الفصَل العِشرون: قَداسَةُ القَرَابين

الفصَل العِشرون
قَداسَةُ القَرَابين
33: 1- 23

أ- المقدّمة
يتطرّق هذا الفصل إلى القداسة اللازمة لتقدمة الذبيحة، وإلى الشروط المفروضة على من يريد الاشتراك في الوليمة المقدّسة. وهو يبدو في ثلاثة مقاطعي. المقطع الأوّل (آ 1-9): ما هي الحالات التي يسمح فيها للكاهن بالمشاركة في الذبيحة؟ المقطع الثاني (آ 10-16): هل لغير الكاهن أن يأكل قربانًا مقدّسًا لله؟ المقطع الثالث (آ 17-33): ماذا يقرّب المؤمنون من محرقات وفاءً لنذر أو تبرّعًا؟ ويجيب المشترع: لا يحقّ لكاهن نجِس أن يشارك في الذبيحة، ولا يحقّ لغير الكاهن أن يأكل القرابين المقدّسة. أمّا المحرقة المقبولة فتكون الذكَرَ الصحيح الذي لا عيب فيه من البقر أو الضأن.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة
(آ 22: 1-9) مشاركة الكهنة في الذبيحة: إسمي القدّوس، أنا الرب. فلا يذبح الكاهن ذبائح لمولك، لئلاّ يدنّس اسمَ الله القدّوس. (18: 21). لا يحلف المؤمن كاذبًا باسم الربّ لئلاّ يدنّس اسم الربّ (19: 12) الذي لأجله عمِل الربّ ما عمل، عندما خلّص شعبه (حز 20 : 9). إسم الله يدلّ على كيان الله.
(آ 10-16) مشاركة غير الكاهن في الذبيحة: لا يحِقّ إلاّ للكاهن وللذين يؤلّفون بيته أن يأكلوا من القرابين المقدّسة. ويحدّد الشَرْع الأشخاص الذين يُعتَبرون أهلَ بيت الكاهن.
(آ 17-30) ذبائح الحيوانات: لا تقبل ضحيّة فيها عيب، وإلاّ كانت تقدمتنا إهانةً لله. إذا كنّا لا نقدّم للحاكم تقدمة فيها عيب، فكيف نتجاسر أن نقدّمها للربّ (ملا 1 :8)؟
تَذكر هذه الآيات المحرقة، وفيها تُحرق الضحيةُ كلّها على المذبح، وذبيحة السلامة، ولحمها يذهب كلّه إلى الكهنة، ومقدِّمِ الذبيحة، ولكنّه لا يذكر ذبيحةَ الخطيئة ولا ذبيحةَ الإثم.
(آ 31-33) الخاتمة: نقرأ هنا الخاتمة التي عهِدناها في شريعة القداسة: إحفظوا وصاياي واعملوا بها، ولا تدنّسوا اسمي القدّوس، فأبقى مقدّسا في ما بين بني إسرائيل.

ج- ملاحظات حول قداسة الله.
نتوقّف ونحن نطالع شريعة القداسة كما تبدو داخل سفر اللاويّين، على قداسة الله كما تبرز لنا من خلال سفرَي الخروج واللاويّين بصورة خاصّة ، وفي أسفار التوراة بصورة عامّة. لا شكّ في أنّ الكاتب المُلْهم ينطلق من اختبار البشر ليتحدّث عن الله، ولهذا سنراه يشبّه الله بالإنسان. سنتبعه نحن في حديثه عن الربّ، ولكنّنا سنأخذ بما يسمّى اللاهوتَ السلبي الذي يُعلِنُ صفةً تكمُن في الله، ثم يسارع إلى نفيها: الله يحبّ، ولكنه لا يحبّ كما نحن نحبّ؛ ألله قدّوس، ولكنّ قداسته تختلف عن قداسة البشر، وإن كان على البشر أن يتشبّهوا قدرَ المستطاع بحبّ الله وقداسته.
أولاً: تَرِدُ كلمة "قدش" (قدس) العبرانيّة ومشتقّاتُها مرارًا في الكتاب المقدّس، ولا سيّما في سفرَي الخروج واللاويّين: كونوا قدّيسين لأنّي أنا قدّوس (11: 45). دم ذبيحة الكفّارة هو قدس الأقداس للربّ (خر 30: 10) . المقدّس الذي هيّأته يداك (خر 15: 17) يخدمه الكهنة (خر 35: 19) ويهابونه (19: 30)، وله يصنعون الآنية المقدّسة (خر 35: 19؛ 39: 41)، ومن أجله يقدّسون الكهنة (44:11).
ثانيًا: ما معنى كلمة "قدش"؟ هذه الكلمة التي أخذت بها مُعظمُ اللغات الساميّة، تدلّ على الانقطاع والانفصال. فالأماكن التي تسمّى "قادش" هي مُقامات مكرّسة، أي مفصولةٌ عن مُقامات البشر، وممنوعة عنهم ومحرّمة عليهم. ففي هذا المكان المقدّس قدرةٌ تحمي الإله الذي يقيم فيه، ومن اقترب منه كانت عاقبته الموت. عندما مدَّ عزة يده الى تابوت الله، ضربه الله لأجل جسارته فمات هناك (2 صم 6: 6-7). ولكن القدرة الخارجة من المكان المقدّس تكون أيضا للخير، ومن مَسكِن الله المقدّس تأتي البركات على الشعب.
ثالثا: أصل كلمة "قدش". ترتبط القداسة في العربيّة بالطُهر والبركة، وبالصلاح والتنزيه عن كل نقص وعيب، ويُعتبَر المكان المقدّس حرامًا، بمعنى أنْ لا يدخلُه إلاّ المؤمنون الآتون إليه بحالة الطهارة. وتعني كلمة "قدش" السُريانيّة قدّس وطهّر، أصبح مقدّساً، تكرّس. ولقد جرّب بعضهم أن يُرجع الكلمة الى الجذر "قدَّ" أي قطع وشقّ، أو الى الجذر "قودوشو" أي لمع في المعنى الماديّ، وطهر في المعنى الأدبيّ، أو الى الجذر "حدث" أي كان جديدًا مضيئًا كالقمر في أول طلوعه (كلمة "حدش" تعني الجديد والقمر).
رابعًا: القداسة قوة عُلويّة وسريّة تُضني على الأشخاص أو الأشياء صفةً خاصّة. وهذه القوّة ترتبط بها الحياة، وبها تتجدّد. بالنسبة إلى العهد القديم تتجمّع القوّة في شخص يهوه، وخارجًا عنه لا نجد حياةً، لا في الطبيعة ولا في الإنسان. لذلك ليست القداسة صفةً كسائر صفات الله، بل هي صفة سامية تعبّر عمّا يميّز الله، وتقابل ألوهيّته أي ملءَ قدرته وحياته.

خامسًا: قلنا إنّ وجهة القداسة الأولى هي القدرة، قدرةٌ في خدمة إله يستعمل كلّ شيء ليجعل ملكيّته تسيطر. وإذ يمسك الرب بقداسته، لم تَعُد قدرةُ هذه القداسة تَكمُن في الحَرام وما لا يَحِلّ انتهاكه، أو في تحديد المكان المكرّس لله، بل في القدرة التي تنتقل الى الكائن لتعطيه الحياة. وهذه القداسة خاضعة لله بحيث إنّ صفة القدّوس تحدّد الله. يقول أشعيا (40: 25): "فبمن تشبّهوني فأساويَه يقول القدّوس، أو يقول الرب" (رج هو 11: 9). ويقول أيضا (اش 5: 24): " إنهم نبذوا شريعة الربّ، واستهانوا بكلمة قدّوس إسرائيل" (رج حب 3: 3، مز 71: 22)، جاعلاً المعادلة كاملةً بين الله والقدّوس. وعندما نقرأ أنّ ألله يَحلِف بقداسته، فنحن نَعني بذلك أنّه يحلف بذاته (عا 2:4؛ 8:6؛ مز 36:89 ؛ 8:108).
سادسًا: عندما يكشف الله عن قداسته، يكتشف الإنسان أنّه لا شيء، يعرف أنّه خليقة ضعيفة (تك 27:18)، إنّه تراب ورماد (أي 42: 6)، ويعرف أنّه ملطّخ بالخطيئة، وأنّ الخطيئة تجعل بينه وبين الله حاجزًا لا يزيله إلاّ الله (اش 6: 1 ي ). ولهذا فحضور الرب يولّد عند الانسان الخوف. فعندما نتعرّف الى قداسة الله، فأوّل عاطفة نشعر بها هي عاطفة الخوف. "قدّسوا ربّ الجنود، وليكن هو خوفَكم وفزعَكم" (أش 8: 13؛ 29: 23). والمزمور 99 (آ 3، 5، 9) يردّد على مَسمع الشعوب: إنّه قدّوس ارتعدوا أمامه، اعترفوا باسمه، اسجُدوا له.
سابعًا: إنّ طالما القداسة الذي يُلقي بثِقَله على الإنسان، يبدو في علاقة القداسة بالمجد. "كابود" (أي المجد) هو ما يعطي الانسانَ وزنَه وشخصيّته. لكلّ إنسان "كابود" أي مجدٌ وكرامة (مز 9:16؛ 13:30). ولكنّ مجد الله يفوق كلّ تصوّر، وهذا ما نسميّه القداسة. إذًا لا فرقَ كبيرًا بين القداسة والمجد. قالوا إنّ القداسة هي مجدُ الله بحدّ ذاتِه، وإنّ المجد هو قداسته المرتبطة بالكون. لا شكّ في أنّ المجد يمكننا أن نراه، بينما تبقى القداسة خفيّةً ؛ ولكن الله يكشف لنا عن قداسته كما يكشف لنا عن مجده، وإذا كان من فرقِ بين القداسة والمجد، فهو أنّ المجد يرتبط بظواهر الطبيعة المخيفة (مز 29)، بينما القَداسة هي تلك القوّة المحيية.
ثامنًا: ترتبط القداسة بإله العهد. وبما أنّ يهوه هو إله العهد، فهو لا يحتفظ بقداسته لذاته، فيجعل منها حاجزًا بين عالم السماء والأرض. فغيرته تدفعه الى أن يكشف قداسته، وهذه القداسة ليست فقط قوّة تغني الانسان، بل تقيمه وتجعله نبيًّا وتملأه من قوّة الله، وتطلب إليه أن يبرز هذه القوّة على أعين الناس.
تاسعًا: كلّ عمل خلاص قام به الله من أجل شعبه هو تعبير عن قداسته. يهوه اله "قدّوس إسرائيل"، لا لأنّه كرّس نفسه لبني إسرائيل، بل لأنّه كرّس بني إسرائيل له، وشعبُ إسرائيل مقدّس لأنّ الرب كرّسه لنفسه. يسمّي هوشع ( 11 :9) يهوه: الربّ في وسطك، الرب بقربك، ويسمّيه حزقيال (7:39): القدّوس في إسرائيل. هذا الرباطُ الذي يستند الى اختيار الله لشعبه، يفترض أنّ القداسة يمكنها أن تنقلبَ على بني إسرائيل، فتصبحَ تعبيرًا عن غضب الله على شعبه. "يكون نور إسرائيل نارًا، وقدّوسُه لهيبًا، فيحرق ويأكل شوكَه وقَتادَه في يوم واحد" (اش 10: 17). ولكن رغم كل ذلك يبقى الربّ قرب شعبه، وهو لا يستطيع يتركه. وإن تركه يكون كمن أنكر ذاته.
عاشرًا: الرب القدّوس يقيم في الأعالي ، ولكنّه ينحدر الى المنسحقين والمتواضعي الروح (اش 57: 15)، لأنّه إذا كانت القداسة هي صفةَ الله، فهي أيضًا الصفةُ التي تقرّبه أكثرَ ما تقرّبه من البشر. قدّوس إسرائيل يَعِدُ فيَفي، قدّوس إسرائيل عونه قريب، وخيراته يراها الجميع فيهتفون: "الله فيك وليس آخر، ليس إله غيره" (اش 45: 14). تاريخ بني إسرائيل هو تاريخ القداسة التي ترتبط بالعهد. غير أنّ الرب يبقى حرًّا أن يكشف عن قداسته خارجَ العهد، بحيث لا تُمَسّ قداسته الإلهيّة إن نقض شعبُه عهدَه معه. الله قدّوس ولهذا اختار أن يدخل في العهد، أمّا الإنسان فلا يستطيع أن يتقدّس إن لم يدخل في العهد.
أحد عشر: إذا نظرنا بصورة عامّة، وجدنا أنّ الشعب بمُجْمله يتقبّل قداسة الرب، ولكنّ هناك داخل الشعب أشخاصًا مطبوعين بقداسة الله، وأشياءَ خصّ الله بها نفسه. فتابوت العهد يحمل قداسة الربّ، وفيه يتركّز مجده. وسيحِلّ محلَّ تابوت العهد هيكلُ أورشليم الذي هو موضع الوحي، قبل أن يكون مسكِنَ اللاهوت. "ببيتك تليق القداسة يا ربّ طول الأيام " (مز 93: 5). وقداسة الهيكل تمتدّ الى كلّ ما يرتبط بأفعال العبادة: الأواني والمياه المصبوبة في هذه الأواني (خر18:30؛ عد 5: 17). وملابسُ الكهنة (خر 28: 2) هي مقدّسة. والذبيحة تنقل إلينا بعضا من قوة الحياة التي هي قداسة الله. ولكنّ هذه القداسة المرتبطة بمكان وإناء، جعلت الشعبَ ينسى جوهر العلاقة بين الله وشعبه، فيتعلّق بهيكله أو شريعته، كما يتعلّق الوثنيّ بأصنامه.
إثنا عشر: ونعود الى الطهارة التي ستصبح موضوع القداسة الجوهريّ. فهي تَبرُز تارةً في العالم الأخلاقيّ (3:19، 11، 15؛ 7:20، 10) ، وطورًا في العالم الطقسيّ (21: 6؛ عد 6: 5؛ 1 صم 6:21). على الإنسان أن يكون قدّيسًا على مثال الله القدّوس (19: 3، 11). وهذا يتضمّن بالنسبة إليه واجبًا طقسيًّا وموقفًا داخليًّا. وهذا يعني أنّ على الانسان أن يحقّق ملءَ حياته

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM