الفَصل الثَامِن عَشَر: زيَارَة الله لإبراهِيم

الفَصل الثَامِن عَشَر
زيَارَة الله لإبراهِيم
(18: 1- 33)

أ- المقدّمة:
1- زيارة الله لإبرهيم من أروع قصص سفر التكوين وهي تجمع بين تشويق الأخبار وحموّ الأفكار. يتراءَى الربّ لإبراهيم عند بلوط ممرا ويعلن له عن ولادة إسحق في السنة المقبلة، ثمّ يسمع تشفّعه من أجل سدوم وعمورة، بل يقبل أن يساوم علَّه يجد عشرة أبرار فيعفو عن المدينة.
2- يرتبط هذا الفصل بالفصل التالي (19: 1- 38) وكلاهما يرجعان إلى التقليد اليهوهيّ، ما عدا آية واحدة ترجع إلى الكهنوتيّ (19: 25) وآيتَين أقحمهمَا الكاتب الملهم مردّداً ما قيل في 12: 2- 3. في هذَين الفصلَين ينادي إبراهيم الربّ باسم يهوه ويحدّثه بدالّة وبساطة كما يحدّث الإنسان صاحبه.
3- ويرتبط الفصل الثامن عشر بالفصل التاسع عشر بالنسبة إلى الموضوع: يتراءى الربّ في ممرا، فيكون ترائيه مناسبة لتشفّع إبراهيم من أجل سدوم، ولكنّ سدوم ستهدم. وإن اهتمّ بها الكاتب الملهم فلأنّ لوطاً ابن أخي إبراهيم يقيم فيها. ولأنّ مصير بني عمون وبني موآب يرتبط بنجاة لوط وابنتَيه.
4- ويرتبط هذان الفصلان الواحد بالآخر من جهة الإطار الزمنيّ: كانت الساعة ظهراً حين تراءى الربّ لإبرهيم (18: 1)، ولمّا وصل الملاكان إلى سدوم كان الوقت مساء (19: 1)، وحين خرج لوط من المدينة كان الفجر قد طلع (19: 15)، ولمّا وصل إلى صوعر كانت الشمس تشرق على الأرض (19: 23)، وحين طلع صباح اليوم التالي (9: 27)، كان كلّ شيء قد انتهى.
5- والسرّ يكتنف الزوّار في هذَين الفصلَين. يستقبل إبراهيم ثلاثة زوّار (18: 2)، ولكنّه يوجّه كلامه إلى واحد، هو الربّ (18: 3) الذي تراءى له (18: 1) وكلَّمه (18: 10، 13- 14)، بل استمع إليه مطوَّلاً حين تشفعّ من أجل سدوم (18: 17- 32). بعد ذلك يستقبل لوط اثنَين من هؤلاء الزوّار الثلاثة (18: 16- 22) اللذَين جاءا إليه (19: 5، 8، 10، 12، 16) واللّذَين سمّاهما النصّ "ملاكَين" (19: 10- 15). مع هذَين الملاكَين تحدّث لوط بصيغة المثنّى (19: 17- 22)، وبصيغة المفرد أيضاً (19: 18، 19)، وسيأتيه الجواب من الربّ (19: 24- 25) الذي سيعاقب بنفسه سدوم على فساد أهلها.
6- كيف يبدو الفصل الثامن عشر؟ يتراءى الربّ لإبراهيم (18: 1- 5) فيهيّئ له إبراهيم مائدة عامرة (18: 6- 8). حينئذٍ يعلن الربّ لسارة عن مولد إسحق (18: 9- 15)، ويخبر إبراهيم بأنّه نوى تدمير سدوم وأرسل ملاكَيه ينفّذان المهمّة (18: 16- 22)، فأخذ إبراهيم يحادث الله بشأن المدينة ويتشفعّ بسكّانها، أقلّه الأبرار منهم (18: 23- 33) علّه ينجّي ابن أخيه لوطاً.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة:
1- الله يتراءى لإبراهيم (18: 1- 5)
(آ 1) نقرأ في هذه الآية مقدّمة الخبر: يقيم إبراهيم في ممرا (13: 18؛ 14: 13) بعد رجوعه من حرب الملوك. وقت اللقاء: عند اشتداد الحرّ، ساعة يبحث المسافر عن ظلّ شجرة يظلّله. هذا ما فعله الربّ ورفيقاه عند بلّوط ممرا.
(آ 2) وقف إبراهيم بباب الخيمة حيث يجد بعض البرودة، فرأى الرجال الثلاثة. مثل هذا الظهور المفاجئ يدلّ على شيء غير عاديّ (يش 5: 13، حضر رئيس جند الرب)، ولكنّ إبراهيم لم يدرِ أنّ الربّ يظهر له، فتصرّف مع القادمين كما يتصرّف الأمير مع ضيوفه. أسرع إلى لقائهم، سلّم عليهم، إنحنى أمامهم انحناءة الاحترام (33: 3؛ 42: 6؛ را 2: 10)، لا انحناءة السجود والعبادة.
(آ 3) يبدأ إبراهيم حديثه: يا سيدي، أتراه عرف الربّ بين المسافرين؟ هذا ما يلمّح إليه النصّ العبرانيّ الماسوريّ الذي استعمل صيغة المفرد (سيدي)، غير أنّ النصّ السامريّ يستعمل صيغة الجمع (يا سادتي) ليدلّ على أنّ إبراهيم يتوجّه بحديثه إلى الثلاثة.
"إن نلت حظوة". الكلمة العبرّية "حن" تعني العطف والشفقة والرحمة والنعمة. هو الصغير الذي يطلب لفتة وبركة من شخص عظيم. نقرأ هذه العبارة في صلاة المؤمن الذي يلتمس نعمة الله (6: 8؛ 19: 19؛ 30: 27)، كما نقرأ هذه العبارة في توسّل أستير (5: 1، 8: 5) إلى الملك أحشويرش من أجل شعبها.
(آ 4- 5) أوّل واجبات الضيافة: قليل من الماء يغسل بها المسافرون أرجلهم بعد أن ذاقوا حرّ الطقس وامتلأوا من غبار الطريق (19: 2؛ 24: 32). هذه العادة الحميدة التي مارسها إبراهيم، لم يمارسها سمعان الفرّيسيّ تجاه ضيفه يسوع عندما دخل بيته (لو 7: 44). بعدها عرض إبراهيم على الرجال أن يقدّم لهم الطعام، ومرورهم قرب خيمته يعني ضمناً قبول ضيافته. أجابوه: إصنع ما قلت، وجوابهم القصير يدلّ على علوّ منزلتهم.
2- ويأكل كل مائدته (18: 6- 8)
(آ 6) هيّأ إبراهيم وأهل بيته الطعام بسرعة، لأن التهذيب يفرض على المضيف ألاّ يؤخّر ضيفه، وبالأخصّ إذا كان مقامه رفيعاً. وهيّأ أكلاً وفيراً تكريماً لضيوفه: الدقيق الكثير، عجل من القطيع، السمنة واللَّبن...
ثلاثة أكيال أو أصواع (في العبرّية سايم) أي ما يوازي 40 ليتراً.
(آ 7) وساعد العبد سيّده في إعداد الطعام فلا يتأخّر الضيوف.
(آ 8) فأكلوا... لا نجد أيّة كلمة أخرى في الكتاب المقدّس تشبّه الله بالإنسان إلى حدّ أنّها تقول إنّه أكل.
3- ويعلن ميلاد إسحق القريب (18: 9- 15)
(آ 9- 10) لم يكن الرجال مسافرين مرّوا صُدفة قرب خيمة إبرهيم، بل رسلاً يحملون بشارة حلوة إلى سارة: سيكون لها ولد في السنة القادمة. وكانت سارة تسمع الحديث من داخل الخيمة. غريب هذا الضيف يعرف سارة باسمها.
(آ 11- 12) قرأنا في الرواية الكهنوتيّة (17: 24) أنّ إبراهيم وسارة كانا قد طعنا في السن. وها هي الرواية اليهوهيّة تردّد الكلام نفسه وتزيد: إمتنع أن يكون لسارة كما للنساء، ولهذا ضحكت سارة كما ضحك إبراهيم وتساءلت سؤالا لا يدلِّ على إيمانها العميق.
(آ 13) هنا نقرأ: فقال الرب (يهوه) لإبراهيم. متى أعلن الله عن نفسه وهو الذي تصرّف إلى هذه الساعة كما يتصرّف البشر، فاختبأ من حرّ الشمس تحت ظلّ شجرة، وغسل رجلَيه، وشارك في الطعام؟ هذا ما لا نعرفه. ولكنّ ظهوره فجأةً ومعرفته بأسرار القلوب وكشفه عن المستقبل، كلّ هذا دلّنا على أنّنا أمام شخص أرفع من الإنسان. قرأ في أفكار سارة، وأكّد صحة كلامه وأعلن عن المستقبل ثمّ جدّد وعده لسارة.
خافت سارة أمام هذا الشخص العجيب. أيكون خوف من ذاتها، أو خوف لأنّها أمام الرب؟ ثم أنكرت أنّها ضحكت. غير أنّ الله بيّن لها كذبها، لا ليوبّخها، بل ليؤكّد لها من جديد الوعد الذي وعدها به، وكأنّه يقول لها: لا حاجة إلى أن تنكري ضحكك. سيأتي يوم فيه تضحكين وتفرحين، وهذا اليوم يكون يوم ولادة ابنك اسحق. نشعر في هذا المقطع أنّ وعد الربّ لسارة لا يرتبط بفكرة العهد الذي قرأنا عنه سابقاً، بل يبدو وكأنه مكافأة على ما قامت به من ضيافة هي وزوجها وأهل بيتها. يعد الله سارة بابن كما يعد إبراهيم، وسيعد الله مريم العذراء بابن تسمّيه يسوع (لو 1: 30 ي) كما يعد يوسف (مت 1: 20- 21) بابنٍ من خطيبته سيكون مخلّص العالم.
(آ 14) أجل، ليس على الله أمر عسير. هذا ما قاله إرميا (32: 17) فردّده الرب: "أعليّ أمر عسير"، معدّداً أورشليم بالعقاب (ار 32: 27). وهذا ما قاله الملاك لمريم العذراء يوم بشّرها بالحبَل الإلهيّ وأعلن لها أنّ أليصابات العاقر حبلى بابن في شيخوختها (لو 1: 36-37).
(آ 15) أنكرت سارة. خافت هذا الزائر السريّ الذي يقرأ ما في أفكارها.
4- ويخبر إبراهيم بتدمير سدوم (18: 16- 22)
رافق إبراهيم ضيوفه مسافة طويلة ليعبّر عن احترامه لهم، ولمّا وصلوا إلى مكان عالٍ يطلّ على سدوم، استفاد الربّ من الظرف المؤاتي ليكشف لإبرهيم عن القصاص الذي ينتظر أهل سدوم بسبب خطاياهم. وهكذا ظهرت عظمة أبي المؤمنين الذي به ستتبارك كلّ أم الأرض والذي اختاره الله ليؤسسّ بيتاً يعيش فيه أبناؤه بالبِرّ والتقوى.
(آ 16) ينطلق الرجال إلى سدوم فيشيّعهم إبراهيم، ومن على التلّة يلقي نظرة إلى سدوم العامرة بانتظار أن يلقي إليها نظرة أخرى ساعة تصبح خراباً ودماراً.
(آ 17- 19) يتكلّم الله إلى نفسه، كما يفعل الإنسان، ويتساءل: هل أكتم عن إبراهيم ما أنا صانعه؟ لا، لن يكتم ذلك، بسبب مكانة إبراهيم ودوره في مخطّط الخلاص واهتمامه في أن يجعل نسله يتصرّفون بطريقة ترضي الله. ولهذا كشف الربّ عن قصده لإبراهيم وبيّن له أسباب قصاص المدينة الخاطئة لتكون عبرة لأبنائه فيتقوّى إيمانهم ويتعلّقون بوصايا الله ورسومه. فمواعيد الله لإبراهيم مشروطة بتتميم إرادته والسلوك في طرقه. هذا ما ردّده الأنبياء مراراً.
(آ 20) "إنّ صراخ سدوم..." هل هو صراخ الأبرار الساكنين في المدينة مهمَا كان عددهم ض ضئيلاً؟ هل هو صراخ المظلومين والمتألّمين، أم صراخ عالم ناءَ تحت الخطيئة فتشوّق إلى نعمة الله، كما صرخ دم هابيل إلى الله (4: 10) طالباً الانتقام؟ إنّ للأشياء صوتاً يصرخ، وهي لا ترضى بفظاعة الخطيئة التي يقترفها شعب المدينة.
(آ 21) نزل الربّ ليرى المدينة قبل أن يعاقبها، كملك يستوضح الأمور قبل أن يقرّر العقاب. لا شكّ في أنّه كان يعرف خطيئة سدوم كما كان يعرف خطيئة بابل. نزل ليرى المدينة كما نزل ليرى برج بابل وكما جاء إلى قايين وسأله: أين أخوك؟ كلّ هذه طرُق يعبّر بها الكاتب عن قرب الله من الكون.
(آ 22) وذهب الرجلان إلى سدوم. لم يعد الكاتب يذكر المدن المجاورة لأنّ سدوم تمثّلها كلّها، وبما أنّ خطيئتها تضاهي خطيئة سدوم فالعقاب الذي سيلحق بسدوم سيلحق بها هي أيضاً.
ذهب الرجلان وبقي الربّ مع إبرهيم. هل أراد الله أن يبقى بعيداً عن سدوم بسبب خطيئتها، أو لكي لا يرى الهلاك المرج الذي سيلحق بها لئلاّ يندم على ما عزم عليه.
5- إبراهيم يتشفعّ بسدوم (18: 23- 33)
(آ 23) أخذ إبراهيم يتوسّل من أجل المدينة الخاطئة. نرى في هذا المشهد عطف إبراهيم على أناس ليسوا من نسله، وإن توجّه فكره بادئ ذي بدء إلى ابن أخيه لوط. كما نرى عدالة الله في الكون بعد أن داس الناس رحمته. أرسل الملاكَين ليتحقّقا من خطايا المدينة فكان هذا الوقت فترة أعطاهم إيّاها الربّ علّهم يتوبون إليه، وهو المستعدّ كلّ يوم لأن يغفر بدل أن يعاقب، لأن ينجّي الشرّير إكراماً للبارّ. ولكنّه عندما يقاصّ يكون قصاصه عادلاً بسبب رفض الناس له.
(آ 24- 26) إذا توقّفنا على آ 23 فهمنا أنّ إبراهيم يطلب إخراج الأبرار (إذاً لوط وعائلته) من المدينة لئلاّ يهلكوا مع الأشرار. وعندما نتابع القراءة نفهم أنّه يطلب خلاص المدينة كلّها إكراماً للأبرار الذين فيها. صلاة البارّ خير عون للخاطئ، فهل يرفض الله صلاة أبراره؟ سيصلّي موسى من أجل شعبه فينصرهم الله (خر 17: 11 ي) وينجّيهم من الأخطار (عد 21: 7). سيصلّي الني إيليّا فينجو الناس من الجوع (1 مل 18: 43) وترتفع صلاة عاموس (7: 1 ي) وإرميا (14: 19 ي؛ 37: 3؛ 42: 2)، من أجل الأمة الخاطئة فلا يفنيها الله.
(آ 27- 32) الله سيصفح إن وجد في المدينة خمسين بارّاً. تشجّعَ إبراهيم: لو كانوا 45، 40، 30، 20، 10. حدّث الله بدالّة الصديق مع صديقه، لكنّه عرف نفسه أنّه تراب ورماد فحافظ على موقفه كخليقة أمام خالقها... ذكّر الله بالضعف الذي يدفع البشر إلى الخطيئة...
قَبِلَ الله بشروطه، ولكنّه لم يجد عشرة أبرار فتنجو المدينة إكراماً لهم.
(آ 33) وما عاد إبرهيم يتجرّأ أن يساوم الربّ بعد أن وصل إلى العشرة.
ومضى الربّ، أي أنّه انفصل عن إبراهيم الذي سيعي في الغداة ليشاهد مصير سدوم. ويبقى إبراهيم متأكّداً أنّ الله سيغفر ولا يعاقب بطريقة عمياء وهو الذي اشترط وجود بارّ واحد في أورشليم ليعفو عنها (ار 5: 1). على كلّ حال، سينجو لوط وامرأته وابنتاه، أمّا صهراه ففضّلا البقاء في عالم الشرّ وما يتبعه من هلاك، على رفقة الصديق وما في رفقته من خلاص رغم الشدّة.

ج- ملاحظات:
1- إستقبل إبراهيم ضيوفه بتهذيب ولياقة وسخاء وكرم، كما تتطلّبه تقاليد البدو، لا يأكل معهم بل يقف أمامهم ليلبّي حاجاتهم إذا طلبوا شيئاً. إستقبل إبراهيم ضيوفه كمسافرين عابرين قرب خيامه، ولكنّه سيعرف في ما بعد أنّ أحد ضيوفه كان الله بالذات الذي أخبره بخطيئة سدوم والعقاب الذي ينتظرها.
كانت الضيافة ضرورة من ضرورات حياة البدو، فصارت في ما بعد شريعة وفضيلة. من عمل بوصية الضيافة، باركه الله ومن خالفها استحقَّ عقاباً من الله وانتقاماً من الشعب ولقد اهتمّ المؤمنون بأمور الضيافة على مثال إبراهيم أبي المؤمنين، وفي هذا السبيل قالت عب: 13: 2: "لا تنسَوا ضيافة الغرباء، لأنّ بها أناساً أضافوا الملائكة وهم لا يدرون." وأنت من أدراك من تستضيف؟ ربّمَا يكون الله الذي يقف على الباب يقرع، فإن سمعت صوته وفتحت له الباب دخل وتعشىّ معك (رؤ 3: 21)، وإن لم يكن المسيح بالذات كما رآه الرسل على طرق الجليل، فسيكون أخاً للمسيح الذي قال: "مهمَا فعلتم لأحد إخوتي هؤلاء الصغار فلي فعلتموه" (مت 25: 40- 45).
2- أكل المسافرون... أترى الله يأكل؟ لا يذكر الكتاب المقدّس أنّ الله يأكل إلاَّ في هذا النصّ وهذا ما يدلّنا على أنّ الخبر قديم جدّاً (الآلهة تأكل مع البشر). نقرأ مثلاً أنّ جدعون قدّم إلى يهوه (أو ملاك يهوه) جدياً وخبزاً ليأكل، فانقلبت التقدمة ذبيحة أحرقتها النار (قض 6: 1- 24)؟ ولمّا قدّم والدا شمشون إلى الرب طعاماً، دون أن يعلمَا مَن هو، رفض أن يأكل (قض 13: 16) ولقد قال الملاك رافائيل لطوبيّا (12: 19): "كان يظهر لكم أنّي آكل وأشرب معكم، وإنّمَا أنا أتّخذ طعاماً غير منظور وشراباً لا يبصره بشر". من أجل كلّ هذا اعتبر المفسّرون القدماء من يهود ومسيحيّين إن ما رآه إبراهيم لم يكن أمراً واقعاً بل مجرّد رؤيا، لأنّهم لم يستسيغوا أن يرَوا الله يأكل كالبشر.
3- نتوقّف على هذا المشهد الذي عالجه بعض الآباء في عظاتهم ورأَوا في الرجال الثلاثة صورة عن الثالوث الأقدس، وتصدّى له الرسّامون ومنهم "روبليف" الروسيّ الذي ترك لنا إيقونة ولا أروع عن الأشخاص الثلاثة، لا ينظر الواحد إلى ذاته بل إلى الاثنَين الآخرين، لأنّ كلّ واحد من الأقانيم الثلاثة يعطي كلّ ما له للأقنومَين الآخرين، ولأنّ المحبّة، وهي تحديد الله، ليست انغلاقاً على الذات بل اتّجاهاً إلى الآخرين.
يلفت نظرنا أوّلاً تداخل صيغة المفرد وصيغة الجمع: مرّة يتكلّم واحد، ومرّة يتكلّم الثلاثة. يعتبر بعضهم أنّنا أمام تقليد قديم تحدّث عن ثلاثة آلهة، أخذه الكاتب اليهوهيّ وجعله في إطار توحيديّ. ولكنّنا نجيب إلى هذا الرأي فنقول: كان باستطاعة الكاتب الملهم أن يجعل الأفعال كلّها في صيغة المفرد ليدلّ على أنّه يتحدّث عن الإله الواحد، ولكنّه لم يفعل. وقال البعض الآخر إنّ الكاتب أراد أن يحدّثنا عن الله، ولكنّه خاف من الصوَر الأنتروبومورفيّة التشبيهيّة فجعلنا أمام ثلاثة رجال يهيّئون ظهور الربّ الذي نعرف احمه في آ 15. لا شكّ في أنّ الكاتب أخذ صوَراً تعبيريّة من القصص القديم ليروي لنا ظهور الربّ هذا. ويقول بعض الشرّاح إنّ هذا المشهد يدلّنا من بعيد إلى سرّ الثالوث الأقدس، ولكنّهم في قولهم هذا نسوا أهميّة التوحيد في إيمان شعب الله، وحسبوا أنّ الوحي بسرّ الثالوث سبق مجيء المسيح إلى الأرض. ويقول فريق آخر: إنّ الله ظهر برفقة ملاكَين من ملائكته، وأخذ مثلهم شبهاً بشريّاً لا يميّزه عنهم. أمّا ظهور الملائكة أمام الله، وهم أرواح، فيدلّ على تساميه وعظمته وجلاله.
إستقى الكاتب هذه الصورة من الله الحاضر حيث تابوت العهد أو في الهيكل والكاروبيم يحيطون به. وعندما يتكلّم الله أو ملاكه فالله وحده يتكلّم وهو يعلن عن حضوره بواسطة الملاك. وهكذا يكون سجود إبراهيم أمام ضيوفه بمثابة عبادة لله الحاضر في هذا المكان.
4- في الحوار بين الله وإبراهيم يظهر إبراهيم جرأة كبيرة وتواضعاً عميقاً، جرأة تنبع من ثقته بالله وقد آمن به وأسس حياته على كلامه، وعرف أنّه محبوب الله وخليله، وتواضع إذ عرف نفسه أنّه أمام الربّ تراب ورماد: هل تستطيع الخليقة أن تقول لخالقها: لماذا خلقتني؟ هل تستطيع الجبلة أن تقول لجابلها: لماذا جبلتني هكذا؟
يخاف إبراهيم على البريء. هل سيهلك ابن أخيه بع أبناء سدوم؟ كلاّ، لأن الله عادل في أحكامه مهمَا خفيت على البشر. بعد أن تأكّد أنّ البارّ ينجو بحياته، أراد إبراهيم أن يحارب بواسطة الأبرار لينجّي المدينة الخاطئة، ولقد كان وصل إلى هدفه لو وجد عشرة أبرار في المدينة. إن للأبرار كرامة عند الله وفضيلتهم تعوّض عن خطايا كثيرة، لأنّ كلّ نفس ترتفع ترفع معها العالم. صلاتهم وحياتهم تؤثّران على رحمة الله وجودته دون أن تمسّ عدالته، وتفتحان بغزارة ينبوع نِعَم الله فيرجع الخطأة. بعد أن اكتشف شعب الله أنّه متضامن في الخطيئة والنعمة، متضامن في الموت والحياة، سيكتشف مع حزقيال (18: 1 ي) خاصّة أنّ الله يهتمّ أيضاً بكل فرد من أفراد الشعب بسبب دوره في مخطّط الله. الجماعة تؤثّر على الفرد والفرد يفعل في الجماعة.
5- إبراهيم رجل الإيمان بالله وهو يعبّر عن إيمانه بصلاته إلى الله، صلاة متواصلة سيلتقي فيها ربّه في تجواله وترحاله ويبني المذابح ليعبّر بطريقة خارجيّة عن عبادة القلب. صلاة هي حوار مبنيّ على الوعد الذي وعده به الله: أؤمن لأنّك وعدت، أؤمن رغم الظلام الذي يحيق بحياتي لأنّ كلمتك نور لخطاي (مز 119: 105). صلاة تشفّع لله عرف فيها حقارته، فانطلق منها ليحدّث الله بدالّة الأبناء الأحبّاء. هو لا يطلب شيئاً لنفسه، بل يطلب الرحمة لشعب سدوم مستنداً إلى وعد الله أنّه لا يريد موت الخاطئ. يتشفّع إبراهيم، لا ليؤثّر على الله فيجعله يتبدّل، بل ليدخل في قلب الله فيكون تشفّعه رمزاً لتشفعّ يسوع، ذلك البارّ الواحد، الذي ينجّي، لا مدينة فحسب، بل أيضاً البشرّية كلها من موت الخطيئة.
6- وإبراهيم هو الغريب الذي يستقبل الربّ في داره، في خيمته. للمرة الأولى يتّكئ الربّ إلى مائدة البشر، ضيفاً من الضيوف، غريباً يمرّ على الطريق. لم ينتظر إبراهيم أن يطلب الربّ الضيافة، بل ترك باب الخيمة، رغم حرّ النهار، وأسرع إلى لقائه. وهو الربّ لا يزال يأتي إلينا، يقف على الباب يدقّه. وبين غداء إبراهيم وعشاء سفر الرؤيا نقرأ تاريخ لقاء الله بالإنسان، لقاء لا يفرض الله فيه ذاته علينا بل يقفز على الباب، وقد يحصل أن يأتي إلى أخصّائه فلا يستقبلونه (يو 1: 11). هل نفوّت فرصة اللقاء باللهّ عندما يأتي إلينا كما فعلت عروسة نشيد الأناشيد؟ سمعت حبيبها يدقّ الباب ويناديها بلغة ولا أعذب: إفتحي يا أختي، يا حبيبتي يا حمامتي يا كاملتي. رأت يده من الكوّة، تحرّكت أحشاؤها له ولكنّها لم تتحرّك من مكانها (نش 5: 2- 4) لئلاّ تتوسّخ رِجلاها. تحرّك إبراهيم ليستقبل ضيفه. فإذا هو أمام الله، ولم يعرفه إلاَّ بعد أن تناول الطعام عنده. ووجه الله لم يعرفه تلميذا عمّاوس إلاَّ بعد أن جلس معهما للطعام وكسر الخبز وناولهما (لو 24: 30- 31). حضور الربّ حضور سرّي ولكنّه حضور حقيقيّ، ونحن نعرف وجهه من خلال وجه الجائع والعطشان والغريب والمريض والعريان (مت 25 : 35- 40). وعندما نستقبل أحد هؤلاء الصغار فنحن نستقبل الربّ بالذات

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM