الفصَل التَاسع: النظام الجديد للعَالمَ

الفصَل التَاسع
النظام الجديد للعَالمَ
(9: 1- 29)

أ- المقدّمة:
1- سيبدأ بعد الطوفان بناء نظام جديد. كان الناس قد شوّهوا بخطاياهم العلاقة القائمة بين الله والخليقة فاستحقّوا الطوفان عقاباً لهم على أفعالهم الشرّيرة. وها هو الله يدعوهم إلى إعادة بناء هذه العلاقة، ويقترح عليهم ما يجب أن يغيّروه في حياتهم وسلوكهم ليستعدّوا لإقامة العهد معه. لا حديث على أمور طقسيّة كطهارة الثياب والجسم، بل تشديد على حياة أخلاقيّة يقصى عنها الظلم والعنف ويمنع فيها سفك الدماء. ولكن هل يحافظ أبناء نوح على وصايا الله؟ بل لا بدّ من أن يكون هناك من يفتح الطريق للخطيئة. بعد آدم قايين، بعد موسى قورح وداتان وأبيرام (عد 16: 1 ي)، بعد يشوع عاكان بن كرمي (يش 7: 1 ي)، ومع الرسل والحياة الجديدة بالعنصرة حنانيا وسفيرة (أع 5: 1 ي). ومع نوح سيفتح كنعان الدرب للخطيئة وفساد الأخلاق فلا يتورعّ من النظر إلى عورة أبيه بانتظار أن ينظّم العبادات التي يدخل فيها البغاء المكرّس.
2- في هذا الفصل قسمان، قسم أوّل (9: 1- 17) يختتم خبر الطوفان كما رواه التقليد الكهنوتيّ، وقسم ثانٍ (9: 18- 29) يروي حدثاً من حياة نوح وأولاده يبيِّن الفرق الشاسع بين سام وحام بابنه كنعان، ويدعو الساميّين، ومن خلالهم العبرانيّين، إلى الابتعاد عن الكنعانيّين بني حام بسبب سلوكهم الفاجر وممارسة الزنى قرب معابدهم.
ب- تفسير الآيات الكتابيّة:
1- نظام جديد (9: 1- 17)
(آ 1) كان الله قد بارك العيلة البشريّة الأولى ودعاها إلى أن تنمو وتكثر (1: 28) وها هو يبارك نوحاً وأولاده فيعطيهم إمكانية النموّ والتكاثر لتمتلئ من جديد الأرض التي ضُربت بالطوفان. ولكنّ العلاقات مع عالم الحيوان سوف تتبدّل: يأكل الإنسان لحم الحيوان، ويهجم الحيوان على الإنسان فيقتله. أجل، زال السلام الذي عرفه أبوانا في الفردوس مع الله.
(آ 2) كان الله قد أعطى أبوَينا الأوّلَين السلطان على كلّ الحيوانات (1: 28)، وها هو يعطي هذا السلطان عينه لنوح فيحلّ خوفه على الحيوان، "المسلّم إلى أيديهم" ولهم عليه حقّ الحياة والموت (لا 26: 25؛ تث 19: 12).
(آ 3) كان الله قد أعطى الإنسان والحيوان العشب طعاماً (1: 29)، وها هو يسمح للإنسان بعد الطوفان بأن يأكل كلّ حيّ يدبّ على الأرض. إعتبر النصّ الكهنوتيّ أنّ النظام النباتيّ هو النظام الأكمل (دا 1: 8- 16)، غير أنّ الشعب العبرانيّ نظر إلى الأمور بغير هذا المنظار، فكان يعبّر عن بهجته أمام الربّ بأكل لحوم الذبائح (تث 12: 4- 7؛ 12: 17- 18). ولقد شدّد الأنبياء (1 ش 25: 6) على أنّه ستكون في الأزمنة المسيحانيّة ولائم من اللحوم السمينة للشعب المجتمع ليحتفل بعهد الربّ.
(آ 4) "ولكن لا تأكلوا لحماً بدمه". تعتبر الرواية الكهنوتيّة أنّ هذه الشريعة وضعت في زمن الطوفان. وبما أنّ الشعب لم يعمل بها، عادت النصوص تذكّره بها مراراً (لا 17: 10- 12) للتدليل على الأهميّة التي يعلّقها المشترع على العمل بهذه الوصيّة. وسبب ذلك هو أنّ الدم مركز الحياة، والحياة ملك الله، وله وحده حقّ التصرّف بها. الله، ربّ الحياة، يضفي على الدم هذا الطابَع المقدّس الذي يجعل الإنسان يمتنع عن أكل لحم بدمه.
(آ 5) يسمح الله للإنسان بأن يقتل الحيوان ويقتات من لحمه، ولكنّه لا يسمح له البتّة بسفك دم الإنسان. فالله سيأخذ بثأر الإنسان من الحيوان (خر 21: 28) ويثأر من الإنسان الذي يقتل أخاه.
(آ 6) يوكل الله إلى الإنسان الأخذ بثأر الإنسان. فالقاتل يستحقّ القتل حين يسفك دم أخيه: من يسفك دم الإنسان يسفك دمه. فالإنسان مصنوع على صورة الله ولهذا تحترم حياته. هدّد الربّ بهذا القصاص ليثير الخوف في قلب الإنسان، والخوف يساعد على حفظ الشريعة. وبما أنّ ثأر الدم ناموس إلهيّ فقد أوضحت الشريعة شروطه وأعطت الحقّ لشخص واحد لكي يكون مسؤولاً عن دم القتيل، كما أنّها عيّنت المدن الملاجئ التي يلجأ إليها من يقتل إنساناً عن غير عمد (خر 21: 12- 14).
(آ 7) ويدعو الله نوحاً وأولاده إلى أن ينموا ويكثروا بعد أن فرغت الأرض من ساكنيها. تتردّد كلمة "أكثروا" مرَّتَين في النصّ العبرانيّ، ويبدو أنّه يجب أن نقرأ: "أكثروا وتوالدوا في الأرض وأخضعوها". (نقرأ في العبرانيّة "ردو" بدل "ربو"، أي أخضعوا بدل أكثروا)
(آ 8- 11) يؤكّد الله للإنسان أنّ كارثة الطوفان لن تحلّ بالعالم مرّة ثانية. وعد الله وهو سيَفي بوعده، مهمَا كان تصرّف الإنسان في ما بعد، ولهذا أقام عهداً مع الإنسان ومع كلّ حيوان الأرض فلا ينقرض. هذا العهد مع نوح سيتبعه عهد مع إبراهيم (15: 1 ي؛ 17: 1 ي)، ومع كلّ شعب إسرائيل (خر 24: 1 ي).
(آ 12- 16) لم تكن المواثيق والاتّفاقات مكتوبة، فكان لا بدّ من علامة تذكّر المتعاقدين بواجباتهم فلا ينسوها أو يخلّوا بها. كانت علامة العهد مع نوح قوس الله على السحاب كما ستكون مع إبراهيم الختان المطبوع في اللحم (17: 11).
(آ 17) يختتم الله كلامه: هذه علامة العهد الذي أقمته بيني وبين كلّ إنسان وحيوان. وننهي الحديث عن التقليد الكهنوتيّ المتعلّق بالطوفان فنطرح ثلاثة أسئلة ونجيب إليها.
السؤال الأوّل: قال الله يوم الخلق: "أنموا وأكثروا". هل بقيت البشريّة بعد الطوفان خاضعة لهذا الأمر الإلهيّ أم إنّها تحرّرت منه وتصرّفت كما شاءت؟ الجواب: إنّ الربّ جدّد في عهده الجديد مع نوح الوصيّة القديمة التي أعطاها آدمَ، ووهب بركة جديدة للخليقة الجديدة فحصل نوح على البركة التي حصل عليها آدم.
السؤال الثاني: كيف السبيل إلى التوفيق بين العنف والقتل، وحقّ الله المطلق على كل الخلائق؟ الجواب: كما أعطى الله آدم السلطة على الحيوان، جدّد عطيّته لنوح وسمح له فضلاً عن ذلك بأن يقتل الحيوان ويأكل من لحمه دون أن يمسّ دمه الذي هو مركز الحياة.
السؤال الثالث: كيف نفسّر بناء الطبيعة ونواميسها واستمرار بركة الله في بشريّة اعتادت أعمال العنف وعادت إلى شريعة الغاب؟ نجد الجواب إلى هذا السؤال في سهولة الله وصبره وأناته على الإنسان. كما نعرف بإيماننا أنّ قدرة الله تمنع الكون من الرجوع إلى الشواش والعدم، وأنّ كلمته التي خلقت هذا العالم تحافظ عليه ليكون الإطار اللازم لعمل الله الخلاصيّ في التاريخ.
2- نوح وبنوه (9: 28- 29)
نقرأ في هذا المقطع خبرَين، الأوّل يذكر نوحاً الذي غرس كرماً وشرب خمراً فسكر. الثاني يذكر موت نوح وعمره 950 سنة. الخبر الأوّل يرجع إلى التقليد اليهوهيّ، والخبر الثاني إلى التقليد الكهنوتيّ لِمَا فيه من ذكر للأعمار وتشديد على الأرقام والأعداد.
(آ 20) كان الكاتب اليهوهيّ قد ذكر الاختراعات الأولى كبناء المدن (4: 17، 24)، وها هو يذكر استخراج النبيذ من العنب. ولكنّ ما يهمّه الآن هو نتيجة استخراج النبيذ الذي يشرب منه نوع حتى سكر. يذكر الكتاب أنّ نوحاً كان أوّل من حرث الأرض. فهل نسي أنّ كلاّ من آدم وقايين اهتمّا بحراثة الأرض وزراعتها، أم إنّه أراد القول بأنّ نوحاً كان أوّل من بدأ فلاحة الأرض بعد الطوفان؟
(آ 21) أكثرَ نوح من الشراب فسكر... لم يكن يعرف مفعول الخمر فلم يعد يسيطر على ذاته وعلى أعماله، فخلع ثيابه وظهر أمام عيون الناس عريانا، وهذا ما لا يليق على الإطلاق بعبرانيّ متديَن.
(آ 22) رأى حام أباه عرياناً. نتساءل هنا عن القرابة التي تربط بين حام وكنعان؟ أيكون كنعان ابن حام كما نقرأ في هذه الآية، أم إنّه ابن نوح كما نقرأ في آ 24؟ نحن لا نجد حلاًّ في الكتاب، وسواء أكان كنعان ابن نوح أو ابن حام فهو أبو الكنعانيّين الذين سيستعبدهم بنو إسرائيل بعد أن عبدوا الأوثان وعاشوا في الخطيئة والفساد. وأخبر حام أخوَيه بالأمر...
(آ 23) إستهان حام بأبيه أمام سام ويافث، أمّا هما فعبّرا عن احترامهما لأبيهما وعاطفتهما البنويّة نحوه عندما غطّيا عريه، وأدارا وجهَيهما إلى الوراء فما رأيا شيئاً. أراد حام أن يجرّ أخوَيه ولكنّهما رفضا السير وراءه، أمّا العبرانيّون فساروا وراء الكنعانيّين الذين اشتهروا بفسقهم وفساد أخلاقهم ( لا 18: 3؛ 18: 24- 30؛ 1 صم 14: 24).
(آ 24- 25) إستيقظ نوح من نوم الخمر وعرف ما حدث له، فأعطى كلاًّ من أولاده ما يستحقّ: أعطى الولدَين الورعَين البركةَ والابنَ المذنب اللعنةَ.
(آ 26) تبارك الربّ إله سام. سام مبارك لأنّه يعرف الله الحقيقي، وسعادته وسعادة نسله تجدان أساسهما في عبادة الله الواحد. ومع أنّ الساميّين إجمالا عرفوا الإله الحقيقيّ، إلاَّ أنّ عبادة الله ظلّت على نقاوتها في ذلك الشعب الذي خرج من إبراهيم وإسحق ويعقوب. ولقد رأى التقليد اليهوديّ والمسيحيّ في هذه الكلمات نبوءة عن المسيح الذي سيأتي من نسل سام.
(آ 27) وبارك نوح يافث فتمنّى له أمنياتٍ ثلاثاً: أن يكون في رحب وسعة، وهذا هو تفسير اسمه، أن يتسلّط على كنعان، أن يسكن في خيام سام بسلام: تربط بينهما علاقات الصداقة ويشتركان في معرفة الله الواحد فتكون لهمَا السعادة. نحن نجد في هذا الكلام إشارة إلى أنّ معرفة الله ستنتقل من الشعب اليهوديّ إلى باقي الشعوب في شخص سام ويافث.
(آ 28-29) نعود إلى المرجع الكهنوتيّ ونلتقي بما قاله في 5: 32.
كان عمر نوح يوم الطوفان ستّ مئة سنة ويوم مات تسع مئة وخمسين سنة فيكون عمّر أكثر من آدم (930 سنة) وأقلّ من متوشالح (999)، وهكذا لم يصل إلى الألف، الذي هو عدد الخلود كأبطال بابل، بل ظلّ دون الألف ودون متوشالح الذي لم يذكره الكتاب بشيء. نوح بطل الطوفان، كان إنساناً كسائر الناس خاضعاً لله، وقد أبان عن خضوعه هذا يوم قدّم ذبيحة لله. ويوم تعرّى كان مثل آدم بعد الخطيئة ومات بسبب الخطيئة الأولى لأنّه هو أيضاً تراب وإلى التراب عاد.
ج- ملاحظات:
1- يبدو لنا ونحن نقرأ قصّة نوح مع بنيه أنّ الكاتب يرجع إلى قصّة قديمة تجعل من حام (أو كنعان) الابن الأصغر. قال: ليكن عبداً لعبيد إخوته، أي ليكن في آخر درجة من درجات العبوديّة وليكن ملعوناً. واللعنة ليست عبارة تدلّ على أنّ نوحاً شتم كنعان وطرده من وجهه، كما أنّ البركة ليست عبارة تدلّ على المحبّة والرضى فحسب، فاللعنة كالبركة تحقّق ما تعبّر عنه فيكون لها نوع من المفعول السحريّ. يكني أن يقول أبٌ من الآباء كلمة بركة أو لعنة لتتحقّق. ولنا أمثلة عديدة في حياة الآباء. بارك الله إبراهيم ولعن شاتميه (12: 2 ي) فحلّت البركة عليه وعلى نسله واللعنة على أعدائه. بارك إِسحق يعقوب (27: 27 ي) فأعطاه الله ندى السماء وأكثر له حنطته وخمره. وبارك بلعام شعب الله (عد 24: 1 ي) فعبّر بكلامه عن رضى الله عن شعبه ومحبّته له. كلّ هذه الأمثلة تظهر الإعتقاد السائد بأنّ كلمات البركة واللعنة التي يتلفّظ بها نبيّ أو رجل قريب من الإله، تفعل فعلها في حدّ ذاتها وبمعزل عن إرادة من تلفَّظ بها، وإن أراد التراجع عنها فلا يستطيع. وأصدق مثال على ذلك بركة إسحق على يعقوب، رغم الخطإ الذي وقع فيه إسحق. فالبركة تفعل فعلها في يعقوب، ولن يقدر إسحق على التراجع عن بركته رغم معرفته بحيلة يعقوب ورغم بكاء عيسو وعويله. وانطلاقاً من هذه الفكرة كان الأبناء يضعون البركة أو اللعنة في فم الأجداد ليعبّروا مسبقاً عن أحداث لاحقة. وفي قصّة نوح، وصلت اللعنة إلى الكنعانيّين عبر جدّهم حام (أو كنعان) والبركة إلى العبرانيّين عبر جدّهم سام.
2- نقرأ قصّة زراعة الكرمة واستخراج النبيذ وسكر نوح فنتعلّم أمثولة خُلقيّة أبرزها الكتاب المقدّس. عندما احتلّ العبرانيّون أرض الموعد كان الكنعانيّون فيها مزارعين وكرّامين. فمنعهم الله من الاختلاط بالكنعانيّين والأخذ بعاداتهم الفاسدة ومشاركتهم في أعيادهم، وشرب الخمر أحد عناصر العيد عند هذا الشعب الذي لعنه الله وحكم عليه بأن يخضع للعبرانيّين بسبب المدنيّة الفاسدة التي يمثّلها.
ونقرأ أيضاً أمثولة تاريخيّة. سام يمثّل العبرانيّين، وكنعان الكنعانيين الأقدمين، ويافث الفينيقيّين والحثيّين وشعوب البحر الذين كان منهم الفلسطيّون". فإذا أخذنا بهذا التفسير نرى في كلمات نوح إلى أولاده نبوءة تجد تفسيرها في التاريخ، ونفهم أن حاماً (كنعان) وساماً ويافث ليسوا أفراداً فحسب، بل هم تشخيص لشعوب سيلعبون دوراً في هذه المنطقة من الشرق القديم.
د- مواضيع عن حدث الطوفان:
1- مقابلة بين الرواية اليهوَهيّة والرواية الكهنوتيّة
بعد أن قرأنا نصوص الكتاب وميّزنا فيها ما هو من المرجع اليهوهيّ وما هو من المرجع الكهنوتيّ، نودّ أن نقابل بين المرجعَين لنستخلص العبرة الخاصّة بكلِّ منهمَا.
نلاحظ أنّ عناصر التقليد اليهوهيّ والكهنوتيّ لم توضع جنباً إلى جنب كرواية الخلق في الفصل الأوّل (رواية كهنوتيّة) وفي الفصل الثاني (رواية يهوهيّة) من سفر التكوين، بل مزجت بعضها ببعض. فالكاتب يتكلّم مرّتين عن الله الذي رأى شرّ البشر (6: 5؛ 6: 12) فأنذر البشريّة بالطوفان مرَّتَين (6: 13، 17؛ 7: 4) وأمر نوحاً مرَّتَين بأن يدخل السفينة هو وعائلته والحيوانات (6: 18- 20؛ 7: 1- 3). أطاع نوح أمر الله مرَّتَين (6: 22؛ 7: 5) ودخل السفينة مرَّتَين (7: 7؛ 7: 13) قبل أن يبدأ الطوفان (7: 10؛ 7: 11) وترتفع السفينة (7: 17؛ 7: 18) ويموت كلّ حيِّ على وجه الأرض (7: 22- 23). بعد الذبيحة وعد الله نوحاً مرّتَين بأنّه لن يكون طوفان من بعد (8: 20- 22؛ 9: 8- 17)، ولقد تحسّب نوح لهذه الذبيحة فأخذ سبعة من الحيوانات الطاهرة (7: 2)، بينما يذكر نصّ آخر أنّه لم يأخذ إلاَّ حيوانَين اثنَين من كلّ جنس (6: 19-20؛ 7: 15- 16).
إنّ روايتَي الطوفان تردّدان الأفكار الأساسيّة الواحدة، أَلاَ وهي أنّ الله يدير الكون، وأنّ البشرّية العائشة في الخطيئة ستجد عقابً على خطيئتها بالطوفان الذي سيهلك كلّ ذي جسد. فقداسة الله لا تتحمّل رؤية الشرّ والخطيئة، ولذا تنزل عدالته مثل هذا القصاص بالمذنبين، بينما يغمر بصلاحه نوحاً البارّ فيحميه من الموت. تتّفق الروايتان على القول بأنّه قد هلك كلّ حيّ، ما عدا نوحاً وعائلته، والحيوانات التي لجأت إلى السفينة معه. وإنّه وإن كان نوح وحده بارًّا فستنجو عياله معه بفضل التضامن الذي يجمع بين أعضاء القبيلة في الخير والشرّ، في السرّاء والضرّاء. خطى آدم فخطئت معه البشرّية ونالت عقابها من الربّ، كان نوح بارّاً فبرّر معه أهل بيته وحصلوا معه على الخلاص الآتي من الرب.
تتّفق الروايتان على المعنى الدينيّ وتفترقان في عناصر الرواية وطريقة الإخبار. فالرواية اليهوهيّة تتفرّد بذكر العصفورين اللذَين أطلقوا نوح (8: 7- 12) والمذبح الذي قدّمت عليه الذبيحة (8: 20- 22). يتحدّث التقليد اليهوهيّ عن الله بالطريقة الأونتروبومورفيّة التي تعوّدناها: يتأسّف الربّ في قلبه ويندم لأنّه خلق الإنسان (6: 6- 7)، وبسبب ندم الله حلّ الطوفان بالبشرّية فكانت خطيئتهم سبب ضربتهم. ونرى أنّ الله يهتمّ بنوح فيغلق خلفه باب السفينة (7: 16) لئلاَّ تفاجئه المياه. وعندما ينتهي الطوفان يقدّم نوح محرقة يتنسّم الله رائحتها، فيعد نوحاً بأنّه لن يلعن الأرض مرّة ثانية (8: 5- 22). إنّنا لنكتشف وراء هذه الصوَر والتشابيه لاهوتاً عميقاً عن الله الواحد، العادل والصالح الذي ما زال يهتمّ بالبشر رغم ضعفهم. ولكنّ الكاتب الملهم عبّر عن هذا اللاهوت بطريقة بشريّة فصوّر الله يفكّر ويعمل كما يفكّر كلّ إنسان ويعمل.
أمّا الرواية الكهنوتيّة فتنفرد بذكر التعليمَات المتعلّقة ببناء السفينة (6: 14- 16)، وطعام الإنسان والحيوان (6: 21) حبّاً وعشباً، وللمياه التي ترتفع فوق الجبال (8: 19- 20)، والسفينة التي تتوقّف على جبل أراراط (8: 4). يتحدّث المرجع الكهنوتيّ عن الهواء الذي يجعل المياه تتناقص، وعن الله الذي يطلب إلى نوح أن يترك السفينة (8: 15- 19). بعد أن يبارك الله نوحاً، يعلن عليه شريعة أولى (9: 1- 7) ستتمّ في شريعة موسى، كما أنّ شريعة موسى ستتمّ في شريعة المسيح. يسمح له بأكل اللحوم (9: 7) كما سبق وسمح له بأكل الأعشاب (1: 29). يسمح الربّ بعد الطوفان للإنسان بأن يقتل الحيوان ليغتذي بلحمه، ولكنّه لا يسمح له بأن يأكل لحماً بدمه، والدم مركز الحياة، والحياة عطيّة من الله وملك له وحده. فمن امتنع عن أكل الدم عبّر بطريقة خاصّة عن احترامه للحياة وعن احترام سلطان الله المطلق عليها. في الشريعة الموسويّة، الدم يُراق على المذبح (تث 12: 24)، أو يقدّم لله( لا 17: 11، 14) فلا يحقّ للإنسان أن يتصرّف به. هذه الشريعة التي أعلنها الكتاب بعد الطوفان وفي بداية عهد جديد من عمر البشرّية، مهمة جدّاً وهي لا تتوجّه إلى الشعب اليهوديّ فحسب، بل إلى البشرّية كلّها. وفي هذا السبيل يعتبر النبي حزقيال (33: 25- 26) أنّ أكل اللحم مع الدم خطيئة كبيرة على مثال القتل والزنى وعبادة الأوثان. وعندما يجتمع الرسل في مجمع أورشليم يتّخذون قراراً يمنعون فيه المؤمنين الجدُد (من غير اليهود) من الزنى وأكل الدم واللحم الخنوق (اع 15: 29). دم الحيوان مقدّس لأنّه مركز الحياة. ودم الإنسان أكثر قدسيّة لأنّ الإنسان على صورة الله، ولذا يمنع الله إراقة دم الإنسان. وإذا أُريق فالربّ سيثأر له.
ويذكَر الكتاب العهد بين الله ونوح. نوح هو أبو العالم الجديد كما كان آدم أبا العالم القديم. وكما أقام الله عهداً مع آدم كذلك يقيم عهداً مع نوح وعائلته وكلّ الحيوانات الحيّة، فيعطيه قوس قُزَح علامة على دوام الكون (9: 8- 17)، وكذلك سيقيم عهداً مع إبراهيم وزرعه فيعطيه الختان علامة عهده معه (17: 1- 14)، ومع موسى وشعبه فيعطيهم السبت ليحفظوه (خر 31: 12- 17). من آدم إلى نوح، إلى إبراهيم، إلى موسى... إلى المسيح... هؤلاء هم الأشخاص الذين يؤثرون بحضورهم على أجيال البشرّية الكبرى. في العهد بين الله والبشر تأتي المبادرة من الله وهي تدلّ على صلاحه وحنانه تجاه الإنسان.
إن علامة العهد مع نوح، كما قلنا، هي قوس قزح التي تشهد على الاتّفاق القائم بين الله والإنسان. عندما تهبّ العواصف، يتذكّر الله وعده فينظر إلى القوس ويجعلها عربون سلام وطمأنينة على الإنسان. إنّ نصوص الكتاب المقدّس القديمة تدعو الله صاحب الحروب (خر 15: 3) الذي يتجلّى في العاصفة (خر 14: 16؛ مز 29: 1 ي؛ نا 1: 3) وصوته الرعد (1 صم 12: 17) والبروق سهامه. على ضوء هذه العبارة نفهم الصورة التي نستخلصها من قوس قزح: عندما انتهى الطوفان، رمى الربّ سلاحه على الغمام للدّلالة على السلام الذي يعقده مع البشرّية الجديدة في شخص نوح.
2- النصوص الأشوريّة والبابليّة ونصوص الحب المقدّس عن الطوفان
يذكر النصّ الذي اكتُشف في "نفور"، وهي مدينة على ضفاف الفرات، أنّ الآلهة عزموا على إهلاك البشر، ولكنّه لا يذكر سبب غضب الآلهة. غير أنّه وُجد على الأرض ملك تقيّ أعلمه أحد الآلهة بطريقة غير مباشرة أنّ الطوفان سيهلك البشريّة... ينجو هذا الملك البطل من شرّ الطوفان، فيهبه الآلهة حياة إلهيّة تنجّيه من سلطة الموت وتمنحه الخلود وينطلق فيعيش في منطقة ميتولوجيّة جنوبيّ بلاد الكلداي.
أمّا ملحمة "جلجامش" فتورد قرار الآلهة بإهلاك البشريّة بناء على وشاية الإلهة "عشتار" بالبشريّة إلى الآلهة. ولكنّ الإله "ايا" أعلم بطل الطوفان بقصد الآلهة... وتُبنى سفينة للنجاة من الطوفان... ويصبّ الآلهة جام غضبهم فيهلك الناس والحيوان... وينجو البطل ويصبح خالداً مع عائلته فينطلق ليعيش في البعيد على جبل تتلامس فيه الأرض والسماء.
أوّلاً- نقاط التوافق
إذا قرأنا هذه القصص أو غيرها رأينا أنّ نقاط التوافق عديدة بين نصوص أشور وبابل، ونصوص الكتاب المقدّس. فالقصّة هي ذاتها ونقاط الاختلاف التي نجدها لا تمنعنا من القول بأنّنا أمام تقليد واحد قرأته شعوب الشرق وطبعته بروحها.
نصوص بابل والتوراة تقسم تاريخِ البشريّة قسمَين: ما قبل الطوفان وما بعده. في هذه النصوص يحمل بطل الطوفان اسماً يدلّ على شبهه بالآلهة ومشاركته لهم في خلودهم. الكتاب المقدّس لا يعطي نوحاً الخلود. والرواية الكهنوتيّة تعطي تفسيراً شعبيّاً لاسم بطل الطوفان دون العودة إلى ما يعنيه هذا الاسم في اللغة الأشوريّة والبابليّة.
تذكر النصوص البابليّة والكتابيّة أنّ الإله أخبر الإنسان بالطوفان وأعطاه التعليمَات اللازمة لبناء السفينة، وتشدّد على أنّ السفينة كانت السبيل الواحد للنجاة مت هذه الكارثة التي حلّت بكلّ حيِّ على الأرض.
قبل أن تتوقّف السفينة على جبل أراراط (أورارطو في النصوص المسماريّة أي بلاد أرمينيا) يطلق بطل الطوفان طيوراً ليتأكّد من أنّ وجه الأرض قد نشف. وحين يخرج البطل من السفينة يقدّم ذبيحة للإله.
هذه بعض التفاصيل التي تبيّن وجه الشبه بين نصوص الكتاب المقدّس والنصوص الأشوريّة والبابليّة.
ثانياً- نقاط الاختلاف
أوّل نقطة من نقاط الاختلاف تكن في النظرة إلى الإله. فنصوص الكتاب المقدّس توحيديّة بمعنى أنّها تشهد للإله الواحد. أمّا النصوص الأشوريّة البابليّة فهي تذكر آلهة متعدّدة يصارع بعضها بعضاً. في الكتاب المقدّس، يأمر الله بسلطان مطلق وسلطانه يسود الأرض كلّها، وهو يوجّه عناصر الكون بحسب إرادته. أمّا في ملحمة جلجامش، فالآلهة تخاف من الطوفان، ولخوفها تهرب إلى السماء الأعلى لتنجو من خطره.
وتكن نقطة الاختلاف الثانية، في التفسير المعطى عن الطوفان. الكتاب المقدّس يعطي تفسيراً خلقيّاً فيشدّد على أنّ خطيئة البشر هي التي كانت سبب الطوفان. الله القدّوس لا يرضى بالخطيئة، ولهذا فهو يعاقب المذنب وينجّي البارّ. الإله الواحد هو إله صالح وعادل يكافئ الشرّير بشرّه والخيِّر نخيره. أمّا في النصوص الأشوريّة البابليّة فلا سبب معقولاً للطوفان: لقد تعب الآلهة من البشر فعزموا على إفنائهم دون أن يتطلّعوا إلى خطاياهم أو أعمالهم الحسنة.
ثالثاً- خلاصة
يرجع أصل العبرانيّين إلى بلاد الرافدَين عبر جدّهم إبراهيم. من هناك جاؤوا وحملوا معهم إلى كنعان تقاليد بلادهم الأصليّة وأفكارها وعوائدها. فلا نعجب بعد ذلك إن نحن وجدنا أوجه الشبه بين التشريع العبرانيّ (خر 20: 22؛ 23: 19) وتشريع حمورابي (ملك بابل في بداية القرن الثامن عشر ق. م.)، أو بين رواية الطوفان عند البابليّين ورواية الطوفان في بني إسرائيل. بالإضافة إلى ذلك ظلّ تأثير بابل على البلاد الساميّة عظيماً تشهد على ذلك اللوحات التي اكتشفها العلماء في تلّ العمارنة، في مصر.
وكما أخذ العبرانيّون تقاليدهم من هذا المحيط الشرقيّ، كذلك وصل إليهم الوحي بواسطة إبراهيم الذي دعاه الربّ إلى الإيمان به. فاستناروا تدريجاً بهذا الوحي وتعرّفوا إلى الله ووعوا متطلّباته الخلقيّة. ولمّا ردّدوا تقاليدهم الشعبيّة غربلوها على ضوء إيمانهم فنقّوها من كلّ شرك وحفظوا مثلاً من قصّة الطوفان كلّ ما لا يتعارض وإيمانهم تاركين جانباً صراع الآلهة... تحدّثوا عن الطوفان وسفينة النجاة والبطل الذي يختاره الإله فالتقوا في ذلك بما أنشدته النصوص البابليّة والأشوريّة. إنطلق الكاتب الملهم من خبر شعبيّ يعرفه الناس فحذف منه كلّ ما يمسّ عبادة الله الواحد وشدّد على عظمة الله وسلطانه المطلق وما تطلبه شريعته من البشر. وهكذا أخذت رواية الطوفان مفهوماً جديداً إذ صارت أداة تحمل في طيّاتها لاهوتاً توحيديّاً وتعليماً دينيًّا وأدبيّاً رفيعاً.
ونتساءَل عن أساس رواية الطوفان، فنقول إنّه حدث فيضان في الزمن القديم فغرقت مدن عديدة بسبب الشتاء المنهمر والأنهار الجامحة. ولقد ظلّ خبر الطوفان هذا عالقاً في الأذهان، ومع تباعد الحدث امتزج الواقع بالأسطورة فدوّن كتّاب بلاد الرافدَين قصصهم ونقل إلينا الكاتب الملهم تلك القصّة التي تعطينا صورة عن الله القدّوس العادل وعن الإنسان الذي استحقّ بخطيئته الهلاك والموت.
3- المعاني الدينيّة التي نستنتجها من حادثة الطوفان
أوّلاً- وجه الله:
في جنّة عدن كان الله يتحدّث إلى آدم كالصديق إلى صديقه. وها نحن نقرأ في قصّة الطوفان أنّ الله نظر إلى يضرّ البشر فندم لأنّه عمل الإنسان (6: 5 ي). هو لاهوت أنتروبومورفيّ يجعل الله شبيهاً بالإنسان. الله يعم كلّ شيء، فلماذا يدهش من سلوك الناس ويندم لأنّه خلقهم؟ إنّها طريقة بيانيّة يستعملها الكاتب الملهم فيجعل في الله عواطف الإنسان وهو العارف بأنّ فكرة الله مغروسة في حياة معاصريه، كما أنّه يتأكّد من أنّ أزليّة الله وروحانيّته وعظمته لن تتأثّر بهذا الأسلوب الرمزيّ الذي نستشفّ من خلاله صورة الله الحقيقيّة والمعنى العميق لتصرّفه في بني البشر.
إنّ رجل الإيمان يعرف أنّه لا يستطيع أن يتكلّم عن الله بطريقة وافية. ولهذا يستعين بالصوَر والتشابيه ليدلّ على حيويّة العلاقات الشخصيّة التي تربط الله بالإنسان. قد ننزعج بعض الشيء أمام هذه العبارات البشرّية التي تتحدّث عن توبة الله وتأسُّفه، ولكنّنا نفهم أننا أمام صورة لاهتمام الله بالإنسان: الله يريد أن يعطينا نعمته، فإن نحن قبلناها فهنيئاً لنا وإن نحن رفضناها صارت عطاياه سبب هلاك لنا، وهذا ما حدث في الطوفان.
ثانياً- شرّ البشر وعقابهم:
تتردّد في النصّ عبارات تتحدّث عن شرّ الإنسان على الأرض. فالإنسان المخلوق "على صورة الله ومثاله" أصبح عدوّاً لله وأخذ صورة الشيطان فصار مثله، أي ذلك الذي يعارض أحكام الله ويرفض الطاعة والخضوع له. وهكذا انطلق خطّ أوّل من قايين، خطّ البشرّية الملعونة التي ما زالت تغرق في الشرّ إلى أن غرقت في الطوفان. ولكنّ هناك خطّاً موازياً لخطّ قايين هو خطّ أتقياء الربّ وحافظي إرادته الذين يمثّلون عربون البشرّية المخلصة. فعبر هابيل وشيت سيكون أنوش ابن شيت أوّل من يرفع الدعاء لاسم الربّ (4 26). وفي طريق الخلاص الذي بدأ ينفتح نلتقي بنوح الذي نال حظوة في عينَي الربّ لأنّه كان بارّاً كاملاً بين معاصريه سالكاً مع الربّ (6: 8- 9). سيهلك الأشرار بسبب شرّهم، أمّا الأبرار فسيقيم الله معهم عهداً (9: 17- 18)، ويكون نوح بركة في عيلته فينجو مع بنيه وامرأته ونسوة بنيه. خطى آدم فجرَّ الخليقة معه في خطيئته وحمل إليها الموت. كان نوح بارّاً فكان سبب نجاة لكلّ الذين كانوا معه في السفينة، وهو رمز ليسوع المسيح الذي به تنجو البشرّية كلّها من الخطيئة والهلاك.
بسبب شرّ البشر حكم الله عليهم وعاقبهم عقاباً قاسياً جدّاً، ولم ينجُ من هذا العقاب أحد. كلّ من في أنفه نسمة حياة، كلّ حيِّ على الأرض مات. لقد محا الله كلّ الكائنات القائمة على وجه الأرض، من الناس والبهائم وطير السماء وكلّ ما يدبّ على الأرض. مات كلّ شيء ولم يبقَ إلاَّ نوح والذين كانوا معه في السفينة (7: 22- 23). هذا هو أوّل حكم دان الله به البشرّية وكان حكماً مرعباً حقّاً، لكنّه ليس بالنسبة إلينا إلاَّ رمزاً عن الدينونة التي ستتمّ في نهاية الأزمنة. فقساوة العقاب الإلهيّ بالطوفان هي صورة مسبقة عن العقاب الأبدي المخيف الذي ينتظر الخاطئين ذوي القلوب المتحجّرة. نحن نعرف أنّ الإنسان لا يستطيع أن يستهين إلى النهاية بمحبة الله دون أن يحكم على نفسه بالشقاء. فمن قسّى قلبه رغم نداءات النعمة المتكرّرة ورفض الله رفضاً كليّاً، سيجد نفسه مرفوضاً وسيحلّ به العقاب في جهنّم (مت 5: 30) حيث الدود لا يموت والنار لا تنطفئ (مر 9: 46).
ثالثاً- عهد الله مع البشر:
الكلمات التي قالها الله لنوح بعد الطوفان هي ترديد لِمَا قاله لآدم في الفردوس. يقول الكتاب: "وبارك الله نوحاً وأبناءه وقال لهم: أنموا واكثروا واملأوا الأرض" (9: 1؛ رج 1: 28). فكما كان آدم أبا البشريّة الأولى حتى الطوفان، صار نوح أبا البشريّة الثانية بعد الطوفان. بسبب آدم حلّ الخراب الروحيّ بالبشريّة، وبسبب نوح لاح فجر علاقات جديدة من الصداقة بين الله والبشر، وستكون هذه العلاقات كاملة بالمسيح.
لنوح دور فرديّ في حادثة الطوفان، وقد كان سلوكه مع الله سبب نجاة له ولعياله. وله دور أشمل لأنّه يجسّم في شخصه البشرّية كلّها في لقاء جديد بالله يحمل إليها الخلاص. فأبناء نوح الذين خرجوا من السفينة هم سام وحام ويافث. ومنهم انتشر الناس في الأرض (9: 18- 19). إنطلق الكاتب من عيال نوح ليعدّد القبائل والشعوب التي انحدرت منها (10: 1- 32) وشدّد على الدور الطبيعيّ الذي لعبه نوح وأبناؤه عندما صاروا أجداد كلّ الأصول والأعراق العائشة على الأرض. وراح العلماء في ما بعد يطبّقون علم الطبيعة على الكتاب المقدّس ليبيّنوا أن من نوح خرج العرق الأسود والعرق الأصفر. أمّا نحن فلن نتوقّف على علم الجغرافيا لنقول بأنّ الأرض غُمرت كليّاً أو جزئيّاً بالطوفان، ولن نتوقّف على علم الطبيعة لنقول بأنّ سكّان الصين وأفريقيا انحدروا من أبناء نوح، وإن لم يعرفوا الطوفان، أو أقلّه لم يذكروه في تقاليدهم. نحن نتوقّف على هدف الكتاب المقدّس وهو هدف دينيّ محض يستند إلى تقاليد تعلّمها في محيطه ليعلّمنا أنّ الطوفان صورة مسبقة عن القصاص الذي يهدّد الإنسان الخاطئ ، وأنّ نوحاً رمز للمسيح الذي صار لنا بدمه عهد جديد مع الله

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM