الفصَل السَابعَ والعِشرُون: اسْحق يبارك يعقوب

الفصَل السَابعَ والعِشرُون
اسْحق يبارك يعقوب
(37: 1- 46)

أ- المقدّمة:
1- سيتعقّب يعقوب أخاه عيسو ويتغلّب عليه فيسلب منه بركة أبيه ويحصل على حقّ البكوريّة كاملاً بفضل تدخّل أمّه. هذا الخبر الذي نقرأه الآن يبيّن لنا حيلة يعقوب على عيسو كمقدّمة لتفوّق بني إسرائيل المباركين على بني أدوم المرذولين في بريّة قاسية جافة.
2- يحتال يعقوب على عيسو ويحتال على أبيه. وتكذب رفقة مع ابنها على الشيخ الأعمى ولا يحكم عليها الكاتب ولا يدين عملها مع أنّنا نحسّ أنّ مثل هذا التصرّف لا يجوز عند المؤمن. أمَا خاف يعقوب أن يعرفه أبوه فتنقلب البركة في فمه لعنة؟ أمَا تصرّفت رفقة كسيّدة مطاعة ففرضت رأيها على ابنها ولم تسمح له بأن يناقشها؟ قالت: إسمع لي في ما آمرك به.
3- ويسير التاريخ مساره وتتمّ أمور خيوطها خطايا البشر وأعمالهم الصالحة يحيكها الله بسرّه الخفيّ وهو الذي قال منذ البدء: الكبير يخدم الصغير (25: 23). مثل هذا الكلام سيردّده القديس بولس (روم 9: 11- 12): "وقبل أن يولد الصبيّان ويعملا خيراً أو شرّاً قال الله لرفقة: الأكبر يخدم الأصغر.
4- أمّا دور إسحق في كلّ هذا الفصل فهو دور الذي يوجّه الله يده فيبارك من يريد الله أن يباركه، والذي يتلفّظ فمه بالكلمات التي يوحي بها الله إليه دون أن يستطيع الرجوع عنها. قال ليعقوب وهو لم يره: سيّداً تكون لإخوتك ولك بنو أمّك يسجدون (آ 29). ومع أنّه عرف أنّه أخطأ الشخص الذي نوى أن يباركه إلاَّ أنّه ما قدر أن يرجعِ عن كلامه فم يبقَ لعيسو إلاَّ الحياة في البريّة بعيداً عن الأرض التي تدرّ لبناً وعسلا.
5- يرجع الخبر الذي نقرأه في هذا الفصل إلى التقليدَين اليهوهيّ والألوهيميّ وكلاهما يلمّح إلى الحدث في ما بعد (32: 1 ي، 35: 3، 7). ولكنّ النقّاد تردّدوا فما استطاعوا أن يحدّدوا ما هو من اليهوهيّ وما هو من الألوهيميّ، وإن يكن اليهوهيّ هو الأساس وقد لوّنه الكاتب الملهم بألوان الألوهيميّ فترك وراءه تكراراتٍ وتردادات أخسرته بعض التشويق الذي يميّز اليهوهيّ.
6- نقسم هذا الفصل خمسة مشاهد: المشهد الأوّل (27: 1- 5): إسحق وعيسو.المشهد الثاني (27: 6- 17) رفقة ويعقوب. المشهد الثالث (27: 18- 29): إسحق ويعقوب. المشهد الرابع (27: 30- 0 4): إسحق وعيسو. المشهد الخامس والأخير (27: 41- 45): عيسو ويعقوب. وتنتهي هذه المشاهد الخمسة بآية واحدة (27: 46) جعلها الكاتب كتهيئة لما سنقرأه في 28: 1 ي.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة:
1- المشهد الأول: رغب إسحق في إعطاء عيسو بركتَه (27: 1- 5)
أحسّ إسحق الشيخ الأعمى بدنوّ أجله، فأراد أن يعطي بركته ابنَه عيسو، بكره المفضّل. هذه البركة تفعل فعلها في الشخص الذي يقبل البركة وطلب إسحق من ابنه عيسو أن يهيّئ له طعاماً فاخراً من صيده، فيأكله ويباركه. وانطلق عيسو إلى الصيد.
2- المشهد الثاني: دبّرت رفقة الحيلة لتكون البركة لابنها يعقوب (27: 6- 17)
كانت رفقة تحبّ يعقوب وتفضّله على أخيه، فأرادت أن تكون البركة من حظّ الابن الذي تحبّ، وعلّمته أن يحتال على أبيه فيأخذ بركته. أراد يعقوب أن يتهرّب، لا احتراماً لشيبة والده وعماه (رج لا 19: 14 عن معاملة الأعمى)، بل خوفاً من أن تنقلب البركة لعنة، غير أنّ أمّه أخذت كلّ شيء على عاتقها.
3- المشهد الثالث: وسرق يعقوب بركة أبيه (27: 18- 29)
لبس يعقوب ثياب أخيه، وغطّى يده ورقبته بجلد المعز. وجابه الصعوبة الأولى بكذب بشع. قال الوالد: ما أسرع ما اصطدت يا بُنيّ. أجاب: الرب يسّر لي. ثم تخلّص من الصعوبات اللاحقة. جلد المعز أخفى نعومة ملمسه، ثياب عيسو أخفت رائحة جسمه، صوته المتغيّر ضلّل الشيخ الأعمى فلم ينتبه إلى صوته الرقيق.
وبارك إسحق يعقوب بركة كتلك التي سيبارك بها يعقوب يوسف (44: 22- 26؛ تث 33: 13- 17). بهذه البركة تتوافر خيرات أرضه (الندى والخمر والزيت) ويسود على أعدائه. تتوجّه هذه البركة إلى يعقوب ومن خلال يعقوب تصل إلى شعب الله في ذروة عظمته عندما يتسلّط على بني موآب، وبني عمون، وبني أدوم في أيّام داود وسليمان.
4- المشهد الرابع: وحاول عيسو أن يستعيد بركة أبيه ولكن عبثاً (27: 30- 40)
ما إن ترك يعقوب أباه حتى وصل عيسو وهو لا يدري بما حدث. عرف إسحق بخطإه فارتعش، وتزيد الترجمة السبعينيّة أنّه سكت للدلالة على عمق الحزن الذي أصابه. وأحسّ عيسو بالمصيبة تنزل عليه فصرخ صرخة عظيمة ومُرَّة، ولكن دون جدوى، لأنّه لم يبقَ عند الوالد بركة لعيسو بعد أن أعطاها ليعقوب.
وطلب عيسو بركة من أبيه، فقال له كلمات تثبت البركة التي حصل عليها يعقوب. جعلته سيّداً لك. هذه العبارة تشير إلى تعبّد آدوم لإسرائيل في عهد داود (2 صم 8 : 12- 14) وإذا قويت تكسر نيره. هذه العبارة تشير إلى تحرّر آدوم من نير إسرائيل في عهد الملك سليمان (1 مل 11: 14- 25).
سيعيش عيسو في أرض آدوم، وهي أرض لا تصلح للزراعة، فيقتات ممّا تصطاده يداه، وينتظر عبثاً ندى السماء وخير الأرض.
5- المشهد الخامس: أحسّت رفقة بالخطر يهدّد حياة يعقوب فأبعدته (27: 41- 45)
(آ 41-45) عزم عيسو على قتل أخيه. عرفت رفقة بالأمر فاستدعت ابنها يعقوب وقالت له: اهرب إلى لابان خالك في حاران. ظنّت أن غضب عيسو لن يطول فيعود يعقوب إلى البيت الوالدي. غير أنّ يعقوب سيقضي عند خاله عشرين سنة وحين يعود إلى بلاده يجد أمّه قد ماتت.
خافت أن يقتل الأكبر أخاه الأصغر، تم ينطلق شريداً مثل قايين. ساعدت يعقوب على الهرب، فحال هربه دون أن تخسر ولدَيها. وسيأتي يوم يلتقي الأخوان من جديد، تم يفترقان دون بغض ويقيم الواحد قرب الآخر.
6- خاتمة الخبر: أرسل إسحق ابنه يعقوب إلى لابان (27: 46)
(آ 46) نقرأ في هذه الآية (من الكهنوتيّ) أنّ يعقوب ذهب إلى حاران ليبحث عن امرأة من قبيلته فلا يتشبّه بعيسو الذي تزوّج ببنات كنعان، فملأ قلب أمّه حزناً. وهكذا لا يكون يعقوب هرب من وجه أخيه بل ذهب إلى أرض حاران ليختار له هناك زوجة كما فعل والده إسحق.

ج- ملاحظات:
1- ما قيمة هذا الخبر من الناحية الأخلاقية؟ وهل يكون الكذب والحيلة وسيلتَين لأخذ بركة الوالد مع ما يرتبط بها من خيرات وامتيازات؟ وأيّ حكم يعطيه الكاتب على رفقة ويعقوب المسؤولَين عمّا فعلا؟
لا يرضى الكتاب بهذه الوسيلة التي بها نال يعقوب البركة، كما أنّه يعلن مسؤولية رفقة ويعقوب عن هذا العمل. أمَا خافا أن تنقلب البركة لعنة على الابن وعلى أمّه؟ ويبيّن أنّ إسحق حزن على ما فعله به ابنه الأصغر لمّا احتال عليه.
2- يبقى أنّ رفقة سوف تنال عقاب عملها عندما تنفصل عن ابنها المحبوب وتموت قبل أن تراه. كما أنّ يعقوب ينال عقاب عمله، فيعيش سنوات في المنفى خائفاً من غضب أخيه (32: 4 ي؛ 37: 1 ي). إحتال على أبيه فاحتال عليه خاله، بانتظار أن يحتال عليه أولاده ويفصلوه عن ابنه المفضّل، يوسف.
3- صار يعقوب وارثاً للمواعيد، لا لأنّه احتال على أبيه، بل رغم هذا الاحتيال. اختاره الربّ رغم خطيئته ولم يتراجع عن اختياره له. عرف عظمة حقّ البكوريّة وفهم أبعاد المواعيد التي أعطيت لإبراهيم، فتوسّل وسائل من عنده ليصل إليها.
لم يرفضه الله رغم كذبه وحيلته، بل أعطاه في المحن فرصة ليتغلّب على نزواته فيكون أهلاً للمواعيد التي أوكلت إليه.
4- يجعل النبي هوشع (12: 3- 6) يعقوب مثال الخاطئ التائب، ويقول فيه سفر الحكمة (10: 10- 12): "الحكمة قادت الصدّيق الهارب من غضب أخيه في سبل مستقيمة، وأرته ملكوت الله، وآتته علم القدّيسين، وأنجحته في أتعابه، وأكثرت ثمر أعماله" (رج سي 44: 25).
لا نتطلعّ إلى الناس وليس فيهم بارّ يفهم فيطلب الله، وليس فيهم أحد يعمل الخير (روم 3: 10- 11)، بل نتطلعّ إلى الله الذي يتدخّل في الكون فيستعمل أعمال البشر، صالحة كانت أو طالحة، لينفّذ مخطّطه الخلاصي.
ونذكر أخيراً الرسالة إلى العبرانيّين (12: 16- 17) التي تحكم حكماً قاسياً على عيسو الذي لم يؤمن بالعهد، فنجّس الأشياء المقدّسة واستحقّ الاحتقار في أجياله، "إحرصوا أن لا يكون أحد فيكم كافراً أو سفيهاً مثل عيسو الذي باع بكوريّته بأكلة واحدة. وتعلمون أنّه لمّا أراد بعد ذلك أن يرث البركة خاب وما وجد مجالاً للتوبة، مع أنّه طلبها باكياً"

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM