الفَصل الثاني عَشرَ: شَريعَة بَلوَى البَرَص

الفَصل الثاني عَشرَ
شَريعَة بَلوَى البَرَص
13 : 1 – 14 : 54

أ- مقدّمة
يتضمّن الفصلان 13-14 (كالفصل 11) مجموعاتٍ مختلفة لحالاتٍ تصدّى لها الكهنة على ضوء الشريعة. ثم جاء المشترع الأخير، فجمعها ونسّقها حول موضوع واحد، هو تشخيص مرض البرص وطريقة معالجته بحسب الطقوس. ولهذا لن ننتظر تقسيمًا منطقيًّا كاملاً ولا تماسكًا في التنسيق ، بل فكرةً شاملة يدلّنا فيها الفصل 13 على تعليمات أعطيت للكهنة ليحدّدوا مرض البرص انطلاقًا من التشويه الذي يرونه في جسم إنسان. ويصوّر لنا الفصل 14 الطقوس التكفيريّة التي يقوم بها الفرد الذي شفي. إلاّ أنّنا نجد في كلّ من هذين الفصلين مقطعًا أُقحم في سياق النصّ، يتطرّق الى العفَن في الثياب (13: 37-58) أو في البيوت (14: 33-53) وداءُ العفن بالنسبة الى الكاتب شبيه بداء البرص. هذا الواقع يبيّن لنا أنّ المشترع لا يُسند أحكامه إلى معرفة علميّة أو نظريّات صحيحة بل هو يهتمّ بالنجاسة حسب الطقوس والشريعة (3:13). بالبرص يصبح الإنسان ناقصًا، فلا يحقّ له أن يقارب المكانَ المقدّس والجماعة المقدّسة وكلُّ من مسّه تنجّس.
النِظرةُ إلى البرص عند الأقدمين، ومنهم العبرانيّون، تختلف عن نِظرتنا إليه اليوم. فهم يسمّون العفَن في الثوب والبيت برصًا. ويعتبرون أيّ أثر في الجلد، سَواءٌ أكان سطحيًّا أم عميقًا، مرضًا يضع البلبلة في الجماعة التي تخاف أن تنتقل العدوى إليها. من الطبيعيّ أن لا يتّفق المشخّصون على تشخيص المرض، ولذلك كان على الكاهن أن يتّخذ قرارًا باسم الله الذي يمثّله، فيُطَمئن المؤمنين. إذا كانت الصحّة هي حالةَ الإنسان الطبيعيّة، فالبرص، ومعه كلُّ مرض، هو حالة غريبة عن المألوف تدلّ على قوى سريّة تحمل السوء الى الجماعة. يتأكّد الكاهن: هل هناك برصٌ أم لا؟ ثم يعمل على إبعاد المبتلى، فلا تصاب الجماعة لئلاّ ينتشر المرض وتنتشر معه قوى الشر.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة
1- البرص في الإنسان، والعفَن في الثياب (13: 1-59).


أولاً: البرص في الإنسان (13: ا-46)
(آ 13: 1-8) نتوء أو طَفْحة أو لَمعة في الجلد: يتعلّم الكاهن أن ينظر الى تطوّر المرض قبل أن يحكم على المريض، ويقرّر هل هناك نجاسة أم لا.
(آ 9-17) البرص المُزْمن: بعد أن يتطرّق الكاتب الى طُرق التمييز بين الأبرص حقًّا والذي ظاهرُ جلده ظاهرُ البرص، يتوقّف هنا على الأبرص المُزْمن: يراقبه مرّةً أو مرّتين، ولا يحكم على نجاسته إلاّ بعد أن يتأكّد مليًّا من وجود المرض.
(آ 18- 23) الدُمّلة: يُحْجز "المريض" سبعةَ أيام. وإذا تفشّت الدُمَّلة في جسمه يُحكم بنجاسته.
(آ 24-28) كَيّ النار في الجسم: يعامل الكاهن الكيّ كما عامل الدُمّلة.
(آ 29-37) البَلْوى في الرأس أو الذقن: لسنا هنا أمام البرص ("نجع" في العبرانيّة راجع في العربيّة النجيع من الدم أي ما كان مائلاً الى السواد) بل أمام وسائل تساعدنا على التعرّف إليه: يعاين الكاهن المريض، يقرّر، يتّخذ الإجراءات اللازمة، وفي كل ذلك يتصرّف بالحكمة والفطنة والتروّي. ليس الكاهن طبيبًا ليهتمّ بعلاج المريض، بل مسؤولٌ عن خير الجماعة، فيبعد عنها كلّ خطر.
(آ 38-44) البَهَق والصلعَ: سقوط الشعر يمكن أن يكون علامة مرض مُعْدٍ في الجسم. أمّا الصلع فيمكن أيضًا أن يكون عُرضة لهزء الناس بصاحبه (رج 2 مل 23:2).
(آ 45-46) وضع الأبرص: يحدّد المشترع الإجراءاتِ الواجبَ اتّخاذها لتجنّب العدوى: يُحسب الأبرص وكأنّه كما بالنسبة الى الجماعة. ولهذا يَشُقّ ثيابه، ويكشف رأسه، ويغطّي شاربيه (رج حز 24: 17). وعليه أن يسكن منفردًا خارجَ المحلّة، وينبّه المارّة إلى وجوده، فلا يؤذيهم حتى بنَفَسه (ولهذا يغطّي شواربه).

ثانيًا: العفَن في الثياب (47:13-59)
يسمّي المشترع برصًا ذلك العفنَ أو العُثّ الذي يدخل الثياب، فيجعلها وكأنّها مصابةٌ بالبرص. كانت الجماعة تخاف هذا المنظر، لأنّها تعرف أنّ البرص يعلق بالثياب.
في آ 59 "تلك شريعة بَلْوى العفَن... " يلخّص شريعة العفَن، وينسى شريعة البرص التي هي أهمّ من شريعة بَلْوى العفَن. وهذا ما يدفعنا الى القول إنّنا أمام مجموعتين كانتا في البداية منفصلتَين قبل أن توضعا في إطار واحد.
2- التخلّص من البرَص والعفَن (14: 1-54)

أوّلاً: الأبرص بعد طُهْره (14: 1-32)
(آ 14: 1-9) عودة الأبرص الى الحياة العائليّة والاجتماعيّة: يشكّل البرص خطرًا كبيرًا على حياة الجماعة بسبب النجاسة التي تتبعه. ولهذا لا يعود الأبرص الى المحلّة التي أُبعد عنها، إلاّ على مراحل، وكلّ مرحلة تتميّز بطقوس خاصّة بها. أمّا في هذا الفصل الرابعَ عشرَ فنجد مرحلتين رئيسيّتين. بعد الأولى (آ 1-9) يعود الأبرص الى الحياة العائليّة والاجتماعيّة، بعد أن يتمّ الطقوس المفروضة (عصفوران، قرمز، زوفى). بعد الثانية (آ 10-32) يعود الإنسان إلى مكانه وسْطَ جماعة المصلّين بعد أن يقدّم الخروفين والنعجةَ والدقيقَ والزيت. نلاحظ هنا تعدّد الرتب الطقسيّة، وهو أمر خاصّ بشعائر العبادة، كما مارسها العبرانيّون بعد الجلاء، وكما وصلت إليهم من المعابد المتفرّقة.
يبدو أنّ المقطع الأول (آ 1-9) قديم جدًا، وهو يعكس أفكارًا تظهر المرض وكأنّه علامةً على أنّ قِوًى وأرواحًا شرّيرة كانت تسيطر على الإنسان خلال مرضه، فكان وكأنّ به مَسٌّ من الشيطان. لذلك عندما تزول هذه الأعراض الخارجيّة، لا بدّ من العمل لطرد هذه الأرواح خارجَ الإنسان.
كانت الديانات الساميّة القديمة تتصوّر الشرّ بشكل شيطان مجنّح، ولهذا فرض على المريض أن يقدّم عصفورين: يُذبح عصفور ويُطلق آخر. أمّا المياه فهي تنظف الإنسان من أوساخه ، وترمز إلى أنّ الشرّ قد زال. عود الأرز أو الزُوفى (خر 12: 22؛ عد 6:19) يستعمل لرشّ الدمّ الذي كان يخيف الشيطان بسبب لونه.
يجدر القول إنّ التقليد الكهنوتيّ كان يعتبر كلّ هذه الأعمال مقدّمة لليوم الثامن. فالدخول إلى حياة الجماعة لا يكون كاملاً إلاّ عندما يستطيع المؤمن أن يشارك في طقوس العبادة وشعائر الذبائح.
نلاحظ هنا أهميّة النظافة: يغسل ثيابَه، يستحمّ بالماء؛ يحلق شعره لأنّ الشعر يحتفظ بالوسخ وبالنجاسة (عد 6: 9).
حين يتأكّد الكاهن من طُهر الأبرص يسمح له فيدخل الى المحلّة. ولكنّه ينتظر سبعة أيّام (فترة سابقة لحياة جديدة) قبل أن يقترب من أحد أفراد أسرته. وإذا حدث أن تنجّس البيت، فسيكون مصيره الهدم (رج يش 7: 1-26 وبيت عاكان بن كرمي).
(آ 10-32) عودة الأبرص الى الحياة الطقسيّة والدينيّة: بعد المراسيم القديمة التي أوردها الكاتب الكهنوتيّ دون أن يبدّل فيها، ها هو يزيد عليها طقوسًا جاءته من معبد آخر، وهي تتلاءم مع مُجْمل سفر اللاويّين.
الذبيحة ذبيحةُ تكفير (آ 18- 20)، إنّما يبقى أنّها أولاً ذبيحةُ الخطيئة، كما يصوّرها الكاتب مطوّلاً. هذه الذبيحة تفعل فعلَها في حالة النجاسة (رج 2:4؛ 5: 2-3)، وهي تقوم بأن يأخذ الكاهن الدم الذي يُحرق على المذبح (رج 5: 14؛ 6: 7)، أمّا ما تبقّى من مراسيم فقد زِيدت لتلائم القواعد المعمولَ بها في سائر الطقوس.
"يأخذ الكاهن من دم ذبيحة الإثم، ويضع على شحمة إذن المتطهّر" ، وبهذا العمل الطقسيّ يدعو المتطهّر الى جماعة الله المقدّسة. هذا ما فعله موسى عندما كرّس هارون وبنيه كهنةً للربّ (8: 22- 30). أنكون هنا أمام رمز قديم يرتبط بفكرة خدمة الله وعبادته؟ فالمؤمن يسمع بأذنيه، وينفّذ ما يؤمر به بيديه ورجليه. وهناك عمل طقسيٌّ آخر يدلّ على الخشونة والفظاظة. إذا عزم شخص على البقاء في خدمة شخص آخر والتعبّدِ له كلَّ حياته ، "يقدّمه سيّده الى الله، ويقوده الى الباب أو قائمته، ويثقب أذنه بالمِثقَب، فيخدمه الى الأبد" (خر 6:21).
في (آ 21): وإن كان المتطهّر فقيرًا. هنا، كما في (5: 7 و 12: 8 ي) يعامل المشترع الفقراءَ معاملة خاصّة.

ثانيًا: العفَن في البيوت (33:14-57)
نحن هنا أمام عادات قديمة أخذ بها كهنة أورشليم. فكما أنّ منظرَ العفن في الثياب يجعل الإنسان يتخيّل وجود البرص، كذلك وجود "الملح" أو "الحشيش" في البيت بسبب تسرّب المياه إليه يجعل الإنسان يخاف عَدوى البرص. نلاحظ في هذا المقطع أن بني إسرائيل تركوا الخيمة وحياة البداوة وأخذوا بعادات الحضَر فانتقلوا الى البيوت المبنيّة. ولكنّ هذا التبديل في السكَن لم يبدّل عقليّة الشعب الذي ظلّ يخاف هذه القوى السريّة، فيعمل ليحمي نفسه منها. كل هذا يدلّنا على أنّنا لسنا أمام نجاسة أخلاقيّة أو أمام خطيئة يقترفها الإنسان، بل أمام بَلْوى لا بدّ لنا أن نتقبّلها بانتظار أن نتخلّص منها.
في آ 54-57 نقرأ خلاصة عامّهَ عن الفصلين 13-14: تلك هي الشريعة... حتى تعرفوا متى تكون النجاسة والطهارة

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM