الفَصل الحَادي عَشَر: تجْديدُ العَهْد

الفَصل الحَادي عَشَر
تجْديدُ العَهْد
32 : 1 – 34 : 35

أ- مقدّمة
قرأنا في الفصول 26- 31 تعليماتٍ مفصلةً عن العبادة في بني إسرائيل، فبدت هذه العبادة وكأنّها الطريقةُ الوحيدة للمشاركة بين اللّه وشعبه طِبقًا لوحي سيناء. ولاحظنا أنّ هذه التعليمات دونت في وقت متأخّر من تاريخ إسرائيل، وأُدخلت الى الكتاب على يد كاتب كهنوتيّ عاش بعد الرجوع من الجلاء. ولكن هذا التدوين في زمن متأخر لا ينفي وجود فرائضَ عرفها بنو إسرائيل في زمن هيكل سليمان، أخذ بها التقليد الكهنوتيّ، فأعطاها تفسيرًا جديدًا على ضوء ما استجدّ من حالة سياسيّة واجتماعيّة ودينيّة.
لقد أدرك شعب إسرائيل أنّ عبادته عَبْرَ التاريخ لم تتوافق والتعليمات التي أُعطيت له في سيناء، فاتّسمت بالروح الوثنيّة، وعرفت الآلهةَ الغريبة. وهذا ما نقرأه في الفصل 32، أنّ حادثَ العجل الذهبيّ يعطي المؤمنين عِبرةً وتنبيهًا ضدّ نوع من العبادة حصل مرّة، وتكرّر مرّاتٍ فجعل الشعب ينقض عهد سيناء. هذه هي النتيجة التي وصل إليها الشعب بفضل خيانته لربّه، هذه هي نتيجة شكِّهم بموسى، هذا هو استعدادُهم للرجوع الى ديانة الكنعانيّين. وهذا ما سيفعله يارُبْعام عندما يصنع عِجلين، واحدًا في دان والثاني في بيتَ إيل (1 مل 28:12-30). وفي هذا سيقول النبيُّ حِزْقيال (8:20) بلسان الربّ: " تمرّدوا عليّ، وأبَوا أن يسمعوا لي، ولم ينبِذوا كلُّ واحد الأوثانَ التي تجتذبهم، ولم يتركوا أصنام مصر".
يشكّل الفصل 32 مع الفصلين (33-34) مقطعًا إخباريًّا يصوّر حالة شعب إسرائيل، بعد أن قبل الشرائع والوصايا. وهو يرجع إلى التقليد اليَهْوَهيّ المطعّم بالإلوهيميّ. سيحطّم موسى لوحَي الوصايا اللذين جاء بهما من عند الرب، للدلالة على أنّ الشعب نقضَ عهد الرب، ولكنّه سيدوّن بيديه هذه الوصايا عينَها لتكون شاهدًا لبني إسرائيل مدى أجيالهم.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة.
1- العجل الذهبي (32: 1-35)

إذا حلّلنا هذا الفصل تحليلاً أدبيًّا، وجدنا فيه الأجزاء التالية: صنع بنو إسرائيل عجلاً ذهبيًّا (آ 1-6)؛ توسّل موسى لأجلهم (آ 7-14) ؛ ثمّ غضب عليهم فحطّم لوحَي الوصايا وكسر العجل الذهبي وأحرقه بالنار (آ 15-20). تحاور موسى وهارون (آ 21-24) فتدخّل اللاويّون وقتلوا ثلاثة آلاف شخص (آ 25-29). تشفعّ موسى من أجل الشعب مرّةً ثانية (آ 30-35) وطلب إلى الرب أن يغفر لهم خطيئتهم: "يا ربّ، اغفر خطيئةَ هذا الشعب، أو امحُني من كتابك الذي كتبته ". اقتلني معهم أو خذ حياتي فداءً عنهم.

أولاً: العجل الذهبي (32: 1-6)
(آ 1) أطال موسى مُقامه على الجبل (رج 24: 15-18). لا مسؤوليّةَ لموسى في ما عمله الشعب، وهو لم يشاركهم في عبادتهم الوثنيّة. إنّما يعتبره الشعب مسؤولاً، لأنّه أبطأ فوَهنَت عزيمته وطلب شخصًا يسير أمامه.
هل يريد الشعب "إلهًا " أو صورة إله تمشي أمامهم كسائر الأمم،َ أم يريدون آلهة عديدة لا إلهًا واحدًا؟ فكلمة "إلوهيم " تعني المفرد، وإن كانت بصيغة الجمع. إذا تذكّرنا عجلَيْ دان وبيتَ إيل، وجّهنا أفكارنا إلى الجمع (آلهة)، وإذا اقتصرنا على النصّ نقول: إنّهم صنعوا عجلاً واحدًا.
(آ 2) إستجاب هارون لطلابهم. نرى هنا مسؤوليّة هارون الذي جاراهم في عبادتهم الوثنية.
(آ 4-6) طلب منهم الذهبَ وصَنعَ الصنَم. صنعه من خشب وطلاه بالذهب. صنع عجلاً صغيرًا أو ثورًا صغيرًا، ونحن نرى في هذه التسمية ما فيها من تحقير. لم يصنع لهم ثورًا كما في كنعان أو فينيقيا او بلادِ الرافدَين، لم يصنع لهم بقرةً كما في مصر، بل عجلاً.
يبدو أن صورة العجل رمزٌ للديانة الكنعانيّة لعلاقتها بالقوة والخِصب، ونحن نرى "إيل وبعل " رئيسَي آلهتهم مرتبطَين بهذه الصورة. لم يكن للإله صورةُ عجل بل يعتبر واقفًا على العجل الذي هو له بمثابة مَوطىء قدَم، فيبيّن للشعب الخصبَ الذي يحمله الإله. على كلّ حال، ومهما كان الأمر، فالآية الخامسة تعتبر أنّ الشعب عبدَ الرب وعيّد له عبرَ هذه الصورة الحسيّة، وأنّه بنى مذبحًا ومارس البَغاء المكرّس على عادة أهل كنعان (عد 5: 1-9 ؛ رج 1 كور 7:10). وهكذا إذ يشجُب الكاتب ما فعله هارون في سيناء، فهو يشجب في الوقت ذاته ما فعله يارُبعام في دان وبيتَ إيل (رج هو 8: 5 ؛ 5:10 ؛2:13)

ثانيًا: موسى يتشفعّ (7:32-14)
نقرأ هنا مقطعًا اعتراضيًّا يبيّن لنا لماذا لم يضرب الربّ شعبه ضربةً قاضية بعد أن نقض العهد. لقد تشفعّ موسى الى الله في شعبه، فلم يَمْحُ الله شعبه.
(آ 7-10) عبد بنو إسرائيل الآلهة الأخرى، فعصَوا الوصيّة الأولى (20: 3-6).
نقضوا عهد سيناء، فعرض الرب على موسى أن يُفْنيهم، ثمّ يبدأ معه ببناء شعب جديد، كما فعل مع إبراهيم. ولكنّ موسى يتضامن مع شعبه: ماذا تقول الأُمم؟ خلّص شعبَه ليُفنيهم في الصحراء! أين الأعمالُ الماضية؟
(آ 11) تضرّع موسى الى الرب. أعظمُ علامة عن شخصية موسى تبدو في هذا التشفعّ من أجل بني إسرائيل (عد 14: 13-19؛ تث 25: 29)، فدوره دور الكاهن والنبيّ. كان موسى في شعبه الكاهنَ الذي يقدّم الذبائح، والنبيَّ الذي يكلّمه بأسرار ربّه، على أنْ يقدّم الصلواتِ التكفيريّةَ من أجل شعبه. وتبدو عظمة موسى أيضا في أنّ الربّ استجاب صلاته.
(آ 12) ماذا يقول المصريّون؟ هل يقولون إنّ يهوه ليس الإلهَ الحقيقيّ؟ إن فعل الربّ بشعبه ما توعَّده به، يتدنّس اسمُ الربّ (رج حز 36: 20). هذا هو السبب الأول الذي يمنع الربَّ من إفناء شعبه .
(آ 13) أمّا السبب الثاني فوعدُ الربّ لإبراهيم (تك 12: 1-3) أن يكون له نسلٌ كبير. هل يُتمّ ما وعد به الربُّ صفيَّه إن هو أفنى شعبه؟
(آ 14) وعاد الرب... إنّ نتيجة خيانة الشعب لا يمكن أن تكون إلاّ في إفنائه، هذا ما أعلنته اللعناتُ التي رافقت الموافقة على مضمون العهد وبُنوده. ولكنّ موسى يدعو الربّ الى معاملة شعبه بالرحمة والرأفة. فالشعبُ ليس شعبَ موسى (قال له الرب: شعبك آ 7)، بل هو شعب الله، والله هو الذي أخرجه من مصر، ولم يكن موسى إلاّ منفّذًا لأوامر الله.

ثالثًا: مصيرُ العجل الذهبي (32: 15-20)
نحن هنا أمام نتيجتين لِما فعل بنو إسرائيل: كسرَ موسى لوحَي الوصايا، وحطّم العجلَ الذهبيّ.
(آ 15-16) تشدّدان على أهميّة لوحَي الوصايا: صنعهما الله، كتبهما بخطّ يده. وعندما كسرَهما موسى، فقد دلّ على أنّ الشعب لم يعد بحاجة إليهما بعد أن نقضَ عهدَه مع الرب.
عندما نقول "صُنْع الله، كتابة الله" يجب ألّا نأخذ ذلك بالمعنى الحرفيّ الدقيق. فمن جهة نقرأ نصوصًا تقول إنّ موسى كتب الوصايا (4:24؛ 27:34)، ومن جهة ثانية نفهم أنّ النصّ ينبّهنا الى الطابَع الإلهيّ لهذه الوصايا التي تمثّل كلمات الله وإرادتَه في شعبه.
(آ 17-18) يشوع هو رفيق موسى وخليفتُه (13:24؛ رج تث 7:31-8، 14-29). لم يَفهم ما حدَث، وهذا يدلّ على أنه لم يشارك الشعب في عبادته الوثنيّة.
(آ 19) كسر موسى اللوحَين. عبد الشعب العجل بطريقة بارزة، فنقض العهدَ بطريقة بارزة. ولهذا كسر موسى لوحي الوصايا على مرأى الجميع ليقول لهم أن قدِ انتهى كلّ شيء بين الله وشعبه. ولكن نعمة الله وحدَها ستعطي موسى لوحَين جديدين، وستسمح له بتجديد العهد مع الله باسم الشعب.
(آ 20) ثم أخذ العجل... أحرقه بالنار. يبدو أنّه كان مصنوعًا من خشب مَطْليّ بالذهب، فسهل حرقه. ولما صار غبارًا ناعمًا جعله في الماء، وسقى منه بني إسرائيل. هل أراد بذلك أن يعرف المذنبين من الأبرياء (عد 5: 1- 31) فيعاقبَهم باسم الرب؟ ولكن الشعب كلَّه قد أخطأ، ولهذا عندما يَروي سفر التثنية (8:9- 21) قصّةَ العجل الذهبي فهو يقول إنّ موسى طرحَ غباره في النهر المنحدر من الجبل.

رابعًا: حوارٌ بين موسى وهارون (32: 21-24)
هذا الحوار يرجع بنا الى الوراء. يسأل موسى هارون عمّا حدث، فيتضرّع هارون إليه ألا يشتدّ غضبُه، ثم يبيّن له مسؤوليّة الشعب. وهنا يمكن قراءة الآية الخامسة "خاف " هارون، لا "رأى هارون " على خُطى الترجمة السُريانيّة، ونفهم أنّ هارون خاف من الشعب. وكما تشفع موسى الى الرب، كذلك سيتشفعّ هارون إلى موسى. على كلّ حال تبدو خطيئة هارون واضحة، ولا شىء يبرّرها، كما تبدو خطيئةُ ياربعام، ملكِ إسرائيل، في أبشع مظاهرها.

خامسًا: تدخّل اللاويّين (32: 25-29)
يربط هذا النصّ قبيلة لاوي ببداية حياة الشعب في البريّة، وهي قبيلة جعلت الأمانة للعهد فوق كل شيء، فتنكّر الواحد منهم لأخيه وصاحبه إكرامًا لربّه.
هل نقرأ هنا صدًى للصراع بين الأُسر الكهنوتيّة؟ واحدةٌ تهاجم هارون، وأخرى تدافع عنه! تدخّلت قبيلة لاوي من أجل المحافظة على العهد، ومع ذلك فهي مُبْعَدة الآن، أي في وقت الجلاء، عن الخدمة الكهنوتيّة في هيكل أورشليم!
وهكذا قتل بنو لاوي 3000 رجل بناءً على طلب موسى. أخطأ القائد (هارون) فدفع الشعب الثمن؛ ولكنّ بني لاوي سيصحّحون الأمور فيعلّمون بني يعقوب أحكام الله وشرائعَه (تث 33: 9- 11).

سادسًا: موسى يتشفعّ ثانية (32: 30-35)
تضامن موسى مع شعبه وقدّم حياته عنهم (آ 32)، فطلب الربّ إليه أن يتابع رسالته في ما بينَهم.
(آ 33) الذي خطِىء إليّ... لا يعاقب الله إلاّ المذنبين، وهذا ما يبرّر مقتل الثلاثةِ آلافَ رجلٍ.
(آ 34-35) وغفر الربّ لشعبه، فأرسل ملاكه من جديد ليسير أمامهم. تصرّف الربّ بصبر وطول بال فلم يضرب الشعب، ولكنّه عاقبهم فلم يسمح للذين عبدوا العجل الذهبي أن يدخلوا أرض الموعد. سيدورون في البريّة أربعين سنة وفيها يموتون.
بقي حكم الله معلَّقًا (رج حز 9:20، 17، 22) وسيأتي يوم يعاقب فيه الشعبَ بذهابه الى أرض المنفى، فيعرف أنّ عقابه جاء نتيجةَ نَقضِه لعهده مع ربّه.

سابعًا: ماذا نستنتج من خبر العجل الذهبيّ؟
يبدو أنّ أصل الخبر كان مؤلّفًا من آ 1-6، 15-20 ، 35: طال غياب موسى، فصنع الشعبُ له عجلاً ذهبيًّا اعتبره إلهه، وأراد أن يسير منذ الآنَ وراءه. نزل موسى من الجبل برفقة يشوع، فتدخّل بقساوة وحطّم هذه الصورة المنحوتة التي تتعارض مع عبادة يهوه.
ولقد ربط الشراحُ هذه الحادثةَ بما فعله يارُبعام (1 مل 12: 18-29)، فرأوا فيها حُكمًا عليه باسم شريعة سيناء. وكما أنّ اللاويّين حاربوا الذين عبدوا العجل الذهبي في عهد موسى، هكذا حارب الكهنةُ في أورشليم شرّ بيتَ إيل ووثنيّتهَا، فأظهروا جميعًا أمانتهم لإله العهد. وكما أنّ الكاتب الملهم تصوّر خيمةَ الصحراء على مثال هيكل أورشليم، كذلك تصوّر أمانة اللاويّين في عهد موسى على مثال أمانة الكهنة في عهد الملوك أو بعدَ الجلاء.
ولكنّ هذا لا يَعني أنّ خبرَ العجل الذهبيّ عارٍ عن الصحة. فالشعب الذي توجّه الى الصنم فرأى فيه الإله الذي أخرجه من أرض مصر، وعيَّد إكرامًا ليهوه (32: 4- 5)، يجعلنا لا نتعجّب حين يعبُد بنو إسرائيل الله بصورة مأخوذة من بلاد الكنعانيّين!.
الى هذا الخبر الأول زيدت في ما بعدُ أمور عديدة، منها دورُ هارون، سَواءٌ أكان سلبيًّا (آ 5، 25) أم إيجابيًّا (آ 21-24)، ودورُ اللاوّيين في الخدمة الكهنوتيّة (آ 25-29)، وطريقةُ الله في معاقبة المذنبين وحدَهم (كما يقول سفر التثنية) وإعادة كتابة الوصايا وما يزيد عليها موسى بأمر الله.
2- حضور الله بين شعبه (33: 1-23)

يطرح هذا الفصل السؤال الآتي: الآن وقد خطِىءَ الشعب، هل يبقى الربّ بينَهم، وهل يتابع سيره معهم في الصحراء؟ وإن كان الجواب بالإيجاب، فكيف يكون حضوره في وسْطهم؟ هل يبتعدون عن جبل سيناء، مركزِ إقامته؟
أجل، التقى الشعب الربَّ في جبل سيناء، وهناك تجلّى له، وهو يعتبر أنّ ابتعاده عن جبل سيناء ابتعادٌ عن الرب. فكيف يكون الرب حاضرًا مع شعبه في المستقبل، كما كان معه في سيناء؟ سيجيب الفصل الثالث والثلاثون عن هذا السؤال، فلا يحتاج المؤمنون أن يذهبوا الى سيناء (أو حوريب) كما فعل إيليّا (1 مل 19: 4-18)، بل يكتفون بالبقاء في أرض الربّ، وفيها يرَون وجهه بطرق أربعة: بواسطة ملاكه، بواسطة خيمة الاجتماع، بواسطة وجهه، وبواسطة مجده.

أولاً: ملاك الربّ (33: 1-6)
وعدُ الرب باقِ لشعبه، لأنّه مقيم على أمانته، فلا يستطيع أن يُنكر نفسه. وعدَ إبراهيم وسيفي بوعدهَ، فيطردُ من أمام بني إسرائيل الكنعانيّين...
كان الرب حاضرًا مع شعبه وسيبقى؛ أمّا طريقة هذا الحضور فسوف تتبدّل: أُرسلُ أمامهم ملاكي، وملاكُ الرب صورة ملموسة عن حضور الربّ. أراد الشعب صورةَ ملموسة عن الربّ، فأعطاه ما طلب، ولكن صورةً مأخوذة، لا من عالم الأرض والمادّة، بل من عالم السماء والروح.
نزعوا زينتهم... وهل بقي لهم ذهبٌ وفضة يتزيّنون بهما؟ هل نزعوا عنهم التمائم التي جعلوها على صدورهم وقت العيد؟ أطاع بنو إسرائيل أمر الربّ فنزعوا زينتهم علامةَ العهد في سيناء الحزن، بعد أن قال الله ما قال، وعلامةَ التخلّي عن خطيئة ستظلّ عالقةً في أذهانهم أجيالاً عديدة.

ثانيًا: خيمة الاجتماع (33: 7- 11)
هذه هي طريقة ثانية يدلّ بها الربّ على حضوره وسْطَ شعبه: خيمة الاجتماع أو خيمة الموعد.
كانت هذه الخيمة خارجَ المَحلّة أو المخيّم، وكان الشعب يذهب إليها ليسأل الله. وحدَه موسى يدخل الخيمة، ويبقى الشعب، كلُّ واحد على باب خيمته، فلا يقترب الى خيمة الاجتماع. وكان الربّ يدلّ على حضوره بالسحاب على باب الخيمة، وبالكلام الذي يصل إلى موسى. وبما أنّ الله حاضر، فواجب الشعب السجودُ والعبادة بانتظار سماع أوامر الربّ على لسان موسى.
أجل، الله حاضر مع شعبه، ولكنّه بعيد عنه. من أجل هذا جُعلت خيمة الاجتماع، لا داخلَ المخيّم، بل خارجَه. ومن أجل هذا طُلب من الشعب أن يبقى بعيدًا، ويسجد من باب خيمته للربّ المتجلّي على الخيمة.

ثالثًا: وجه الرب (33: 12-17)
والطريقة الثالثة التي فيها يعبّر الله عن حضوره وسْطَ شعبه: وجه الرب.
يحتفل المؤمن بشعائر العبادة، والرب يدير وجهه إليه، أو يُشيح بوجهه عنه، ولهذا نسمع المزمور (7:4): إرفع علينا نور وجهك يا رب (رج مز 4:44، 16:89).
وجه الرب أمر معروف في العهد القديم. هو انعكاس للشخص، ومَظْهرٌ لحضور الرب المنير والمَرئّي (رج عد 6: 24-26). يرضى الربّ عن المؤمن، فيوجِّه إليه بركته ورحمته، ويلتفت اليه. يبقى على الإنسان أن يلتفت الى الربّ فيوجّه إليه لا عينَيه وحسب، بل قلبَه وكلَّ حياته في أعمال العبادة. وهكذا عندما يقول النصّ إنّ وجه الرب سيسير معهم، فهذا يعني أنّه يحقّ للشعب أن يقيم شعائر العبادة لربّه، ولو كان بعيدًا عن جبل سيناء.

رابعًا: مجد الرب (33: 18-23)
الطريقة الرابعة للدلالة على حضور الله: مجدُ الرب، أي كمالُ شخصه وأُقنومه. ولكن من يستطيع أن يرى مجد الله ويبقى على قيد الحياة؟! لهذا سيمرّ مجد الرب قرب موسى، ولكنّ موسى لن يرى وجه الرب بل قفاه. هذا يعني أنّ الله حاضر، ولكنّ الإنسان لا يستطيع أن يقترب منه من دون خطر، لأنّه الإلهُ القدّوس والمرهوب.
أجل، إنّ الانسان لا يستطيع أن يرى الله وجهًا لوجه، لا يستطيع أن يراه في ذاته وفي كيانه، فيرى ظهرَه فقط، أي يرى نتائجَ عبوره في أعماله العظيمة.

خامسًا: ماذا نستنتج من هذه المقاطع الأربعة عن حضور الله؟
أولاً: إنّها مقاطعُ مستقلة الواحدُ عن الآخر، وقد جُمعت في إطار واحد لتبيّن للشعب أنّ الرب حاضر بينَهم أينما كانوا، وحيث حلُّوا. هو حاضر في جبل سيناء، وعلى طرق البريّة، وسيكون حاضرًا في هيكل سليمان، وعلى طرق المنفى. الرب يعطي موعدًا لشعبه، ويدعوه إلى لقائه، فهل يلبّي النداء بعد أن يزيل شرّ آثامه؟
ثانيًا: عرف الشعب أنّه على مفترق طرق خاصّ فدخل القلَقُ الى قلبه. أمر الربّ موسى بالتوجّه الى أرض كنعان؛ أما يكون من الأفضل أن نبقى في سيناء؟ لقد تأكّدنا أنّ الرب حاضر في هذا المكان، فمن يقول لنا إنّنا سنجده في مكان آخر. إنّ الرب غفر لنا لأنّنا قريبون من معبده، فإذا خُنّاه في المستقبل ونقضنا عهده، فمن يؤكّد لنا استعداده لأن يصفح ويغفر؟
ثالثا: نقول مع الكتاب المقدس إنّ الله ليس إلهًا كسائر الآلهة، وليس إنسانًا سامي المَقام. يعرف أنّ شعبه شعبٌ خاطىء، ولهذا أقام بعيدًا عنهم ورفض أن يسير معهم؛ ولكنّه لا يتخلّى عن شعبه. وإن ابتعد هذا الشعب عن سيناء، وتوجّه إلى كنعان، فالربّ يبقى حاضرًا، ولكنّ حضوره يتجلّى عبرَ علامات حسيّة، ولكن لا أحد يراه وجهًا لوجه.
وهكذا يعرف الشعب أنّ الله يسير معه رغم خيانته له، ويعرف أنّه يستطيع أن يعيّد للربّ في البرية، وفي كنعان، وفي أي مكان آخر، لأنّه حيث يجتمع الشعب باسم الرب فهناك يكون الربّ حاضرًا. هذا ما احتاج أن يعرفه بنو إسرائيل، ولقد تأكّدت لهم صحّةُ كلام الله، يوم قبل أن يجدّد عهده لهم ويعطيَهم وصاياه مرّة ثانية.
3- تجديد العهد (34: 1-35)

أولاً: يَروي هذا الفصل تجديد عهد الله مع موسى وشعبِه على جبل سيناء، وهو يرتبط بالفصلين السابقين (ف 32-33) ارتباطَا وثيقًا. حطّم موسى لوحَي الوصايا حين رأى الشعب يعبد العجل الذهبيّ، فحطّم بذلك عهدَ الله مع شعبه، لأنّ الشعب لم يحترم شريعة ربّه. هذا من جهة، ومن جهة ثانية وعد الله موسى أنّه لن يتخلّى عن شعبه، وأنّه سيقوده خلال مسيرته في الصحراء، لهذا كان من الطبيعيّ أن يقوم عهدٌ جديد وتُعلَنَ شريعةٌ جديدة، ويُكتب لوحان جديدان يحملان وصايا الرب. هذا هو موضوع الفصل 34.
عندما نقرأ هذا الفصل، نلاحظ تقاربًا غريبًا بينه وبين الفصول (19-24) التي حدّثتنا عن عهد سيناء: تنبيهٌ خطير الى الشعب فلا يَقرَبُ الجبلَ (19: 10-15 ؛ 34: 1-3)، مجيءُ الربّ الى الجبل (19: 20؛ 5:34)، الله الرؤوف، الله الغيور الذي لا يرضى لشعبه أن يلتحق بآلهة أخرى ( 3:20-6؛ 34: 5-7، 14)، إعلان الشرائع (23: 10-19؛ 18:34-26)؛ إقامة موسى على الجبل أربعين يومًا (24: 18 ؛ 34: 38). كل هذا يقودنا الى نتيجة أولى تقول إنّ روايتَي العهد روايتان متوازيتان، وإنّ الرواية الثانية (ف 34) تلخّص الروايةَ الأولى (ف 19- 24) وتوجزها. الرواية الثانية يهوهيّة، والرواية الأولى إلوهيميّة، وهما روايةُ حدَث واحد. إلاّ أنّه لمّا جمع الكاتب الملهم النصوصَ، وجعلها في إطار سفر الخروج، فقد جعل النصَّ الإلوهيميّ في مكانه، وجعل النصّ اليَهْوهيّ في إطار تجديد العهد بعد نقضه في عبادة العجل الذهبيّ.

ثانيًا: الاستعداد لإقامة العهد (34: 1-9)
أمر الرب موسى أن ينحَت لوحين من الحجر كالأوّلين، ويكتب عليهما الوصايا (في 12:24، الله هو يكتب الوصايا بيده. رج 15:32-16). صعد موسى الى الجبل وحدَه ومنع الشعب من الاقتراب إليه، لأنّه مكان مقدّس (الآيتان 2-3). في الآيات (5-9) يتراءى الربّ ويعلن عن نفسه وسَط السحاب: الرب الحنون الرحوم والكثير المراحم (رج مز 86: 15؛ 111: 4؛ 112: 4-5؛ 145 : 8-9؛ عد 18:14؛ يؤ 13:2؛ يون 2:4).
يهوه إله، تتحرّك أحشاؤه كما تتحرّك أحشاء أمّ مشفقة على ابنها. يهوه غنيّ بالرحمة ("حسد" في العبريّة، وهي تعني أيضاً الرحمة والمحبّة والغيرة) والأمانة (" امت " في العبريّة وهي ترتبط بالصدق والثقة والوفاء). وهو يغفر الشرّ ("عون " في العبرّية يعني كل ما ليس مستقيمًا) والمَعْصية (فشع في العبرّية) والخطيئة (حطات في العبرّية).
هذه الآيات كان المؤمنون يتلونها وهم داخلون الى المعبد. ونقرأ في الايتين (8-9) إقرارًا بالخطايا: إغفر لنا شرورنا وخطايانا. وينحني الشعب إلى الارض، يسجد ويقرّ أنّه شعب قاسي الرِقاب. ثم يطلب الى الرب: إقبلنا مُلكًا لك وميراثًا (1 مل 8: 51، 53)، وضعْ يدك علينا فنكونَ لك ملكًا مدى الدهر (تث 6:7؛ 8:26)

ثالثًا: مقدّمة الى شرائع العهد (34: 10-13)
لا يذكر النصّ ذبيحة تُذبح (كما في 3:24-8)، بل معجزات الربّ العظيمة والرهيبة.
على الشعب أن يقطع عهدًا مع الربّ، لا مع سكّان الأرض الوثنيّين. إهدِموا مذابحهم حطّموا أَنصابهم.... إذن لا مساومةَ في أمور الديانة.

رابعًا: وصايا العهد (34: 14- 28)
هذا النصّ هو أقدم قانون يورد الشرائع المتعلّقة بالعبادة.
(آ 14) لا تسجدوا لإله آخر، فأنا إله غيُور (رج 20: 5).
(آ 15-16) تردّدان الآيتين (12-13) وخطرَ التعاهد مع شعوب أرض كنعان، مع التشديد على أنّ عبادة الأوثان هي فعلُ زنى، لهذا يمنع الزواج بين إسرائيل وجيرانهم لئلاّ يُشرِكوا مثلَهم.
(آ 17) لا تصنعوا آلهة مسبوكة (رج 20: 4).
(آ 18) عيد الفطير وارتباطه بالخروج من أرض مصر (رج 12: 1 ي؛ 23: 15).
(آ 19-20) البُكور من الناس والبهائم.
(آ 21): تذكير بشريعة اليوم السابع أي السبت (رج 8:20- 11)، حتى في أوقات الحَصاد والفلاحة، أي يومَ يضيقُ الوقت.
(آ 22): عيد الحَصاد (رج 23: 16).
(آ 23) يشدّد على الحجّ الواجب على بني إسرائيل ثلاث مرات في السنة، بمناسبة الأعياد الكبرى، أي الفصحِ والمَظالّ والحَصاد.
(آ 24) يستطيع الشعب أن يذهب الى معابده دون أيّ خوف، بعد أن يطرد اللهُ من أمامه كلّ عدوّ.
(آ 28) وكُتب العهد، ووقَّع موسى باسم الشعب.

خامسًا: وجه موسى (29:34-35)
بعد أن نزل موسى من الجبل كان وجهه مشعًّا، فخاف هارون والشعب أن يقتربوا منه. كلّمهم موسى بكلام الربّ ثم غطّى وجهه.
لن نتوقّف على التقاليد الدينيّة القديمة التي تجعل الكاهن يضع قناعًا على وجهه، عندما يقوم بشعائر العبادة. وهذا أمرٌ لا يزال ساريًا في بعض قبائل أفريقيا البدائيّة، بل نتوقّف على المعنى اللاهوتيّ. وحدَه موسى حظي بلقاء مع الرب، فكان على وجهه بعضُ مجد الرب ونورُه البهيّ. إنّ موسى هو الوسيط بين الله والشعب، وهو عندما يكلّم الشعب يكون وكأنَّ الله يتكلّم. خاف الشعب أن ينظر الى وجه موسى، فجعل موسى برقُعًا ليخني هذا المجد المطبوعَ على وجهه.
لقد أورد القديسُ بولس قضيّةَ البُرقع هذه، فأبان أنّ اليهود لا يستطيعون أن يعرفوا ملء مجد الله إلاّ في يسوع المسيح. وهكذا صار البُرقع رمزَ جهل اليهود وقساوةِ قلبهم أمام كلام الله. "نعم، الى اليوم لا يزال القِناع على قلوبهم عند قراءة شريعة موسى، ولا يَنزِعُ هذا القناعَ إلاّ الاهتداءُ الى الرب " (2 كور 3: 15-16).
الفَصل الحَادي عَشَر
تجْديدُ العَهْد
32 : 1 – 34 : 35

أ- مقدّمة
قرأنا في الفصول 26- 31 تعليماتٍ مفصلةً عن العبادة في بني إسرائيل، فبدت هذه العبادة وكأنّها الطريقةُ الوحيدة للمشاركة بين اللّه وشعبه طِبقًا لوحي سيناء. ولاحظنا أنّ هذه التعليمات دونت في وقت متأخّر من تاريخ إسرائيل، وأُدخلت الى الكتاب على يد كاتب كهنوتيّ عاش بعد الرجوع من الجلاء. ولكن هذا التدوين في زمن متأخر لا ينفي وجود فرائضَ عرفها بنو إسرائيل في زمن هيكل سليمان، أخذ بها التقليد الكهنوتيّ، فأعطاها تفسيرًا جديدًا على ضوء ما استجدّ من حالة سياسيّة واجتماعيّة ودينيّة.
لقد أدرك شعب إسرائيل أنّ عبادته عَبْرَ التاريخ لم تتوافق والتعليمات التي أُعطيت له في سيناء، فاتّسمت بالروح الوثنيّة، وعرفت الآلهةَ الغريبة. وهذا ما نقرأه في الفصل 32، أنّ حادثَ العجل الذهبيّ يعطي المؤمنين عِبرةً وتنبيهًا ضدّ نوع من العبادة حصل مرّة، وتكرّر مرّاتٍ فجعل الشعب ينقض عهد سيناء. هذه هي النتيجة التي وصل إليها الشعب بفضل خيانته لربّه، هذه هي نتيجة شكِّهم بموسى، هذا هو استعدادُهم للرجوع الى ديانة الكنعانيّين. وهذا ما سيفعله يارُبْعام عندما يصنع عِجلين، واحدًا في دان والثاني في بيتَ إيل (1 مل 28:12-30). وفي هذا سيقول النبيُّ حِزْقيال (8:20) بلسان الربّ: " تمرّدوا عليّ، وأبَوا أن يسمعوا لي، ولم ينبِذوا كلُّ واحد الأوثانَ التي تجتذبهم، ولم يتركوا أصنام مصر".
يشكّل الفصل 32 مع الفصلين (33-34) مقطعًا إخباريًّا يصوّر حالة شعب إسرائيل، بعد أن قبل الشرائع والوصايا. وهو يرجع إلى التقليد اليَهْوَهيّ المطعّم بالإلوهيميّ. سيحطّم موسى لوحَي الوصايا اللذين جاء بهما من عند الرب، للدلالة على أنّ الشعب نقضَ عهد الرب، ولكنّه سيدوّن بيديه هذه الوصايا عينَها لتكون شاهدًا لبني إسرائيل مدى أجيالهم.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة.
1- العجل الذهبي (32: 1-35)

إذا حلّلنا هذا الفصل تحليلاً أدبيًّا، وجدنا فيه الأجزاء التالية: صنع بنو إسرائيل عجلاً ذهبيًّا (آ 1-6)؛ توسّل موسى لأجلهم (آ 7-14) ؛ ثمّ غضب عليهم فحطّم لوحَي الوصايا وكسر العجل الذهبي وأحرقه بالنار (آ 15-20). تحاور موسى وهارون (آ 21-24) فتدخّل اللاويّون وقتلوا ثلاثة آلاف شخص (آ 25-29). تشفعّ موسى من أجل الشعب مرّةً ثانية (آ 30-35) وطلب إلى الرب أن يغفر لهم خطيئتهم: "يا ربّ، اغفر خطيئةَ هذا الشعب، أو امحُني من كتابك الذي كتبته ". اقتلني معهم أو خذ حياتي فداءً عنهم.

أولاً: العجل الذهبي (32: 1-6)
(آ 1) أطال موسى مُقامه على الجبل (رج 24: 15-18). لا مسؤوليّةَ لموسى في ما عمله الشعب، وهو لم يشاركهم في عبادتهم الوثنيّة. إنّما يعتبره الشعب مسؤولاً، لأنّه أبطأ فوَهنَت عزيمته وطلب شخصًا يسير أمامه.
هل يريد الشعب "إلهًا " أو صورة إله تمشي أمامهم كسائر الأمم،َ أم يريدون آلهة عديدة لا إلهًا واحدًا؟ فكلمة "إلوهيم " تعني المفرد، وإن كانت بصيغة الجمع. إذا تذكّرنا عجلَيْ دان وبيتَ إيل، وجّهنا أفكارنا إلى الجمع (آلهة)، وإذا اقتصرنا على النصّ نقول: إنّهم صنعوا عجلاً واحدًا.
(آ 2) إستجاب هارون لطلابهم. نرى هنا مسؤوليّة هارون الذي جاراهم في عبادتهم الوثنية.
(آ 4-6) طلب منهم الذهبَ وصَنعَ الصنَم. صنعه من خشب وطلاه بالذهب. صنع عجلاً صغيرًا أو ثورًا صغيرًا، ونحن نرى في هذه التسمية ما فيها من تحقير. لم يصنع لهم ثورًا كما في كنعان أو فينيقيا او بلادِ الرافدَين، لم يصنع لهم بقرةً كما في مصر، بل عجلاً.
يبدو أن صورة العجل رمزٌ للديانة الكنعانيّة لعلاقتها بالقوة والخِصب، ونحن نرى "إيل وبعل " رئيسَي آلهتهم مرتبطَين بهذه الصورة. لم يكن للإله صورةُ عجل بل يعتبر واقفًا على العجل الذي هو له بمثابة مَوطىء قدَم، فيبيّن للشعب الخصبَ الذي يحمله الإله. على كلّ حال، ومهما كان الأمر، فالآية الخامسة تعتبر أنّ الشعب عبدَ الرب وعيّد له عبرَ هذه الصورة الحسيّة، وأنّه بنى مذبحًا ومارس البَغاء المكرّس على عادة أهل كنعان (عد 5: 1-9 ؛ رج 1 كور 7:10). وهكذا إذ يشجُب الكاتب ما فعله هارون في سيناء، فهو يشجب في الوقت ذاته ما فعله يارُبعام في دان وبيتَ إيل (رج هو 8: 5 ؛ 5:10 ؛2:13)

ثانيًا: موسى يتشفعّ (7:32-14)
نقرأ هنا مقطعًا اعتراضيًّا يبيّن لنا لماذا لم يضرب الربّ شعبه ضربةً قاضية بعد أن نقض العهد. لقد تشفعّ موسى الى الله في شعبه، فلم يَمْحُ الله شعبه.
(آ 7-10) عبد بنو إسرائيل الآلهة الأخرى، فعصَوا الوصيّة الأولى (20: 3-6).
نقضوا عهد سيناء، فعرض الرب على موسى أن يُفْنيهم، ثمّ يبدأ معه ببناء شعب جديد، كما فعل مع إبراهيم. ولكنّ موسى يتضامن مع شعبه: ماذا تقول الأُمم؟ خلّص شعبَه ليُفنيهم في الصحراء! أين الأعمالُ الماضية؟
(آ 11) تضرّع موسى الى الرب. أعظمُ علامة عن شخصية موسى تبدو في هذا التشفعّ من أجل بني إسرائيل (عد 14: 13-19؛ تث 25: 29)، فدوره دور الكاهن والنبيّ. كان موسى في شعبه الكاهنَ الذي يقدّم الذبائح، والنبيَّ الذي يكلّمه بأسرار ربّه، على أنْ يقدّم الصلواتِ التكفيريّةَ من أجل شعبه. وتبدو عظمة موسى أيضا في أنّ الربّ استجاب صلاته.
(آ 12) ماذا يقول المصريّون؟ هل يقولون إنّ يهوه ليس الإلهَ الحقيقيّ؟ إن فعل الربّ بشعبه ما توعَّده به، يتدنّس اسمُ الربّ (رج حز 36: 20). هذا هو السبب الأول الذي يمنع الربَّ من إفناء شعبه .
(آ 13) أمّا السبب الثاني فوعدُ الربّ لإبراهيم (تك 12: 1-3) أن يكون له نسلٌ كبير. هل يُتمّ ما وعد به الربُّ صفيَّه إن هو أفنى شعبه؟
(آ 14) وعاد الرب... إنّ نتيجة خيانة الشعب لا يمكن أن تكون إلاّ في إفنائه، هذا ما أعلنته اللعناتُ التي رافقت الموافقة على مضمون العهد وبُنوده. ولكنّ موسى يدعو الربّ الى معاملة شعبه بالرحمة والرأفة. فالشعبُ ليس شعبَ موسى (قال له الرب: شعبك آ 7)، بل هو شعب الله، والله هو الذي أخرجه من مصر، ولم يكن موسى إلاّ منفّذًا لأوامر الله.

ثالثًا: مصيرُ العجل الذهبي (32: 15-20)
نحن هنا أمام نتيجتين لِما فعل بنو إسرائيل: كسرَ موسى لوحَي الوصايا، وحطّم العجلَ الذهبيّ.
(آ 15-16) تشدّدان على أهميّة لوحَي الوصايا: صنعهما الله، كتبهما بخطّ يده. وعندما كسرَهما موسى، فقد دلّ على أنّ الشعب لم يعد بحاجة إليهما بعد أن نقضَ عهدَه مع الرب.
عندما نقول "صُنْع الله، كتابة الله" يجب ألّا نأخذ ذلك بالمعنى الحرفيّ الدقيق. فمن جهة نقرأ نصوصًا تقول إنّ موسى كتب الوصايا (4:24؛ 27:34)، ومن جهة ثانية نفهم أنّ النصّ ينبّهنا الى الطابَع الإلهيّ لهذه الوصايا التي تمثّل كلمات الله وإرادتَه في شعبه.
(آ 17-18) يشوع هو رفيق موسى وخليفتُه (13:24؛ رج تث 7:31-8، 14-29). لم يَفهم ما حدَث، وهذا يدلّ على أنه لم يشارك الشعب في عبادته الوثنيّة.
(آ 19) كسر موسى اللوحَين. عبد الشعب العجل بطريقة بارزة، فنقض العهدَ بطريقة بارزة. ولهذا كسر موسى لوحي الوصايا على مرأى الجميع ليقول لهم أن قدِ انتهى كلّ شيء بين الله وشعبه. ولكن نعمة الله وحدَها ستعطي موسى لوحَين جديدين، وستسمح له بتجديد العهد مع الله باسم الشعب.
(آ 20) ثم أخذ العجل... أحرقه بالنار. يبدو أنّه كان مصنوعًا من خشب مَطْليّ بالذهب، فسهل حرقه. ولما صار غبارًا ناعمًا جعله في الماء، وسقى منه بني إسرائيل. هل أراد بذلك أن يعرف المذنبين من الأبرياء (عد 5: 1- 31) فيعاقبَهم باسم الرب؟ ولكن الشعب كلَّه قد أخطأ، ولهذا عندما يَروي سفر التثنية (8:9- 21) قصّةَ العجل الذهبي فهو يقول إنّ موسى طرحَ غباره في النهر المنحدر من الجبل.

رابعًا: حوارٌ بين موسى وهارون (32: 21-24)
هذا الحوار يرجع بنا الى الوراء. يسأل موسى هارون عمّا حدث، فيتضرّع هارون إليه ألا يشتدّ غضبُه، ثم يبيّن له مسؤوليّة الشعب. وهنا يمكن قراءة الآية الخامسة "خاف " هارون، لا "رأى هارون " على خُطى الترجمة السُريانيّة، ونفهم أنّ هارون خاف من الشعب. وكما تشفع موسى الى الرب، كذلك سيتشفعّ هارون إلى موسى. على كلّ حال تبدو خطيئة هارون واضحة، ولا شىء يبرّرها، كما تبدو خطيئةُ ياربعام، ملكِ إسرائيل، في أبشع مظاهرها.

خامسًا: تدخّل اللاويّين (32: 25-29)
يربط هذا النصّ قبيلة لاوي ببداية حياة الشعب في البريّة، وهي قبيلة جعلت الأمانة للعهد فوق كل شيء، فتنكّر الواحد منهم لأخيه وصاحبه إكرامًا لربّه.
هل نقرأ هنا صدًى للصراع بين الأُسر الكهنوتيّة؟ واحدةٌ تهاجم هارون، وأخرى تدافع عنه! تدخّلت قبيلة لاوي من أجل المحافظة على العهد، ومع ذلك فهي مُبْعَدة الآن، أي في وقت الجلاء، عن الخدمة الكهنوتيّة في هيكل أورشليم!
وهكذا قتل بنو لاوي 3000 رجل بناءً على طلب موسى. أخطأ القائد (هارون) فدفع الشعب الثمن؛ ولكنّ بني لاوي سيصحّحون الأمور فيعلّمون بني يعقوب أحكام الله وشرائعَه (تث 33: 9- 11).

سادسًا: موسى يتشفعّ ثانية (32: 30-35)
تضامن موسى مع شعبه وقدّم حياته عنهم (آ 32)، فطلب الربّ إليه أن يتابع رسالته في ما بينَهم.
(آ 33) الذي خطِىء إليّ... لا يعاقب الله إلاّ المذنبين، وهذا ما يبرّر مقتل الثلاثةِ آلافَ رجلٍ.
(آ 34-35) وغفر الربّ لشعبه، فأرسل ملاكه من جديد ليسير أمامهم. تصرّف الربّ بصبر وطول بال فلم يضرب الشعب، ولكنّه عاقبهم فلم يسمح للذين عبدوا العجل الذهبي أن يدخلوا أرض الموعد. سيدورون في البريّة أربعين سنة وفيها يموتون.
بقي حكم الله معلَّقًا (رج حز 9:20، 17، 22) وسيأتي يوم يعاقب فيه الشعبَ بذهابه الى أرض المنفى، فيعرف أنّ عقابه جاء نتيجةَ نَقضِه لعهده مع ربّه.

سابعًا: ماذا نستنتج من خبر العجل الذهبيّ؟
يبدو أنّ أصل الخبر كان مؤلّفًا من آ 1-6، 15-20 ، 35: طال غياب موسى، فصنع الشعبُ له عجلاً ذهبيًّا اعتبره إلهه، وأراد أن يسير منذ الآنَ وراءه. نزل موسى من الجبل برفقة يشوع، فتدخّل بقساوة وحطّم هذه الصورة المنحوتة التي تتعارض مع عبادة يهوه.
ولقد ربط الشراحُ هذه الحادثةَ بما فعله يارُبعام (1 مل 12: 18-29)، فرأوا فيها حُكمًا عليه باسم شريعة سيناء. وكما أنّ اللاويّين حاربوا الذين عبدوا العجل الذهبي في عهد موسى، هكذا حارب الكهنةُ في أورشليم شرّ بيتَ إيل ووثنيّتهَا، فأظهروا جميعًا أمانتهم لإله العهد. وكما أنّ الكاتب الملهم تصوّر خيمةَ الصحراء على مثال هيكل أورشليم، كذلك تصوّر أمانة اللاويّين في عهد موسى على مثال أمانة الكهنة في عهد الملوك أو بعدَ الجلاء.
ولكنّ هذا لا يَعني أنّ خبرَ العجل الذهبيّ عارٍ عن الصحة. فالشعب الذي توجّه الى الصنم فرأى فيه الإله الذي أخرجه من أرض مصر، وعيَّد إكرامًا ليهوه (32: 4- 5)، يجعلنا لا نتعجّب حين يعبُد بنو إسرائيل الله بصورة مأخوذة من بلاد الكنعانيّين!.
الى هذا الخبر الأول زيدت في ما بعدُ أمور عديدة، منها دورُ هارون، سَواءٌ أكان سلبيًّا (آ 5، 25) أم إيجابيًّا (آ 21-24)، ودورُ اللاوّيين في الخدمة الكهنوتيّة (آ 25-29)، وطريقةُ الله في معاقبة المذنبين وحدَهم (كما يقول سفر التثنية) وإعادة كتابة الوصايا وما يزيد عليها موسى بأمر الله.
2- حضور الله بين شعبه (33: 1-23)

يطرح هذا الفصل السؤال الآتي: الآن وقد خطِىءَ الشعب، هل يبقى الربّ بينَهم، وهل يتابع سيره معهم في الصحراء؟ وإن كان الجواب بالإيجاب، فكيف يكون حضوره في وسْطهم؟ هل يبتعدون عن جبل سيناء، مركزِ إقامته؟
أجل، التقى الشعب الربَّ في جبل سيناء، وهناك تجلّى له، وهو يعتبر أنّ ابتعاده عن جبل سيناء ابتعادٌ عن الرب. فكيف يكون الرب حاضرًا مع شعبه في المستقبل، كما كان معه في سيناء؟ سيجيب الفصل الثالث والثلاثون عن هذا السؤال، فلا يحتاج المؤمنون أن يذهبوا الى سيناء (أو حوريب) كما فعل إيليّا (1 مل 19: 4-18)، بل يكتفون بالبقاء في أرض الربّ، وفيها يرَون وجهه بطرق أربعة: بواسطة ملاكه، بواسطة خيمة الاجتماع، بواسطة وجهه، وبواسطة مجده.

أولاً: ملاك الربّ (33: 1-6)
وعدُ الرب باقِ لشعبه، لأنّه مقيم على أمانته، فلا يستطيع أن يُنكر نفسه. وعدَ إبراهيم وسيفي بوعدهَ، فيطردُ من أمام بني إسرائيل الكنعانيّين...
كان الرب حاضرًا مع شعبه وسيبقى؛ أمّا طريقة هذا الحضور فسوف تتبدّل: أُرسلُ أمامهم ملاكي، وملاكُ الرب صورة ملموسة عن حضور الربّ. أراد الشعب صورةَ ملموسة عن الربّ، فأعطاه ما طلب، ولكن صورةً مأخوذة، لا من عالم الأرض والمادّة، بل من عالم السماء والروح.
نزعوا زينتهم... وهل بقي لهم ذهبٌ وفضة يتزيّنون بهما؟ هل نزعوا عنهم التمائم التي جعلوها على صدورهم وقت العيد؟ أطاع بنو إسرائيل أمر الربّ فنزعوا زينتهم علامةَ العهد في سيناء الحزن، بعد أن قال الله ما قال، وعلامةَ التخلّي عن خطيئة ستظلّ عالقةً في أذهانهم أجيالاً عديدة.

ثانيًا: خيمة الاجتماع (33: 7- 11)
هذه هي طريقة ثانية يدلّ بها الربّ على حضوره وسْطَ شعبه: خيمة الاجتماع أو خيمة الموعد.
كانت هذه الخيمة خارجَ المَحلّة أو المخيّم، وكان الشعب يذهب إليها ليسأل الله. وحدَه موسى يدخل الخيمة، ويبقى الشعب، كلُّ واحد على باب خيمته، فلا يقترب الى خيمة الاجتماع. وكان الربّ يدلّ على حضوره بالسحاب على باب الخيمة، وبالكلام الذي يصل إلى موسى. وبما أنّ الله حاضر، فواجب الشعب السجودُ والعبادة بانتظار سماع أوامر الربّ على لسان موسى.
أجل، الله حاضر مع شعبه، ولكنّه بعيد عنه. من أجل هذا جُعلت خيمة الاجتماع، لا داخلَ المخيّم، بل خارجَه. ومن أجل هذا طُلب من الشعب أن يبقى بعيدًا، ويسجد من باب خيمته للربّ المتجلّي على الخيمة.

ثالثًا: وجه الرب (33: 12-17)
والطريقة الثالثة التي فيها يعبّر الله عن حضوره وسْطَ شعبه: وجه الرب.
يحتفل المؤمن بشعائر العبادة، والرب يدير وجهه إليه، أو يُشيح بوجهه عنه، ولهذا نسمع المزمور (7:4): إرفع علينا نور وجهك يا رب (رج مز 4:44، 16:89).
وجه الرب أمر معروف في العهد القديم. هو انعكاس للشخص، ومَظْهرٌ لحضور الرب المنير والمَرئّي (رج عد 6: 24-26). يرضى الربّ عن المؤمن، فيوجِّه إليه بركته ورحمته، ويلتفت اليه. يبقى على الإنسان أن يلتفت الى الربّ فيوجّه إليه لا عينَيه وحسب، بل قلبَه وكلَّ حياته في أعمال العبادة. وهكذا عندما يقول النصّ إنّ وجه الرب سيسير معهم، فهذا يعني أنّه يحقّ للشعب أن يقيم شعائر العبادة لربّه، ولو كان بعيدًا عن جبل سيناء.

رابعًا: مجد الرب (33: 18-23)
الطريقة الرابعة للدلالة على حضور الله: مجدُ الرب، أي كمالُ شخصه وأُقنومه. ولكن من يستطيع أن يرى مجد الله ويبقى على قيد الحياة؟! لهذا سيمرّ مجد الرب قرب موسى، ولكنّ موسى لن يرى وجه الرب بل قفاه. هذا يعني أنّ الله حاضر، ولكنّ الإنسان لا يستطيع أن يقترب منه من دون خطر، لأنّه الإلهُ القدّوس والمرهوب.
أجل، إنّ الانسان لا يستطيع أن يرى الله وجهًا لوجه، لا يستطيع أن يراه في ذاته وفي كيانه، فيرى ظهرَه فقط، أي يرى نتائجَ عبوره في أعماله العظيمة.

خامسًا: ماذا نستنتج من هذه المقاطع الأربعة عن حضور الله؟
أولاً: إنّها مقاطعُ مستقلة الواحدُ عن الآخر، وقد جُمعت في إطار واحد لتبيّن للشعب أنّ الرب حاضر بينَهم أينما كانوا، وحيث حلُّوا. هو حاضر في جبل سيناء، وعلى طرق البريّة، وسيكون حاضرًا في هيكل سليمان، وعلى طرق المنفى. الرب يعطي موعدًا لشعبه، ويدعوه إلى لقائه، فهل يلبّي النداء بعد أن يزيل شرّ آثامه؟
ثانيًا: عرف الشعب أنّه على مفترق طرق خاصّ فدخل القلَقُ الى قلبه. أمر الربّ موسى بالتوجّه الى أرض كنعان؛ أما يكون من الأفضل أن نبقى في سيناء؟ لقد تأكّدنا أنّ الرب حاضر في هذا المكان، فمن يقول لنا إنّنا سنجده في مكان آخر. إنّ الرب غفر لنا لأنّنا قريبون من معبده، فإذا خُنّاه في المستقبل ونقضنا عهده، فمن يؤكّد لنا استعداده لأن يصفح ويغفر؟
ثالثا: نقول مع الكتاب المقدس إنّ الله ليس إلهًا كسائر الآلهة، وليس إنسانًا سامي المَقام. يعرف أنّ شعبه شعبٌ خاطىء، ولهذا أقام بعيدًا عنهم ورفض أن يسير معهم؛ ولكنّه لا يتخلّى عن شعبه. وإن ابتعد هذا الشعب عن سيناء، وتوجّه إلى كنعان، فالربّ يبقى حاضرًا، ولكنّ حضوره يتجلّى عبرَ علامات حسيّة، ولكن لا أحد يراه وجهًا لوجه.
وهكذا يعرف الشعب أنّ الله يسير معه رغم خيانته له، ويعرف أنّه يستطيع أن يعيّد للربّ في البرية، وفي كنعان، وفي أي مكان آخر، لأنّه حيث يجتمع الشعب باسم الرب فهناك يكون الربّ حاضرًا. هذا ما احتاج أن يعرفه بنو إسرائيل، ولقد تأكّدت لهم صحّةُ كلام الله، يوم قبل أن يجدّد عهده لهم ويعطيَهم وصاياه مرّة ثانية.
3- تجديد العهد (34: 1-35)

أولاً: يَروي هذا الفصل تجديد عهد الله مع موسى وشعبِه على جبل سيناء، وهو يرتبط بالفصلين السابقين (ف 32-33) ارتباطَا وثيقًا. حطّم موسى لوحَي الوصايا حين رأى الشعب يعبد العجل الذهبيّ، فحطّم بذلك عهدَ الله مع شعبه، لأنّ الشعب لم يحترم شريعة ربّه. هذا من جهة، ومن جهة ثانية وعد الله موسى أنّه لن يتخلّى عن شعبه، وأنّه سيقوده خلال مسيرته في الصحراء، لهذا كان من الطبيعيّ أن يقوم عهدٌ جديد وتُعلَنَ شريعةٌ جديدة، ويُكتب لوحان جديدان يحملان وصايا الرب. هذا هو موضوع الفصل 34.
عندما نقرأ هذا الفصل، نلاحظ تقاربًا غريبًا بينه وبين الفصول (19-24) التي حدّثتنا عن عهد سيناء: تنبيهٌ خطير الى الشعب فلا يَقرَبُ الجبلَ (19: 10-15 ؛ 34: 1-3)، مجيءُ الربّ الى الجبل (19: 20؛ 5:34)، الله الرؤوف، الله الغيور الذي لا يرضى لشعبه أن يلتحق بآلهة أخرى ( 3:20-6؛ 34: 5-7، 14)، إعلان الشرائع (23: 10-19؛ 18:34-26)؛ إقامة موسى على الجبل أربعين يومًا (24: 18 ؛ 34: 38). كل هذا يقودنا الى نتيجة أولى تقول إنّ روايتَي العهد روايتان متوازيتان، وإنّ الرواية الثانية (ف 34) تلخّص الروايةَ الأولى (ف 19- 24) وتوجزها. الرواية الثانية يهوهيّة، والرواية الأولى إلوهيميّة، وهما روايةُ حدَث واحد. إلاّ أنّه لمّا جمع الكاتب الملهم النصوصَ، وجعلها في إطار سفر الخروج، فقد جعل النصَّ الإلوهيميّ في مكانه، وجعل النصّ اليَهْوهيّ في إطار تجديد العهد بعد نقضه في عبادة العجل الذهبيّ.

ثانيًا: الاستعداد لإقامة العهد (34: 1-9)
أمر الرب موسى أن ينحَت لوحين من الحجر كالأوّلين، ويكتب عليهما الوصايا (في 12:24، الله هو يكتب الوصايا بيده. رج 15:32-16). صعد موسى الى الجبل وحدَه ومنع الشعب من الاقتراب إليه، لأنّه مكان مقدّس (الآيتان 2-3). في الآيات (5-9) يتراءى الربّ ويعلن عن نفسه وسَط السحاب: الرب الحنون الرحوم والكثير المراحم (رج مز 86: 15؛ 111: 4؛ 112: 4-5؛ 145 : 8-9؛ عد 18:14؛ يؤ 13:2؛ يون 2:4).
يهوه إله، تتحرّك أحشاؤه كما تتحرّك أحشاء أمّ مشفقة على ابنها. يهوه غنيّ بالرحمة ("حسد" في العبريّة، وهي تعني أيضاً الرحمة والمحبّة والغيرة) والأمانة (" امت " في العبريّة وهي ترتبط بالصدق والثقة والوفاء). وهو يغفر الشرّ ("عون " في العبرّية يعني كل ما ليس مستقيمًا) والمَعْصية (فشع في العبرّية) والخطيئة (حطات في العبرّية).
هذه الآيات كان المؤمنون يتلونها وهم داخلون الى المعبد. ونقرأ في الايتين (8-9) إقرارًا بالخطايا: إغفر لنا شرورنا وخطايانا. وينحني الشعب إلى الارض، يسجد ويقرّ أنّه شعب قاسي الرِقاب. ثم يطلب الى الرب: إقبلنا مُلكًا لك وميراثًا (1 مل 8: 51، 53)، وضعْ يدك علينا فنكونَ لك ملكًا مدى الدهر (تث 6:7؛ 8:26)

ثالثًا: مقدّمة الى شرائع العهد (34: 10-13)
لا يذكر النصّ ذبيحة تُذبح (كما في 3:24-8)، بل معجزات الربّ العظيمة والرهيبة.
على الشعب أن يقطع عهدًا مع الربّ، لا مع سكّان الأرض الوثنيّين. إهدِموا مذابحهم حطّموا أَنصابهم.... إذن لا مساومةَ في أمور الديانة.

رابعًا: وصايا العهد (34: 14- 28)
هذا النصّ هو أقدم قانون يورد الشرائع المتعلّقة بالعبادة.
(آ 14) لا تسجدوا لإله آخر، فأنا إله غيُور (رج 20: 5).
(آ 15-16) تردّدان الآيتين (12-13) وخطرَ التعاهد مع شعوب أرض كنعان، مع التشديد على أنّ عبادة الأوثان هي فعلُ زنى، لهذا يمنع الزواج بين إسرائيل وجيرانهم لئلاّ يُشرِكوا مثلَهم.
(آ 17) لا تصنعوا آلهة مسبوكة (رج 20: 4).
(آ 18) عيد الفطير وارتباطه بالخروج من أرض مصر (رج 12: 1 ي؛ 23: 15).
(آ 19-20) البُكور من الناس والبهائم.
(آ 21): تذكير بشريعة اليوم السابع أي السبت (رج 8:20- 11)، حتى في أوقات الحَصاد والفلاحة، أي يومَ يضيقُ الوقت.
(آ 22): عيد الحَصاد (رج 23: 16).
(آ 23) يشدّد على الحجّ الواجب على بني إسرائيل ثلاث مرات في السنة، بمناسبة الأعياد الكبرى، أي الفصحِ والمَظالّ والحَصاد.
(آ 24) يستطيع الشعب أن يذهب الى معابده دون أيّ خوف، بعد أن يطرد اللهُ من أمامه كلّ عدوّ.
(آ 28) وكُتب العهد، ووقَّع موسى باسم الشعب.

خامسًا: وجه موسى (29:34-35)
بعد أن نزل موسى من الجبل كان وجهه مشعًّا، فخاف هارون والشعب أن يقتربوا منه. كلّمهم موسى بكلام الربّ ثم غطّى وجهه.
لن نتوقّف على التقاليد الدينيّة القديمة التي تجعل الكاهن يضع قناعًا على وجهه، عندما يقوم بشعائر العبادة. وهذا أمرٌ لا يزال ساريًا في بعض قبائل أفريقيا البدائيّة، بل نتوقّف على المعنى اللاهوتيّ. وحدَه موسى حظي بلقاء مع الرب، فكان على وجهه بعضُ مجد الرب ونورُه البهيّ. إنّ موسى هو الوسيط بين الله والشعب، وهو عندما يكلّم الشعب يكون وكأنَّ الله يتكلّم. خاف الشعب أن ينظر الى وجه موسى، فجعل موسى برقُعًا ليخني هذا المجد المطبوعَ على وجهه.
لقد أورد القديسُ بولس قضيّةَ البُرقع هذه، فأبان أنّ اليهود لا يستطيعون أن يعرفوا ملء مجد الله إلاّ في يسوع المسيح. وهكذا صار البُرقع رمزَ جهل اليهود وقساوةِ قلبهم أمام كلام الله. "نعم، الى اليوم لا يزال القِناع على قلوبهم عند قراءة شريعة موسى، ولا يَنزِعُ هذا القناعَ إلاّ الاهتداءُ الى الرب " (2 كور 3: 15-16).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM