الفصل الأول: الإنجيل حسب القديس لوقا

الفصل الأول
الإنجيل حسب القديس لوقا

هناك تقليد سابق لنهاية القرن الثاني، يدلّ على أن صاحب الإنجيل الثالث هو لوقا. رجل أصله من أنطاكية. كان طبيباً ورفيق بولس في أسفاره. تقليد جاء من رومة (قانون موراتوري) وغالية (أي فرنسا الحالية) (مع ايريناوس) وأفريقيا الشمالية (مع ترتليانس) ومصر (اكلمنضوس، أوريجانس). وهذا التقليد الشامل هو قديم بما فيه الكفاية لكي يستحق ثقة المؤرخ.
وزادت مخيّلة المؤمنين التقيّة على هذه المعطية، سلسلة من السمات التي لا يمكن التحقّق منها: لوقا هو واحد عن السبعين تلميذاً. بل واحد من التلميذين اللذين رافقهما يسوع على طريق عمّاوس. لوقا هو رسّام العذراء مريم. لا شك في أنه أعطى عنها صورة جميلة جداً في إنجيل الطفولة (ف 1- 2). ولكن يبدو أن لوقا كان وثنيّاً، وأنه الكاتب الوحيد في العهدين القديم والجديد، الذي لم يكن يهوديّ الأصل. إنه وثني وصاحب ثقافة يونانية وقد كتب ما كتب إلى اليونان سواء كانوا في إنطاكية أو في بلاد اليونان.
كان مت وليد جماعة محدّدة، جماعة من اليهود انتقلوا إلى الكنيسة وصاروا مسيحيين. وكان مر خلاصة ما علّمه بطرس. أما لو فهو عمل كاتب لا يذكر اسمه، بل اسلوبه: قام بتحقيق دقيق قبل أن يكتب الأحداث بحسب ترتيبها ويقدّم قوة التعليم إلى الشريف تاوفيلوس.
أورد متّى فقاهة كنيسته. وأورد مرقس الاعلان الإنجيلي الأول كما تفوّهت به شفتا بطرس. أما لوقا فأراد أن يدوّن كتاباً يضع فيه "جميع ما عمل يسوع وعلّم من البدء حتى اليوم الذي صعد فيه إلى السماء بعد أن أعطى تعليماته للرسل الذين اختارهم بقوّة الروح القدس" (أع 1: 1- 2).
نتوقّف هنا عند ثلاثة مواضيع: لوقا والتقليد، لوقا ولاهوت التاريخ، لوقا والروح القدس.
1- لوقا والتقليد
كل مؤرّخ، ولوقا يعتبر نفسه مؤرّخاً يتضمّخ تاريخه بالتقليد، هو في شكل من الاشكال رجل التقليد. فهو يحاول أن يعود عبر الشهادات إلى منابع قريبة من الأحداث التي يتكلّم عنها. في هذا المعنى، لوقا هو مؤرّخ. غير أن موقفه ليس موقف مؤرّخ دنيوي. فهذا التقليد الذي يجعل نفسه صدى له وكفيلاً، ينعم بقيمة وسلطة لا يمكن أن تكونا موضع تساؤل. هو لا "يحكم" على هذا التقليد من علياء "فكره الفلسفي". ولا هو يعتبر أنه يعطي بخبره أساساً تاريخياً لكرازة غاب عنها التاريخ. بل عليه فقط أن يبيّن نوعية تعليم الكنيسة والتقليد الرسولي.
نحن نستطيع أن نحدّد بعض التحديد، الإطار التاريخي الذي عاش فيه الإنجيلي. نحن في عصر قلق واضطراب. وهذا ما تدلّ عليه أخبار أعمال الرسل. فبولس يتكلّم في وصيّته إلى شيوخ أفسس عن هؤلاء "الذئاب المخيفة" (أع 20: 29- 30) التي تهدّد الكنيسة. وفي الرسائل الرعائية، ما زال يشجّع تيموتاوس أو تيطس ليثبتا في صحّة العقيدة (1 تم 1: 3- 7؛ 4: 1- 3؛ 6: 3- 4؛ تي 1: 10- 11؛ 3: 9- 10؛ 2 تم 2: 14- 18؛ 3: 1- 8؛ 4: 3). ويورد لوقا أحداث الكنيسة الفتيّة حيث تظهر مثل هذه الانحرافات: سمعان الساحر (أع 8: 9- 13؛ 18- 24). عليما الساحر (أع 13: 8- 12). طاردو الأرواح النجسة من اليهود المتجوّلين (أع 19: 13- 17). بل إنه يعلم أن بعض "الناس يحاولون بأقوالهم الفاسدة أن يجتذبوا التلاميذ وراءهم" (أع 20: 30).
أوصى بولس الرعاة بالسهر. أما لوقا فأهتمّ بطريقته الخاصة بأن يقدّم الدواء لمثل هذه الأخطار ويؤمّن استقامة الرأي في الجماعة. لم يكن شاهداً، شأنه شأن بطرس ويعقوب ويوحنا واندراوس. ولكنه عرف بدقة التعليم الكنسي والتقليد الرسولي، وحاول أن يبرزهما في العمق وحين "نشر" كتابه، أراد أن يجعل ثقة تاوفيلوس مؤسّسة على أمور موضوعيّة. هو لا يعلن فقط، شأنه شأن مرقس، البشرى، "الإنجيل" (غابت لفظة "اونجيليون" من لو). بل يؤلّف "كتاباً" يستعمله المبشّرون لكي يعلّموا في الكنيسة.
تحدّث لوقا في مطلع كتابه عن "تعاليم" تلقّاها تاوفيلوس، تعاليم كُرز بها. إن هذه الفقاهة تدلّ بلا شكّ على التعليم الذي يتبع الكرازة ويهيّئ الطالب للمعموديّة (عب 5: 11- 6: 2؛ أع 8: 35؛ 10: 37- 43؛ 16: 31- 32؛ أف 4: 20- 21؛ كو 1: 6). لا نستطيع أن نؤكِّد بأن هذه الفقاهات سبقت العماد وهيّأت له الطريق، أو أنها جاءت بعد قبول سرّ العماد. رج 1 بط 1: 13- 21؛ 3: 18- 22؛ كو 3: 1- 4: 6؛ أو: أع 5: 42؛ 6: 2؛ فل 4: 9؛ 1 تس 2: 7- 12. كما لا نستطيع أن نجزم بأن تاوفيلوس كان من الموعوظين الذين يستعدّون للعماد، أو من المعمّدين الجدد.
يبدو أن كتاب لوقا قد دوّن ليكمّل الفقاهة الأولى التي تكوّنت من بعض "أقوال" يسوع كما وردت مثلاً في 1 تم 1: 15؛ 3: 1؛ 4: 9؛ 2 تم 2: 11؛ تي 3: 8. تلك كانت أولى المحاولات لجعل الكلمة الحيّة "حبراً على ورق". وبعد الآن، سنحاول أن نلتقي بهذه الكلمة ونسمعها عبر هذه الأقوال التي يسهل حفظها، والتي تذكّرنا بالأحداث الكرونولوجيّة الهامة. هذه هو معنى لفظة "أخبار" كما ترد في لو: أعيال، أقوال...
إن خطبة بطرس إلى الضابط الروماني كورنيليوس (أع 10: 37- 43) تقدّم لنا نموذجاً أميناً لهذه الفقاهة العمادية: ذُكرت حياة يسوع منذ عماده على يد يوحنا إلى قيامته. والحال هذه هي الرسمة التي عليها بنى لوقا إنجيله. هذه الرسمة لا تعود إلى لوقا بل إلى الكرازة الأولى التي انطلق منها الإنجيلي الثالث وطبعَها بطابعه.
وإذ أراد لوقا أن يبيّن تطابق التعليم الذي تلقّاه تاوفيلوس مع حقيقة الكرازة الرسولية، عمل على جمع المحاولات التي سبقته وتنظيمها. تتبّع خطاها في بحث دؤوب ودقيق. ولكنه اختلف عن المؤرّخين الذين عاصروه. فلم ينقد أولئك الذين كانوا أول من دوّنوا التقاليد التي استعملها. بل اقرّ بفضلهم عليه: لقد كانوا شهود عيان للكلمة، فحملوا حالاً بعد قيامة يسوع التقليد الرسولي. أما لوقا فلا يستطيع أن يسمّي نفسه "خادم الكلمة". إنه من الرعيل الثاني وربما الثالث. فقد ألّف كتابه في نهاية الجيل الرسولي. غير أن لهذا الوضع محاسن.
عاد لوقا إلى هؤلاء الشهود الأولين، وعاد حتى وصل إلى "الأصل"، إلى البداية. فتفحّص "جميع" المحاولات متوخّياً أن "يرتِّب" هذه المجموعة من المعطيات. وهكذا صار لوقا إنجيلي تاريخ قصد الله. ولكن قبل أن نعالج هذا الموضوع، نتوقف عند بعض الإشارات الأدبيّة التي ترينا فيه "رجل التقليد" الرسولي الحقيقي.
ما يشهد على ذلك أولاً هو لغة الكتاب وأسلوبه. بدا نصّ مت في إطار ليتورجي. ونص مر شعبياً. أما لو فقدّم إلى أذن يونانية مزيجاً عجيباً من الرفعة والمألوف. لماذا؟ لأنه أراد أن يكون أميناً لمراجعه. وهذه الأمانة للتقليد الذي وصل إليه، قد دفعته أن يضحّي بثقافته الواسعة واهتمامه بالكلام البليغ. ودلّ أيضاً على احترامه للتقليد في الطريقة التي بها رتّب خبره. هنا نستطيع أن نقابل بين مت ولو. فإنَّ مت يعيد "تأليف" ما وصل إليه، فيضمّ إلى خبر وصل إليه، أقوالاً قالها الرب في سياق آخر. ففي الخطبة على الجبل، جاءت الصلاة الربية (صلاة الأبانا) في إطار الصلاة التي هي أحدى الفرائض الأساسية الثلاث في الشريعة الجديدة! ست 6: 9- 13). ولكن هل علّمها يسوع في هذا الوقت؟ يبدو أن لوقا جعلها في إطارها الحقيقي (11: 1- 4). وربط مت 8: 11- 12 القولَ عن دخول الوثنيين إلى الملكوت، بشفاء ابن ضابط كفرناحوم، وهذا ما يتوافق مع مدلول هذه المعجزة. أما لوقا فلم يتجرّأ على التقريب بين المعجزة والقول، فجعل خبر الشفاء في 7: 1- 10 والقول المتعلّق بالوثنيين في 13: 28- 29.
مثل هذه الملاحظات التي تجري على مختلف التقاليد المنعزلة، تنطبق أيضاً على الترتيب العام في الإنجيل. فإن لو الذي يرتبط بمرجع قريب من مر، يراعي هذا المرجع، بل أوقف مسيرة الخبر وقدّم في اللحمة المرقسيّة أموراً خاصة به.
* المطلع (1: 1- 2: 52). لاشيء يقابله عند مر.
* في الجليل (3: 1- 9: 50). هناك قسم أول (3: 1- 6: 19) يقابله مر 1: 1- 3: 19+ 3: 20- 35. وقسم ثانٍ (6: 20- 8: 3؛ ثم 8: 4- 9: 50) يقابله مر 4: 1- 9: 50 ما عدا 6: 45- 8: 29 (خاص بمرقس).
* نحو أورشليم (9: 51- 19: 27). يقابله فقط مر 10: 13- 52.
* في أورشليم (19: 28- 24: 53). يقابله مر 11: 1- 16: 8.
قدّم لو متتالية مشابهة لمتتالية مر ثم متتالية خاصّة به. وجاءت القاطعة القصيرة (6: 20- 8: 3) والقاطعة الكبيرة (9: 51- 18: 14) فأوقفتا تواصل الخبر المرقسي دون أن تدمّراه. وهكذا دلّ لو على أنه يراعي التقليد. هو لا "يشقلب" المعطيات التي وصلت إليه، بل يحاول أن "ينقلها" بدوره بكل أمانة.

2- لوقا ولاهوت التاريخ
أ- أحداث في الزمان والمكان
غير أن هذه الأمانة تفرض على رجل التقليد أن لا يكون عبداً لحرف الوثائق التي يستعملها: فعليه أن يستعيدها وينظّمها ويقدّمها حسب مخطط يعود فيه إلى الوراء. قام لوقا ببحثه ورتَّب المواد المجموعة فدلّ على أنه لاهوتيّ تاريخ قصد الله.
إهتتم المؤرّخ بأن يحدّد في الزمان والمكان الأحداث التي يوردها. لم يستطع لوقا ذلك دوماً، بسبب نقص في وثائقه، أو بحثاً عن بناء لاهوتي يفضله على تكوين خارجي لسيرة يسوع. وقد يصل بعض المرات إلى دقّة كرونولوجيّة لافتة. مثلاً، هذان المقطعان الاحتفاليان اللذان يفتتحان خبر طفولة يسوع (2: 1- 3)، وخبر رسالة يوحنا المعمدان (3: 1- 2). نجد فيهما أسماء سبعة من الرؤساء.
وفي مقاطع أخرى يخفّف المؤرّخ من تأكيدات يعتبرها مفرطة. قال مت ومر إن التجلي "بعد ستة أيام" على اعتراف بطرس. أما لو فصحّح: "بعد حوالي ثمانية أيام" (لو 9: 28). واعتاد أن يجعل لفظة "حوالي، تقريباً" أمام أرقام بدت أكثر من دقيقة (1: 56؛ 3: 23؛ 9: 14؛ 22: 59؛ 23: 44). كما أنه ألغى ما اعتبره تكراراً. ترك نصّ مرقس حول دعوة التلاميذ الأولين (مر 1: 16- 20)، واكتفى بمشهد الصيد العجيب (5: 1- 11). ثم نراه يورد الأخبار في إطار يختلف عن إطار مر. أورد مر في 3: 22- 30 حدث يسوع وبعل زبول حالاً بعد اختيار الرسل الاثني عشر. أما لو 11: 14- 23، فجعله بعد الصلاة الربية ومثل الصديق اللجوج. ونقول الشيء عينه عن مثل حبّة الخردل الذي يرد عند مرقس (4: 20- 32) في خطبة الأمثال، ولكنه يرد عند لوقا (13: 18- 19) في إطار آخر ومع مثل الخمرة (ق مر 6: 1- 6 ولو 4: 16- 30؛ مر 8: 11- 13 ولو 11: 16- 29).
واعتاد لوقا أن لا يورد الأخبار المتشابهة. أورد مر تكثيرين للأرغفة (6: 30- 44؛ 8: 1- 10): واحد لليهود والآخر للوثنين. أما لو فأخذ الأولى (9: 10- 17) وترك الثاني. فللعالم الوثني كسر خبزه في أع. أورد مر خبرة التينة التي لعنها يسوع فيبست (11: 12- 14، 20- 21). أما لو 13: 6- 9 فتحدّث عن التينة التي لا تحمل ثمراً. أعطي لها بعض الوقت. ترك لو مشهد السير على المياه كما ورد في مر 6: 45- 52 (= مت 14: 22- 33)، واكتفى بمعجزة تهدئة العاصفة (لو 8: 22- 25) الذي يذكره مر 4: 35- 41 ومت 8: 23- 27. لم يعد لو إلى المسح بالطيب في بيت عنيا (مر 14: 3- 9؛ مت 26: 6- 13؛ يو 12: 1- 8)، لأنه سبق له وتحدّث عن غفران يسوع للخاطئة (لو 7: 36- 50). وألغى لو أيضاً أحد مثولَي يسوع أمام المجلس الأعلى (22: 66- 71)، كما ألغى حدث الخمر الممزوج بالمرّ لئلا يكرّر حدث الاسفنجة التي قُدّمت ليسوع (23: 36).
ألغى لو بعض الشيء. وزاد بعض التفاصيل أو أوضح بعض الأمور. مثلاً، حصلت تهدئة العاصفة لا في مساء يوم الأمثال، بل في مساء يوم آخر (8: 22). وأشار أيضاً إلى أن التجليّ حصل في الليل على جبل اعتاد يسوع أن يصليّ عليه (9: 32- 37؛ رج 6: 12؛ 23: 39- 40). لهذا، نستطيع أن نفهم أن تكون عيون التلاميذ مثقلة بالنعاس خلال هذا المشهد (9: 32). ثم إن لو تحدّث ثلاث مرات عن "الصعود" إلى أورشليم (9: 51- 52؛ 13: 22؛ 17: 22). فكأنه أراد أن يفهمنا أن يسوع صعد ثلاث سنوات إلى العيد، وبالتالي امتدت رسالته على ثلاث سنوات، كما قال يوحنا. وأخيراً بدا لوقا مؤرّخاً حين قدّم لقارئه معلومات جغرافية: كفرناحوم والناصرة هما مدينتان في الجليل (4: 31؛ 1: 26). أما "بحر الجليل" (حسب مت ومر) فيسميه لو "بحيرة جنسارت" (5: 1؛ 8: 32؛ رج 8: 26؛ 19: 29؛ 23: 51).
إن هذا التقديم اللاهوتي قاد لو إلى إلغاء عدد من المعطيات الطوبوغرافيّة التي يحتفظ بها مر. ذكر مر 2: 1؛ 9: 33 كفرناحوم. أما لو 5: 17؛ 9: 46 فلم يذكرها. أشار مر 9: 30 إلى الجليل. أما لو 5: 27؛ 6: 17؛ 9: 43، فقد أغفل ذكره. وهو لم يتكلّم عن الدكابوليس أو المدن العشر في 8: 39 (رج مر 5: 20). إعتاد مر أن يحدّد موقع كل خبر من أخباره: في قيصريّة فيليبس (8: 27)، في جبل الزيتون (13: 3)، في جتسيماني (14: 32). وقال: في الطريق (10) 17). في الهيكل (12: 35) وتجاه الخزانة (12: 41). أما لوقا فلا يهتمّ بهذا الأمر في إنجيله، لكنه يعوّض في أع 14- 28 المليء بأسماء الأمكنة.
لماذا لم يحتفظ لو بأسماء الأمكنة في إنجيله؟ قد يكون نقص في مراجعه. وقد تكون هناك نظرة لاهوتية خاصة جعلته يتطلّع فقط إلى أورشليم. يبدو أن لوقا لم يتوقّف عند طريقة البناء في فلسطين (5: 19؛ 6: 47- 49)، عند العادات (6: 29؛ 7: 14؛ 8: 5- 6)، عند الطوبوغرافيا (4: 29؛ 9: 10؛ 12: 55؛ 21: 29). كل هذا يدلّ على أن لوقا لم يتوخّ أن يكتب سيرة يسوع بطريقة دنيويّة. لا شكّ في أنه قصد أن يدوّن خبرا "مرتباً ومتتابعاً" للأحداث. غير أنه ما أراد أن يغيرّ اللحمة العامة للأحداث كما فعل يوحنا في الإنجيل الرابع. كل ما أراده لوقا هو أن يعرض لتاوفيلوس مسيرة الخبر الإنجيلي. لذلك اهتمّ بتأليف أدبي رفيع، واهتمّ بأن يفهم قصد الله في أعماق قلبه.
وتفنّن لوقا في انتقالاته بين خبر وآخر داخل الأحداث، فتفوّق على مرقس. ففي 5: 33، وبعد أن انتقد الفريسيون يسوع لأنه يأكل مع الخطأة، طرحوا سؤالاً حول صوم التلاميذ: خبران متجاوران في مر 2: 13- 22، ولكنهما جُمعا هنا من أجل القارئ. وعرف لوقا أن يهيِّئ القارئ للأحداث اللاحقة. قال في 4: 13 إن إبليس ترك يسوع "إلى حين". إنه سيعود ليدخل في يهوذا في بداية الآلام (22: 3؛ رج 22: 53).
إن ترتيب الأخبار يجعلنا في إطار تاريخي. وإذ يورد لو بعض المعجزات، فهو يفهمنا فهماً أفضل جواب التلاميذ على نداء المخلّص 51: 1- 11). وهو يقدّم لنا منذ بداية إنجيله تكتّل أعداء يسوع. ويحدّد أن الباعة طردوا من الهيكل حالاً بعد الدخول إلى أورشليم (19: 45- 46). ويوزّع بشكل منطقي خبر العشاء الاخير (22: 14- 38) كما يضمّ بشكل متدرّج مراحل نكران بطرس ليسوع (22: 54- 62).
هذه الأمثلة تدلّ على الترتيب الذي توخّاه لوقا في خبره. ولكن هذا البحث عن التماسك لا يجد هدفه في نفسه: إنه يعبرّ عن اهتمام الإنجيلي الثالث بإبراز نظرة لاهوتية حقيقية في تقديم الأحداث. لهذا نبدأ بتحليل بسيط قبل أي نقدّم اعتبارنا حول لوقا كلاهوتيّ التاريخ.

ب- موقع أورشليم في إنجيل لوقا
تركّز الإنجيل الثالث كله على أورشليم، لهذا تبسّطت مسيرة يسوع: ألغي السفر على حدود الجليل (مر 6: 45- 8: 26). و"طار" اسم قيصرية فيليبس (مر 8: 27) والجليل (9: 30). والموعد الذي حدّده يسوع بعد القيامة (مر 14: 28؛ رج 16: 7) قد تحوّل في لو 24: 6- 7 فصار: "تذكّروا ما قال لكم حين كان في الجليل".
إذن، نحن أمام خبر قد قدّم من أجل هدف محدّد. بدأ في أورشليم (1: 5)، وانتهى في أورشليم (24: 52- 53). ذكر خبرُ الطفولة صعودين نموذجيين إلى أورشليم (2: 22- 38؛ 2: 41- 55). وفي مقدّمة الحياة العلنيّة، وجدت تجربة يسوع ذروتها، لا على الجبل كما في مت، بل في أورشليم (4: 9- 12). وأخيراً بدت القاطعة الكبرى صعوداً احتفالياً إلى أورشليم. جمعت الأقوال والأخبار بطريقة مصطنعة (قد يكون لوقا وجدها في مراجعه)، وامتدت سلسلة من الخطب الهجومية في 11: 14- 14: 24. ثم كانت أقوال مختلفة ترتبط بما يسمّى توارد الألفاظ (12: 1- 12؛ 14: 25- 53؛ 16: 16- 18).
ثم برز الرقم 3 كما في مت: ثلاثة أخبار دعوات (9: 57- 62). ثلاثة أقوال حول امتيازات التلاميذ (10: 18- 24). ثلاثة أمثال عن رحمة الله وحنانه (15: 1- 32). ثلاث تعليمات عن الصلاة (11: 1- 13). ثلاث كلمات حول الشريعة (16) 16- 18)، ثم آراء متفرّقة (17: 1- 6).
متى تفوّه يسوع بهذه الأقوال؟ في 9: 59 نقرأ: "قال يسوع لرجل آخر". في 11: 5 نعرف أن مثل الصديق اللجوج جاء بعد الصلاة الربّية (رج 13: 18- 20؛ 15: 11). بعض المرات ترتبط المقطوعات بشكل غامض. "بعد ذلك". "في تلك الساعة". أو هي تتجاور بدون أي وصلة (10: 1- 21، 25؛ 12: 1، 35، 47؛ 13: 21؛ 16: 1؛ 17: 1، 3، 4، 7).
حين يرتّب لو مواده بهذا الشكل، يدلّ دلالة واضحة على قصده: لا يريد أن يذكر أية إشارة جغرافية إلا أورشليم. لهذا جاءت النتيجة رائعة. في 9: 51، نرى عبد الرب الذي يواجه صراعاً و "نزاعاً" (رج أش 50: 6- 8 حسب السبعينية) يعود صاعداً إلى الله (رج يو 13: 1). في 9: 53، نرى يسوع وقد رذله السامريون لسبب غريب: إنه يتوجّه إلى أورشليم. ثم "سار يسوع إلى قرية أخرى" (9: 57) تحمل إلينا ثلاثة أخبار تجمعها لفظة "تبع". في 10: 1، يتحدّث النصّ عن أماكن "عزم يسوع أن يذهب إليها". وبعد بعض الخطب وعودة التلاميذ ومثل السامري الصالح، يستعيد لوقا مسيرة خبره: "وبينما هم سائرون" (في الطريق، 10: 38). نحن في بيت عنيا، هذا ما يعرفه لوقا ولكنه لا يذكره. بل هو يفضل العبارات المبهمة: "وكان يسوع يصليّ في أحد الأماكن" (11: 1). "وكان يسير في المدن والقرى، يعلّم وهو في طريقه إلى أورشليم" (13: 22). بعد وقت قليل نصحوا يسوع بأن "يذهب من هنا". ولكن من أين؟ أما هو فأجاب: "يجب أن أسير في طريقي اليوم وغداً وبعد غد. لأنه لا يجوز أن يهلك نبيّ في خارج أورشليم" (13: 31- 35). ثم وجّه كلاماً قاسياً إلى المدينة المقدّسة (13: 34- 35).
ومع ذلك، فهذا الصعود الطويل لم ينتهِ بعد. فيسوع سيعطي بعض التعاليم خلال طعام تناوله في بيت أحد كبار الفريسيين (14: 1- 24). ونقرأ في 14: 25: "وإذ كانت جموع كثيرة تسير معه". ها هو ينطلق من جديد يرافقه الناس. وأخذ يعلّمهم بالامثال. وإذ ظلّ يمشي دوماً نحو أورشليم، "مرّ على حدود السامرة والجليل". "ها نحن صاعدون إلى أورشليم، ويتمّ ما كُتب عن ابن الإنسان".
هنا نجد إشارة طوبوغرافيّة نقرأها في التقليد المشترك: دخل يسوع إلى أريحا (19: 1؛ رج 18: 35). غير أن لوقا عاد إلى موضوعه: "وقال يسوع أيضاً مثلاً، لأنه كان قريباً من أورشليم. وكانوا يظنّون أن ملكوت الله سيظهر في الحال" (19: 11). بعد هذا، نجد تصويراً احتفالياً للدخول إلى المدينة المقدّسة: "وإذ تكلّم يسوع بذلك، سار في المقدّمة صاعداً إلى أورشليم. ولما اقترب من بيت عنيا" (19: 28- 29). "ولما اقترب من منحدر جبل الزيتون" (19: 37). "ولما اقترب، نظر إلى المدينة وبكى" (19: 41). وحين دخل إلى الهيكل (19: 45)، طرد منه الباعة.
مهما كان من أمر هذه الصناعات الأدبية، فهي تؤثر في القارئ. وهكذا يندرج هذا الصعود اندراجاً ناجحاً في لحمة الإنجيل الذي بدأ في أورشليم، ووصل يسوع إليها ظافراً. وبعد ليلة بستان الزيتون، اقتيد سجيناً إلى المدينة المقدسة وهناك حُكم عليه بالموت وصُلب. وفيها قام من الموت وظهر للتلاميذ، ومن بيت عنيا صعد إلى السماء. حينئذٍ عاد التلاميذ إلى أورشليم وهم يمجّدون الله. ومن أورشليم سينطلقون لينشروا الإنجيل حتى أقاصي الأرض (أع 1: 8).
إذن، يرى لوقا في تاريخ مخطّط الله تواصلاً عجيباً، منذ زمن إسرائيل حتى زمن الكنيسة مروراً بزمن يسوع. ونحن نجد رسمة عن هذا التواصل في خطبة اسطفانس أمام متّهميه (أع 7: 1 ي) أو خطبة بولس في انطاكية بسيدية (أع 13: 16- 22).
وهذا ما يتيح لنا أن نستخرج نتيجة أولى: لن نجد في لو (كما لم نجد في مت ومر) سيرة يسوع مكتوبة بطريقة علميّة، وكأنها تقرير صحافي أو كتاب تاريخ بالمعنى الحديث للكلمة. لقد أراد الإنجيل الثالث، شأنه شأن مت ومر، أن يورد الأحداث التي حصلت قبل الفصح، وقرأها على ضوء القيامة. وإن القائم من الموت يبرز قاعدة هذا التاريخ حين يعرض للتلميذين على طريق عماوس، أو للرسل المجتمعين في العلية: "لا بدّ من المرور في الصليب للوصول إلى المجد" (24: 25- 26، 45- 46).
ويتسجّل لاهوت التاريخ هذا تسجّلاً تاماً في خطّ التقليد المشترك: فالأناجيل هي نظرة إلى أحداث تاريخ الخلاص الذي أتمه يسوع في إطار فصحي. إلا أن لوقا قد احتفظ بأصالة وجهته الخاصة مع أمانة لمخطّط التقليد العام.

3- لوقا والروح القدس
أ- حقبات ثلاث في تاريخ الخلاص
إذا أردنا أن نتعمّق في فهم الرؤية التاريخية عند لوقا، وجب علينا أن نتوقف عند مؤلّف لوقا كله، أي لو وأع، ونقابل بينه وبين مت ومر. أعلن مر الإنجيل والخبر الطيّب: يسوع الذي هو المسيح وابن الله، قد جاء ليخلّصنا بموته وقيامته، من الخطيئة والموت. وخبر يسوع هذا، شأنه شأن إعلان الكلمة، لا بدّ أن يؤثّر على السامع والقارئ ليدعوهما إلى الحياة في الكنيسة وفاقاً لهذه البشرى. غير أن مرقس لا يصل بنا إلى هذه النتيجة، بل يترك لكنيسته مهمّة توضيح المتطلّبات التي تجعل المؤمن يشعر الآن بهذه الغلبة التي حازها يسوع على الشيطان وقوى الشرّ.
هذا التطبيق الملموس الذي تركه مر جانباً، والذي لا ينتمي أصلاً إلى الإنجيل بحصر المعنى، قد قام به مت طوعاً. فالإنجيل الأول هو صدى كنيسة حيّهّ مع كل الإتجاهات التي تميّزها، والمحيط الحياتي الذي وُلد فيه. وهو يقدّم للقارئ فقاهة حقيقيّة يتحدّث فيها يسوع الناصري والرب القائم من الموت، بشكل مباشر إلى المؤمنين.
غير أن هذا ليس هدف لوقا، فقد توخّى أن يرسم تاريخ قصد الله، منذ مجيء يسوع على الأرض، حتى امتداد الملكوت إلى أقاصي الكون. واتساع هذا المشروع يفرض إضاءة خاصة على هذا التاريخ.
فحتّى لوقا، سيطر الحدث الفصحي على كل حقل الرؤية اللاهوتية، بحيث أخضع لها كل ما سبقها، كما أخضع كل ما تلاها. ففي يوم الفصح تمّ الوعدُ المعطى لإسرائيل. وعلى هذا الضوء الجديد، استنارت الأحداث السابقة كما الليل عند طلوع الفجر. عند مر، تحدّدت "بداية" الإنجيل في زمن كرازة يوحنا المعمدان الذي سبق وأعلن ملكوت الله. وفي يوم القيامة (أو الفصح) اتخذ كل شيء معناه، لأن الملكوت الأزلي ليسوع، ربّ السماء والأرض، قد تدشن حقاً.
أما عند لوقا فنجد رسمة مثنّاة. رسمة الوعد والتتمّة: مع يسوع قد أعطي كل شيء، تمّ كل شيء. غير أن "البداية" لم تعد في النقطة عينها، والنهاية جُعلت فيما بعد الفصح. "بقيت الشريعة والأنبياء حتى يوحنا. وبعد هذا، أعلنت بشارة ملكوت الله" (16: 16): روى لوقا العماد الذي تقبّله يسوع من يد يوحنا، ولكنه بيّن قبل ذلك أن المعمدان قد جُعل في السجن بفعل هيرودس (3: 19- 22). فزمن التتمّة يبدأ، لا مع كرازة يوحنا، بل مع رسالة يسوع: إمتلأ يسوع من الروح القدس (4: 4) وكرز في المجامع. وفي الناصرة قال أمام الجمع: "روح الرب علي... اليوم تمّت هذه الكلمة التي تُليت على مسامعكم" (4: 21).
هذا ما أعلنه بطرس لكورنيليوس، الضابط الروماني: "إن الله مسحه بالروح القدس والقوّة، فمضى يعمل الخير ويشفي الذين سقطوا تحت سلطة إبليس، لأن الله كان معه" (أع 10: 38). لقد "تمّ" هذا الزمان الجديد (لو 1: 1)، تمّت المواعيد المعطاة لإسرائيل. تدشّن هذا الزمان "الآن"، في كرازة الناصرة، وهو يمتدّ "منذ (هذا) البدء إلى اليوم الذي فيه ارتفع إلى السماء بعد ما أعطى بالروح القدس وصايا للذين اختارهم رسلاً" (أع 1: 1- 2).
ذاك هو في تاريخ قصد الله، المنعطف الحقيقي والنهائي: مجيء يسوع. غير أن هذا الجديد لا يسطع في لحظة واحدة، ولهذا يوضّح لوقا التقليد الإنجيلي ويتوضّح فيه. فبانتظار عودة يسوع، هي تتمة أخرى تبدو كالظهر الذي يلي الفجر الفصحي، وتستبق المجيء الثاني بشكل من الأشكال. "فحين تمّ يوم العنصرة" (أع 2: 1)، تدشّنت حقبة جديدة، حقبة رسالة الكنيسة.
إن حياة يسوع بدت في الإنجيلين الأولين، كنقطة مركزيّة تُوحّد وتفصل بين حقبتين رئيسيتين في تاريخ الخلاص، زمن الوعد وزمن التتمة. أما في لوقا، فالتتمة تكون على مرحلتين: زمن يسوع، وزمن حلول الروح الذي وعد به الآب (أع 1: 4) على الرسل. إذن، لا يتضمّن التاريخ فقط حقبتين، حقبة إسرائيل، وحقبة يسوع التي هي في الوقت عينه حقبة الكنيسة. بل يتضمّن ثلاث حقبات: زمن إسرائيل، زمن يسوع، زمن الكنيسة.
مثل هذا التقديم قد يحمل الخطر إن نحن بسّطناه وحصرناه في رسمة خطوطيّة لا تحتفظ إلا بتسلسل الأزمنة. حينئذٍ لن نصبح في خط القرون الوسطى التي تحدّثت عن زمن الآب، وزمن الإبن، وزمن الروح القدس، وكأن هناك انفصالاً بين الاقانيم الثلاثة. أما لوقا فاعتبر أن الروح يعمل في هذه الحقبات الثلاثة، وإن تميّزت الواحدة عن الأخرى. ترك الرسمة المثنّاة (وعد، تتمّة) في الخفاء وجعل فوقها التقسيم المثلّث.
ب- موقع الروح القدس في تاريخ الخلاص
فالروح القدس لم يأت بعد يسوع ليدلّ على حقبة جديدة، بل دلّ على أنه يعمل منذ زمن يسوع. فقد دلّت نصوص لو على أن يسوع امتلأ منذ البداية من الروح القدس. لهذا سُمّي لو (أكثر من مت ومر) إنجيلي الروح القدس. فالإشارة المتواصلة إلى الروح، تعطي مسيرة التاريخ وحدة حقيقيّة عبر مختلف الأحداث التي يرويها.
هناك من قال إن لوقا قطع كل رباط مع التقليد الإنجيلي الصحيح، فأبرز في الوقت عينه زمن الكنيسة وزمن يسوع، وجعلهما على المستوى عينه! وقال: إن الإنجيل الحقيقي يفترض انتظار المجيء في مهلة قريبة بحيث لم يعد من مكان لفسحة من الزمن بين الفصح والمجيء. أما مع لو الذي وعى تأخّر عودة الرب، فالكنيسة تجد أمامها مستقبلاً لا حدود له. حينئذٍ يتسلم "زمانها" قواماً خاصاً، فيجعل من زمن يسوع حقبة محدودة. إن زمن يسوع هو حضور الأزل في وقت من التاريخ، غير أنه ليس مفتوحاً على اقتراب النهاية. إنه يؤسّس الزمن المتوسّط، زمن الكنيسة.
مثل هذا التفسير يبدو اعتباطياً، فيتجاهل وحدة التقليد الإنجيلي. لا شكّ في أن المسيحيين الأولين انتظروا في البداية عودة المسيح المباشرة، واعتادوا على "مهلة المجيء الثاني". ولكن متى وعى المؤمنون أن هذا المجيء يتأخّر؟ أقلّه مع مر الذي هو أول تفسير لتعليم يسوع. ولقد انطلق لوقا من هذا الوعي وعمّقه انطلاقاً من وضع يحمل معناه في ذاته.
فإذا أردنا أن نتعرّف إلى هذا الوضع، نتوقّف عند ظروف الكنيسة الفتيّة، لا حسب شهادة لوقا وحسب، بل في خطّ التقليد البولسي الذي سبق تدوين الأناجيل. حين يذكّر بولس أهل تسالونيكي بساعات ارتدادهم المباركة، بلقائهم مع الله والمسيح، فهو لا يشير فقط إلى مضمون إيمانهم، بل يقول: "لأن البشارة بالإنجيل لم تكن بالكلام وحده، بل رافقتها القوة والروح القدس واليقين التام" (1 تس 1: 5). فخبرة الروح القدس، والإيمان بسّر الفصح، والأمل بمجيء الرب، هذا هو الإنجيل الذي نعمل به، نعلنه، ونتقبّله. أما نقطة الانطلاق في الكرازة فهي خبرة الروح القدس التي لا تشكّل مضمون الإنجيل في حدّ ذاته، بل هي علامته وختمه. لهذا لا تُذكر هذه الخبرة إلا بشكل عابر وكوعد، غير أنها تفرض نفسها على عقل المؤمن الذي يستمع إلى الكلمة.
ففي نظر الإنجيليين ولوقا بشكل خاص، الروح القدس هو الذي يعطي تاريخ يسوع معناه. والختم الموضوع على كرازة بطرس في بيت الضابط كورنيليوس، ليس البرهان الكتابي، بل خبرة الروح الحيّة: "وإذ كان بطرس يتكلّم، حلّ الروح القدس على كل الذين كانوا يسمعون الكلمة" (أع 10: 44). ما يشكّل شهادة بالنسبة إلى الوثنية، يسري من أجل اليهود (أع 5: 31- 32)، كما يسري بالنسبة إلى كل قارئ للإنجيل.
إذن، نضع في أساس مؤلّف لوقا خبرة الروح القدس في الكنيسة. فإن اتخذ فيما بعد زمنُ الكنيسة بُعداً حقيقياً في قصد الله، فلأن الروح القدس يعمل فيه ويؤمّن له اتساعاً يمتدّ بين ذهاب يسوع وعودته. وفي الوسط عينه، يتّخذ زمن يسوع الذي يمتدّ بين إعلان الملكوت والصعود، قيمة خاصة. فحياة يسوع ليست فقط ينبوعاً يخلق الغفران. وليست فقط شرطاً لمجيء الروح أو للدخول في الخلاص. إنها أيضاً الصورة والعربون اللذان يؤسّسان الرجاء المسيحي. إن زمن يسوع الذي فيه ما احتاج التلاميذ إلى من يقيهم العدوّ ويبعدهم عن التجربة، هو صورة عن السماء. فالملكوت ليس قريباً وحسب، بل هو حاضر هنا في يسوع، لأن الروح هو في يسوع. ولهذا تقوم الحياة المسيحية بأن ننظر إلى الوراء، إلى يسوع الذي جاء إلى الأرض وعاش بيننا. وأن ننظر إلى الأمام، إلى يسوع الذي يجيء.
إذن، يبدو لوقا مبشّراً حقيقياً، لأنه يحاول أن يبيّن أن حياة يسوع هي في الحقيقة تأوين الإنجيل. إنه ممثل حقيقي للتقليد الرسولي، بقدر ما يجعلنا حاضرين للأحداث التي يوردها. إنه ليس بشاهد، شأنه شأن يوحنا. إنه بالأحرى رجل التقليد الذي ظلّ أميناً لمراجعه.
ويعلن لوقا أيضاً أن الزمن الحاضر في حياة يسوع يبقى "حاضراً" إلى الأبد. فهذا "اليوم" الذي أعلن في مجمع الناصرة (4: 21، اليوم تمّ)، ورد بعد يوم الولادة (2: 11: اليوم وُلد لكم مخلّص)، وقبل يوم الموت (23: 43، اليوم تكون معي). هذا اليوم الذي يتكرّر على مدّ حياة يسوع على الأرض (5: 26؛ 13: 33؛ 19: 5، 9، 42). هذا اليوم يشبه "أيامنا" (أع 13) 41؛ لو 24: 18) كما أعلنها الأنبياء (أع 3: 24). هذا في الواقع ما حصل "بيننا" (لو 1: 1).
فضمير المتكلّم الجمع في "بيننا" (نحن)، لا يدلّ فقط على تلاميذ في الزمن الماضي، بل على مؤمني الزمن الحالي أيضاً. فمؤلّف لوقا يبدو قريباً من سفر التثنية الذي يسعى بأن يجعل كلمة الله حاضرة الآن: "اليوم يأمرك الرب إلهك" (تث 26: 16).
وآنيّة الإنجيل الثالث تبدو واضحة حين نقابله مع أع. فالروح عينه هو الحاضر في لو كما في سفر الأعمال. فالروح هو الذي يقود يسوع. والروح هو الذي يقود الرسل (أع 8: 29، 39؛ 10: 19؛ 11: 12، 28؛ 13: 2، 4...). فالرؤى تكشف لهم المهمات الجديدة التي يجب أن يقوموا بها (9: 10- 11؛ 10: 3- 4؛ 10- 11...). وهم ينجون من السجن ومن جميع العواقب بشكل عجيب (أع 5: 19؛ 8: 26؛ 12: 7).
إذا كانت كل هذه الأمور تشير إلى أوضاع إنجيلية، فالتلاميذ بدورهم يعلنون الملكوت (لو 9: 2) منذ زمن حياة يسوع، كما سيفعلون أيضاً في زمن الكنيسة (أع 8: 12؛ 19: 8؛ 25: 25؛ 28: 23). وإيراد أشعيا نفسه (49: 6) حول "نور الأمم" يدلّ على يسوع (لو 2: 32)، كما يدلّ على المرسلين (أع 13: 47). والاضطهاد نفسه أصاب يسوع (لو 4: 29) كما يصيب التلاميذ الذين ينفضون الغبار العالق بأرجلهم (9: 5؛ 10: 11)، والذين يتوجّهون إلى الوثنيين (أع 13: 46- 47؛ 18: 6). والمناخ عينه من المديح والفرح والصلاة يغمر زمن يسوع كما يغمر زمن الكنيسة. ولقد صار موت يسوع النموذج الأول لاستشهاد اسطفانس، وكل مؤمن يشهد للرب.
وأخيراً، إن الشموليّة التي عملت بها الكنيسة حسب المهمّة التي أوكلت بها، تفرض نفسها كواقع ينير الإنجيل. بل هي تشكل الإنجيل نفسه الذي يشع أبعد بكثير من حدود إسرائيل. وفي هذا يتميّز لو عن مت: ربط لو يسوع بآدم (3: 38) أما مت فعاد بنسب المسيح إلى داود، إلى إبراهيم. حين جاء يسوع على الأرض، لا يفرح فقط بنو إسرائيل، بل جميع البشر. لقد أنشد الملائكة السلام للبشر الذين يحبّهم الله (2: 14) لأن "المسيح الرب" هو "مخلّص" الجميع (2: 11). وقد أورد لو في خطبة المعمدان كلام أش 40: 5: "يرى كل بشر خلاص الله" (3: 6؛ رج أع 2: 21؛ 28: 28). ويقدّم لو مثالاً للمؤمنين: السامري الصالح (10: 25- 37). الأبرص الذي كان سامرياً وغريباً (17: 11- 19). قائد المئة الذي لم يوجد مثل إيمانه في إسرائيل (7: 9).
ونقول في الخطّ عينه إن لو هو إنجيل حنان الله وحبّه للبشير (تي 3: 4). فيسوع هو صديق الخطأة الذين يُرذلون، والنساء بما فيهنّ من ضعف، والغرباء. إنه يدلّ على رحمة الله التي لا يمكن أن تُسبر.
والإنجيل الثالث يقدّم قاعدة حياة من أجل المجتمع. فالمعمدان يدلّ الجموع والعاملين في الضرائب والجنود، على واجب حالتهم (3: 10- 14). والخطبة التدشينية تسير في المنوال نفسه. فنجد تعليمات مثل هذه: "أعطِ دوما من يسألك" (6: 30). "كونوا رحماء" (6: 36). "أعطوا كيلاً ملآناً، مهزوزاً فائضاً". أعطوا بلا حدود، ولا تتطلّعوا إلى يوم الدينونة (6: 38). فكيف لا تجتذب القارئ مثل هذه الأمثلة. فالضابط الغريب الذي أحبّ أمتنا وبنى لنا مجمعاً، هو موضوع اهتمام يسوع. لا الكاهن واللاوي اللذان أبصرا المجروح وهو يكاد يموت، فتحوّلا إلى الناحية الثانية من الطريق ومضيا (10: 31- 32).
ويشدّد لو على الاهتمام بالفقراء والخطأة: يجب أن تدعو إلى مائدتك، لا الأغنياء الذين ترجو منهم أن يدعوك، بل البؤساء والمساكين (14: 12- 14). والهوّة التي حفرها الغني بينه وبين الفقير، لم يستطع أن يعبرها لا الآخرة (16: 25- 26). أما الفريسي الذي يحتقر في داخله الخطأة ويبتعد عنهم، فهو ينفصل عن الله نفسه، ولا يجد تبريراً لديه (18: 10- 14).
لوقا هو إنجيلي قصد الله. وهو في الوقت عينه ذاك الذي حدّد بشكل ملموس متطلّبات التعليم الإنجيلى. تحدّث عن موقف المؤمن تجاه الغنى، ودلّ على المسافة التي يسير فيها التجرّد ونكران الذات. فعلى تلميذ يسوع أن يحمل الصليب "كل يوم" (9: 23). لقد دخل لوقا في تفاصيل الحياة اليومية. ولكنه عرف أن ملء الفرح قد غمر قلب المؤمنين.
خاتمة
كان للوقا طريقته الخاصة في أن يكون أميناً للتقليد. إستحق بسبب مزاياه البشرية لقب المؤرّخ على مثال المؤرّخين القدماء. فهمَ ملء الفهم الروحي حياة يسوع، وعرف أن هذه الحياة هي الإنجيل الذي يتممّ المواعيد الإلهية بالحدث الفصحي. وعرف أيضاً أن هذا الإنجيل يُنشئ مع مجيء الروح في يوم العنصرة، حقبة جديدة في تاريخ العالم: زمن الكنيسة. وإذ دلّ لوقا على حضور الروح، لم يركّز شأنه شأن يوحنا، حياة يسوع في سّر لقاء الله الدائم مع الإنسان. بل كشف البعد "الروحي" لتاريخ البشر الذي اسمه قصد الله.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM