الفَصل الثاني عَشَر: دَعوَة إبراهِيم وَمجيئه إلى كنعمَان

الفَصل الثاني عَشَر
دَعوَة إبراهِيم وَمجيئه إلى كنعمَان
(12: 1- 25)

أ- المقدّمة:
1- تبدأ سيرة إبراهيم يوم دعاه الله إلى حياة جديدة معه، فأخذ يتنقّل من مكان إلى آخر قبل أن يقيم غريباً في أرض كنعان: من حاران إلى شكيم وبلّوطة ممرا، ومن الجبل القريب من بيت إيل وعاي إلى صحراء النقب جنوباً، بل إلى مصر. وسيعود من مصر عبر النقب ليقيم قرب بيت إيل وهناك سيفترق عن ابن أخيه بسبب الخصومة بين رعيان الرجلَين.
2- ثلاثة مقاطع في هذا الفصل. مقطع أوّل (12: 1- 5) يورد نداء الربّ لإبراهيم. ومقطع ثانٍ (12: 6- 9) يعدّد الأماكن التي مرَّ فيها إبراهيم ومقطع ثالث (12: 10- 20) يخبرنا كيف ذهب إبراهيم إلى مصر خوفاً من المجاعة وكيف ردّه الربّ من هناك إلى الأرض التي وعده بها.
3- يرجع هذا الفصل إجمالاً إلى التقليد اليهوَهيّ وقد طعّم بآيتَين من التقليد الكهنوتيّ (آ 4 ب- 5) اللتَين ترتبطان بما قلناه عن تارح ونسله في 11: 31- 32. أمّا الآيات اليهوهيّة فتتّصل بما قرأناه في 11: 28- 30 عن تارح وأبرام وساراي.
4- هذا النصّ الذي يروي دعوة إبراهيم ومجيئه إلى كنعان هو من أهمّ نصوص العهد القديم بالنسبة إلى تاريخ شعب إسرائيل الدينيّ وبالنسبة إلى التاريخ المسيحيّ والإسلاميّ.
لا يقول النص شيئاً عن ديانة إبراهيم عندما سمع نداء الربّ له، غير أنّنا نقرأ في سفر يشوع (24: 2) أنّ آباء إسرائيل عبدوا آلهة أخرى، وهذا يعني أنّهم كانوا وثنيّين. ومهما يكن من أمر، فهمّ الكتاب أن يبيّن كيف دخل الله في التاريخ البشريّ فكشف عن ذاته لإبراهيم واختاره ليكون أباً لشعب سيستودعه وحيه. مع هذه الدعوة أطلّ على العالم فجر جديد.
ب- تفسير الآيات الكتابيّة:
1- نداء الربّ لإبراهيم (12: 1- 5)
(آ 1- 2) طلب الله إلى إبراهيم أن يترك كلّ شيء. وعبّر الكاتب عن متطلّبات الله هذه عندما حشد المفردات وجمعها: أرضك، عشيرتك، بيت أَبيك. أراد الربّ أن يقتلعه اقتلاعاً كاملاً فلا يبقى له شيء يربطه بأرض تعبد الأوثان.
ثم يذكر النصّ الوعود التي وعده الربّ بها والتي ستتمّ في المستقبل، إنّما تبدو الآن غامضة: سيكون إبراهيم أبا شعبٍ عظيم وأمّة كبيرة، سيكون اسمه مشهوراً فيكون بركة على بيته وعلى من يلتقي بهم (48: 20؛ ار 29: 22)، فيقول الناس بعضهم لبعض: "كن مباركاً مثل إبراهيم".
(آ 3) يمكن أن نترجم هذه الآية بطريقتَين. الطريقة الأولى: يتبارك بك جميع عشائر الأرض، يعني أنّ الامتيازات التي خصّ الله بها إبراهيم ستنتقل إلى جميع الشعوب. هذه الفكرة نجدها عند الأنبياء الذين أعلنوا أنّ جميع الشعوب سيرجعون إلى الله، إله إسرائيل، ويشاركون شعب الله في عبادته لله الواحد (1 ش 18: 7؛ 19: 21- 25؛ ار 16: 19؛ مت 4: 1-3). هذه الترجمة التي نقرأها في السبعينيّة قد أوردها بولس في غل 3: 8 ولوقا في اع 3: 25، وهي توجّه أنظارنا إلى المستقبل المنتظر الذي فيه يتمّ خلاص البشر جميعاً.
والطريقة الثانية أنّ جميع عشائر الأرض سيبارك بعضها بعضاً في إبراهيم، أي يتمنّون الحصول على بركة مثل بركة إبراهيم. يعني أنّ إبراهيم ونسله سيلفتون أنظار الشعوب الذين يتشوّقون إلى مشاركتهم في بركاتهم المسيحانيّة. وهذا ما نقرأه في اش 61: 9: "كلّ الذين ينظرون بني إسرائيل يعترفون أنّه شعب الربّ المبارك"، وفي زك 8: 23: "في تلك الأيّام عشرة رجال من كلّ ألسُن الشعوب يمسكون بطرف ثوب يهوديّ، ويقولون له: نريد نحن أيضاً أن نذهب معك، لأنّنا عرفنا أنّ الله معك".
(آ 4) وترك إبراهيم كلّ شيء. تعبّر هذه الكلمات عن تجرّد الرجل المتعلّق بربّه الطائع لأوامره. منذ البداية يبدو إبراهيم رجل الإيمان، وقد قالت فيه عب 1: 8: "بالإيمان سمع إبراهيم نداء الربّ، وذهب إلى بلد سيرثه، وسار دون أن يعلم إلى أين".
(آ 5) ويصل إبراهيم إلى البلاد التي ستسمّى فلسطين في القرن الثاني ب. م.، والتي سمّتها النصوص أرض كنعان. واسم كنعان وُجد مكتوباً بالحروف المسماريّة في القرن الرابع عشر ق. م.، واكتشف في تلّ العمارنة.
وهناك سيجد منطقة يسكنها شعوب ساميّون قد أقاموا فيها منذ أجيال عديدة. أمّا الشعوب التي سبقت الساميّين فلا نعرف شيئاً من تاريخها، وكلّ ما وصل إلينا منها هو بقايا جماجم وجثث محروقة، ومنحوتات من صوّان. إحتلّ الساميّون بلاد كنعان وأقاموا فيها في بداية الألف الثالث ق. م. وهم الذين يسمّيهم التقليد اليهوهيّ "الكنعانيّين" والتقليد الألوهيميّ "الآراميّين". ويعتقد بعض المؤرّخين أنّ الآراميّين يمثّلون موجة من القبائل جاءت بعد الكنعانيّين وامتزجت بهم. ويذكر النص الكهنوتيّ أنّ الحثّيّين (بني حث) قد سكنوا مع الكنعانيّين. لم يكونوا ساميّين بل برابرة جاؤوا من أواسط آسيا إلى آسيا الصغرى (تركيّا)، وتسرّبت منهم جماعات إلى بلاد كنعان في القرن الرابع عشر ق. م. قبل أن تنظّم السلالة الفرعونية التاسعة عشرة عليهم حملة وتردّهم إلى الشمال.
2- تنقّل إبراهيم (12: 6- 9)
(آ 6) نجد في هذه البلاد شعوباً متعدّدة تتمتعّ بقسطٍ من المدنيّة، أمّا إبراهيم فهو يعيش حياة البداوة على تخوم الحواضر والمدن، وينصب خيامه ترب شكيم. وشكيم، حيث يقيم إبراهيم أولاً، هي مدينة محصّنة بُنيت حوالي السنة 2000 ق. م. وهي تعلو ما ينيف على 400 متر فوق سطح البحر، على مدخل وادٍ يرتفع فوقه جبل عيبال (938 م). كانت ملتقى الطرق الآتية من الأردن إلى البحر المتوسّط، ومن الجنوب إلى الشمال، عبر الهضبات العالية، فجعلها المصريّون مركزاً مهمّاً من مراكزهم وحصّنوها بعد أن وضعوا يدهم عليها.
(آ 7) حلّ إبراهيم في شكيم، فعرف أنّه وصل إلى البلاد المعدّة لنسله، وشعر بأنّ الوعد الإلهيّ بدأ يتوضّح. أمّا المكان الذي حلَّ فيه فسيشتريه يعقوب حفيده، ويبني فيه للربّ مذبحاً (33: 19- 20)، ثمّ يخفي تحت إحدى أشجاره الآلهة الغريبة التي حملتها معه عائلته بعد رجوعه من آرام، بلاد لابان (35: 4). في شكيم ستُدفن عظام يوسف التي أصعدها بنو إسرائيل من مصر (يش 24: 32)، وفي هذا المكان عينه سيقيم يشوع (يش 24: 26- 28) حجراً كبيراً يكون شاهداً على العهد بين الله وشعبه. كلّ هذه الأحداث جعلت هذا المعبد يحافظ على أهميّته مدة طويلة لأنّ تاريخه ارتبط بتقاليد الآباء.
(آ 8) يتوجّه إبراهيم إلى الجنوب ويضرب خيامه بين العيّ وبيت إيل على هضبة كلسيّة. العيّ، ومعناها الخراب، كانت في بداية الألف الثاني ق. م. مدينة مبنيّة على هضبة فوق وادي الأردنّ، ولكنّها كانت خراباً يوم رآها إبراهيم. ستُبنى في ما بعد وسيحتلّها يشوع بن نون (يش 7: 2- 5؛ 8: 1- 29) ويحرّم كلّ ما فيها فيجعل سكّانها عرضة للقتل ويرسل ملكها إلى الشنق ويقضي على خيراتها بالحرق وأسوارها بالهدم.
أمّا بيت إيل، فالحفريّات الأثريّة تدلّ على أنّها كانت قائمة في القرن الحادي والعشرين ق. م. معنى الاسم بيت الله، وقد سمّيت كذلك بسبب الطابع الدينيّ الذي تميّزت به. كان اسمها القديم "لوز" (28: 19)، ثم حلّ محلّه الاسم الدينيّ. هذا المعبد سيصبح من أشهر المعابد في أرض إسرائيل، وخاصةً في عهد مملكة الشمال (935- 722 ق. م).
(آ 9) وينتقل إبراهيم من مرعىً إلى مرعى، حتى يصل إلى الجنوب، إلى النقَب الذي يمتدّ بين غزّة وبئر سبع وقادش. في هذه البلاد الجافّة سيعيش بعض الوقت قبل أن ينزل إلى مصر.
3- إبراهيم في مصر (12: 10- 20)
(آ 10) لم تمطر السماء كثيراً في تلك السنة فشحّت المياه وسبّبت مجاعة في أرض كنعان التي ستعرف مجاعات أخرى ذكرها الكتاب المقدّس (26: 1؛ 43: 1؛ 47: 1؛ را 1: 2؛ 2 صم 21: 1؛ 2 مل 4: 38؛ 8: 1؛ عا 4: 6). تضايق إبراهيم من هذه المجاعة، فاندفع إلى سهول مصر حيث المحاصيل وافرة بسبب مياه النيل.
(آ 11) سارة امرأة شابّة وجميلة ولكنّها عاقر ( 11: 30). ولكنّ هذا القول لا يتوافق والنصّ الكهنوتيّ (17: 17) الذي يعتبر أنّ عمر سارة ستّ وستّون سنة.
(آ 12) خاف إبراهيم على حياته، إن كانت سارة أخته يأخذونها ويدفعون مهرها. أمّا إذا كانت امرأته فسيقتلونه. إذاً لجأ إبراهيم إلى الحيلة...
(آ 13) حياة الرجل أثمن من شرف المرأة، ولا ضرر كبير في كذب صغير.
(آ 14) ويعود الكاتب إلى الحديث عن جمال سارة التي لفتت نظر فرعون.
(آ 15) لأوّل مرّة يرد اسم فرعون، ويبدو أنّ كلمة فرعون تعني البيت الكبير والقصر الذي يقيم فيه ملك مصر. نحن أمام لقب ملكيّ (كما نقول الباب العالي) قبل أن نكون أمام اسم علم من الأعلام.
(آ 16) وحصل إبراهيم على الغنى بواسطة امرأته ، ولكن بئس هذا الغنى.
(آ 17) الزنى، وإن اقتُرف عن غير عمد هو خطيئة ويستحقّ العقاب.
(آ 18- 20) لا يقول لنا الكتاب كيف اكتشف فرعون أمر سارة وعرف أنها امرأة إبراهيم. المهمّ أنّه أرسل أُناساً فرافقوا إبراهيم لئلاًّ يمسّه شرّ وهو من يحميه يهوه.
ج- ملاحظات:
1- نتوقّف أوّلاً على مسيرة الإيمان عند إبراهيم فنعيش مع انطلاقة جديدة للوحي الخلاصيّ في كلمة يوجّهها الله إلى رجل اهتمّ به واختاره من بين جماعات الشعوب اختياراً حرّاً لتنفيذ مخطّطه التاريخي. يمكننا أن نتساءَل: لماذا لم يقِع اختيار الله على حام أو يافث بدل سام؟ ولماذا اختار بعد ذلك أرفكشاد، لا واحداً من إخوته، تم اختار إبراهيم، لا ناحور أو هاران؟ مثل هذه الأسئلة لا نجد لها أجوبة عند الكاتب الملهم. يقول الربّ كلمة، وهذه الكلمة تحرّك الإنسان وتدفعه إلى العمل. هذا ما حدث لإبراهيم، وهذا ما يحدث لكلّ إنسان دخل في تاريخ الخلاص. وهذه الكلمة تفرض علينا أن ننفصل انفصالاً تامّاً عن كلّ الجذور والرباطات البشريّة. ينفصل إبراهيم عن أرضه، ثمّ عن قبيلته، ثمّ عن أهله وعائلته، لأنّ لله متطلّباته وهو يريد منّا كلّ شيء لأنّه أعطانا كلّ شيء.
2- هذا الانسلاخ صعب قاس، والله يعرف ذلك، وهو يطلب من إبراهيم أن يترك كلّ شيء وراءه ويسلّم ذاته إلى الله ليفعل به ما يشاء. إلى أين يسير إبراهيم؟ إلى أرض لا يعرف عنها شيئاً، ولكنّه متأكّد أنّ الله سيدلّه عليها ساعة يشاء. في هذا النداء الذي أرسله الربّ إلى إبراهيم، وفي هذه الطريق التي يسير عليها أبو الآباء، سيقرأ شعب الله واقعاً من تاريخه القديم وعلامة تميّزه عن سائر الشعوب بسبب ارتباطه بالله. فإسرائيل شعب انسلخ من جماعة الشعوب (عد 23: 9)، وظلّ يعيش غريباً حتى في أرض كنعان (1 أخ 25: 3)، وسار على طريق غير طريق الأم، وسلّم ذاته وتاريخه إلى يد الله.
3- يبارك الله إبراهيم. يردّد النصّ خمس مرّات ذكر هذه البركة التي تتحقّق أوّلاً في إبراهيم ثمّ في الذين يأتون بعده ويرتبط اسمهم باسمه. والبركة لا تعني سائلاً سحريّاً ينزل على الناس فيقدّسهم دون علم منهم، بل تعني عطاء من الله يتقبّله الإنسان بالشكر. الله يعطي هذه البركة أو يرفضها بحريّة تامّة، وهي ترتبط بكلمته الخلاقة. بهذه البركة يعطينا الله غنى الحياة الماديّة وفيها يتمّ النموّ والتكاثر في الكون (1: 26). فعندما وعد الله الآباء وعدهم بنسل كبير (13: 6؛ 15: 5؛ 18: 18) وأرض خصبة غنّاء. والوعد لإبراهيم يتعدّاه ونسله ليصل إلى كلّ الشعوب، لأن به دخل الخلاص التاريخ. كان موقف إبراهيم موقف قبول لهذا الخلاص، وفي تيّار هذا الخلاص يظهر موقف الناس من عمل الله في التاريخ: رفض أو قبول؟
4- يطيع إبراهيم الله طاعةً عمياء، دون ما نقاش أو جدال. لا يذكر الكاتب جوابه إلى الله، بل يقول عنه إنّه سار (هلك في العبريّة) دون أن يسأل إيضاحاً عن وجهة سيره. في هذه الكلمة التي تعبّر عن معنى الحدث في بساطته وعمقه، تتجلّى قوّة تفوق كلّ التحاليل النفسيّة. لم يقل إبراهيم شيئاً، بل أظهر طاعة لا حدود لها بالنسبة إلى وعد لا يعم إلى أين يوصله. وحين سار إبراهيم في طريق الله أصبح مثالاً لكلّ المؤمنين السالكين مع الله، وحصل على وعدَين اثنَين. الأوّل: أن يكون شعباً كبيراً، والثاني أن يملك أرضاً واسعة.
5- أشار الكاتب إلى انطلاقة إبراهيم وأوضح أنّنا أمام امتحان إيمان مثاليّ. سار إبراهيم ولم يكن طريقه بالواضح الثابت، إلى بلد يجهله. ولكنّ الله سيدلّه عليه ويعلمه، ساعة يصل إلى الهدف، أنّ هذه المسيرة في المجهول كانت في الواقع مسيرة تقوده إلى خلاص عظيم في لقاء بالله. ويبقى الغموض يلفّ إبراهيم حتى بعد أن أوحى الله إليه بأنّه سيعطي هذه الأرض نسلَه. ولأنّ الكاتب يذكر في الوقت نفسه وجود الكنعانيّين في الأرض دون أن يعطي الحلّ الذي يريح بال إبراهيم، كيف سيحصل إبراهيم على أرض تعجّ بالسكّان، وكيف يكون له ولد وامرأته عاقر. لم يعطِنا الكاتب أيّ جواب إلى تساؤلاتنا، بل تابع روايته فذكر أنّ إبراهيم توجّه إلى الجنوب إلى أرض الجفاف، في حياة عاديّة ليس فيها أيّ حدث عجيب، في حياة تكتنفها الصعوبات والأخطار، والتي لم يكن آخرها هذه الهجرة إلى مصر بسبب الجوع، وهذا الانطلاق في بلاد أكثر غربةً من التي تعرّف إليها. كل هذا جعله ينسى بعض الوقت رسالته ويتوسّل الوسائل البشريّة ليستقرّ في تلك البلاد الغنيّة، فيعيش مسبقاً تجربة أبنائه الذين سيفضّلون البقاء في بلاد المنفى على الرجوع إلى أرض الميعاد مع البقيّة التي ظلّت محافظة على العهد.
6- يرجع المقطع الأخير (آ 10- 20) إلى التقليد اليهوَهيّ، كما قلنا، ويقابله في التقليد الألوهيميّ النصّ الذي يذكر إقامة إبراهيم في جرار (20: 1 ي). في كلتا الحالتَين يخاف إبراهيم أن يأخذ الناس امرأته بعد أن يقتلوه، فيتصرّف بالحيلة على حساب شرف امرأته: الأخت الجميلة أقلّ خطراً من الزوجة، إن سلّمها سلمت حياته، وحصل بسببها على الخير والمال. وهكذا فعل مرّة أولى مع ملك مصر ومرّة أخرى مع ملك جرار، ولم يرَ شرّاً في عمله، فتلك كانت عاداتهم.
لاحظ رؤساء فرعون جمال سارة، فأخذوها وضمّوها إلى حرم فرعون، تمّ أرسلوا إلى إبراهيم الهدايا الكثيرة من غنم وبقر وحمير... فكان ذلك كالمهر الذي تعطاه كلَ امرأة تتزوّج. ضرب الله فرعون، والنصّ لا يذكر أيّة ضربات حلّت به، فتنبّه فرعون إلى خطإه وردّ سارة إلى زوجها. حينئذٍ ترك إبراهيم أرض مصر في حالٍ مخزية لا يُحسد عليها.
7- اللاهوت بدائي والأفكار الاجتماعيّة بدائيّة أيضاً. شرف المرأة أقلّ قيمة من حياة الرجل الذي يتصرّف بامرأته كما يشاء ويدفعها إلى عمل الزنى. في 19: 8 سنرى كيف قدّم لوط ابنتَيه إلى رجال سدوم حتى ينجو ضيفاه، وفي قض 19: 25 نقرأ قصّة ذاك اللاويّ الذي قدّم جاريته للزنى.
نفهم موقف إبراهيم انطلاقاً من كلام محفوظ في شريعة سفر الخروج القديمة (20: 17): الرجل صاحب امرأته كما هو صاحب بيته وعبده وثوره وحماره. ولكنّ الكاتب لا يهتمّ بهذا الأمر، بل يتطلعّ إلى الله القويّ العظيم الذي لا يقف بوجهه أحد، ولو كان سيّد مصر. وهذا الإله يغضّ النظر عن صديقه إبراهيم الذي يتصرّف كمن يعقد صفقة تجارية فيزداد ماله وغناه. نلاحظ أنّ الربّ لا يقاصّ إبراهيم الكاذب، بل يضرب فرعون على عمله دون أن يحسب لحسن نيّته أيّ حساب. لا شكّ في أنّ الكاتب يعرف أنّ إبراهيم كان مخطئاً، وأنّ فرعون كان مُحقّاً في ما فعل، فلم يشأ أن يتوقّف على متطلّبات الأخلاق والآداب، إنّمَا أراد أن يظهر أنّ الله ينصر إبراهيم في كلّ أعماله، ويدفع عنه، بسبب إيمانه، شرّ فرعون الوثنيّ، ولهذا ذكر لنا هذا الحادث المأخوذ من الإخبار القديم والمطعَّم بوجهة نظر تجعل العبرانيّ ينتصر على المصريّ لأنّه ضعيف، والربّ يغيث الضعفاء.
8- جمال سارة يلفت نظر رؤساء فرعون، وهذا يفترض أنّها كانت صبيّة ولكنّ المرجع الكهنوتيّ يذكر كبر سنّها. فقد كان عمرها 66 سنة عند خروج إبراهيم من حاران (12: 4) بينما كان عمر إبراهيم 75 سنة، وهذا يعني أن الفرق بين الاثنَين تسع سنوات. عندما نقرأ في 17: 17 أنّ إبراهيم كان ابن مئة سنة وسارة ابنة تسعين، نفهم أنّ هدف الكاتب الملهم يتعدّى القصّة والخبر ليصل بنا إلى الإطار الدينيّ الذي يتبيّن فيه أنّ مخطّط الله يتحقّق لا محالة مهمَا كانت نوعيّة الأشخاص الذين يعملون معه.
ونتساءَل هنا: كيف اكتشف فرعون العلاقة بين مرضه ووجود سارة في حرمه؟ وهل فارقه المرض ساعةَ فارق سارة؟ يروي لنا الكاتب الخبر بسرعة دون أن يجيبنا إلى هذه الأسئلة، وقد صارت كلّ التفاصيل نافلة بعد تدخّل الله. إنطلق الكاتب من قصّة بشريّة نفهمها بحسب عقليّة ذلك الزمان، حيث كانت المرأة سلعة يضحّي بها الرجل من أجل حياته، فوصل بنا إلى سرّ الله المهيب الذي يوجّه كلّ شيء في سبيل مخطّطه الخلاصي.
10- نستطيع أن نفسّر هذا الخبر تفسيراً مبتذلاً فنقول إنّه يخبر عن جمال سارة ويذكر الحيلة التي لجأ إليها إبراهيم لينجو بمعونة ربّه من حالة صعبة وقع فيها، هذا إذا نظرنا إلى الخبر وحده. أمّا إذا وضعنا الخبر في مجمل حياة إبرام فهمنا مما يعنيه الكاتب الذي لا يكتفي بعرض أخبار متتابعة لا رابط بينها، بل يضعنا أمام حدث إلهيّ كبير عاشه الآباء مع الله، وعلى ضوء هذا الحدث نفسّر هذا الخبر وغيره من الأخبار. إنّ الخطر المحدق بسارة يجعل كلّ ما وعد الله به إبراهيم وكأنه لم يكن. كيف يكون لإبراهيم أبن من سارة بعد أن صارت امرأة فرعون نج ولكنّ الله لا يترك مخطّطه يفشل رغم كلّ التصرّفات البشريّة الضعيفة. وهكذا نفهم أنّ الأساس في هذا الخبر هو عمل الله الذي يسترعي انتباهنا أكثر من قضيّة أخلاقيّة هي خطيئة إبراهيم. يومَ ترك إبراهيم كنعان إلى مصر دلّ على قلّة إيمانه، وصار صاحب الوعد أكبر عدوٍّ للوعد. لا يتوقّف الكاتب على حالة ساره، وهي مؤثّرة، ولا يلوم إبراهيم على تصرّفه، وهو تصرّف لا يليق برجل الله، بل يهتمّ فقط بتدخّل الله. أمّا كيف تدخّل الله؟ فهذا ما لا نفهمه، والكاتب الملهم يكفّ عن الكلام عندما يصل إلى حدود سرّ الله الذي لا يفهمه هو أيضاً.
إذا كان الكتاب ذكر هذه الحادثة ثلاث مرّات، فلأن شعب إسرائيل اهتمّ لها بنوع خاصّ، ليبيّن تدخّل الله الخلاصيّ رغم خطيئة البشر ورغم تهرّب حامل الوعد. وعد الربّ وهو مصمّم على تحقيق وعده.
11- ونسوق ملاحظة عن مراكز العبادة في عهد الآباء في العهود اللاحقة. هذه المراكز كانت بسيطة جدّاً: تتكوّن من بيدر يضعون عليه حجراً يسكبون عليه السكب ودم الذبائح، أو من مذبح يبنونه بطريقة بدائيّة ويضعون حوله عدداً من الحجارة تشبه حرس الشرف القائم بين يدَي الملك، وعليه يقدّمون الضحايا. كانوا يختارون أماكن العبادة قرب شجرة مقدّسة كما في شكيم أو ممرا أو بئر سبع (13: 18؛ 21: 23) ويهتمّون بوجود الماء ليفوا بمتطلّبات الطهارة. أمّا موقع هذه الأماكن فعلى التلال، وقد سمّوها المرتفعات والمشارف، فيكون المصلّون قريبين من الله.
12- إنّ الأماكن التي جعل فيها العبرانيّون معابدهم قديمة جدّاً، ولكنّ التقليدَين اليهوهيّ والألوهيميّ قالا إنّ الآباء أسسّوا هذه الأماكن ليدلّوا على أهميّتها في حياة الإسرائيلي. ولا ننسَ أنّه حتى عصر الملوك لم تكن العبادة في تلك الأماكن تشكّل أيّ خطر على صحّة الإيمان. ولكنّ الوضع تغيّر يوم أرادت بيت إيل أن تنافس أورشليم، فنصب يربعام ملك السامرة عجلاً من الذهب، رمز القوّة والخصب (1 مل 12: 28- 29)، وجعله لعبادة مملكة الشمال كما فعل هرون في الصحراء فدعا الشعب إلى عبادة العجل الذهبيّ (خر 32: 1 ي). فقامت قيامة الأنبياء على ملك إسرائيل لأنّ المكان المقدّس الذي صلّى فيه الآباء تحوّل إلى مركز عبادة الأوثان. صبّوا جام غضبهم على المشارف ورفعوا الصوت مندّدين بأشجار صارت جزءاً من عبادة الأوثان. قال هو 4: 13: "يذبحون على رؤوس الجبال ويقتّرون تحت البلوط واللبنى والبطم، لأنّ ظلّها حسن، فلذلك بناتكنّ يزنينَ وكنّاتكنّ يفسقنَ" (رج اش 1: 29؛ 57: 5؛ ار 2: 20؛ 3: 6؛ 17: 2؛ حز 6: 13؛ 20: 28).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM