الفصل الثامن : متّى يقرأ العهد القديم

الفصل الثامن
متّى يقرأ العهد القديم
الأب أيوب شهوان

1- العهد القديم، تحديداً، هو الانبياء والمزامير، او التوراة والانبياء والمزامير، وقانونياً، التوراة، والانبياء، والكتب.
انه كتاب شعب الله المختار، شعب العهد الاول، منه استقى روحانيته، وفيه صلىّ، ومنه غَرَف رجاءه، وبفضله استمرّ.

2- ماذا يعني عنوان المحاضرة، متّى يقرأ العهد القديم؟
المقصود هو ان متّى يعرف العهد القديم، وهو متشبّع منه، وانه يستشهد به عند تحرير انجيله، ويستعين به في تدوين بشارة يسوع. فمتّى يهودي، يعرف ديانته وكُتبَها، حتى ولو كان عشاراً ومُبغَضاً بسبب خدمته كجابٍ عند الغرباء المحتلّين، الاعداء. إنه ابن بيئته في كل أبعادها ووجوهها، في عظمتها وضِعتَها، في غناها وفقرها، في روحانيتها وماديتها؛ يعرف أنه ينتمي الى شعب مختار، وان هذا الشعب عينه "يعبد الله بشفتيه، وقلبه منه بعيد، وان تعاليمه هي وصايا بشر" (مت 15/8-9). لذلك، يبدو متى "الكاتب الذي تتلمَذَ لملكوت السماوات، ويخرج من كنزه طريفاً وتليداً" (مت 13/ 52).

3- لمَن كتب متّى انجيله ولماذا؟
إنطلاق من هواجس الجماعة المسيحية التي تكوّن فيها انجيل متّى، ومعاناتها، وتطلّعاتها، وهي من اصل يهودي، وتنتمي الى المنطقة السورية الفلسطينية، تعاني من ازمة حادة في الهوية، والمستقبل الغامض، والمصير المقلق، على الاخص بعد أن صار هناك طلاق نهائي بين اليهودية والمسيحية على أثر طرد المسيحيين من المجامع وفصلهم عن الديانة الموسوية بشكل رسمي في مجمع يمنيه، الذي اجتمع فيه الفريسيون، وقرّروا في ما قرّروا نَبْذَ كل من اتّبع شيعة الناصري. فوجد المسيحيون أنفسهم في مواجهة وضع جديد تحفّ به المخاطر من كل صوب، وصعوبات قد تهزّ فيهم المعتقد والايمان، وبالتالي قد تمسّ الالتزام والسلوك.
في محاولة متّى لمعالجة هذا الوضع الناشيء، وللردّ على تساؤلات جماعته المصيرية، يبيّن لها ان حياتها لا يمكن إلأ ان تكون على صورة ومثال حياة الرب، أي تجسيداً لملكوت الآب في الألم والشدة، كما في الفرح والسلام. ملكوت السماوات الذي تجلىّ في شخص المسيح وعيشه تبشيره، سيصبح مسؤولية الجماعة المؤمنة بعمانوئيل، الملك الذي يبحث عنه المجوس في بداية الانجيل، والذي تتوضح هويته رسمياً على الصليب على يد بيلاطّس البنطي الذي يكتب: "يسوع الناصري ملك اليهود". وترتبط الملكية في متّى بالتيار المسيحاني الذي يشكل عصب الحياة والرجاء المتواصل في حياة الشعب اليهودي قبل التجسّد.
يفتتح متّى في خبر البيان ليوسف سلسلة استشهادات عن تتميم نبوءات العهد القديم، وعددها عشرة:
1/22-23= اش 7/14
2/6= مي 5/1
2/15= هو 11/1
2/18= ار 31/15
4/15-16= اش 8/23؛ 9/ 1
8/17= اش 53/4
12/18-21= اش 42/1-4
13/ 35= مز 78/ 2
21/ 5- اش 62/ 11؛ زك 9/ 9
27/9- 10= زك 11/ 12-13؛ ار 32/6-9
الاستشهاد الاول، 1/ 22-23، هو للنبي اشعيا عن حبل العذراء التي ستلد ابناً يدعى عمانوئيل "الله معنا"، يوازيه في ختام الانجيل تأكيد يسوع القائم من الموت: "هاءنذا معكم طوال الايام وحتى انقضاء الدهر" (28/ 20).
هذا هو المحور الرئيسي الاساسي لإنجيل متّى.
يسوع في انجيل متّى، إن كان بشخصه، او بتعليمه، او بعمله، هو امتداد للعهد القديم وإكمال له، وهذا ما يبيّنه لنا كل من فصول أوّل الاناجيل. كان على الكنيسة الناشئة ان تتخذ موقفاً واضحاً من العهد القديم، فتردّ على التساؤلات العديدة التي كانت تُطرَح حول تتميم يسوع للانتظار الطويل الذي يضجّ به العهد القديم، وحول كون هذا التتميم في حال الايجاب كاملاً ام جزئياً، او مثلما صوّره الانبياء ام على خلاف ذلك. يؤكد متّى من خلال انجيله ان يسوع قد أتمّ، في شخصه، وتعليمه، واعماله، التدبير الالهي الذي وضعه الله قبل الازمنة.
فبحسب متّى، كل احداث حياة يسوع تقريباً حصلت "كي تتم نبوءات الكتب "- ويمكن اعتبار الكتاب كله نبوءة- التي ترتبط مباشرة بيسوع.
عندما يستنجد الرسل بالعهد القديم، فأنهم يسعون الى جعل انجيلهم قابلاً للإيمان. وعند توجّههم الى ابناء إيمانهم، يذكرون قصد الله بالنسبة الى البشرية، ويبيّنون ان الاحداث الجديدة تدخل في تقليد الآباء الاكثر اصالة، وقد تنّبأت عنها الكتب. هكذا يعمل الرسل على تسهيل انضمامهم الى يسوع، مبيّنين انه هو بالذات الذي بشّر به كل الانبياء.

4- من أي نصٍّ أخذ متّى استشهاده؟
يؤكد تفسير الكتاب المقدس اليوم عموِماً ان استشهادات العهد القديم التي تظهر في العهد الجديد، قد أُخِذَت من الترجمة اليونانية، المسمّاة السبعينية.
فلقد أضنت البيبليا اليونانية صلةً لاهوتية مهمة بين العهدين، ونوعاً من "تحضير انجيلي"، فأعطت بشكل خاص معنىً جديداً لكلمة لوغوس ، وفتحت هكذا الطريق امام اللاهوت اليوحنوّي، وساعدت في تطبيق نشيد عبد يهوه عند اشعيا على المسيح، اذ ترجمت كلمة "عبد" (عبد في العبرية) بكلمة "بايس" بدل "دولس" والامثلة من هذا النوع كثيرة.
بعيداً عن نفي هذا الواقع، نريد ان نلفت الانتباه الى الطريقة الخاصة التي بها يستشهد اول الانجيليين بالكتاب المقدس. فالانجيلي متّى يرتكز ايضاً على البيبليا العبرية، وعلى الترجمات الآرامية، كما على السبعينية. كلّ لاهوتي كبير، يأخذ ما هو نافع له حيث ما يجده، مفتتحاً هكذا خط التقليد الكنسي.
يستشهد متّى بالعهد القديم وكأنه يقوم بتفكير شخصي لاحق، لكي يبينّ ان الحدث الذي يسرده هو مطابق للارادة الالهية المتضمنّة في الكتاب المقدس والتي عبرّ عنها الانبياء. وهذه الاستشهادات موجودة في متّى 1/22-23؛ 2/15 و 17-18 و 23؛ 4/ 14-16؛ 8/17؛ 12/17 - 21؛ 13/ 35؛ 21/ 4- 5؛ 27/9- 10.
تلاحظ الاكثرية الساحقة من المفسرين ان لهذه الاستشهادات نصاً خليطاً، يتبع حيناً الترجمة السبعينية، وحيناً آخر النص الماسّوري، وبعض الاحيان نصّ ترجوم ما او نصّاً رؤيوياً ايوكاليبتياً. اما بقية الاستشهادات، فقد تكون اكثر امانة للسبعينية.
هذا الاستنتاج هو رغم ذلك عرضة للشك، إذ لا يمكن مثلاً فهمُ استشهادٍ حول التتميم، كمتى 1/ 23، إلا في النص السبعيني لأشعيا 7/ 14 لاستعماله المميز لكلمة "عذراء" (بارتانوس)، مقابل كلمة "علمه" في النص الماسّوري، والتي تعني "امرأة شابة".
وينبغي لفت الانتباه الى الواقع المزدوج التالي:
1) تمثّل عادة الاستشهادات والتلميحات الى العهد القديم الموجودة في الاناجيل الازائية شكلاً خليطاً من نص العهد القديم، تأخذ احياناً من النص السبعيني واحياناً اخرى من النص الماسّوري او من ترجمة ارامية. هذا يعني ان النص الخليط لاستشهادات التتميم في انجيل متّى لا يمثل ظاهرة فريدة في مجمل التقليد الازائي.
2) تمثل الاستشهادات الحرفية من العهد القديم، المشتركة بين مرقس ومتى، الخروجَ الوحيدَ عن هذه القاعدة. يأخذ مرقس استشهاداته من النص السبعيني، كما يفعل كُتّاب العهد الجديد، غير الازائيين.
نستخلص من هذا الواقع النتائج التالية:
1) هناك استشهادات مشتركة بين مرقس ومتى، وكلّها تقريباً نص سبعيني: متّى 15/4 ب؛ 19/4؛ 21/13 أب و 42؛ 22/39-44.
2) هناك تلميحات مشتركة بين متّى ومرقس، تبلغ الاربعين تلميحاً الى العهد القديم.
لكن، اذا كانت كل هذه الاستشهادات الحرفية عند مرقس (ما عدا واحدة: مرقس 10/19) هي من السبعينية، فإن متّى لا يتردد في ان يبتعد عنها قليلاً في العديد من الحالات (متّى 15/4 أ؛ 19/5 و 19؛ 22/32 و 37؛ 26/31). أَلا يعني هذا أن سرد نصٍّ غير النص السبعيني، يجب ان يُعتَبرَ ميزة عامّة لاول الانجيليين، أكثر منها ميزة خاصة باستشهادات التتميم؟ ومن ناحية اخرى تبدو الاستشهادات المشتركة بين متّى ولوقا انها كلها من النمط السبعيني (متّى 4/ 4 و 6 و 7 و 10).
لا يكفي نوع النص المستعمل في استشهادات متّى لأن يحدّد وحده اذا كان المقصود هو استشهاد تتميم ام لا. فكثير ما يوجد نص مختلط في غير استشهادات وتلميحات خاصة بمتى. فحينما لا يتبع متّى النص السبعيني لاستشهادات مرقس ولوقا، فإنه يتصرف بحرية، ويبدو انه يستشهد عن ظهر قلب بنصوص او بنص من العهد القديم لم يعد اليوم موجوداً مثل "ويدعى ناصرياً"، وقد يكون بعيداً عن النصر الماسّوري كما عن السبعيني.
لا نفتشنّ اذاً عن خصوصية استشهادات التتميم الحقيقية في صيغة حرفية خاصة، انما في صيغتها كمقدمة، وفي دورها اللاهوتي الذي يريده متى لها. العنصر المشترك لكل صيَغ المقدمة هو الآتي:
يتفق كل المفسرين الحديثين على ان ينسبوا هذه الصيغ المقَدّمَة الى الانجيلي نفسه:
1- يوجد فعل "تمم" عند متى أكثر منه عند مرقس ولوقا، بمعنى "تتميم الكتاب" (أثنا عشر استعمالاً عند متى، مقابل واحد عند مرقس، وخمس عند لوقا وفي الرؤيا).
2- ان عبارة (حدث كل هذا) التي نجدها في الصيغ المقدِّمَة في متى 1/22 و21/4، هي ملك لكاتب انجيل متى، نجدها ايضاً في متى 26/56، مضافة إلى نص مرض 14/49.
ان صيغة المجهول "قيل" هي استعمال خاص بمتى، توجد ثلاث عشر مرة عنده، وقطعاً في الاناجيل الاخرى. يضيفها متّى على نص مرقس في متّى 3/3؛ 22/31؛ 24/15. كذلك توجد الصيغة المصرفة للفعل المجهول ست مرات في الاقوال المتعارضة في عظة الجبل، في مقاطع خاصة بمتى (5/ 21 و 27 و31 و 33 و 38 و 43).
كذلك يستعمل متّى مرتين كلمة "حينئذ" (متّى 2/ 17: قتل الاطفال، ومتى 27/ 9: خيانة يهوذا)، مكان الاداة التي تدل على الغاية "حتى، كي" التي يستعملها عادة في غير مكان، امّا لأنه يريد ان يبيّن هكذا رفضه ان ينسب الى الله اصل الجرائم المذكورة، او انه يريد فقط ان يبيّن ان العداء "لملك اليهود" (متّى 2/2 و 27/ 11) ينبع من عمل الناس، وان يميّز هذا العمل عن موضوع الاستشهادات الاخرى، الذي هو دائماً يسوع او اولئك الذين يعملون باسمه. نلاحظ ايضاً ان كلمة "حينئذ" هي من مفردات اول الإنجيليين الخاصة: تسعون مرة عند متّى، ست مرات عند مرقس، وخمس عشر مرة عند لوقا. مرتان (متّى 1/22 و 2/ 15)، لا يذكر الانجيلي متّى اسم النبي، ويُدخل عبارة "من الرب" لأسباب مسيحانية. وفي كلتي الحالتين، يربط ذكر "الرب" بالتبنيّ الالهي.
3- عبارة "بالنبي (اشعيا/ ارميا) القائل"، هي مضافة عند تحرير الكتاب. يصحّح متى مرتين نصّ مرقس في اطار هو غير الذي لاستشهادات التتميم، وذلك لكي يضمّن نصّه هذه العبارة الغالية على قلبه (قارن: متّى 3/3؛ مرقس 1/ 2؛ لوقا 3/ 4؛ ومتى 24/ 15 مع مرقس 13/ 14). ست مرات يَذْكُر متّى علناً اسم النبي الذي يأخذ منه استشهاده. اربع مرات المقصود هو اشعيا، ومرتّان النبي ارميا. فالاستشهادات المنسوبة الى النبي اشعيا تعبرّ عن اعلان الخلاص للناس المرذولين والمرضى من شعب اسرائيل، وتعميم هذا الخلاص على جميع الامم. يميّز الاستشهادان المنسوبان الى ارميا (متّى 2/ 17 - 18؛ 27/ 9- 10) بالمقابل عداوة السلطات اليهودية لمسيح اسرائيل.
يجب ان تنُسَب الاستشهادات بحد ذاتها الى تحرير انجيل متّى. حاول عدّة مفسرين ان يعيدوا تكوين مجموعة من الشهادات قد يكون متّى استوحى منها. يبدو ان متّى يسرد بتصرف نصّ العهد القديم الذي لم يكن بعد قد ثبّت نهائياً في زمانه، والذي كان يعرف عدّة تقاليد كتابية له. لقد سمحت لنا هذه المقاربة الاولى ان نستنتج مدى اطلاع متّى على النصوص البيبلية التي يسرد الكثير منها ببدائل عديدة مأخوذة من تقاليد التوراة العبرية مثلما هي مأخوذة من الترجمات الارامية او اليونانية. وقد تبيّنا، من ناحية ثانية، مدى استعماله بحرية النص المقدس، ليس لأجل النص بحدّ ذاته، بل كآلة طائعة وموجهّة لاهوتياً، في خدمة اعلان حدث جديد: بشارة يسوع المسيح الجديدة. هذه الطريقة لا تخلو من المخاطر. لكن متّى، انطلاقاً من إيمان جماعته، عرف ان يحافظ، من خلال الف بديلة من حيث التفصيل، على رسالة الكتاب الاصيلة. كان هكذا يشق الطريق للاهوتيّي الكنيسة العظماء الذين عرفوا ان يقرأوا المعنى الحقيقي لكلمة الله، وينقلوها، لأنهم ما كانوا يفسرونها لوحدهم، بل كانوا يتقبلونها بتواضع من تقليدٍ حي.

5- ماذا اخذ متّى من العهد القديم؟
طفولة يسوع:
في اللوحة الاولى (1-2) من اللوحات السبعة التي تشكّل الإنجيل بحسب متّى، الخاصة بطفولة يسوع، يظهر يسوع ابن الوعد لإبراهيم، وسليل الملك داود، ووارث عرشه، ومرتجى الآباء والاجداد، ويظهر ابن العذراء، حُبل به بقوة الروح القدس، وأصبح ابناً شرعياً ليوسف. وُلد في بيت لحم، مدينة داود الملك، وفيها زاره المجوس وسجدوا له وقدموا اليه الهدايا.
يبدو يسوع في انجيل متّى، بشخصه وبتعليمه وعمله، امتداداً للعهد القديم وإكمالا له.
يكتب متّى مستنداً باستمرار الى العهد القديم، ويمكن تَبَينٌّ التلميحات التالية فيه:
1- يوسف- احد آباء العهد القديم- كما يوسف، الاب المربي، هو ابن يعقوب (مت 1/16). يرى هذا وذاك احلاماً، ويهبط الاثنان الى مصر هرباً من التهديد بالموت.
2- موسى مثلاً، الذي حاول ملك مصر أن يقتله، هو ايضاً عرف المنفى.
انما هذه التلميحات المبعثرة ليست منتظمة، ولا تعطي هيكلية للنص كما يدعي البعض.
خطوة بعد خطوة يبرّر متّى طفولة يسوع المحيرّة باستعمال مقاطع من البيبليا. استشهادات صريحة وعلنية هي العنصر القيّم في الكلام عن مكان ميلاد المسيح وعن المجوس، وخلاصة المقاطع التي تتكلم عن الهرب الى مصر، وقتل أطفال بيت لحم، وتلقيبه ناصرياً حيث يستعمل ذات العبارة بقالب واحد (مع بعض التعديلات احياناً): "كي يتمّ ما قال النبي". "جرى كل هذا لكي يتم ما كان قد اعلن عنه النبي".
لنستعرض الاستشهادات الستة في انجيل الطفولة:
1- اول استشهاد هو من نبوءة اشعيا 7/ 14 حيث قرأ فيها متّى حبل العذراء "بإلهنا معنا":
"كان كلّ ذلك ليتمّ ما قال الرب على لسان النبي: ها إن العذراء تحبل وتلد ابناَ يدعى اسمه عمانوئيل الذي ترجمته: الله معنا" (مت 1/ 22-23).
2- ثاني استشهاد صريح هو جواب الكهنة لهيرودس في متّى 2/ 6 عن مكان ميلاد المسيح، المُستَل من نصّ ميخا 5/ 1-2 والذي يضيف إليه متّى نصاً آخر من 2 صم 5/ 2 لكي يوضح مهمة المسيح "كراع"، تلميحاً الى "الراعي" داود. هذا الاستشهاد هو بمثابة ردّ الكهنة الرسمي على سؤال هيرودس "اين يجب ان يولد المسيح؟" إنه صدىً لأول آية من متى 2: "ولد يسوع في بيت لحم اليهودية": "وانت يا بيت لحم من ارض يهوذا، لست بعد صغرى حواضر يهوذا، فمنك يخرج الذي يرعى شعبي اسرائيل" (مت 2/ 6).
تأتي هذه النبوءة المسيحانية المشتركة بين متّى ولوقا لتؤكد، بالاضافة الى سلطة رؤساء الكهنة وعلم "كتبة الشعب"، ان يسوع، هذا المجهول، الذي بحث عنه المجوس بدون جدوى، هو حقاً ملك اسرائيل.
3- مقطع المجوس (2/ 1-12) لا ينتهي، مثْلَ الاستشهادات الثلاثة التي ستعرض أدناه، باستشهادٍ خلاصي. هل ان هذا لأن متّى 2/8 قد استشهد من قبل بميخا 5/ 1-5؟ وقد يكون ذلك لأن سجود المجوس يستشهد ضمناً (باستعمال مجازي جديد) بنبوءتين كونيتَين عن تهافت ملوكٍ آتين يسجدون للمسيح ويقدمون له جزية وهدية منهم ثمينة:
آشعيا 60/6 متّى 2/ 11
كلهم يأتون من سبأ وكانوا
حاملين يقدّمون له
ذهباً وبخوراً ذهباً وبخوراً ومراً
مزمور 72/10-15 متّى 2/11
ان ملوك ترشيش وهم (المجوس)
سيقدمون هدايا، قدموا ذهباً، وبخوراً؛
الملوك سيسجدون واذ سجدوا له،
امامه عبدوه
مقدمين ذهب سبأ وقدمّوا له ذهباً
فاستبدال هذه النصوص، في صلب سرد القصة، سمح لمتى بعدم مراجعتها بشكل استشهاد في آخر المقطع. لقد احتفظ بالأستشهاد الصريح (مع النص الاعلاني: "كي يتم") لخمس نصوص كتابية تحتوي على كلمة "ابن".
اذا كان تنظيم متّى لكتابه قوي التنسيق باستشهادات كتابية تقدّم لها لازمَاتٌ إعلانية (1/ 23؛ 2/ 15 و 18 و 23)، فإن تأليفه يبقى حراً ومنوّعاً.
4- قصة الهرب الى مصر تُختَتَمُ باستشهاد صريح من نبوءة تتعلّق بشعب الخروج، ويطبّقها متّى على المسيح:
"ليتمّ ما قال الربّ على لسان النبي: "من مصر دعوت ابني" (مت 2/ 15، مستشهداً بهوشع 11/ 1). اسرائيل ابن الله (خر 22-23؛ ار 13/ 9)، ويسوع ابنه ايضاً، عاشا غريبَين في مصر، الى ان دعاهما الله وخلصهما. يقول متّى هنا في يسوع ما قاله هوشع في شعب الله، لأنه يرى بينهما وحدة مصير.
5- تُختتَم قصة قتل اطفال بيت لحم بطريقة مماثلة. غير أن الكلام النبوي لم يَعُد منسوباً حصراً الى الرب، بل الى النبي، فيقول متّى:
"وتمّ ما كان قيل على لسان النبي ارميا: "سُمع صراخٌ في الرامة: ندبٌ ونواح مديد. راحيل تبكي اولادها: زالوا... وتأبى العزاء". (ار 31/15 في مت 2/ 17 - 18). تشير هذه الآية الى بكاء راحيل على اولادها من سبطَيْ افرائيم (تك 30/ 22-24؛ 41/ 52) وبينامين (تك 35/ 16 - 18)، يوم نُفُوا من رامة الى بابل (ار 40/ 1). ويرى متى في اطفال بيت لحم اولاداً لراحيل، لأن قبر هذه الأخيرة هو بالقرب من بيت لحم حسب تقليد كتابي آخر (تك 35/19؛ 48/ 7).
إن اعادة استعمال متّى للنص هنا من أجل أن يعطي برهاناً، إنما لكي يظهر فظاعة هذا الحدث المؤلم الذي لا يمكن ذكره دون تعليق؛ فإن بدا انه زيد لاحقاً، فقد يكون وببساطة لأن متى كان قد غضّ النظر عن سرد هذه الحادثة الاليمة التي فيها، بنجاة يسوع من الموت بعناية الهية، كان سبب موت العديد من الأطفال. قتل فرعون ابكار اليهود، ونجا موسى (خر 1/ 7-2/ 15)، وقتل هيرودس اطفال بيت لحم، ونجا يسوع، موسى الجديد. وحده صراخ ام مفجوعة كان بإمكانه ان يشدّد على خبر غير مناسب عن حادثة كهذه.
6- وآخر استشهاد ينهي نص 1/ 2: "ويدعى ناصرياً"، يبرّر واقعاً آخر غير مستحب: يسوع هو من ناصرة الجليل، وهي مكان غير مقبول لمجيء المسيح (يو 1/ 46؛ 7/ 41 و 52). لا يرد هذا النص لدى الانبياء المعروفين، ولا ندري من اين أتى به متّى. فأي نبوءة يمكن الرجوع اليها لتبرير هذا الاصل الوضيع وهذه الكنية، "ناصرياً"، التي بها كان اعداء يسوع يسخرون منه؟ ولما وقع متّى في حيرة، وجد الحل باعطائه لكلمة "نذر" معنى "نذير"، أي مقدّّس، مكرّس، استناداً الى قض 13/ 5: "ويدعى نذيراً". هذه العبارة التي عن شمشون، يطبّقها متّى على المسيح الذي هو صورة عنه، ولكن بالمعنى الكتابي حيث الله وحده هو القدوس، وحيث اسمه هو "القدوس" (اش 57/ 15). هذا اللقب هو من احد الالقاب المطبّقة على المسيح للدلالة على سموّه.
لوقا 1/ 35، و 2/ 23: "ويدعى قدوساً؛ 4/ 34 ويو 6/ 69، مرقس 1/ 24: "انت قدوس الله".
انظر: 1 بط 1/ 1؛ يو 2/ 20؛ رسل 3/ 7؛ 16/ 5. تندرج استشهادات متّى في تقليد ثقافي. بأستثناء قتل الاطفال (وهو هنا ايضا يشذ عن القاعدة)، وظيفة استشهادات متّى هي أن تعبرّ (وان تثبت في وجه الاعتراضات) عن مسيحانية المسيح، وسمّوه، وبنوّته الالهية، وقداسته، أي كل ما كانت البيبليا تقوله عن المسيح وعن مجيء "الله معنا" الحقيقي، الكامل والجديد، في يسوع المسيح المخلص، لأنه كان حقاً المخلص (1/ 21)، الهنا معنا (1/ 23)، ابن الله (2/ 15)، وقدوس الله (2/ 23)، بدءاً من هذه الطفولة الخفية. لقد اختار الانجيلي حسب هذا القول بعض العناصر المعبرّة.
بعد الفصول التي تحكي طفولة يسوع، ننتقل الى استشهادات التتميم الاخرى:
4/4-16:
"... ليتمّ ما قيل على لسان النبي اشعيا:
"ارض زبولون وارض نفتالي، طريقُ البحر، عبرُ الاردنِّ، جليل الامم.
الشعب الجالس في الظلمة أبصر نوراً عظيماً، والجالسون في بقاع الموت وظلاله، أشرق عليهم نور".
زبولون ونفتالي قبيلتان اسرائيليتان من قبائل الجليل، تقيم الاولى قرب الناصرة، والثانية بالقرب من بحيرة طبرية، غربي الاردن.
يُعتَبرُ بدءُ يسوع رسالتَهُ في جليل الامم حدَثاً نبوياً (اش 8/ 23-19). تنبّأ أشعيا بهذا الكلام حوالي العام 732 ق. م، بعد ان سبا ملك أشور تجلات فلاسَر اهلَ الجليل (2 مل 16/ 9). يُنبئ أشعيا بيوم الربّ الذي سيعيد المسبيّين، ويقيم مُلْكاً لولدٍ من نسل داود اسمه عمّانوئيل. يستشهد متى بهذه الايات، ويتفرّد بهذا الاستشهاد، لأنه يشدّد على اهمية الجليل بالنسبة الى احداث البشارة الانجيلية (2/ 22؛ 3/ 13؛ 4/ 23 و25؛ 28/ 16)، فيرى فيه ملتقى اليهود والامم، ويجعل منه منطلق رسالة يسوع الى جميع الامم.
8/ 17:
"... وتمّ ما قيل على لسان النبي آشعيا:
"أخذ عاهاتنا وحمل امراضنا".
نص آشعيا وفق الترجمة السبعينية هو التالي:
"حمل خطايانا، وتألم لأجلنا" (53/ 4).
شفى يسوع المرضى، فأزال عن شعبه الآلام الناتجة عن الخطيئة، على ما كان يعتقد اليهود. حمل هذه الآلام عن شعبه بموته على الصليب، فخلّصه من الخطيئة والموت.
12/18-21:
"... ليتمّ ما قيل على لسان النبي آشعيا:
"ها هو عبدي الذي اصطفيت، وحبيبي الذي ارتضت نفسي،
عليه أنزل روحي، فيبشّر بالحكم الامم.
لن يماحك أو يصيح، أو يسمع أحد صوته في الساحات.
قصبةً مرضوضة لن يكسر، ودخانَ فتيلة لن يطفئ، الى ان يصل بالحكم الى النصر.
واسمُهُ رجاء الامم" (اش 42/ 1-4).
هناك اختلاف بين نصّ آشعيا في متّى، وبين النصيب العبري واليوناني، كون متّى يستعمل نصّاً تقليدياً خاصاً. باستشهاده بنص آشعيا، يريد متّى ان يكمّل وصفه ليسوع، على ما ورد في 11/ 30؛ 12/ 7: يسوع هو الرفق، والرحمة، والتواضع، وهو الممتلئ من فيض الروح، وقدرة الله، السائر بالحق الى النصر، رجاء شعبه وكلّ الشعوب (راجع متّى 3/ 17: "هوذا ابني الحبيب- بدل "هوذا عبدي"- الذي ارتضيت").
13/ 35:
"وتمّ ما قيل على لسان النبي:
"أفوه بالامثال، وأحدّث بخفايا العالم منذ إرسائه" (مز 78/ 2).
21/ 5:
"وكان ذلك ليتم ما قيل على لسان النبي:
"قولوا لابنة صهيون: ها هو ملكك يأتيك رفيقاً، ممتطياً أتاناً، وجحشاً ابن دابّة".
يدخل يسوع أورشليم بصفته المسيح الآتي، "ابن داود" ووارثُ عرشه (2 مل 7/ 16)، ويحقق نبوءة زكريا (9/9). يتفرّد متّى بذكر "الاتان والجحش" انسجاماً مع زك 9/ 9. القسم الاول من الآية، "قولوا لأبنة صهيون"، عائد لآشعيا (62/ 11)، والباقي لزكريا (9/9)، لكن مع بعض التصّرف. يمتطي يسوع الحمار، مطيّة الجدود والوضعاء والمساكين (تك 49/ 11؛ قض 5/ 10؛ 10/ 4؛ 12/ 14...)
27/ 9-10:
"وتمّ ما قيل على لسان النبي إرميا:
"اخذوا الثلاثين من الفضة ثمَنَ مَن ثُمِّن- ثَمَّنه بنو اسرائيل، ودفعوها ثمنَ حقلِ الخزّافِ عملاً بما أمرني الربّ". (زك 11/ 12-13؛ ار 32/ 6-9).
يدمج متّى في واحد نصيّن نبويَّينْ:
الاول، نصّ ارميا (32/ 6-15)، يُثبت فيه النبي، قُبيل الجلاء الى بابل سنة 587. ق. م، حق شعب الله في ارضه، في شراء حقل بثمن من فضة، وحيث ينبئ بأن الله سيعيد شعبه من منفاه الى أرضه. ويضيف متّى الى هذا النص ذكر الفاخوري (ار 18/ 2-3)؛
والثاني، نصّ زكريا (11/ 12-13) الذي ذَكَره متّى في 26/ 15 ("فوَزنوا له ثلاثين من الفضة")، وفيه يحدّد النبي أجر الراعي الصالح بثلاثين من الفضة، وكأن الانجيلي يرى في شراء حقل الدم بثمن دم يسوع تحقيقاً لذلك الخلاص الذي وعد به الله شعبه المشّرد، وكأن الله يقيم لشعبه عهداً جديداً، فيعيده الى أرضه على يد فاديه ليسكن فيها بسلام (ار 32/ 36-44).

خاتمة
يستعمل اوّل الاناجيل بشكل ملحوظ العهد القديم. يستشهد متّى بمائة وثلاثين مقطعاً على الاقل من العهد القديم، ثلاثة واربعون منها هي استشهاد دقيق. يستعمل غالباً نصاً يونانياً للبيبليا، هو في اساس عرضه؛ عندما يترجم مباشرة نصًّا عبرياً، يكون ذلك بشكل عام في مقطع خاص به؛ لا يكون عندها مرتبطاً لا بأنجيل مرقس، ولا بأي مصدر آخر معروف.
يستشهد متّى بالبيبليا على الطريقة اليهودية، محترماً بعض الاحيان نصوصها حرفياً، إذ تُعتبر الكتب وكأن لها أصلاً إلهياً مباشراً. حياة الجماعات اليهودية مشبعة تماماً من إكرامها، وقراءتها المتواصلة، وهضمها العميق؛ لقد كان ليسوع ولتلاميذه، كما للجماعات المسيحية الاولى، ذات النظرة اليها. يعرف واضع الانجيل ذلك جيداً؛ وبحق يطلب الخضوع لسلطته كمفسّر للكتب، ولمهمتّه كمُبشّر: "كي يتمّ ما قيل من قبل الرب بالنبي القائل...". ترد هذه العبارة إحدى عشرة مرة في الانجيل، وخمس مرات في قصص الطفولة وحدها. لم تستعمل النصوص المستشهَد بها لتبرهن او تفسّر الوقائع المخَبرَة، بل لتضفي عليها طابعها المقدّس والالهي، ولتؤكد ان قصد الله يتمّ بشخص يسوع وبأعماله. هكذا، وبالتواصل مع يسوع بالذات، يُضَمّن الانجيلي رسالة البشرى الجديدة في تاريخ الخلاص؛ تسمح سلطة يسوع الالهية له أن يتحرّر من حَرف الشريعة والانبياء وأن يتخطاه، ليبلغ الطابع الكوني والعميق للتصميم المسيحاني.
باستنجادهم بكتب العهد القديم، يسعى الرسل الى جعل انجيلهم قابلاً لإيمان. عند توجّههم الى ابناء ايمانهم، يذكرون قصد الله بالنسبة الى البشرية، ويبينّون أن الاحداث الجديدة تدخل في تقليد الآباء الاكثر اصالة: ألم يتنبأ عنها في الكتب؟ يعمل الرسل هكذا على تسهيل انضمامهم الى يسوع، مبينين أن هذا هو بالذات الذي بشّر به كل الانبياء.
إن الاحداث التي تنير الكتب، مبينةً نقطة بلوغها، تستنير هي بدورها بطريقة ما بالنبوءات. هذا هو معنى عبارة "حسب الكتب" التي كانت تؤكد على الايمان الذي يذكّر به القديس بولس الكورنثيين (1 كو 15/ 3-4).
لا يبرهن الرسل هذه الاحداث التي يفيدون عنها، بالمعنى الحديث للكلمة، بل يضعونها في التدبير الالهي لتاريخ الخلاص، مبيّنين المعنى الذي يعطون للماضي وللوحي الكامل. هكذا، عندما يفسّر الرسل ومتّى، ومن بعدهم الانجيليون الباقون، حدثَ القيامة على ضوء قصد الله الابدي، فانهم يدعون سامعي الانجيل وقارئيه الى عبادة الربّ.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM