمة في حياة الرب. نراه يعتزل الجموع لكي يتفرّغ لتلاميذه يعلّمهم ويُعدّهم ليومه الكبير. هي مرحلة تأسيس الجماعة المسيحية برئاسة بطرس. لذلك جمع الإنجيلي، بأسلوبه الشخص وتصميمه الخاص، في هذه الفصول معظم المعطيات الإنجيلية التقليدية في حياة الرب لقيام الكنيسة، كما هو يريدها:
* مقطع الخبز (14/13- 16/ 12) يدور موضوعه على الخبز والطعام، وله أهميّة كبرى بالنسبة إلى الخبز الأفخرستي، غذاءِ الكنيسة. وذِكْرُ أعجوبة تكثير الخبز مرّتين برهانٌ على أن حياة الكنيسةِ مِحورُها مائدةُ الرب. والخبز لا يرمز إلى الأفخارستيّا فحسب، بل إلى التعليم والعقيدة التي تقوم عليها كنيسة المسيح (رسل 42/2).
* دور الرسل وبطرس في بنية الكنيسة، تركّز عليهم الفصول (14 - 17)، وعلى علاقتهم الحميمة بشخص يسوع، وإيمانهم به أنه المسيح إبن الله الحي، لأن الجماعة المسيحية ليست فوضوية، بل هي ذات سلطة متسلسلة من المسيح إلى الرسل إلى جميع المؤمنين.
* يسوع المعلّم والمتألم: بعد إعلان بطرس لمسيحانية يسوع، يبدأ يسوع لأوّل مرّة يعلن سرّ آلامه وموته وقيامته في أورشليم. لا تقوم الكنيسة على يسوع معلّماً فحسب، بل أيضاً متألماً مصلوباً مائتاً وحياً قائماً إلى الأبد.
5) خطبة النهايات، تمهّد لها مجموعة أحداث في الفصول (19 – 23). وهي مرحلة جديدة في حياة الرّب يسوع، ينتقل فيها من الجليل إلى أورشليم، ويدخل تلاميذُهُ معه في تطوّرات الأزمة الأخيرة، التي تروح تتشبّك وتتعقّد من فصل إلى آخر حتّى تبلغ ذروتها في خطبة الويلات (23) ثم في خطبة النهايات (24- 25). يشدّد فيها يسوع على مقتضيات الملكوت الصعبة: يحرّم الطلاق (19/ 3- 9)، ويتكلّم بوضوح على البتولية الإختيارية الكاملة من أجل الملكوت (19/ 10- 12)، ويُلزم تلاميذه بالكفر بالنفس والتجرّد عن المال والإحسان للفقراء كشرط جوهري لدخول الملكوت (19/ 16- 30) ويعلن للمرّة الثالثة عن آلامه وموته وقيامته (20/17- 19)، ويضع شروطاً قاسيةً على من يريد الجلوس عن يمينه ويساره في ملكه (20/ 20- 28).
يصل إلى أورشليم فيتوجّه توّا إلى الهيكل، ليطّهره معلناً أن يوم التجديد الروحي قريب (21/ 1- 17). وتأتي الجدالات الخمسة لتدلّ على حكمة يسوع وقوّته الباهرة التي لا يقدر الرؤساء والشيوخ والفريسيون والكتبة على مقاومتها:
- جدال حول سلطة يسوع (21/23- 27)
- جدال حول الجزية لقيصر (22/ 15- 22)
- جدال حول القيامة (22/ 23- 34)
- جدال حول أعظم الوصايا (22/ 35- 40)
- جدال حول المسيح إبن داود وربّه (22/ 41- 46)
وفي ترتيب متّى، أمثاله جديدة أربعة يبينّ يسوع فيها أن الله رذل شعبه القديم، واختار بَدَلَهُم شعباً جديداً من جميع شعوب الأرض:
- مثل التينة (21/18-22)
- مثل الإبنين (21/ 28- 32)
- مثل الكرّامين القتلة (21/33- 46)
- مثل عرس إبن الملك (22/ 1- 14)
وتنتهي مجموعة الأحداث هذه بويلات سبعة في أورشليم إلى الكتبة والفريسيين مباشرة، نشر فيها خبثهم ورياءهم (23/ 1- 36). ويختم بنداء أخير يائس يُنذر بالدمار التامّ أورشليمَ وبنيها (23/37- 39). وهكذا تمهّد مجموعة الأحداث (19- 23) لخطبة النهايات (24- 25).

الميزة الرابعة: كلّ خطبة تختم بعبارة واحدة:
منذ بدء حياة يسوع العلنية (فصل 3) حتىِ يومَين قبل آلامه (26/ 1- 2) جمع الإنجيلي أحداث حياة يسوع وخُطبَه في لوحات خمس كبرى نتبينّ فيها تصميماً واحداً: في كلّ لوحة خطبة، وكلّ خطبة تمهّد لها أحداث. وموضوع الأحداث والخطبة واحد وهو ملكوت الله الآتي في يسوع. وكلّ لوحة تُختَم بعبارة واحدة، وهي حرفياً: "وصار عندما أكملَ يسوع هذه الكلمات... "
اللوحة الأولى، شرعة الملكوت (3- 7)، تُختَم بعبارة: "ولمّا فرغ يسوع من هذه الكلمات، عَجبت من تعليمه الجموع، لأنه كان يعلّمهم كذي سلطان، لا مِثلَ كَتَبتِهم" (7/ 28- 29).
اللوحة الثانية، رسالة الملكوت (8- 10)، تُختَم بعبارة "ولمّا فرغ يسوع من وصاياه إلى تلاميذه الإثني عشر إنتقل من هناك يعلّم في مدن اليهود ويبشّر" (11/ 1).
اللوحة الثالثة، سّر الملكوت (11/ 2- 13/ 53)، تُختَم بعبارة " ولمّا فرغ يسوع من هذه الأمثال، إنصرف من هناك" (13/53).
اللوحة الرابعة، جماعة الملكوت (13/ 54- 19/ 1)، تختَم بعبارة "ولمّا فرغ يسوع من هذه الكلمات، ترك الجليل وجاء ضواحي اليهودية في عبر الأردن" (19/ 1).
اللوحة الخامسة، مجيء الملكوت (19- 25)، تُختَم بعبارة "ولمّا فرغ يسوع من كلّ هذه الكلمات، قال لتلاميذه: تعلمون أنّ الفصح واقع بعد يومين، وأن إبن الإنسان يُسلَم لكي يُصلَب" (26/ 1- 2).

خاتمة:
إلى تلك اللوحات الخمس المؤلَّفة كلُّها من أحداث وخُطَب وعبارة خاتمة واحدة، من الفصل 3 حتّى 25، أَضِفْ لوحة إنجيل الطفولة (1 - 2)، ولوحةَ إنجيل الآلام والموتِ والقيامة (26- 28)، تَرَ أن متّى يَروي حياةَ يسوع في سَبعِ لوحات متتالية، متكاملة، متصاعدة، وكأنّها عمل مسرحيّ كبير في سبعة فصول، بَطَلُها يسوع، وموضوعها واحد: يسوع هو الملك المخلّص الموعود!

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM