الفصل السابع: الأمثال في انجيل القديس متى

الفصل السابع
الأمثال في انجيل القديس متى
الخوري نعمة الله الخوري

المثل هو طريقة تعليمية تلفت انتباه الناس إلى حقائق سامية بعيدة عن متناولهم. فناتان النبي جعل الملك داود يعترف بخطيئته بعد أن روى له قصة رجل ظالم (2 صم 12/ 1- 5). من الملاحظ أن العقلية الشرقية تتعامل بشغف مع طريقة التعليم بالأمثال، لذلك نجد دوماً ذكر التشابيه والأمثال عبر العهد القديم وبالتالي في تعليم السيد المسيح.
عرض القديس متّى قسماً من أمثال المسيح في المواقع التالية:
في الفصل 13 جمع سبعة أمثال (الزارع، الزؤان، حبة الخردل، الخميرة، الكنز، اللؤلؤة، الشبكة).
أما في الفصول 20- 22، فقد عرض متّى القسم الثاني من أمثاله: (العملَة وأجرتهم، الإبنَين، الكرّامين القتلة، وليمة الملك).
ثم عرض في الفصلين 24- 25 القسم الثالث من أمثاله: (الوكيل الأمين، العذارى، الوزنات).
سنحاول أن نعرض المعنى العام لهذه الأمثال، وأن نبيّن الترابط فيما بينها لنستنتج مغزاها وهدفها التعليمي.

أولاً: أمثال القديس متّى في الفصل 13.
هناك ارتباط وثيق بين مضمون تعليم الأمثال في هذا الفصل وبين موضوع الحلقة الإخبارية التي تسبقه. إن الفصلين 11- 12 من إنجيل متّى يتضمنان رفض اليهود للمسيح الذي أسّس ملكوت الله. فقد اشتكى يسوع من غباوة البشر الذين يتوجّه إليهم، واتهّمهم بأنهم لا يفهمون رسالته ولا يؤمنون به (متّى 11/16- 24؛ 12/ 1 - 14؛ 12/24- 25).
وما يلفت انتباهنا هو أن يوحنا المعمدان نفسه شكّ برسالة المسيح، فأرسل تلاميذه يسأل: هل أنت المسيح أم ننتظر آخر (متّى 11/ 2- 6)؟ لذلك شكر يسوع الله لأنه أخفى أسرار ملكوت الله عن الحكماء وأظهرها للأطفال (متّى 11/ 25- 27).
في هذا الإطار كتب متّى الفصل 13 من إنجيله، فعرض سبعة أمثال، موضوعها العام: سر ملكوت الله يتحقّق في نهاية الأزمنة، ولكنه حاضر منذ الآن. إن ملكوت الله هو مستتر في قرار الله الخلاصي، ولكنه ظاهر في شخص يسوع. وقد حاول أن يشرح أسرار هذا الملكوت لليهود فلم يقبلوه ولم يفهموه. لذلك عمد إلى شرح أسرار الملكوت بواسطة الأمثال.
1- إن مثل الزارع (متّى 13/3- 9) يعرض في قسمه الأول فشل الزرع، فقد أكلت الطيور بعض الحب وأحرقت الشمس قسماً منه، وخنق الشوكُ القسم الآخر. هذه إشارة إلى المقاومة التي واجهها يسوع من الشعب اليهودي، حين أسَّس ملكوت الله. إن العنصر المشترك لكل هذه الخسارات هو أنها نتيجة عنصر مدمّر، يبيد نمواً كان قد بدأ. ولكننا نلاحظ في نهاية المثل النجاح الباهر الذي حققه قسم من الزرع، هذا النجاح يجعلنا ننسى الخسارات المتلاحقة في الآيات السابقة. ويعلمنا هذا النجاح أنه يوجد حتماً حصاد بالرغم من الخسارات الملحوظة. لقد فهم التلاميذ أن تأسيس ملكوت الله يصطدم بصعوبات واعتراضات، وأن بداياته ليست ناجحة تماماً. ولكن المثل يوضح أن المسيح يقوم بعمله وسط صعوبات كثيرة، غير أنه سينتصر في النهاية.
2- أما مثل الزؤان (متّى 13/24- 30) فإنه يشدّد على كيفية تعايش الأبرار مع الأشرار في هذا العالم. لقد تتم اكتشاف الزؤان المبذور خفية، واقترح الخدم اقتلاعه، غير أن صاحب الأرض رفض وترك كل شيء على حاله. إننا نلاَحظ لدى التلاميذ هذا التساؤل: كيف يسمح الله بنموّ الأشرار على الأرض دون معاقبتهم هنا؟ هكذا تذمّر أيوب (21/ 7 - 8؛ 28- 33) وهكذا تشكّى صاحب المزامير (مز 9/ 22 وما يليه).
إن ازدهار الأشرار وتكاثر المظالم التي يتعرّض لها الأبرار هما تناقض لا يمكن فهمه، وهما يؤثران على الايمان بملكوت الله الذي أسسه يسوع. لذلك عرض يسوع هذا المثل، وشدَّد على رفض اقتلاع الزؤان. طلب منا أن نرفض الحل السهل ودعانا إلى الصبر والتحمّل حتى يأتي الحلّ في النهاية في وقت الحصاد.
إذا حاولنا مقارنة مثل الزارع بمثل الزؤان، لاحظنا بينهما تشابهاً واضحاً. فالمثلان يعالجان قلة الصبر بالنسبة إلى الملكوت: من ناحية يؤكد مثل الزارع أنه يجب أن يُفقَد قسمٌ كبير من الزرع. ومن ناحية أخرى يعلّمنا مثلُ الزؤان أنه لا يجب استباق الأوقات حتى نلغي أعمال الشرّير قبل ساعة الحصاد.
إن الفكرة الجديدة التي يطرحها مثل الزؤان هي التالية: ألا يمكن ابعاد هذه المقاومة للملكوت؟ يأتي الجواب بطلب الانتظار، لأن المسيح الزارع الاسكاتولوجي لملكوت الله سيبيد الأشرار يوم القضاء.
3- وإذا قرأنا مثل حبة الخردل (متّى 13/ 31- 32) نرى تطابقاً واضحاً مع تعليم مثل الزارع. فكما أن الزرع الجيد أعطى مئة وستين وثلاثين، كذلك يعلمنا مثل حبة الخردل أن قوة الله تظهر ببدايات متواضعة تكاد لا تُذكر. فالذين يتعجّبون من رؤية ملكوت الله يصيب القليل من النجاح في العالم، سيلاحظون أن النتيجة ستكون كبيرة والنجاح سيكون باهراً: إن حبة الخردل أصبحت شجرة تعشّش طيور السماء في أغصانها.
4- ولمثل الخميرة (متّى 33/13) نفس المغزى: إن كمية الخميرة القليلة تخمِّر الدقيق كله.
5- ونلاحظ في مثَلي الكنز واللؤلؤة (متّى 13/ 44- 46) أن الرجلين وجدا كنزاً مخبأً. إن ملكوت الله هو مهم جداً في حياتنا وهو مخبأ، فلا يجده إلا عدد قليل من الناس. ولكن الذين وجدوه تركوا كل شيء وامتلكوا ذلك الملكوت.
6- وفي نهاية الفصل 13 يعرض لنا القديس متّى مثل الشبكة بألفاظ شبيهة بتعابير مثل الزؤان، فنلاحظ تطابقاً بين تعليم هذين المثلين مع فارق طفيف. استبدل متّى فكرة الحقل والزرع بفكرة البحر والشبكة، لأن فكرة الشبكة هي أكثر ديناميكية. فبدل الانتظار الطويل في مثل الزؤان نرى هنا أن الشبكة قد سُحبت بسرعة والسمك فُصل فوراً.
باختصار، عرَضَ القديس متّى في هذا الفصل تعليماً كاملاً ومفضلاً عن الأمثال فأورد سبعة أمثال، وأرفقها بشرح مفصّل لمثليَ الزارع والزؤان. كما شرح سبب استعماله يسوع للأمثال. هذا دليل على أن الفصل 13 من متّى هو وحدة متكاملة حول موضوع واحد يشرح فيه متّى الأمثال من مختلف جوانبها.
هذه المجموعة من الأمثال التي عرضناها تشبّه نمو ملكوت الله في العالم بنمو الزرع في الحقل وسط صعوبات مختلفة (الزارع). ولكن ملكوت اللُّه سينتصر في النهاية (حبة الخردل، الخميرة). فيجب الانتظار والهدوء (الزؤان). والمطلوب أن نترك كل شيء لنمتلك هذا الملكوت (الكنز واللؤلؤة).

ثانياً: أمثال القديس متّى في الفصول 20- 22.
عرض القديس متّى القسم الثاني من أمثاله في الحلقة الإخبارية (الفصول 19 حتى 22) التي تحضّر موضوع الخطاب الخامس (الفصلين 24- 25).
إن موضوع هذه الحلقة يدور حول التصادم المتصاعد بين يسوع والفرّيسيّين. كشف مكرهم، فبدأ يستبعد الشعب اليهودي وعبادته، ليحلّ محله شعب جديد.
1- في مثل العملة وأجرتهم (متّى 20/ 1- 16) نجد اعتراض العمال على رب البيت الذي ساوى العمال الذين عملوا ساعة واحدة بالذين حملوا ثقل النهار وحرّه. إن الجواب يشدّد بوضوح على أن رب الكرم لم يظلم أحداً. إنه صاحب سلطان مطلق، ولكن هذا السلطان يرتكز على طيبة قلبه. لم يرفض هؤلاء العمال طيبة قلب رب البيت بسبب تفكيرهم بالعدالة كما يعتقدون، بل لأن الحقد أعمى قلوبهم. يعلّمنا هذا المثل أن حب الله يتخطّى قوانين العدالة، ويكشف عن الطيبة اللامتناهية لله الذي يقبل بواسطة يسوع المسيح هؤلاء الذين جاؤوا متأخرين إلى ملكوت الله.
2- إن مثل الإبنَينْ (متّى 21/28- 32) يعرض قسمين من الشعب على أيام المسيح: الأبرار وهم زعماء الشعب اليهودي الذين سمعوا كلام الله وقبلوه ولكنهم لم يعملوا بموجبه، والخطأة الذين رفضوا إرادة الله وعاشوا بعيداً عنه، لكنهم في النهاية قبلوا مشيئة الله وآمنوا بالمسيح.
لقد عرض يسوع في هذا المثل طريقة جديدة في التصّرف مع الله، تسمح للانسان بالدخول إلى الملكوت. وهذه الطريقة هي الايمان بيوحنا المعمدان وبالتالي الايمان بيسوع. إن الإيمان والتوبة يجعلان أبواب الملكوت تنفتح للناس سواء أكانوا يهوداً أم وثنيين.
3- أما مثل الكرّامين القتلة (متّى 21/33- 46) فإنه يؤكّد أن الله اختار الشعب اليهودي وأعطى المسؤولية للكهنة والكتبة والفرّيسيين الذين خانوا العهد مع الله. إن إرسال الأنبياء بتواتر يدلّ على استمرارية تصميم الله الخلاصي، ولكن اليهود رفضوا مشيئة الله. ثم إن قتل الابن الوحيد الذي يدلّ على يسوع المسيح، يعني الرفض النهائي والأخير لإرادة الاله، لذلك عاقبهم الله وانتزع منهم مسؤوليتهم على شعب الله وأعطاها إلى كرّامين جدد، إلى الرسل، الذين قاموا بمسؤوليتهم على أكمل وجه وأعطوا الله الثَمر في حينه.
4- وإن مثل وليمة الملك (متّى 22/ 1- 14) يكشف بوضوح أن يسوع يتوخه إلى اليهود الذين رفضوا دعوة الله، ثم يعود إلى الوثنيين الذين قبلوا إرادة الله ودخلوا في ملكوته.
والتعليم الجديد الذي يعرضه المثل هو التالي:.بوجد بين الفقراء والمساكين الذين قبلوا الدعوة أُناسٌ طيبون كما يوجد أُناس أشرار، فلا يكفي أن ننال نعمة الدعوة إلى الخلاص، وأن ندخل بيت الله، بل يجب أن نستعدَّ لتلبية هذه الدعوة.
لقد عانت الكنيسة الأولى الأمرّين بسبب الصعوبات الناجمة عن انضمام الوثنيين إلى الكنيسة. وقد عُقد مجمع أورشليم لهذه الغاية. فتحت الكنيسة أبوابها للوثنيين، فأصبح الأولون آخرين والآخرون أوّلين.

ثالثاً: أمثال القديس متّى في الفصول 24- 25
رفض يسوع بشكل قاطع الافصاح عن الساعة، ودعا المؤمنين للاستعداد التام: أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعرفهما أحد (متّى 24/ 36). وشبّه مجيء ابن الإنسان بأيام نوح. هذا التقارب بين أيام نوح وأيام ابن الإنسان يؤكّد أن الناس الذين عاشوا في هاتين الحقبتين جهلوا التهديد الخطير الذي يحيط بهم. إن القضاء سيكون مفاجئاً وسريعاً، ولن تكون هناك أية وسيلة للبشر للاستعداد. وكما هلك الجميع على أيام نوح ونجا هو وعائلته من الطوفان بسبب استعداده وقبوله كلام الله، هكذا سيهلك اليهود وسيتمّ تدمير الهيكل، فلا يبقى إلاَّ البقية الباقية التي ستنجو. لا يبقى إلاَّ مجموعة المؤمنين المستعدّين لمجيء ابن الانسان.
نلاحظ أن القديس متّى عرض القسم الثالث من أمثال المسيح (الوكيل الأمين والوكيل الخائن، العذارى، الوزنات) في إطار وصفه للكارثة النهائية: إن الله سيترك شعبه القديم وسيستبدله بشعب جديد.
1- إن مثل الوكيل الأمين (متّى 24/ 45- 51) يعالج فكرة اليقظة الموجودة في النص السابق ويوسعها ويوضحها. يقول المثل إنها يقظة فاعلة، انها تتميم أمين للمهمة المطلوبة. وبالتالي إن ما دفع الخادم الشرير إلى إهمال واجباته، هو أنه اقتنع أن لديه الوقت الكافي ليلهو. كما أن تأخّر مجيء معلمه وضع فيه شكّاً واستقلالية خطرة إلى حد أنه رفض وجود معلمه، لذلك سيخضع للعقاب.
2- أما مثل العذارى (متّى 25/ 1- 13) فهو يحمل تعليماً واضحاً حول الاستعداد واليقظة لمجيء العريس السماوي. إن المعلم قد يتأخّر مجيئه، والمؤمن يجهل الساعة. لذلك يطلب المثل منّا السهر وتتميم الرسالة بأمانة، كما أنه يطلب التحليّ بالحكمة وبُعد النظر ورؤية المستقبل وانتظار الحدث العظيم بانتباه تام.
هذا الجوّ العام سيطر على الكنيسة الأولى. وقد كتب القديس بولس الى أهل تسالونيكي (1 تسا 4/13- 18) الذين استغربوا وفاة أحد المؤمنين: "إننا نحن الذين نبقى أحياء نُخطف معهم في السحب لنلاقي ربنا في الهواء". إن سمع انسان كلام المسيح وقبله، فان كل حياته تتوجّه نحو المستقبل كما أن كل تخطيطاته وأفكاره وحياته تجد معناها في الحدث القريب الموجود أمام الباب.
3- ونجد في مثل الوزنات (متّى 5/ 14- 30) تكراراً لفكرة اليقظة والأمانة. إن الخادم الأمين هو شبيه بالخادم الذي نال الوزنات الخمس. وما يلفت انتباهنا هو التشديد على العبد الكسلان الذي يتجاهل مجيء سيده. لذلك فالعقاب الذي ينتظره سيكون كبيراً.
في الختام نقول إن الطرق مختلفة لفهم الأمثال وشرحها. فبعضهم يفتشون عن الحقيقة التاريخية التي استوحى منها يسوع أمثاله. إن مثل الكرّامين القتلة يمكن فهمه بالعودة إلى التاريخ حيث كان اقطاعيون أجانب يملكون مساحات من الأراضي في الجليل. وهذا يعني أنه في حال وفاة الإقطاعي ومن يرثه، يصبح الحقل ملكاً لمن يعتني به. وقد طبّق المسيح هذا الواقع التاريخي علٍى علاقة الناس بالله. كما أنه يمكننا اعتماد شرح الرموز في الأمثال رمزاً رمزاً. وهذه الطريقة اعتمدها يسوع في شرح مَثَلَي الزارع والزؤان. ويمكننا وضع المثل في إطاره المباشر وفي إطار الانجيل العام وقد اعتمدنا هذه الطريقة في عرضنا.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM