الفصَل الثَانيَ والثلاثون: يعقوب يستعد للقاء عيسو

الفصَل الثَانيَ والثلاثون
يعقوب يستعد للقاء عيسو
(32: 1- 33)
أ- المقدّمة:
1- وودعّ لابان بنيه وبناته ومضى يعقوب في طريقه. وهكذا انتهت أخبار الصراع بين يعقوب ولابان على أحسن ما يرام. ولكنّ هناك خطراً آخر ينتظر يعقوب، ألاَ وهو أخوه عيسو، وقد خدعه مرّة بل مرّتَين وسلب منه حقّ البكوريّة. وخاف يعقوب خاصّة حين عرف من الرسل الذين بعثهم أمامه: "أخوك قادم للقائك ومعه أربع مئة رجل".
ولكنّ الله سيشدّد عزم يعقوب ويفهمه في تلك الليلة الرهيبة أنّ القوّة من الله لا من الإنسان، وأنّ الإنسان يتّكل على الخيل ومركبات الحرب، أمّا المؤمن فيكفيه أن يدعو باسم الربّ إلهه ليأتيه العون عاجلاً.
2- بعد ثلاث آيات ترجع إلى الألوهيميّ، يقدّم لنا الكاتب الملهم خبرَين متوازيَين يصوّران لنا موقف يعقوب قبل أن يدخل إلى أرض كنعان ويلتقي بأخيه عيسو. فالخبر الأوّل يورده التقليد اليهوهيّ (آ 4- 14) وفيه يخاف يعقوب من وصول عيسو إلَيه فيقسم القوم الذين معه ويقول: إن خرج عيسو على أحد الفريقَين فضربه، نجا الفريق الآخر. وبعد هذا يرفع صلاته إلى إله إبراهيم وإسحق. والخبر الثاني يورده التقليد الألوهيميّ (14 ب- 22) وفيه أنّ يعقوب أرسل أمامه سلسلة من الهدايا إلى أخيه، وقال: أستعطفه أوّلاً بالهديّة، وبعد ذلك ألتقي به وجهاً إلى وجه.
3- ولكن قبل اللقاء بعيسو، كان ليعقوب لقاء من نوعٍ آخر مع شخص لا يعرف اسمه ولا قوّته. أراد يعقوب أن يعبر وادي يبوق ويتوجّه إلى كنعان حيث كان يقيم، فصارعه رجل إلى طلوع الفجر. كاد يعقوب يصرع الرجل، ثم أجبر خصمه الذي هو الله على أن يباركه فيمنحه الثراء والنجاح. أجل، هناك رأى يعقوب وجه الله وها هو يستعدّ للقاء وجه أخيه بدون خوف. إن كان الله معه فمن يقدر عليه؟ غير أنّ قوّة الله تعين المتّكلين عليه وتتخلّى عن المتّكلين على الناس بل العظماء منهم. هذا ما فهمه يعقوب وهو بعد اليوم سيجعل ثقته بالربّ الذي يدبّر كلّ شيء لخير الذين يحبّونه.
4- في خبر ظهور الله ليعقوب في وادي يبوق يلفّنا سرّ عميق لأنّنا أمام عناصر قديمة جدّاً لجأ إلَيها الكاتب لكي يفهم القارئ كيف صار يعقوب إسرائيل (آ 29)، ولكن يفسّر له لماذا سمّي هذا الموضع فنوئيل (آ 30- 31) ولماذا لا يأكل بنو إسرائيل عرق النسا (آ 33). ولكن الخبر يبيّن لنا أن يعقوب لن ينتصر بعد اليوم بحيله أو بقوّة ذراعه، بل بالله بعد أن علّمته الحكمة، أنّ في مخافة الله قوةً لا نجدها في أيّ شيء آخر (حك 10: 12).

ب- تفسير الآيات الكتابيّة:
1- يعقوب يستعدّ للقاء عيسو... (32: 1- 22)
(آ 1- 3) مضى يعقوب فالتقى بملائكة الله الذين جاؤوا يرافقونه في رجوعه كما رافقوه يوم ترك بلاده. جاؤوا يقوّون عزيمته في الصعوبة كما عزّوه في وحدته يوم ابتعد عن البيت الوالدي. وهكذا دلّنا الكاتب على أنّ عون الله لم يترك يعقوب وحده.
سمىّ يعقوب المكان الذي حضر فيه الملائكة "محنائيم" (الحن في العبريّة أي الجن) أي مخيّم الله حيث جيش الله وملائكته.
نقرأ في الكتاب المقدّس الكثير عن حضور الملائكة التي تؤلّف جيش الله (1 مل 22: 9) والتي تأتي لمساعدة أتقياء الله (يش 5: 14؛ 1 مل 13: 26- 30). أمّا مدينة محنائيم فتقع في جبال جلعاد على حدود منسّى وجاد (يش 13: 26- 30) وقد أقام فيها اشبوشت، ابن شاول، سنتَين يسانده فيها بعض محازبي والده (2 صم 2: 8- 29)، والتجأ إليها أبشالوم حين ثار على أبيه (2 صم 17: 24).
(آ 4- 6) اقترب يعقوب من كنعان فخاف على النساء والأطفال من غضب عيسو، لذلك أرسل إليه الرسل يخبرونه أنّه اغتنى وأنّه لم يأتِ ليقاسم أخاه، لا بل سيّده، الميراث الأبوي.
(آ 7- 9) علم عيسو بقدوم أخيه فذهب إلى لقائه ومعه 400 رجل. خاف يعقوب من هذا الرجل العائش بسيفه (27: 40) فقسم الناس والمواشي: إن هاجم عيسو قسماً نجا القسم الآخر.
(آ 10- 14) إتّخذ يعقوب الإجراءات اللازمة التي تفرضها عليه الفطنة البشريّة، غير أنّه عرف أنّ العون الإلهي وحده يؤمّن له ولعياله النجاة من غضب أخيه. لهذا توجّه إلى الله في صلاة واثقة متواضعة ودعا إله إبراهيم وإسحق الذي لم يحبس رحمته عنه.
يبدأ صلاته بالشكر الله عن عطاياه الماضية: عندما عبر الأردنّ لم يكن بيده إلاَّ عصا المسافر، وها هو يرجع معِ عيلة كبيرة وخيرات وفيرة. ثم يتحدّث عن كرم الله وسخائه لأنّه لم يكن ليستحقّ شيئا من كل ذلك لولا نعمة الربّ. وأخيراً يطلب من الربّ العون لينجو من يدَي أخيه عيسو. الربّ وعده بنسل يفوق رمل البحار كثرة، فهل نسي الربّ مواعيده، وهل يسمح لعيسو بأن يمحو ما كتبه هو في عهده مع يعقوب في بيت إيل؟
(آ 15- 22) أرسل يعقوب الهدايا، والهدايا تهدّئ الغضب وتزيد عدد الأصحاب (أم 17: 8؛ 18: 16؛ 19: 6؛ 21: 4)، فحملها أناس وساروا بانتظام متوجّهين إلى عيسو.
الهديّة (منحة في العبريّة، رج منح في العربيّة) هي ما يقدّمه الأصغر إلى الأكبر، (2 مل 8: 9)، والعبد إلى السيّد (يعقوب يسمّي نفسه "عبداً" ، وأخاه "سيّداً") ليكفّر بها عن خطيئته.
2- ويصارع الله إلى طلوع الفجر (32: 23- 33)
(آ 23- 27) خلال الليل جعل يعقوب عياله ومواشيه تعبر وادي يبوق، وبقي هو هناك فالتقى برجل وتصارع وإيّاه طوال ذلك الليل. وتساءل عمّن يكون ذلك الرجل الذي يقف في طريقه و يمنعه من عبور الوادي، وهو المعروف بقوّته (29: 8- 10). لم يستطع الرجل أن يتغلّب على يعقوب فلمس له حقّ وركه، ومع ذلك لم يتوقّف يعقوب عن القتال رغم أنّ الرجل طلب إلَيه أن يتركه لأن قد طلع الفجر.
(آ 28) فهم يعقوب أنّ ذلك الرجل الغريب هو من عالم السماء، لذا لم يتركه قبل أن يباركه: أعطي يعقوب اسماً جديداً فصار اسمه إسرائيل أي الله يقاتل. قاتل يعقوب وانتصر، لا على الناس فحسب، بل على الله أيضاً.
سأل الرجل يعقوب عن اسمه فأجابه: يعقوب، ولكن لمّا سأل يعقوب الرجل رفض أن يبوح باسمه، لأنّ الاسم يعبّر عن طبيعة الكائن. هو الله يحافظ على تساميه ويعبّر عن استقلاليّته في تصرّفه مع الإنسان. وخاف يعقوب لأنّه لا أحد يرى الله ويبقى حيّاً (قض 13: 22؛ تث 4: 33؛ اش 6: 5). وهذا ما يفسّر لنا أن الصراع كان في الليل لا في النهار.
نهر يبوق هو نهر الزرقاء وهو أعظم روافد الأردنّ بعد اليرموك. أمّا فنوئيل فتقع قرب مجازة من مجازات النهر، كان فيها برج في عهد جدعون (قض 8: 9- 17) سيحصّنه يربعام الأوّل ملك إسرائيل (1 مل 12: 25) قبل أن يندثر وتضيع آثاره.
لمس الرجل حقّ ورك يعقوب فانخلع... ولذلك لا يأكل بنو إسرائيل عرق النساء. لا نجد شيئاً في التقليد اليهوديّ عن منع أكل عرق النسا. أنكون أمام عادة قديمة ارتبطت بأساطير كتلك التي تمنع الناس من أكل ساق الغزلان، لئلاّ يضعفوا فلا يعودون يقوَون على الذهاب إلى الصيد.

ج- ملاحظات:
1- عاش يعقوب صراعاً قويّاً في مجازة يبوق فحصل تبدّل في حياته وتغلّب العنصر الروحيّ على العنصر الجسديّ الطبيعيّ، فأخذ يعقوب = إسرائيل يتّكل على العون الإلهيّ أكثر منه على فنونه وحيله. ولهذا يقول عنه سفر الحكمة (10: 12): "فهم أنّ التقوى أقوى من كلّ شيء".
2- قبل لقائه بعيسو كان يعقوب قلقاً خائفاً، قلقاً على مصيره يتساءل إذا كانت المواعيد هي لعيسو، والصعوبات والمحن تعترض طريقه، وخائفاً من أخيه ورجاله الأربع مئة. ولكن بعد لقائه بالربّ عرف بطلان قوّته وحيلته وعمله وجهده، وتأكّد أنّ النصر لا يأتيه إلاَّ بعون الله. حينذاك أصبح المنتصر الأكبر على ذاته وعلى الناس واطمأنّ إلى مصيره.
3- يبدو أنّ الكاتب استقى عناصر هذا الخبر من القصص القديم عن الجنّ والعفاريت التي تقف قرب السواقي والأنهار وتمنع المارّين من عبور المياه دون رضاها. غير أنّه ترك ما فيها من أسطورة وحمّلها معنًى روحيّاً عميقاً ألاَ وهو صراع يعقوب مع الله (وصراعه مع ذاته قبل أن يستسلم إلى الله) وحصونه منه على بركة له ولنسله.
4- وبدّل الربّ اسم يعقوب فبدّل له وجهة حياته. أمّا اسمه الجديد فيدلّ على الظفر لأنّه صارع الله وظفر. هذا هو الاشتقاق الشعبي لكلمة إسرائيل. وترجمت اليونانيّة واللاتينيّة النصّ: كنت قويّاً مع (أو ضدّ الله)، ولهذا فسّر المفسّرون: ليكن الله قويّاً. أمّا السريانيّة فقالت: لأنك ثبتّ مع الملاك ومع الإنسان ووجدت القوّة. وهنا نلتقي بما نقرأه في هو 12: 4- 5 حيث يجعل النصّ كلمة ملاك تحلّ محلّ كلمة الله. لا شكّ في أنّ الحديث عن صراعٍ بين الإنسان والله أمر صعب بالنسبة إلَينا، ولهذا قال الترجوم: لا يكون اسمك يعقوب في ما بعد، بل إسرائيل لأنّك تغلّبت على ملائكة (آتين) من عند الله، وعلى البشر فانتصرت عليهم (أو على ملائكة بشكل بشر).
5- إنتصر يعقوب وسوف ينتصر أبناؤه فيه وباسمه. بعد أن صار يعقوب إسرائيل، دلّ هذان الإسمان على الشعب العبرانيّ الواحد. فنحن نقرأ كلام الربّ لموسى: "كذلك تقول لآل يعقوب وتخبر عن بني إسرائيل"، وهو يدلّ بذلك على العبرانيّين المستعبَدين في مصر (خر 19: 3). وسنقرأ مراراً هذه الموازاة بين يعقوب وإسرائيل (تث 33: 10) وخاصّة في النصوص النبويّة.
6- هنا نشير إشارة عابرة إلى ما يقوله المؤرّخون القدماء من أنّ يعقوب وإسرائيل في الأصل شخصان اثنان. أقام يعقوب قرب معبد بيت إيل وأقام إسرائيل قرب معبد شكيم. وجاء وقت اجتمعت فيه قبيلة يعقوب وقبيلة إسرائيل فدمجت تقاليد القبيلتَين. وبما أنّ الوحدة في الشعب الواحد، وقد عاشها العبرانيّون في ذروتها أيّام داود وسليمان، تظهر في القرابة الدمويّة، لهذا جعل الكاتب الملهم أبناء يعقوب من ليئة، وأبناء إسرائيل من راحيل إخوة، وجعل ليئة وراحيل أختَين وزلفة وبلهة جاريتَين للأختَين ولدتا أولادهما على ركبتَيهمَا

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM