الفصَل الّرَابع وَالأربعون: الامتحَان الأخِير

الفصَل الّرَابع وَالأربعون
الامتحَان الأخِير
(44: 1- 34)

أ- المقدّمة:
1- امتحن يوسف إخوته مرّة أولى حين حسبهم جواسيس، ومرّة ثانية حين أراد أن يجعلهم سارقين فجعل الفضّة على فم جوالقهم. وها هو يمتحنهم عبر واحد منهم، بنيامين، فيجعل في جوالقه كأس الفضّة التي يرى فيها الغيب. ما يكون جواب إخوته؟ في اللقاء الأوّل تذكّر رأوبين يوسف ووبّخ إخوته على قساوتهم يوم طلب أخوهم الرحمة فلم يرحموه. في اللقاء الثالث تكلم يهوذا باسم إخوته فأبرز استعداده للتضحية بحياته من أجل أخيه وضنّاً بحياة والده. فاستسلم يوسف وعرّف إخوته بنفسه.
2- يرجع هذا النصّ إلى التقليد اليهوهيّ وهو تتمّة للذي سبقه مع إعطاء دور بارز ليهوذا. في آ 14 نقرأ: ودخل يهوذا وإخوته. في آ 16 تكلّم يهوذا باسم إخوته، في آ 18 نقرأ: فتقدّم إلَيه يهوذا وقال... ثمّ ذكّر يوسف بما وعد به أباه (آ 32- 34).
3- وضعَنا الكاتب في الفصل السابق أمام ثلاثة مشاهد. في المشهد الأوّل أرانا يعقوب وأبناءه وفي المشهد الثاني إخوة يوسف وقيّم بيته، وفي المشهد الثالث يوسف وإخوته. وفي هذا الفصل الذي نظّمه الكاتب بطريقة موازية، جعلنا أمام مشهد نرى فيه إخوة يوسف أمام قيّم بيته (43: 17- 24 يقابل 44: 6- 17)، ثم أشركنا في لقاء يوسف بإخوته وحديثه إلَيهم (43: 26- 34 يقابل 44: 18 ي).
1- إخوة يوسف أمام قيّم بيته (44: 1- 17)
(آ 1- 2) خلال الليل أعطى يوسف تعليماته لقيّم بيته ليلعب بقساوة لعبة خطرة. ويتساءل الإخوة: ما هو هدف ذلك الوزير المصريّ القدير، ولماذا اهتمامه ببنيامين؟ هو لا يهتمّ بالمال الموجود على أفواه أكياسهم. أعادوه فلم يعبأ له. كلّ ما يهمّه هو هذه الكأس القيِّمة التي وُجدت في كيس بنيامين فاستحقّ بسببها الموت. في هذه الكأس يقرأ يوسف الغيب من خلال سائل يوضع فيها (الرصاصة المصبوبة في "صيبة العين" بقيّة من تلك العادة المتّبعة في مصر). نحن نتساءل، ولكن الكاتب الملهم لا يتساءل، إذا كانت هذه الممارسات "السحريّة" مقبولة عند يوسف والشريعة تحرّمها؟ هل صار يوسف مصريّاً كاملاً بعاداته وثقافته وحياته فترك ديانة آبائه؟
(آ 3- 17) وهنا تتوالى الأحداث بسرعة: ما إن خرجوا من المدينة حتى اعيدوا إلَيها، وها هم أمام محكمة قيّم البيت. يسعون إلى تبرئة ذمّتهم من المال الذي وجدوه على فم أكياسهم، ولكنّ قيّم البيت لا ذمهتمّ بالمال، بل بكأس سيّده التي وجدها في كيس بنيامين. قال الإخوة: من وجدت الكأس معه يُقتل قتلاً، ونحن نكون عبيداً لسيّدنا. خطيئتهم تلاحقهم والشرّ يضربهم دون أن يفهموا شيئاً. هم يحسّون في كلّ صعوبة أنّ الله يعاقبهم على ما فعلوه بأخيهم.
ويدخل يوسف فيعرض عليهم أن يتخلَّوا عن بنيامين فتسلم حياتهم. في المرّة الأولى فقد يعقوب أحد أولاده وكان الذنب ذنبهم، أمّا في هذه المرّة، فإن فقَدَ يعقوب أحد أولاده، فالذنب ليس ذنبهم بل ذنب ذلك الولد بنيامين، الذي سق كأس الوزير المصريّ. أراد يوسف بذلك أن يمتحنهم ليرى إن كانت قلوبهم تبدّلت، أم إنّهم ما زالوا يتصرّفون كما في السابق: هل يقبلون أن يعودوا إلى والدهم دون بنيامين؟
2- إخوة يوسف أمام أخيهم (44: 18- 34)
(آ 18- 34) ويبلغ التأثّر في القارئ والسامع أيّ مبلغ وقد وصلت الرواية إلى الذروة. ماذا سيفعل إخوة يوسف؟ في هذا الوقت يتقدّم يهوذا ويلقي خطاباً يدخل به إلى قلب ذلك والوزير. يقسم كلامه قسمَين: في القسم الأوّل ذكر الصعوبات التي تحمَّلوها لكي يسمح الوالد الشيخ لابنه بأن يبتعد عنه. في القسم الثاني وضع يهوذا نفسه مكان بنيامين ليكون عبداً عند سيّد مصر، بعد أن وعد والده بذلك. وبعد هذا الخطاب المملوء بضبط النفس، ترك العنان لعاطفته وأراد أن يؤثّر على يوسف، وهر أب، فذكر له أنّ الوالد سيموت إن فقد ابنه المفضّل بنيامين، بعد أن فقد الآخر (44: 20- 28). ولكنّ الذي أمام يهوذا، ليس أباً من الآباء فحسب، إنّما هو يوسف بالذات، فهل يستطيع أن يتحمّل مثل هذا الكلام دون أن ينفجر؟ وإخوته الذين يقرّون بذنبهم يقرّون بسرقة الكأس، ومن خلال هذه السرقة يقرّون بذنب أعظم ما زال يثقل ضمائرهم بعد أن باعوا أخاهم، وها هم مستعدّون للتكفير عن الذنب الماضي بتضحية حاضرة: لقد سلّم يوسف باسمهم حياته إلى العبوديّة حتى تسم حياة أخيهم الصغير.
لم يبقَ في المشهد إلاَّ ثلاثة أشخاص: يوسف بقوّته التي تملأ القلوب روعاً، ويهوذا الضعيف الذي وصل به ضعفه إلى حافّة اليأس، وبنيامين الذي يبدو ضحيّة غير مسؤولة في يد قدَرٍ مجهول. إختفى قيّم البيت، وسكت إخوة يوسف، وبدت في البعيد صورة شيخ حزين وأبٍ ثاكل فَقَدَ ابنه، ابن تلك المرأة التي أحبّها كثيراً في سني شبابه. مشهد بسيط ولكنّه رهيب

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM