الفصَل الخامِس عَشَر: العهدُ بَينَ الله وَإبراهُيم

الفصَل الخامِس عَشَر
العهدُ بَينَ الله وَإبراهُيم
(15: 1- 21)

أ- المقدّمة:
1- يؤلّف العهد مرحلة جديدة في حياة إبرهيم الذي ترك كلّ شيء وسار في طريق المغامرة طاعة لله. قد عرف يوم نصب خيامه في شكيم (7:12) وبيت إيل (13: 14- 17) أنّه مقيم في البلاد التي هيّأها الله له ولنسله، فاستعدّ لكي يتقبّل من الرب مواعيد جديدة انطلاقاً من العهد الذي قطعه الله معه.
2- إذا ألقينا نظرة أولى إلى النصّ فهمنا أنّنا أمام تقليدَين متمازجَين: التقليد اليهوهيّ والتقليد الألوهيمي. ولنأخذ مثالاً على ذلك: في آ 5 يسعى إبراهيم إلى أن يحصي عدد الكواكب، وهذا يعني أنّ الوقت ليل، أمّا في آ 12 و17 فنقرأ أنّ الذبيحة تمّت عند مغيب الشمس أو ساعة خيّم الظلام على الأرض. لو كان التقليد يهوهيّاً محضاً لرأينا الله يكلّم إبرهيم وجهاً لوجه كما يكلّم الإنسان صاحبه. أمّا وقد حدّثه في حُلم، فهذه الطريقة البعيدة عن الأنتروبومورفيّة تضعنا في إطار التقليد الألوهيمي.
3- هذه النسخة اليهوَهيّة المطعّمة بالألوهيميّة ستقابلها نسخة كهنوتيّة في17: 1 ي، وهناك لن يكون أثر لأيّة ذبيحة تُقدّم، والتقليد الكهنوتيّ لا يعرف ذبائح قبل موسى وتشريعه. ولكن ستكون ذبيحة حيّة حين يسيل الدم من الإنسان، لا من الحيوان، في ختانٍ يكون علامة تعلّق الإنسان بربّه عبر الدم مصدر الحياة.
4- في مقطع أوّل أساسه ألوهيميّ (15: 1- 6) نعرف أنّ الله وعد إبرهيم بأن سيكون له نسل يفوق عدد الكواكب. وفي مقطع ثانٍ أساسه يهوهيّ (15: 7- 21) يقدّم إبرهيم ذبيحة فيعبر الربّ بيت أجزاء الذبيحة قاطعاً عهداً مع إبرهيم واعداً إيّاه بأن يعطيه هذه الأرضي التي يقيم عليها، من نهر مصر إلى النهر الكبير أي الفرات.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة:
1- وعد بنسل (15: 1- 6)
(آ 1) يبدأ الفصل بعبارة "بعد هذه الأمور" دون أن يقول لنا متى حدثت هذه الرؤيا وأين حدثت. يورد عبارة "كان كلام الربّ إلى أبرام" فيذكّرنا بكلام الله إلى الأنبياء ويجعلنا نشعر وكأننا أمام رؤيا نبويّة. وكما في كلّ رؤيا يظهر الله فيها يأخذ الخوف بمجامع قلب الإنسان، هكذا خاف إبرهيم فقال له الله: "لا تخف". وبعد أن هدّأ روعه، سرّى عن همومه بالنسبة إلى المواعيد السابقة التي لم تتحقّق بعد.
قال الربّ: "أنا ترس لك" فنقلها المترجم اليونانيّ: "أنا أحميك وأحفظك"، والسريانيّ: "أنا أعينك واؤيّدك". ثمّ وعده بأجر عظيم هو أرض الميعاد.
يمكننا أن نقابل بين هذا النصّ وإر 1: 1 ي الذي يبدأ بهذه العبارة: كانت إليه كلمة الربّ. وبعد أن يدعو الله الني إلى التخلّي عن الخوف (لا تخف) يشجّعه ويطلقه في ما يرسله إليه ليقول كلّ ما يأمره به.
(آ 2-3) نقرأ تذمُّر إبراهيم وعتابه للربّ على أنّه يتركه يموت بدون أولاد. إبراهيم حزين، قلق على المستقبل. لقد وعد الله نسله بهذه الأرض، ولكن أين النسل الذي سيرث الأرض؟ هل سيرثه عبد من عبيده، أم ابن يخرج من صلبه. ويمكننا أن نتساءل: لماذا لم يتبنَّ إبراهيمِ ابن أخيه لوطاً؟ لا ننسَ أوّلاً أنّ شريعة التبنّي لم تكن معروفة في التشريع العبرانيّ إلاّ في حالات خاصّة. ويقول قائل: ولكنّ شريعة أشور كانت تسمح للإنسان بأن يتبنّى غريباً أو عبداً ليؤمّن له حياة لائقة في شيخوخته، ودفنة كريمة بعد موته، واستمراراً لعيلته ونسله. هل كان خلاف بين إبراهيم ولوط فظهر عبر رعاة كلّ منهمَا وانفصل الواحد عن الآخر (13: 7- 12)؟ مهمَا يكن من أمر، فقد تبنّى إبراهيم رئيس عبيده أليعازر، ثمّ إسماعيل ابن أمَته هاجر.
(آ 4) يجيب الله إبراهيم إلى سؤاله فيتقبّل عتابه عليه، ويؤكّد له أنّ وارثه لا يكون عبده، بل ابنه الذي يخرج من صُلبه. ولكن صمت الربّ دام طويلاً، وهذا ما يفسّر لنا يأس سارة التي قدّمت إلى زوجها خادمتها هاجر (16: 2) ليكون بها لإبرهيم ابن. ولمّا بشّرها الله بأنّها ستكون أمًّا لولد ذكر، عادت الفرحة إلى قلبها والبسمة إلى شفتَيها، وضحكت ضحكةَ من يدهش فلا يصدّق، أو ضحكة من انتظر طويلاً فحصل على ما طلب وأسكت أقاويل الناس.
(آ5- 6) وعد الله إبرهيم بإبن من ساره فهدأ روعه. في الماضي آمن إبرهيم بالربّ فأطاع أوامره وترك وطنه وقبيلته وعائلته. وها هو الآن يجدّد إيمانه بالربّ الذي يعده بنسل يرث احمه ويحمل رسالته. هذه الثقة بالله تنبع من قلبه ومن فكره، وهي الدليل على استعدادات روحه الطيّبة والبرهان على برارته وقداسته.
وعده الله بنسل لا يُحصى فجدّد الوعود السابقة (12: 2؛ 13: 16)، وشبّه هذا النسل بالكواكب الكثيرة، وهو تشبيه يرد مراراً في الكتاب المقدّس (تث 22: 17؛ 26: 4؛ 28: 6). وعده فكان هذا الوعد بمثابة امتحان لإبراهيم وهو ابن مئة سنة.
حسب له الله إيمانه برّاً، يعني أنّ الله اعتبره بارّاً. هذه العبارة سيوردها القدّيس بولس (غل 3: 9) ليفهم المتهوّدين أنّهم ليسوا مديونين للشريعة والأعمال، بل لنعمة المسيح وحدها. وسيوردها أيضاً في روم 4: 3 ليبيّن العلاقة بين البرّ والإيمان، ويدلّ على أنّ عطيّة البرارة التي منحها الله لإبراهيم تعني اختيار الله له ليجعله أداة مخطّطه في العالم. هذا هو الإيمان عينه وهذا هو الاستسلام الكامل بين يدَي الله، وهذه هي البرارة التي ستجد تعبيرها الكامل في المسيح الذي فيه تمّت المواعيد المعطاة لإبرهيم. لقد توقّف التعليم اليهوديّ على استحقاقات إبراهيم البشريّة وشدّد على نسله بالجسد جاعلاً إيّاه عربون خلاص وبركة إلهيّة، وموضوع تفوّق بشري وديني. أمّا نحن المسيحيّين فنعتبر أنّ أبناء إبرهيم لينسوا أبناء اللحم والدم، بل أبناء الإيمان الذي لنا بيسوع المسيح.
2- قطع عهد يرافقه وعد (15: 7- 21)
(آ 7- 8) نحن أمام وعد بامتلاك أرض (رج 12: 7؛ 13: 14- 17). وعد الله فطلب إبرهيم علامة تكفل تحقيق هذا الوعد. ولكن أين ثقة إبرهيم بالله كما عرفناها؟ هذا التضارب يجعلنا نفكّر أنّنا أمام تقليدَين متمازجَين.
(آ 9- 10) الله يرتبط بما يعد به ويؤكّد لإبراهيم أنّه سيتملّك أرض كنعان. فيقيم معه عهداً تختمه ذبيحة تعبّر بطقوسها عن طابَع هذا الالتزام المقدّس الذي يلتزمه الربّ. يأخذ إبراهيم عجلة وعنزاً وكبشاً ويمامة وجوزلاً ويشطرها، ويجعل كل شطر قبالة صاحبه. ولن نفهم معنى هذه الطقوس الغريبة إلاَّ إذا قرأنا آ 17 وربطناها بالآيتين 9 و10. لقد كان المتعاهدان يمرّان بين شطرَي الحيوانات، ليعلنا أنّهمَا مستعدّان لتقبّل أيّ عقاب إن هما خالفا شروط العهد (ار 34: 8- 22). في هذا النصّ يمرّ الله وحده بين الحيوانات، لأنّه وحده يوقع العهد، ويعبّر الكاتب عن مرور الله هذا بعمود النار والدخان اللذَين يمرّان بين الحيوانات المشطورة. الله يلتزم كلامه تجاه إبراهيم، وإبراهيم يعلن إيمانه بكلام الرب. أمّا في سيناء فيكون العهد ثنائيًّا (خر 24: 6- 8): يتعهّد الربّ حظ شعبه ويتعهّد الشعب بحفظ شريعة الله...
(آ 11- 17) تورد هذه الآيات رؤيا حصلت لإبراهيم بشكل حلم، ووجود الحم يدلّنا على أنّنا في التقليد الألوهيمي. في هذا الحم يرى إبراهيم الطيور الجوارح تطير فوق جثث الحيوانات فتبدو علامة شؤم له (رج 40: 16- 19: حلم رئيس الخبّازين بأنّ الطيور تأكل من سلّته فكان ذلك نذيراً له بموته). لقد فهم إبراهيم أنّ الطيور التي رآها تمثّل أعداءه وأعداء نسله الذي سيقع في العبوديّة. وعندما قام إبراهيم بحركة طرد بها الجوارح أيقن أنّ هذه العبوديّة لن تطول على شعبه الذي سيتحرّر سريعاً وينتصر على أعدائه.
ويهدّئ الله روع إبراهيم فيحدّثه. لا شكّ في أنّ ذرّيته ستعيش على أرض غريبة ("جير" في العبرانيّة تعني الجار والضيف والغريب والمهاجر، رج خر 22: 20؛ 23: 9؛ تث 10: 19؛ لا 17: 12 حيث نقرأ شرائع تهتمّ بوضع الغرباء) وسيبقون غرباء إلى يوم يدخلون مع يشوع أرض الميعاد.
ستدوم محنة الشعب 400 سنة. لا نأخذ ما يقوله الكتاب بطريقة حرفيّة ونحن نعرف أنّ العدد 40 (400: 10) هو زمن محنة الرب وافتقاده لشعبه. في هذا الزمن الذي سيبدو طويلاً جدّاً بسبب الآلام التي تكتنفه، سيحتاج نسله إلى إيمان قويّ ورجاء واثق يعلّمهم أهميّة الانتظار: فالله سوف يعاقب ظالميهم (تلميح إلى الضربات التي سيضرب بها الربّ شعب مصركما سنقرأ في سفر الخروج).
ولكنَّ إبرهيم لن يعرف ما سيحدث لنسله، لأنّ الله سيحفظه من المحنة فيصير إلى آبائه بسلام بعد شيخوخة صالحة، وسيعيش 175 سنة بعد أن يشبع من الأيّام (25: 7- 8)، والعمر الطويل بركة من الربّ ونعمة من نعمه (خر 20: 12).
ويتساءَل إبراهيم في قلبه: لماذا يتأخّر الله في تحقيق وعده له؟ ويأتيه الجواب: إنّ الربّ ينتظر أن يصل إثم الأموريّين إلى كماله. حينئذٍ يعاقبهم الله عقاباً استحقّوه، فيمحوهم من الأرض ويتصرّف بأراضيهم وخيراتها كما يشاء. بهذه الطريقة البدائيّة والسريعة عبّر الكاتب عن عدالة الله ليبرّر امتلاك أرض كنعان. وهي عدالة لا تحسب للفرد أيّ حساب، بل تتوقف على المسؤوليّة الجماعيّة التي تتمثّل بالملك، فتوقع القصاص بالشعب كلّه. أينتظر الربّ ولا يعاقب سريعاً لإظهار رحمته أم لإصدار الحكم الصارم؟ هل يريد أن يموت الخاطئ أم أن يعود عن خطيئته فيحيا؟ ليس الله ذلك الجلاّد المملوء من روح الحقد والانتقام، بل هو من يهمّه خلاص البشر جميعاً.
في هذا الكلام إنذار لشعوب كنعان إن هو بقوا على شرّهم، وفيه أيضاً إنذار لشعب الله الذي سيخسر أرضه ويذهب إلى المنفى بسبب شرّه المتزايد. رحمه الله يوم استحقّ الرحمة، وعاقبه يوم استحقّ العقاب. فما عليه الآن إلاَّ أن يرجع إلى ربّه فيرأف به ويردّه إلى أرضه. هذه الفكرة نقرأها في روم 11: 21- 22: "إن كان الله لم يبقِ على الفروع الطبيعيّة، فلعلّه لا يبقي عليك أنت أيضاً. فانظر إذاً لطف الله وشدّته، أمّا الشدّة فعلى الذين سقطوا، وأمّا لطف الله فلك إن ثبت في لطفه وإلاّ فتقطع أنت أيضاً".
(آ 18) في نهاية الذبيحة تعهّد الله أن يعطي سلالة إبرهيم أرض كنعان بحدودها التالية: من النيل إلى الفرات. لم تصل حدود بني إسرائيل يوماً إلى النيل، ولكن يبدو أنّها وصلت إلى الفرات في عهد سليمان. في الواقع، حدود إسرائيل الحقيقيّة تمتدّ من دان إلى بئر سبع (1 صم 3: 20). قرأ الشرّاح هذه الآية فرأوا في الأمر مبالغة (رج تث 1: 7؛ 11: 24؛ يش 1: 4) فاقترحوا تبديل سيل وادي العريش بدل النيل وحذف كلمة "الفرات". لن نتوقّف على المعنى الحرفيّ بل نصل إلى المعنى الروحي. أدته يعطي شعبه أرضاً وعده بها، وهو لا يعطي إلاَّ بسخاء، فكيف نريد أن يكون لعطائه حدود؟
(آ 19) لائحة بالشعوب العشرة التي سينتصر عليها بنو إسرائيل، والرقم عشرة يدلّ على الكمال، ويعني أنّ بني إسرائيل سيتغلّبون على جميع أعدائهم.
هذه اللائحة الثابتة للشعوب العائشة في أرض كنعان قبل وصول بني إسرائيل إليها تتردّد في نصوص الكتاب المقدّس (خر 3: 8- 17؛ 13: 5؛ تث 7: 1؛ 20: 17؛ يش 3: 10).
القينيّون: يرتبطون بقايين (4: 2؛ عد 24: 21- 22) وهم قبائل في سيناء. القنزيّون يرتبطون بالآدوميّين عبر قناز (36: 11، 15- 42) وسيؤلّفون حلفاً وبنو كالب مع قبيلة يهوذا (عد 13: 6؛ 32: 12؛ يش 14: 6).
القدمونيّون: لا يذكرون إلاَّ في هذا المكان من الكتاب المقدّس، وقد يكونون إحدى القبائل المقيمة شرقيّ الأردنّ. في 25: 15 نقرأ اسم قدمة كابن لإسماعيل وفي 29: 1 عن أرض "بني قدم" أي المقيمين في الشرق، شرقيّ الأردنّ.
(آ 20) الحثيّون: هم بقايا القبائل التي جاءت من آسيا الصغرى وأقامت في بلاد كنعان (10: 15)، ومن عاش معهم من قبائل لا ساميّة جاءت إلى الشرق (23: 3).
الفرزيّون: شعب قديم أقام في جبال أرض كنعان (رج 13: 7؛ 34: 30؛ يش 17: 15).
الرفائيّون: شعب شرق أردنيّ رج 14: 5
(آ 21) الشعوب المذكورة هنا: رج 10: 15- 16.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM